كتاب القضاء - ج ٢

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ٢

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢

كان خارجا أو داخلا ، وسواء كان في الأول مدعيا أو كان أولا منكرا ثمَّ انقلب مدعيا ، كمدعي الإبراء بعد ثبوت الدين ومدعي الشراء بعد ثبوت الملك.

وبالجملة كل من يسمع بينته إذا قال ان لي بينة حاضرة لم يجز العمل بالأصل في الوجه الذي ينافي تجويزه الغرض الداعي إلى سماع الدعوى ـ أعني إيصال الحق ـ فلا يترك ذو اليد على ما كان عليه من وجوه السلطنة على ما في يده مطلقا حتى مثل الإتلاف ونحوه مما يمنع عن توصل المدعي الى حقه بعد إقامة البينة ، كما لا يخلى على حاله من حيث الفرار عن حضور المخاصمة ، فكما يجب عليه الحضور في مجلس القضاء كذلك يجب عليه عدم التصرف في المدعى به على وجه يفوت معه غرض سماع الدعوى ويلزمه الحاكم عليه.

والدليل عليه هو أدلة وجوب سماع الدعاوي بعد ملاحظة الحكمة بل العلة ، وهي إيصال الحق ، فإنه لا يتيسر الا مع منع المدعى عليه عن التصرفات المنافية لوصول الحق الى المدعي على تقدير إقامة البينة.

هذا كله مع حضور البينة ، وأما مع غيابها واستمهال المدعي لا قامتها فالظاهر عدم الإمهال ووجوب المشي على طبق الأصل والحاكم على طبقه.

ويختلف مقتضاه باختلاف المقام ، فلو كان ملتمس الإهمال هو المدعي لم يجب بل يحكم بمقتضى الأصل ، وهو تسلط المنكر على المدعى به على نحو تسلطه قبل الدعوى ، ولو كان الملتمس هو الداخل لم يسمع أيضا قوله بل يلزم بتسليم المدعى به الى المدعي ، لان البينة ليست بأضعف من اليد بل هي أقوى منها ، فكما أن المدعي لا يجاب في التماس تأخير القضاء بل يقضى بعدم سلطنته على المنكر وبسلطنته على ما في يده من جميع الوجوه كذلك الداخل لا يجاب في التماس المهلة بل يقضى للمدعي وينزع العين من الداخل أخذا بمقتضى بينته التي هي أقوى من اليد.

١٨١

وكذا الكلام لو كان الملتمس هو مدعي الإبراء أو مدعي الشراء فإنهما لا يجابان أيضا فيلزمان بالتسليم عملا بمقتضى البينة. والدليل على ذلك أن غيبة الشهود لا ميزان لها شرعا أو عرفا ، فربما يتوقف حضورها على مضي سنة أو سنتين وفي إجابتهم في تأخير القضاء حينئذ حرج وضرر عظيم لا يمكن التزامهما وينافيان للغرض المشرع للقضاء ، وهو واضح لا يخفي على المتفقه.

نعم الظاهر أن الحكم في الوجه الأول من وجوه التعليق ـ أعني التعليق الراجع إلى أصل تحقق الميزان مثل التعليق بالنسبة إلى الجرح ـ ليس كذلك فان مدعي الجرح يمهل إلى إحضار بينته ، وذلك لما أسلفنا آنفا من أن أصالة عدم الجارح لا تصلح ميزانا للقضاء ولا مكملا له ، لانحصار موازين استخراج الحقوق في أمور ليس منها الأصل.

ولا يرد ذلك في الوجهين الأخيرين ، لأن الفرض فيهما وجود البينة للمدعي فعلا ، وهو أحد تلك الأمور وعمدتها ، فلو حكم حينئذ فقد وقع الحكم بالميزان الشرعي ، إذ لا ينافي استناد الحكم إليها دفع احتمال وجود معارض بالأصل.

