كتاب القضاء - ج ٢

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ٢

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢

قلنا : ميزان القضاء هو نكول المدعي عن يمين المنكر لا كل نكول ، ومن خرجت باسمه القرعة ليس منكرا شرعا وعرفا ، وانما قدم قوله بيمينه للحلف فلا يكون النكول عن هذه اليمين من نكول المدعي عن يمين المنكر.

فان قلت : القضاء بالتنصيف قضاء بلا ميزان ، لان التنصيف هو المقضي به لا ميزان القضاء ، والقضاء بلا ميزان باطل.

قلنا : أولا ـ ان القضاء بالتنصيف قضاء بموجب البينة في الجملة كما أوضحناه سابقا ، لأن إعطاء كل منهما نصف المدعى به عمل ببينته في الجملة ومنعه عن النصف الأخر عمل ببينة صاحبه كما تقدم.

فان قلت : كيف يكون التنصيف عملا بكل منهما في الجملة ، بل هو طرح لهما رأسا ، لأن كلا منهما يشهد ببطلانه وكونه على خلاف الواقع ، ولذا قد تقرر في الأصول ان الجمع بين الدليلين بالعمل بكل منهما في بعض مدلوله طرح لكل منهما ، وليس من جزئيات قاعدة أولوية الجمع من الطرح.

قلنا : هذا حق بعد تسليم مقدمتين : إحداهما اعتبار العلم الإجمالي في حق الناس ، والثانية كون اعتبار البينة في الحقوق من باب الطريقية لأمن باب السببية المحضة. وكلتاهما ممنوعتان ، بل لا يبعد أن يكون الأقوى خلافها ، لان مراعاة العلم الإجمالي في حقوق الناس الظاهر أنها غير واجبة بل غير جائزة جمعا بين الحقين.

ونظرا الى ما ثبت بالنص والإجماع من إلغاء العلم الإجمالي في موارد كثيرة وكذا القول بأن البينة في إثبات الحقوق من باب السببية المحضة مثل البيع للنقل والانتقال ، ليس بذلك البعيد. بل قد يستشم ذلك من بعض أخبار الباب الدال على القسمة في صورة تعارض البينتين بحسب عدد الشهور ، وكذا من ثبوت ربع الوصية بشهادة امرأة واحدة ونصفها بشهادة اثنتين وتمامها بشهادة الأربع ، كما هو واضح.

٢٠١

فاذا بنينا أن إهمال العلم الإجمالي في الحقوق المشتبهة ومخالفته جائزة وان قيام البينة سبب مملك لمن أقيمت له كان إعطاء كل منهما نصف المدعى به اعمالا لبينته في الجملة مع عدم محظور من جهة مخالفة الواقع.

فان قلت : ان كان الأمر كذلك لا يصار الى القضاء بالتنصيف من أول الأمر إلى حين تعارضهما وتكافؤهما ، بل يرجع الى الحلف أو القرعة ، مع كون القضاء بالبينة في مجراها مقدما على الجميع.

قلنا : ان التنصيف ليس قضاء كاملا بالبينة ، بل هو قضاء به على وجه النقصان ، ومع إمكان القضاء بميزان آخر كاليمين مثلا على وجه التمام لا يصار الى القضاء بالبينة على وجه النقصان. وبعبارة أخرى : ان التنصيف قضاء بموجب البينة وعمل بها في الجملة لا بتمام مؤداها ، وهذا مع إمكان استعمال ميزان آخر يقضى به على وجه الكمال والرجحان لا يصار اليه ، بل انما يصار اليه مع فقد جميع الموازين.

وثانيا ـ انه لو لم يقض بالتنصيف في مفروض البحث لم يبق لاخبار القضاء بالتنصيف مثلا مورد أصلا ، فيلزم طرحها. وهو في غاية البعد ، لكثرة تلك الاخبار وعدم ظهور امارة الطرح فيها غير تعارضها بأخبار القرعة التي قد عرفت اختصاصها بصورة إمكان الحلف بعدها.

وهذه لا تنافي ما قدمنا من ترجيح أخبار القرعة عليها في صورة تكافؤ البينتين أو الحكم بالتساقط والرجوع الى عمومات القرعة ، لأن التساقط في صورة التكافؤ وإمكان الحلف بعد القرعة لا ينافي كون تلك الاخبار معمولا بها في غير تلك الصورة. فتأمل والله الهادي.

[ حكم عدم البينة في الدعوى مع عدم تصديق ثالث أحد الطرفين ]

ومما ذكرنا في هذه المسألة ـ وهي المسألة الرابعة ـ ظهر حكم مسألة

٢٠٢

خامسة ، وهي ما إذا لم يكن لأحد الخارجين بينة ولم يصدق الثالث أحدهما ، فإن الحكم هنا أيضا القضاء بالتنصيف مع العلم الإجمالي بكون العين لأحدهما ومع عدم العلم واحتمال كونها لثالث عدم سماع الدعوى وإيقافها الى أن يقيم أحدهما البينة.