والحاصل ان التعليق الراجع الى موضوع البينة الشرعية كالتعليق بالنسبة إلى الجرح يمنع عن القضاء قبل الفحص عن وجود المعلق وعن العمل بالأصل في إحراز ذلك قبل الإمهال والفحص والنظر ، بخلاف التعليق الراجع الى تحقق مدلول البينة أو الى اعتبارها كالتعليق بالنسبة الى عدم الدليل على ارتفاع الحالة المشهود بها هنا ـ أعني الملك السابق ـ أو مع عدم المعارض كتعليق بينة الخارج بالنسبة إلى بينة الداخل ، فإنه لا يمنع عن القضاء مطلقا بل مع حضور البينة المعلق على عدمها اعتبار بينة المدعي.

ويمكن أن يكون السر في ذلك أن دعوى الجرح ونحوها مما يرجع الى دعوى عدم صلاحية الميزان للقضاء دعوى على الحاكم ، فمدعي الجرح

١٨٢

لا دعوى له على المدعي بل على الحاكم ، وكأنه يقول : ان هذا الميزان ليس مما يستند اليه الحاكم في القضاء.

وإذا كان المدعى عليه هو الحاكم لم يعقل فصل هذه الدعوى بعدم الالتفات الى قول مدعي الجرح ، بل لا بد حينئذ من الالتفات اليه وإمهاله حتى يحضر بينته ، بخلاف مدعي الإبراء أو الشراء أو مدعي المعارض ، فان دعوى هؤلاء دعوى على خصومهم لا على الحاكم ، فللحاكم فصل هذه الدعاوي بالأصل.

ثمَّ ان الإمهال لا بد فيه من مراعاة جانب المدعي أيضا حتى لا يرد عليه ضرر ولذا حددوه بثلاثة أيام ، فإنه ليس تحديدا شرعيا بل أمر يقضي به الجمع بين الحقين ومراعاة الجانبين. فظهر أن كل واحد من التفصيلين أقوى من إطلاق القول بالإمهال وإطلاق القول بعدمه.

وأما الميزان في الحضور والغيبة فهو أيضا أمر عرفي يختلف باختلاف الأحوال والازمان والمكان ونحوها. والله العالم.

المسألة الثالثة

( ما إذا كانت العين في يد ثالث وأقام كل منهما بينة )

ومحل الكلام ما إذا لم يصدق ذو اليد لأحدهما والا اندرج تحت المسألة الثالثة وكان من موارد تعارض بينة الداخل والخارج ، لأن إقرار ذي اليد يجعل المقر له منكرا أو داخلا. والمشهور في هذه المسألة الرجوع الى الترجيح بالأكثرية.

ولنبين أولا مقتضى القاعدة مع عدم المرجح ، فنقول :

قد يقال : ان قضية القاعدة فيه بعد تساقط البينتين الرجوع الى التحالف والقضاء بالحلف أو النكول مطلقا ، فان حلفا أو نكلا فإلى القرعة. وذلك لان

١٨٣

قضية الأدلة الحاصرة لميزان القضاء في البينة والايمان ، مثل قوله عليه‌السلام « إنما أقضي بينكم بالايمان والبينات » (١) وقوله تعالى « اقض بينهم بالبينات وأضفه إلى اسمي يحلفون به » (٢) أنه إذا تعذر أحدهما تعين الأخر وإذا تعذرا معا تعين القضاء بالقرعة بمقتضى قوله عليه‌السلام « أحكام المسلمين على ثلاثة :

بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » (٣) بناء على تفسير السنة الجارية بالقرعة وبما علم من أدلة القضاء من كون القرعة أيضا ميزانا للقضاء في الجملة إذا لم يكن هناك ميزان آخر.

ولا ريب أن البينتين المتعارضتين وجودهما كعدمهما في تعذر القضاء بالبينة إذ العمل بأحدهما دون الأخر ترجيح بلا مرجح ، والعمل بهما مستحيل ، والتخيير أيضا باطل بالضرورة ، فيكون وجودهما كعدمهما.

فان قلت : يرجح إحداهما بالقرعة.

قلنا : انه يتوقف على ثبوت كون القرعة مرجحة والا فالأصل عدم الترجيح ، لان كون الشي‌ء مرجحا يحتاج الى دليل.