أما القضاء بالتنصيف في الأول فلعدم جواز منعهما من العين لكونه مخالفة قطعية وعدم جواز القضاء بها لأحدهما لكونه ترجيحا بلا مرجح وقضاء بلا ميزان ، وعدم جريان التحالف أيضا لان نسبة الحلف الى كل منهما على حد سواء ، وقد سبق أنه متى كان كذلك لم يصلح الحلف ميزانا للقضاء وانما يصلح ميزانا إذا كان متوجها الى أحدهما المعين خاصة ، فليس مثل البينة في كونها حجة شرعية مسموعة من متعدد ، لأن الحجة الشرعية حجة في إثبات المدعى مع قطع النظر عمن يقيمها ، بخلاف الحلف فإنه ليس حجة شرعية حتى يكون وجوده كافيا في إثبات المدعي ويمكن أن يقيمها الاثنان ، بل هو ميزان للقاضي مشروطا بأمور كوقوعه بعد مطالبة المحلوف له واذن الحاكم وغير ذلك مما لا يعتبر في البينة والحجة الشرعية ، وكونه ميزانا لا يمكن الا مع اختصاصها بأحد المتداعيين.

ومن هنا يظهر فساد ما يتخيل من قياس حلف المتداعيين ببينتهما وانه كما لا يمكن للقاضي الحكم بالبينة المتعارضة ـ ومع ذلك فهو يطالب البينة من كل من المدعيين وجاء اختصاص أحدهما بالبينة فيقضي بها ـ كذلك لا يمكن له القضاء في صورة حلفهما ونكولهما ، لكنه يستحلفهما رجاء حلف أحدهما ونكول الأخر حتى يحصل ميزان القضاء. فلا وجه للقول بعدم كون الحلف إذا كان نسبته الى كل واحد من المتداعيين متساوية ميزانا ، وانه انما يكون ميزانا إذا كان مختصا بأحدهما.

٢٠٣

وجه ظهور الفساد أن البينة حجة شرعية مع قطع النظر عن مطالبة الحاكم وعدم جواز القضاء بالبينة المتبرع بها ليس لأجل عدم كونها حجة قبل المطالبة ، بل لأن مطالبة الحاكم شرط تعبدي يثبت في كونها ميزانا ، إذ ليست الحجية مساوقة للميزانية ، فاذا كانت حجة كانت نسبتها الى كل من المدعيين على حد سواء ، فعلى الحاكم مطالبتها من كل منهما والقضاء بحسب ما يئول الأمر إليه من الاختصاص بأحدهما أو التعارض ، بخلاف اليمين فإنها جعلت ميزانا لا حجة حتى يتصور التعارض فيها. والميزان لا يجوز أن يكون أمرا لكل من المتداعيين اقامته ، فقبل ظهور نكول أحدهما لا يكون الحلف ميزانا ، فاذن انحصر الأمر في القضاء بالتنصيف.

نعم للإقراع وجه قوي اختاره العلامة في محكي القواعد ، لكن الالتزام به موقوف على الاطمئنان بالعامل به ، فان ثبت فيها والا فلا مناص الا بالقضاء بالقسمة.

وأما إيقاف الدعوى في الثاني فلعدم البينة وعدم صلاحية الحلف للميزان كما عرفت وعدم العلم الإجمالي بدوران المال بينهما حتى يلزم من عدم القضاء تعطيل الحق لاحتمال كونه لثالث.

ومما ذكرنا ظهر أن ما في محكي كشف اللثام من التحالف ، ليس على ما ينبغي. والله الهادي.

التقاط

[ أنواع تعارض البينات وأحكامها ]

كما يتحقق التعارض بين الشاهدين كذلك يتحقق بين الشاهد والامرأتين فإذا كان لأحدهما شاهد وامرأتان وللآخر شاهد وامرأتان جرى فيه حكم تعارض البينتين. وكذا يتحقق بين الشاهد واليمين.

٢٠٤

ولا إشكال في شي‌ء مما ذكر ، لأن قضية حجية الشاهد وامرأتين وقوع المعارضة بين فردين منها ، وكذلك قضية حجية الشاهد واليمين ، لان اليمين شرط لقبول شهادة الشاهد الواحد ، فالميزان انما هو الشاهد دون اليمين.

ويدل عليه ـ مضافا الى إمكان الاستدلال عليه بمفهوم آية النبإ ـ بعض الروايات : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقضي بالشاهدين والشاهد واليمين لئلا يبطل حق مسلم ولا يرد شهادة مؤمن (١).

وبالجملة لا إشكال في تعارض الحجج الشرعية في نفسها وبعضها مع بعض ، بل الظاهر جريان حكم تعارض البينتين أيضا وان كان المتبادر من لفظ « البينة » خصوص الشاهدين ، لان هذا التبادر إطلاقي بدليل عدم صحة سلب البينة عن رجل وامرأتين ولا عن الشاهد واليمين ، فكل حكم ثبت في الأدلة لتعارض البينتين يجري فيهما أيضا. لكن أحكام تعارض البينتين لم تثبت في الأدلة بعنوان تعارض البينتين بل ثبتت في موارد خاصة ووقائع معينة كانت الشهود فيها رجال على ما يظهر من التأمل في الأدلة الماضية.

نعم قد عرفت في رواية أبي بصير قول الامام عليه‌السلام « أكثرهم بينة يستحلف » (٢) ، لكن عرفت أيضا ما في تلك الرواية ، فإن عثرنا بحكم شرعي ثابت بعنوان البينتين جرى في تعارض رجل وامرأتين وكذا في تعارض رجل ويمين ، والا فالظاهر أيضا الجريان للمناط القطعي ، فعلى تقدير الترجيح بالأكثرية يرجح شهادة الرجل وثلاث امرأة على شهادة رجل وامرأتين وهكذا.

هذا كله واضح ، وانما الإشكال في تعارض كل منهما مع الشاهدين ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ١٨.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٠٥

ففي الشرائع انه يتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد وامرأتين ولا يتحقق بينهما وبين الشاهد واليمين.

وعلله في المسالك بأن الشاهد واليمين حجة ضعيفة ، ولذا اختلف في ثبوت الحق بهما المخالفون ، ومخالفتهم لو لم تكن مقوية نظرا الى أن الرشد في خلافهم ، فلا أقل من عدم التضعيف مع أن الاختلاف في الاعتبار لا مساس له باحداث الضعف عند من يقول بالاعتبار.

ومن هنا يظهر أن سعة مجاري الشاهدين من حيث الأموال والحقوق والحدود وغيرها وضيق دائرة الشاهد واليمين لاختصاصهما بخصوص الماليات لا يوجب أيضا ضعفا في اعتبار الشاهد واليمين ولا يفيد قصور معارضته مع الشاهدين.

نعم يمكن استظهار هذا المرام من بعض الروايات الماضية ، كقوله عليه‌السلام « كان شهودهم سواء في العدد والعدالة » (١) ، لأنه كما يدل على الترجيح بالأكثرية إذا كان بينة كل منهما الشاهدين كذلك يدل عليها إذا كان بينة أحدهما الشاهدين وبينة الأخر الشاهد واليمين ، لأن قضية مفهوم القيد اعتبار تساوي عدد الشهود في القضاء بالقرعة ويصدق عدم التساوي إذا كان بينة أحدهما الشاهد واليمين.

الا أن يقال : انه يدل على الترجيح بالأكثرية إذا كان شاهد كل منهما متعددا بقرينة لفظ العدد والشاهد ، واليمين ليس كذلك فهو ليس من باب مورد الرواية.

أو يقال : موردها ما إذا كان حجة كل منهما الشهود ، والشاهد واليمين ليس شهودا ، لان المركب من الشي‌ء وخارجه خارج عنه.

ويدفعه ما مر من أن الحجة انما هي الشاهد الواحد ، واعتبار اليمين شرط له استظهارا وقد يتوهم العكس أن الشاهد يقوى جانب المدعي فيكون الميزان

__________________

(١) هي رواية البصري المتقدمة الوسائل ج ١٨ ب ١٢ ح ٥.

٢٠٦

هي اليمين كالمنكر الذي جانبه أقوى من المدعي الذي لا بينة له ، وهو ضعيف وسخيف.

الا أن يقال : ان المدعي في المقام القضاء بالشاهدين من دون حلف وعدم الاعتناء بالشاهد واليمين ، بمعنى عدم صلاحيتها للمعارضة وفرض وجودهما كعدمهما. وهذا النحو من الترجيح ما استظهرناه من قوله « سواء في العدد » ، بل استظهرنا منه ترجيح جانب من كان شهوده أكثر وتقديم قوله ليمينه ، وهذا غير الترجيح المطلوب في المقام. والله العالم.

التقاط

[ التقدم التاريخي في إحدى البينتين ]

ذكروا من أسباب الترجيح اختصاص احدى البينتين بزيادة التاريخ فالأكثر على تقديمها ، كما إذا شهدت إحداهما بالملك منذ سنتين وشهدت الأخرى بالملك الفعلي الإني أو منذ سنة.

وذكروا في وجه ذلك أنهما يتعارضان في الزمان المشترك فيه ويبقى الاستصحاب ـ أعني استصحاب الملك السابق على ذلك الزمان ـ سليما عن المعارض ، فيرجع اليه : اما لكون الأصل مرجحا لما يوافقه من الدليل ، أو لكونه مرجعا بعد الحكم بتساقط المتعارضين.

ولا بد أن تفرض المسألة فيما إذا صرح صاحب الزيادة بالملك في الزمان المشترك فيه المشتمل على الملك الفعلي من غير استناد الى الاستصحاب ، والا بأن شهدت بالملك في ذلك الزمان استصحابا فلا ريب في تقديم الأخر ، لعدم صلاحية الاستصحاب لمعارضة الدليل.

هذا ، وقد يناقش فيما ذكروه بأن شهادة صاحب الزيادة بالملك في الزمان

٢٠٧

المشترك فيه ـ أعني الملك الحالي ـ شهادة بالبقاء وشهادة الأخرى شهادة بالحدوث. وهو أقوى ، لاحتمال كون الشهادة بالبقاء مستندة الى الاستصحاب وعدم احتمال ذلك في الشهادة بالحدوث. فيجمع بينهما بالعمل بالشهادة بالحدوث ، لعدم كون ذلك ردا للشهادة بالبقاء بخلاف العكس ، فان العمل بالشهادة بالبقاء ردا صريحا للشهادة بالحدوث.

والجمع بين الدليلين مهما أمكن واجب ، كما أوضحنا ذلك في الصورة الرابعة من المسألة الثالثة ـ أعني ما إذا شهدت بينة الداخل بالمقيد وبينة الخارج بالمطلق ـ فارجع إليها.

والى هذا يرجع ما ذكره في القواعد من الدليل على عدم الترجيح والبناء على التساوي على ما فهمه الفاضل في كشف اللثام.