فان قلت : ثبت مشروعية القرعة في التعيين والترجيح كالمتسابقين الى مباح ونحوه.

قلنا : ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لان التعيين بالقرعة وان لم ينحصر

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ٢ ، والرواية هكذا : قال اقض عليهم بالبينات ـ إلخ.

(٣) الرواية هكذا : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : احكام المسلمين ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سند قاضية من أئمة الهدى. الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

١٨٤

في تعيين المبهم الواقعي ـ كما في المثال المذكور ـ الا أن موردها في غير ما كان الأصل فيه التساقط كالامارتين المتعارضتين ، بأن يكون من قبيل الحقين المتزاحمين.

والسر فيه : انه إذا كان الأصل في صورة التعارض التساقط فلا يبقى بعد شي‌ء لا في الواقع ولا في الظاهر حتى يتعين بالقرعة ، بخلاف ما إذا لم يكن الأصل فيه ذلك ، بأن كان المانع عن إهمال كل واحد من المتعارضين وجود المعارض مع بقاء مصلحة العمل به على حالها ، فان العمل بأحد الحقين حينئذ مطلوب في الواقع والظاهر فيتعين بالقرعة. فافهم.

وإذا ثبت ان البينتين المتعارضتين وجودهما كعدمهما فلا بد من الرجوع الى الحلف الذي رتبته بعد البينة ، فإذا رجعنا إليه فإن حلف أحدهما دون الأخر قضي له والا رجعنا إلى القرعة في تعيين الواقع ، فيكون من خرجت باسمه بمنزلة المنكر يعامل معه معاملته ، لأن أدلة القرعة لا تنهض بكفايتها في الميزان بأن يكون مستند القضاء هو نفس القرعة.

ثمَّ إذا عاملنا معه معاملة المنكر استحلفناه ثانيا ، فان حلف قضي له وان رد فحلف صاحبه فكذلك ، وان نكلا كان العين بينهما نصفين ، لان القضاء بالنصف أيضا من وجوه القضاء بلا احتياج الى ميزان آخر.

وانما قلنا ذلك مع أن النكول عن اليمين المردودة يوجب القضاء للمنكر ، لان من خرجت باسمه ليس منكرا في القضاء ، فلو قضي له عند نكول صاحبه عن اليمين المردودة كان مستند القضاء أيضا نفس القرعة. وقد قلنا ان نفس القرعة لا تصلح ميزانا للقضاء.

ومعنى جريان أحكام المسلمين عليها بعد البينة واليمين كونها معينة للملك ظاهرا لأحدهما عند فقدهما ، وأما القضاء فلا بد فيه من التماس بعض موازينه ،

١٨٥

لان كون الملك ظاهرا لأحدهما لا يكفي في القضاء ، بل لا بد فيه من وجود بعض الموازين اما البينة أو اليمين أو التنصيف الذي هو أحد طرق القضاء عند فقد الميزانين.

هذا ، وقد يناقش في جريان القاعدة المشار إليها في المقام ، لان جريانها على ما تحقق يتوقف على ثبوت مقدمتين : إحداهما كون المقام من موارد تعذر القضاء بالبينة ، والثانية كونه من موارد إمكان القضاء بالحلف ، فإنه إذا فقد كل منهما فقدت النتيجة ، وهي القضاء بالحلف.

أما الأولى فلأنها إذا انتفت كان المقام محلا للقضاء بالبينة ، فلا يصار الى الحلف ، لأن البينة هو الأصل في القضاء وأول موازينه. وأما الثانية فلأنها إذا انتفت تعين الإقراع ، لأن القرعة موردها صور انتفاء الميزانين.

وكلتاهما ممنوعة :

أما الأولى فلانا نمنع تعذر القضاء بالبينة عند تعارضهما ، لا مكان القضاء حينئذ بالتنصيف ، فإنه وان كان طرحا للعلم الإجمالي أو طرحا للبينتين في مقام العمل وترتيب الأثر الا أنه قضاء بموجب البينة ، لأنه إذا أعطى كل واحد من المدعيين نصف المدعى به ومنع عن النصف الأخر مراعاة لبينة الأخر كان ذلك قضاء مستندا إلى مراعاة بينة كل منهما في الجملة.