ويمكن المناقشة فيه : بأن هذا خروج عن مفروض الكلام الذي هو الترجيح بزيادة التاريخ وعدمه ، فان هذه الحيثية انما تتحقق فيما لا يجري فيه التحقيق المزبور ، كما إذا فرضنا استناد كل من الشاهدين إلى أصل أو أمارة واحدة واختلفا في زيادة التاريخ ونقصانه ، مثل ما إذا اعتقد كل واحد من البينتين كون يد الثالث الذي فرضنا المدعى به فيها يدا من قبل كل واحد من المتداعيين ، بأن اعتقدت بينة زيد ملكية العين التي في يد عمرو له باعتقاد كون عمرو وكيلا أو مملوكا له فشهدت له بالملك واعتقدت بينة الأخر مثل ذلك فشهدت له.

فحينئذ لا يمكن القول بتقديم الشاهد بالملك المتأخر بملاحظة احتمال استناد الشاهد بالملك السابق الى الاستصحاب دون الشاهد بالملك اللاحق.

ففي مثله يتم ما ذكره الأصحاب من تعارض البينتين في الزمان المشترك فيه وبقاء استصحاب ملك الزمان السابق سليما عن المعارض.

الا أن هذا الاستصحاب مما لا يقول به العلامة ، كما أشار إليه في هذه المسألة

٢٠٨

بقوله « وثبوت الملك في الماضي انما يثبت تبعا لثبوته في الحال ». وحاصله :

ان شرط الاستناد اليه أن تكون الحالة السابقة مشهودا بها بوصف احتمال بقائها إلى آن القضاء ، بأن تصرح البينة بعدم العلم بزوالها. فلو شهدت بالملك في الأسس من دون هذا التصريح فليس للحاكم الاستناد اليه. وهو وجه آخر من الوجهين اللذين رد بهما على مختار الشيخ من التساقط في الزمان المشترك والأخذ بالملك السابق استصحابا.

[ صور اختلاف التاريخ في البينات ]

وكيف كان فنحن نوضح الحال في المسألة بذكر شقوقها وضروبها ، لان الاختلاف في زيادة التاريخ ونقصانه يكون في صور : من حيث كون كل من البينتين مطلقتين أو مستندتين إلى أصل أو أمارة أو مختلفتين. ومن حيث كون بينة الملك الحادث قد تكون مصرحة بالحدوث وقد تكون مطلقة.

( الاولى ) أن يكون مستند بينة الملك السابق بالشهادة بالملك في الزمان المشترك هو الاستصحاب ومجرد الاتكال على الحالة السابقة بأن علم ذلك منه بالتصريح ونحوه ، وقد يكون مستند بينة الملك المتأخر هو العلم بالناقل بأن علم منه ذلك بالتصريح ونحوه. والحكم في هذه الصورة في غاية الوضوح كما ذكرناه مرارا ، وهو ترجيح بينة الملك المتأخر ، لأن التعارض بينهما يرجع الى التعارض بين النفي والإثبات وبين الدراية وعدم الدراية مثل تعارض الجارح والمعدل. ومن الواضح تقديم المثبت ، لأن الأخذ بقوله ليس تكذيبا لقول الثاني الذي يرجع نفيه الى نفي العلم بالمزيل.

وكلام العلامة في القواعد غير منطبق على هذه الصورة ، إذ لا وجه في مثله لترجيح الشاهد بالأقدم ولا للتوقف والتساقط. وكذا كلام الأصحاب لا بد أن

٢٠٩

ينزل على غيرها ، إذ لا وجه لتقديم الملك الا سبق في هذا الفرض ، مع أن ظاهر عنوان المسألة باختصاص احدى البينتين بزيادة التاريخ وجعلها من أسباب الترجيح ما إذا كان للزيادة مدخل في الحكم في هذه الصورة ، وانما جاء الترجيح من جهة أخرى لا من جهة الزيادة والنقصان.

الا أن يقال : انه لو لا زيادة التاريخ ـ كما إذا قال أحدهما اني أعلم انه ملكه منذ كذا ولا أعلم مزيله الان وقال الأخر اني أعلم انه ملكه بشراء ونحوه ولم يؤرخ ـ لم يحكم فيه بتقديم الغير المؤرخ. لاحتمال أن يكون قد اعتمد في الملك الحالي بالاستصحاب ، بأن كان الشراء الذي علم به قبل التاريخ الذي شهد بالملك فيه واستصحبه.

ومع تطرق هذا الاحتمال لا يحكم بترجيح غير المؤرخ ، فللزيادة حينئذ مدخل في الحكم حينئذ. لكن يدفعه أنها مؤثرة في الحكم بتقديم الملك المتأخر لا القديم. فتدبر.

( الثانية ) أن يكون مستند بينة الأقدم في الزمان المشترك تصرف المشهود له أو الملكية الظاهرية المستندة إلى التصرف ، مثل ما إذا اعتقد كون يد الثالث الذي فرضنا كون العين في يده يدا من جانب المشهود له لكونه وكيلا أو مملوكا ، وكان هذا الاعتقاد هو الباعث على الشهادة بالملك الأقدم مع استمراره الى آن الشهادة باعتبار استمرار يد ذلك الثالث. ويكون مستند بينة الملك القديم المتأخر عن الأول غير معلوم بأن تشهد بالملك في ابتداء سنته ، ولم يعلم أن المراد هو الملك الظاهري المستند الى بعض الأصول والأمارات أو الملك الواقعي.

وفي هذه الصورة أيضا لا بد من تقديم بينة الملك القديم ـ أعني المتأخر ـ

٢١٠

أخذا بظاهر شهادته وحملا لها على الملك الواقعي ، فيكون دليلا على بطلان مستند بينة الأقدم ـ أعني المتصرف.

والسر في ذلك أيضا أن التعارض بينهما في الحقيقة يرجع الى النفي والإثبات لأن مرجع الشهادة بالتصرف أو بالملك الظاهري المستند إليه إلى الشهادة بالسبب مع عدم العلم بالفساد ، ومرجع الشهادة بالملك المطلق حينئذ العلم بفساد ذلك المستند بعد حمله على الملك الواقعي ، كما هو قضية ظاهر الشهادة شرعا وعرفا لأن الشهادة بالأمور الحسية أو ما يجري مجراها من الأمور المنتزعة من الاثار الحسية كما ينزل على الإحساس لا على الحدس كذلك ينزل على واقعها لا على ما يعم الواقع والظاهر. فتدبر.

وبذلك يندفع ما لو قيل ـ كما في كشف اللثام ـ أن بينة القديم يحتمل أن تكون قد اعتمدت باليد ، وهي أعم من الملك ، فلا تكون دليلا على فساد مستند الأقدم ، فلا يرجع الى « أدري » في مقابل « لا أدري » كما قررت ، وانما يكون كذلك لو علم أنها انما شهدت بالملك من غير الجهة التي شهدت من جهتها بينة الأقدم ـ أعني التصرف.

وجه الاندفاع : ان هذا الاحتمال في مقابل ظاهر الشهادة لا يعتني به الا إذا توقف الجمع بينها وبين البينة المعارضة على الاعتناء به ، كما ستعرف في صورة إطلاق البينتين ، فلو أمكن الجمع بغير التنزيل على هذا الوجه الذي هو احتمال صرف في مقابل أدلة تصديق البينة فلا يصار اليه.

ولا يذهب عليك إنا لا نقول بأن ظاهر الاخبار كون المشهود به غير مستند إلى أصل أو أمارة ، لأن هذه الدعوى لا معنى لها بعد سكوت ألفاظ الشهادة وحال الشاهد عن تعيين المستند الا من جهة الحس والحدس. فافهم.

بل نقول : ان الاعتناء بذلك الاحتمال يوجب عدم العمل بالشهادة بالملك

٢١١

حيثما يتوقف على عدم الاعتناء به ، كما إذا كانت البينة غير معارضة ، فان تنزيلها على الملك المستند إلى أصل أو أمارة لا تنفع في مقابل يد المنكر. ولذا لو صرح ببينة الخارج بذلك لم تصلح ميزانا للحاكم على أحد الوجهين أو القولين بل أقواها ، فلا بد من إلقاء هذا الاحتمال إلا إذا استلزم عدم الإلقاء طرح بينة أخرى فيجب عدم الإلقاء جمعا بين البينتين ، كما في صورة إطلاق اليمين في الصورة الاتية.

وفيما نحن فيه لا يتوقف الجمع بين البينتين على الاعتناء بهذا الاحتمال ، إذ لو حملنا بينة القديم على الملك الواقعي الغير المستند الى اليد أو الاستصحاب مثلا حصل التوافق بينهما وبين الأقدم الذي علم استناده الى مجرد التصرف.

وان شئت قلت : ان الاعتناء باحتمال كون المشهود به ظاهريا مستندا إلى أمارة ظاهرية انما يكون إذا كان في مقابله بينة أخرى يكون التعارض بينهما بعد الاعتناء بذلك الاحتمال من قبيل التعارض بين النفي والإثبات وبين الدراية وعدم الدراية.

وهنا ليس الأمر كذلك ، إذا لو حمل بينة القديم على كونها مستندة الى اليد مثلا فبينة الأقدم ليست مشتملة في هذه الصورة على العلم بفساد ذلك المستند ، إذ الفرض أنها انما شهدت بالملك الاتي باعتبار الاستناد الى التصرف السابق المستمر الى آن الشهادة القديم ، وهو ليس ادعاء للعلم بفساد مستند القديم حتى يعمل بشهادته بعد تنزيل شهادة القديم على أخس المستند ـ أعني الأصل أو الامارة ـ كما يفعل ذلك إذا توقف الجمع بين اليمين عليه.

والحاصل ان الأصل في الشهادة قبولها بموجب ما يشهد به وحملها على أشرف المستندات إلا إذا توقف الجمع بينها وبين البينة المعارضة على خلافه ، وحينئذ فلا بد من حمل شهادة القديم على أشرف المستندات ، وهو العلم الوجداني

٢١٢

بالملك الواقعي ، إذ قد يترتب في هذه الصورة على تنزيلها على أخسها ـ أعني الأصل أو الامارة التعبدية ـ فائدة الجمع كما ظهر ، فلا وجه له.

هذا ، ثمَّ ان تقديم بينة القديم في هذه الصورة يمكن درجها تحت الأصل المزبور ، أعني الترجيح بالزيادة إذا كانت في إحدى البينتين زيادة ، لأن الزيادة على قسمين صورية ومعنوية ، والصورية مثل اشتمال إحداهما على زمان غير مشتمل له الأخرى كالاقدم والقديم ، والمعنوية أن تكون مضمون احدى البينتين أخص من مضمون الأخرى ، فالخصوصية زيادة يؤخذ بها ، لعدم منافاتها مع الأخذ بالعام كما في المقام ، فان بينة الأقدم إنما شهدت بالتصرف الذي هو أعم من الملك ، بخلاف بينة القديم فإنها شهدت بالملك الذي هو أخص من اليد.