توضيح ذلك : ان العمل بموجب البينتين مقام والفصل بين المتخاصمين وطي نزاعهما مقام آخر ، والممتنع هو المقام الأول ، لأن التنصيف ليس عملا بالبينتين بل طرح لهما حقيقة. وأما المقام الثاني ـ أعني طي النزاع بالبينة ـ فنمنع تعذره ، لان التنصيف قضاء ناش من وجود البينتين ، إذ لا وجه لمنع كل منهما عن النصف الا ابتلاء بينة كل منهما ببينة الأخر.

وبعبارة أخرى : إعطاء كل منهما نصف المال مستند الى بينته فإنها شهدت

١٨٦

بالكل ، ومنعه عن النصف الأخر مستند الى معارضة بينته بينة صاحبه. فصار كل واحد من عقدي الإيجاب والسلب ـ أي الإعطاء والمنع ـ مستندا إلى البينة ، وهذا معنى كون القضاء بالتنصيف قضاء بالبينة.

هذا ، ويدفعه أن يكون المنع من النصف مستندا الى تعارض البينة مرجعه الى سقوط دعوى كل منهما بالنسبة إلى النصف ، وهذا عين تعذر القضاء بالبينة لأن معنى تعذر القضاء بالميزان عدم سماع الدعوى ، فالتنصيف في الحقيقة طي للدعوى بسقوطها وعدم سماعها في النصف المدعى به لا بالبينة.

وأما المقدمة الأخيرة فلان الحلف انما يكون ميزانا إذا كان وظيفة لأحد المتداعيين في دعوى واحدة ، وأما إذا كان نسبته الى كل واحد منهما على حد سواء فلا تصلح ميزانا وكذا النكول.

وقياس حلفهما بالبينتين المتعارضتين غير صحيح ، لأن البينة حجة شرعية ومن شأنها عدم خروجها عن الحجية بالمعارضة ، بخلاف الحلف فإنه ليس حجة حتى يتصور فيه التعارض ، فلا بد في كونه ميزانا من اختصاصه بأحدهما ، فحيث كان نسبته إليهما نسبة واحدة كان المقام من موارد تعذر الحلف باليمين ، فلا بد من استعمال القرعة.

نعم لو بذل أحدهما الحلف ونكل الأخر قبل الإقراع أمكن أن يقال بعدم الحاجة الى القرعة حينئذ ، لأن فائدة القرعة لا تزيد على جعل الحلف مختصا بأحدهما كما ظهر ، والاختصاص في هذا الفرض حاصل بنكول أحدهما من غير قرعة.

فصار المحصل أنه إذا تعارض البينتان فالأصل فيه القرعة دون إحلاف كل منهما ، إذ لا فائدة فيه كما لا فائدة في نكولهما ، الا أن يتبين نكول أحدهما عن الحلف قبل القرعة ، فيحلف من غير قرعة لحصول فائدتها بدونها.

١٨٧

وانما قيدنا الدعوى بكونها واحدة لأنه إذا تداعيا في أمرين ـ بأن اختلفا في المبيع أو الثمين وادعى كل منهما شيئا فحلف كل منهما على مدعاه ـ لا ينافي ما ادعيناه من انحصار ميزانيته فيما إذا كان وظيفته لأحدهما ، لأن الاختصاص فيه أيضا حاصل بالقياس الى كل واحد من المدعى به. فافهم.

هذه قضية القاعدة في تعارض البينتين مع عدم المرجح أو عدم اعتباره مع قطع النظر عن أخبار الباب ، وأما الاخبار فهي مختلفة :

منها ـ ما يدل على القضاء بالتنصيف بمجرد التكافؤ من غير ذكر حلف ولا قرعة ، مثل قول الأمير عليه‌السلام في رواية غياث عن الصادق عليه‌السلام : ولم يكن في يده جعلتها بينهما نصفين (١). ومثل رواية تميم بن طرفة.