( الثالثة ) أن تكون كل واحدة من البينتين مطلقة محتملة للاستناد إلى أصل أو أمارة بحيث يكون المشهود به في كليهما نفس الملك الظاهري وإلى العلم الوجداني على وجه يكون المشهود به هو الملك الواقعي.

وهذه الصورة مورد كلمات القدماء في مسألة تعارض القديم والأقدم ، والذي يقتضيه النظر في المقام أيضا هو ترجيح القديم على الأقدم لا ما هو المشهور كما في المسالك ـ أعني العكس ـ لما ذكرنا من أن الشهادة بالبقاء أضعف من الشهادة بالحدوث ، لاحتمال استناد الاولى الى الاستصحاب دون الثانية ، فيجمع بينهما حينئذ بحمل ما يحتمل استناده الى الاستصحاب عليه وحمل الأقوى على العلم بالمزيل ولو كان أمارة كاليد كما أوضحناه في الصورة المتقدمة.

لا يقال : كما يحتمل استناد الشهادة بالبقاء الى الاستصحاب كذلك يحتمل استناد الشهادة بالحدوث إليه أيضا ، وذلك بأن يكون مستند بينة الحدوث ـ أي القديم ـ هو الشراء الذي استند في صحته الى استصحاب كاستصحاب بقاء ملك البائع المعلوم له سابقا قبل تاريخ الأقدم ، وحينئذ ينقلب الأمر فتكون الشهادة

٢١٣

بالحدوث شهادة بالبقاء وشهادة بالبقاء شهادة بالحدوث في أول زمان علمه ـ أي منذ سنتين ـ فلا مرجح لإحداهما على الأخرى من تلك الحيثية ـ أعني حيثية احتمل الاستناد الى الاستصحاب وعدمه.

لأنا نقول : أولا ـ أن ظاهر الشهادة هو الملك الواقعي ، وحيثما يحتمل العلم في حق الشاهد حملناها عليه ، وهو ـ أي العلم ـ بالملك الواقعي في الزمان المشترك غير محتمل في حق بينة الأقدم أو غير معتبر ، لأن غاية ما يقال في حقه انه علم بالملك الواقعي في ابتداء سنتين أو بالملك الظاهري المستند الى التصرف مثلا علم ببقاء ذلك الملك في أول الان المشترك فيه ـ أعني رأس السنة.

ولا ريب أن عمله بالبقاء يتوقف على العلم بعدم طرو المزيل في تلك المدة وهذه هي الشهادة على النفي ، وهي اما غير مسموعة أو غير صالحة لمعارضة الشهادة بالإثبات. بخلاف بينة القديم ، فان علمه بالملك الواقعي في ابتداء السنة أمر محتمل ، ولا يرجع الى الشهادة على النفي والعلم بالعدم ، لا مكان علمه في ابتداء السنة بعد حصول الملك الواقعي للآخر. وحينئذ فلا بد من الجمع بينهما بحمل بينة القديم على الاستناد الى الاستصحاب وحمل بينة القديم على العلم بسبب الملك الواقعي في ابتداء السنة كالحيازة ونحوها مما لا يحتمل فيه شي‌ء ليستند في رفعه الى الأصل. لما عرفت من وجوب حمل الشهادة في مقام التعارض على الوجه الذي يحصل به الجمع.

وهذا الوجه هنا منحصر فيما قلنا ، إذ لو حملنا بينة القديم على الملك الظاهري والأقدم على الملك الواقعي ، فهذا موقوف على إمكان علم بينة الأقدم بالملك الواقعي في رأس السنة الثانية من غير أن يرجع الى الشهادة على النفي.

وقد عرفت أنه متعذر ولو حملناها على الملك الظاهري لم يرتفع التعارض كما

٢١٤

لا يخفى ، فانحصر المناص في حمل الأقدم على الملك المستند الى الاستصحاب والقديم على الملك المستند الى المزيل.

فان قلت : أي دليل على هذا النحو من الجمع.

قلنا : أسلفنا الكلام في هذا الجمع واستدللنا عليه بظاهر الأصحاب في تعارض البينتين وبأدلة وجوب العمل بالبينة مهما أمكن في المسألة الثالثة من مسائل التعارض.

وثانيا ـ ان احتمال استناد الشهادة بحدوث الملك منذ سنة الى الاستصحاب غير قادح في كونها شهادة بالثبوت بالنسبة إلى شهادة بينة الأقدم بذلك الملك ، لما أشرنا إليه في الصورة الثانية من أن الاحتمال الذي لا يكون الأخر بالنسبة إليه « أدرى » لا يقدح. ومن الواضح أنه لو كان بينة القديم مستندة الى الشراء المبني على استصحاب ملك البائع.

فهذا احتمال لا يدفعه بينة القديم ، لأن غاية ما يلزم منه ثبوت الملك في رأس سنتين ، وهو لا يرفع استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنة مع عدم معلومية زمان ملك البائع لنا ، لأن قضية ثبوت الملك في رأس سنتين استصحاب هذا الملك الى رأس السنة ، وقضية ثبوت الملك للبائع قبل السنة مهملا استصحابه الى رأس السنة أيضا ، فيقع التعارض بين الاستصحابين.

نعم لو علم أنه مستند الى استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين كان بينة الأقدم حينئذ بالنسبة إلى بينة القديم المستندة إلى الشراء المبني على استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين « أدري » ، فتكون مقدمة عليه.