ومنها ـ ما يدل على التنصيف بعد حلفهما أو نكولهما من غير ذكر قرعة أيضا ، مثل رواية إسحاق بن عمار (٢). ويمكن النسبة بين هاتين بالإطلاق والتقييد ، فيمكن الجمع بينهما بتقييد إطلاق الأول بالثاني ، ويرجع الحاصل الى القضاء بالنصف بعد الحلف.

ومنها ـ ما يدل على القرعة من غير ذكر حلف ، مثل المرسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في البينتين يختلفان في الشي‌ء الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما. ومثل موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ان رجلين اختصما الى على عليه‌السلام في دابة فزعم كل واحد منهما أنها نتجت عند مزودة ، وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد ، فأقرع بينهم ـ الحديث (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ٣ و ٤.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١٥.

(٣) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١٢.

١٨٨

ومنها ـ ما يدل على الإقراع وإحلاف من خرجت القرعة باسمه ، مثل رواية البصري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان علي إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء وعددهم سواء أقرع بينهم على أيهم يصير اليمين (١). ويمكن الجمع بين هاتين أيضا بالتقييد ، فيقيد إطلاق الطائفة الأولى المكتفية بالقرعة بالثانية المصرحة باعتبار اليمين فيها.

وبعد ملاحظة هذا الجمع والجمع السابق بين الطائفة الأولى يقع التعارض بين هذه الطائفة والطائفة الأولى على وجه التباين ، لان خبر إسحاق يدل على التنصيف من دون قرعة وخبر البصري يدل على اعتبار القرعة والحلف ، فبينهما تباين. فتقييد التحالف في خبر إسحاق بما بعد القرعة في غاية البعد خصوصا مع ملاحظة التحالف. فإن الإقراع يقتضي إحلاف من خرجت باسمه القرعة دون التحالف ، وحينئذ فلا بد من ملاحظة المرجحات.

ولا يبعد دعوى رجحان أخبار القرعة ، خصوصا مع ملاحظة الشهرة ، وعلى تقدير التكافؤ فالمرجع هي عمومات القرعة المقررة لكل أمر مشكل. فما هو المشهور من الإقراع بعد التكافؤ هو الأظهر من ملاحظة الاخبار وعلاجها بقواعد الجمع ، خلافا للمحكي عن المبسوط حيث فصل فذهب إلى القرعة فيما إذا كانت بينتهما مطلقتين والى التنصيف إذا كانت مسببتين وان اختصت إحداهما بالتقييد قضي بها.

وهذا التفصيل بعض فقراتها موافق للقاعدة ، كالقضاء بالبينة المقيدة إذا كانت الأخرى مطلقة ، لما مر في السابق من أن هذا النحو جمع عملي بين البينتين.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ٥ ، والحديث يختلف عما هنا بعض الاختلاف فراجع.

١٨٩

وأما الفرق بين المطلقتين والمقيدتين فقد يستدل عليه بأن أخبار القرعة كلها مطلقة بالنسبة إلى إطلاق البينتين وتقييدهما ، أما رواية البصري فواضحة وأما رواية سماعة فلان التقييد بالنتاج فيها انما هو في كلام المدعي لا في مدلول البينة ، إذ لا دلالة في قوله « وأقام كل واحد منهما البينة » على شهادة البينتين أن الدابة نتجت عند مزودهما ، لاحتمال اقتصارهما في الشهادة على مجرد الملكية التي ادعاها كل واحد منهما المدلول عليها بقوله « اختصما » ، بل لعله الظاهر كما لا يخفى. وحينئذ فمقتضى القاعدة العمل بخبر إسحاق الوارد في المقيدتين المصرح بالتنصيف بدون القرعة.

هذا ، ويرد عليه أن خبر إسحاق مشتمل على التنصيف مع الحلف ، وليس في كلام الشيخ اعتبار الحلف في القضاء بالتنصيف.

ويمكن دفعه : بأن عدم ذكر الشيخ للحلف لا يدل على عدم قوله به ، لاحتمال أن يكون عدم ذكر الحلف ثقة بما هو المعلوم المعهود المنطبق على قواعد القضاء من توقفه على اليمين أو البينة.