ولكن هذا الفرض أمر زائد على حمل مستند بينة الأقدم على الشراء المبني على استصحاب ملك البائع ، لأن الاقتصار على صرف هذا الحمل لا يقتضي كون

٢١٥

ملك البائع معلوما لها قبل السنتين ، إذ لا يتوقف كون المستند استصحابا على فرض الحالة السابقة قبل سنتين ، فلو كانت الحالة السابقة بعد رأس السنتين وقبل رأس السنة كان المستند أيضا استصحابا.

والحاصل ان حمل مستند الشاهد على الاستصحاب إذا لم يكن الأخر بالنسبة إليه بمنزلة « أدري » كان كحمله على الملك الواقعي ، وانما يختلفان إذا رجع محصل البينتين بعد حمل إحداهما على الاستصحاب الى تعارض « أدري » و « لا أدري » ، والمفروض أنه لا يرجع محصل بينة الأقدم والقديم الى ذلك ولو بعد حمل بينة القديم في شهادته بالملك في رأس السنة على الملك الظاهري المتوقف على الاستصحاب.

وانما يرجع الى ذلك لو حمل على الملك الظاهري المستند الى استصحاب خاص ، وهو الشراء المبني على استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين.

وهذا الحمل خارج عن مفاد بينة القديم سواء حملناها على الملك الواقعي أو الظاهري. بخلاف العكس ، فإنه بينة الأقدم بعد تنزيلها على الملك المستند الى الاستصحاب يكون النسبة بينهما وبين بينة القديم كنسبة « لا أدري » الى « أدري » سواء حملت بينة القديم على الملك الظاهري المحض أو الواقعي.

والحاصل ان مضمون بينة القديم سواء كان واقعيا أو ظاهريا لا يرجع الى « لا أدرى » على وجه يكون بينة الأقدم في مقابلها « أدري » ، بخلاف بينة الأقدم ، فإنها على تقدير حملها على الظاهري ترجع بالنسبة إلى الملك في الزمان المشترك ـ أعني رأس السنة ـ الا الى « لا أدري » على وجه يكون بينة القديم بالنسبة إليه « أدرى » ، لأن الشهادة بالحدوث ولو كان ظاهريا شهادة على الإثبات والشهادة بالبقاء إذا كان ظاهريا شهادة بالنفي والشهادة بالإثبات مقدم على الشهادة بالنفي.

٢١٦

هذا ، ويمكن الخدشة في ذلك بأن بينة القديم إذا كانت منزلة على الملك الظاهري تكون النسبة بينهما وبين بينة الأقدم نسبة « لا أدري » الى « أدري » على تقدير ويكون الأمر بالعكس على تقدير آخر ، وذلك لان ذلك الملك الظاهري الذي ينزل عليه بينة القديم ان كان ملكا ظاهريا مستندا الى شراء المشهود له من البائع الذي علم بملكه بعد رأس السنتين وقبل السنة كان الأمر بالعكس ، فتكون بينة الأقدم حينئذ بمنزلة « لا أدري » وبينة القديم بمنزلة « أدري ».

ولو كان ظاهريا فبمجرد حمل بينة القديم على الشراء المستند الى الاستصحاب لا ترجع إلى الشهادة بالثبوت في مقابل الشهادة بالنفي ، بل يحتمل فيه الأمران ، وهو منشأ التوقف والتساقط لعدم تمحضها حينئذ في الشهادة بالإثبات وعدم تمحض بينة الأقدم في الشهادة بالنفي حتى يحكم بتقديم القديم لاحتمال رجوع كل منهما إلى النفي مع رجوع الأخر إلى الإثبات.

وما يقال من تقديم الإثبات على النفي ، انما هو في جهتي الإثبات والنفي فلو احتمل في النفي جهة إثبات وفي الإثبات جهة نفي لم يمكن حينئذ ترجيح أحدهما على الأخر ، لعدم معلومية المراجعة إلى الإثبات الذي لا ينفيه الأخر ، بل إنما ينفي العلم به عن المراجعة إلى النفي الذي يثبته الأخر.

وهذا أصل في جميع صور تعارض النفي والإثبات ، فإن الجمع بينهما انما هو إذا كان النفي بمنزلة « لا أدري » والإثبات بمنزلة « أدري » ، وأما مجرد النفي والإثبات فلا يجمع بينهما.

هذه صور الاختلاف بالقدم والأقدم ، وبقي صورتان أخريان ذكرهما في القواعد :

( الاولى ) أن تكون احدى البينتين تشهد بالملك السابق الى الحال ، كأن يقول « اني أشهد أنه ملكه من سنة أو سنتين الى هذا الان » وتشهد الأخرى

٢١٧

بالملك الاتي خاصة ، وهي المسماة بتعارض القديم والحادث ، والحكم فيها هو الحكم في تعارض القديم والأقدم.

( والثانية ) أن تكون إحداهما ذات تاريخ معين والأخرى مطلقة ، بأن يقول « اني أشهد أنه ملكه من السابق إلى الآن » ولم يعين بدون الملك.

ولا يذهب عليك أن الاولى ليست من قبيل تعارض المؤرخ والمطلق ، والحكم هو التوقف ، ولا استصحاب هنا لأحدهما بعد التساقط. ولو قلنا في تعارض القديم والأقدم بوجوب الأخذ باستصحاب الملك في الزمان السابق الذي يختص به الأقدم ، وذلك لان استصحاب الملك في هذه الصورة يجري في كلا الجانبين ، لأنه إذا سقط البينتان فمقتضى استصحاب الملك في التاريخ المطلق المجهول بقاء الملك في الحال ، ومقتضى استصحاب الملك في التاريخ المعين أيضا كذلك فيتعارضان.

فعلى المشهور في مسألة تعارض القديم والأقدم من تساقطهما في الزمان المشترك والرجوع الى استصحاب الملك في الزمان المختص. ينبغي في هذه الصورة التحالف مثلا فضلا عن القول الذي أبداه العلامة من التساوي وعدم جواز التعويل على هذا الاستصحاب.

وهل الحكم كذلك على تقدير ترجيح القديم كما أبديناه. والظاهر لا ، لان وجه تقديم القديم على الأقدم وهو كون بينة القديم ولو كان ظاهريا راجعة إلى الإثبات في مقابل الشهادة بالنفي لا يجري هنا ، لان جهل التاريخ يمنع عن كونه شهادة بالحدوث ، لاحتمال كون التاريخ المجهول قبل التاريخ المعين.

نعم لو وجهنا تقديم بينة القديم بما مر مرارا ، وعليه أيضا من وجوب الجمع عند إمكان حمل إحداهما على ما لا تحتمله الأخرى كان اللازم هنا أيضا الجمع

٢١٨

بينهما بحمل شهادة المؤرخ على الملك الاستصحابي ، وحمل الشهادة الغير المؤرخة على العلم بالمزيل. والله العالم.

توضيح وتنقيح

[ مستند الشهادة حجة عند تعارض البينة ]

واعلم أنه إذا لم تكن البينة معارضة بأخرى لم يلتفت الى مستند شهادته ووجب المضي على ظاهر ما تشهد به ، لعدم الداعي إلى النظر في مستند الشاهد مع عدم المعارض إذا كانت وافية ومنطبقة على الدعوى. وأما إذا كانت معارضة بأخرى فهاهنا وجوه :

( الأول ) أن يقال : انه يجب تنزيل كل منهما على المشهود به الواقعي ملكا كان أو غيره ، ويتفرع عليه تخريب قاعدة الجمع بين البينات المتعارضة ، لاستحالة كون الواقع في جانب كل واحد منهما إلا في بعض الصور ، فتكون قاعدة الجمع غالبا ملغاة لعدم إمكانه بعد حمل كل منهما على الواقع الا نادرا كما سنشير.

( والثاني ) أن يقال : انه يجب أن يكون تنزيل كل منهما على المشهود به الظاهري ، فإذا شهدت بينة بأن هذه العين مثلا ملك لفلان وشهدت أخرى بأنها ملك لاخر ، وجب تنزيل شهادة كل منهما على الملك المستند إلى أصل أو أمارة كاستصحاب ويد ونحوهما.

وعلى ذلك يبنى تأسيس قاعدة الجمع بين البينات في الجملة ، فإن هذا التنزيل ربما يفيد الجمع وربما لا يفيده ، وذلك لان الأصول والأمارات في أحد الجانبين ان كانت محتملة للأخرى تعذر الجمع لاستلزامه الترجيح بلا مرجح.

وأما إذا احتمل في إحداهما أصل أو أمارة لم تحتمل في الأخرى بحيث لو حملنا

٢١٩

عليها لم يكن منافيا للأخرى ، لكونها محمولة على بعض الوجوه الغير المنافية له حصل بحملها عليه الجمع بين البينتين ، ويظهر مثاله للمتأمل فيما قدمناه.

( والثالث ) أن يقال : إنه يجب تنزيل كل منهما على وجه يحصل به الجمع سواء كان بحملهما على الظاهري أو بحمل إحداهما على الظاهري والأخرى على الواقعي مع عدم تساوي البينة حذرا من الترجيح بلا مرجح ، وعلى هذا أيضا ينقدح وجه الجمع بين البينتين.

والفرق بينهما وبين السابق هو أن دائرة الجمع على هذا أوسع منها على الوجه الثاني.

ويتفرع عليه أنه لو شهدت إحداهما بالملك المطلق والأخرى بالشراء وجب الجمع بتقديم بينة الشراء لأنه الملك المسبب.

لا يقال : ان الملك أخص من الشراء ، وقد ذكرت في الصورة الثانية أن الخاص يشتمل على زيادة معنوية ، والترجيح بالزيادة واجبة.

لأنا نقول : هذا مبني على ملاحظة الوجه الأول من هذه الوجوه ، فان الشراء والملك إذا حملناهما على الواقعي لزم تقديم الملك ، لان الشراء الواقعي يمكن فاسدا غير مؤثرة في إفادة الملك الواقعي ، بأن يكون البائع مثلا غير مالك في الواقع. لكن الملك الواقعي لا يعقل أن يكون فاسدا ، فبعد حملهما على الواقع وجب تقديم الملك.

وهذا هو المورد النادر الذي قلنا بتحقق الجمع فيه أحيانا على الوجه الأول وأما على الوجه الثالث فالجمع يحصل بتقديم الشراء ، وذلك لان كل ما يجري في الشراء من الاحتمالات المنافية للملك الواقعي يحتمل في الملك المطلق أيضا لأن ما ينافي العام ينافي الخاص ضرورة. وأما ما يجري ويحتمل في الملك المطلق

٢٢٠