مع أن الانصاف أن منع ظهور خبر سماعة في المقيدتين تعسف ومكابرة ، لأن احتمال عدم تطابق بينة المدعي لما هو المذكور من كلماته في الرواية بعيد جدا.

هذا هو الكلام في تعارض البينتين المتساويتين في جميع الجهات.

[ اعتبار التساوي في العدل والعدد ]

بقي الكلام فيما يقضي به مفهوم هذه الروايات من اعتبار التساوي في العدل والعدد ، وانه إذا اختلفا في أحد الأمرين ـ بأن كان أحدهما أكثر عددا أو أعدل ـ فهل يجب الترجيح بهما أم لا ، والكلام فيه في مقامات : الأول في اعتبار

١٩٠

الترجيح بالأكثرية أو الأعدلية ، والثاني في تقديم أحدهما على الأخر عند التعارض بأن كان أحدهما أكثر والأخر أعدل ، والثالث في التعدي عنهما الى مرجحات أخر كالاضبطية ونحوها :

( أما المقام الأول ) فقد يستدل على الترجيح بالأكثر بروايات :

منها : خبر أبي بصير ـ وقد سبق ـ عن رجلين يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يديه الدار البينة أنها ورثها عن أبيه ولا يدري كيف أمرها فقال : أكثرهم بينة يستحلف ويدفع اليه. وذكر أن عليا عليه‌السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا وأقام هؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا ، فقضى بها لا كثرهم واستحلفهم ـ الحديث.

دل بموضعيه على الترجيح بالأكثرية : الأول « قوله أكثرهم بينة يستحلف » ودلالة واضحة. والثاني ذكر قضاء علي عليه‌السلام لأكثرهم بينة ، فإنه وان كان في نفسه لا يصلح للاستدلال لأنه من حكايات الأحوال الا أن وقوعها في مقام الاستشهاد يوجب صلاحيتها للاستدلال ، كما استدل الامام عليه‌السلام.

وفي الاستدلال بكلا الموضعين نظر :

( أما الأول ) فلاختصاصه بما إذا كان أحدهما ذا اليد وكانت احدى البينتين داخلة والأخرى خارجة فلا ينفع فيما نحن فيه. مع أن في الرواية إشكالات آخر ، وهو أن البينتين مما يمكن الجمع بينهما ، فالرجوع الى الترجيح فيهما مخالفة للمتفق عليه من إمكان الجمع مهما أمكن ، وقد سبقت الإشارة الى هذا الإشكال أيضا.

( وأما الثاني ) فلان قضية الاستدلال وان كانت عموم ما ذكر من الحكاية الا

١٩١

أن جريانها في المستشهد له قل القائل به وخلاف التحقيق الذي مر في المسألة الثانية.

ومنها : مفهوم قوله عليه‌السلام في رواية سماعة المذكورة « وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد » ، فان مفهوم القيد في مثل مقام ـ أعني مقام بيان الميزان ـ كمقام التحديد حجة بلا مفهوم جميع القيود يعول عليه في أمثال المقام ، وهو يقتضي عدم الإقراع : اما لأجل التنصيف وهو باطل قطعا ، واما لأجل القضاء للأكثر وهو اعتبار.

فان قلت : هذا القول من المعصوم عليه‌السلام وقع حكاية عن قضية واقعة فغاية ما يستفاد منه أن عليا عليه‌السلام قضى بالقرعة مع تساوي العدد ، وهذا لا يفيد حكم أصل المسألة ولا يدل على اعتبار التساوي وان الأكثرية مرجحة ولو قلنا بمفهوم القيد في أمثال المقام.

قلت : قد ذكرنا غير مرة أن الحكم في القضية الواقعة إذا حكاه الامام عليه‌السلام في مقام ذكر الحكم الشرعي يتشخص بالخصوصيات الموجودة في الحكاية خاصة ، بحيث يعلم منه أن ما عدا تلك الخصوصيات من الخصوصيات الموجودة في تلك الواقعة الخاصة التي هي مورد الحكم المحكي لا عبرة بها وأنها ملغاة في ذلك الحكم.

وأما الخصوصيات الموجودة فيها فهي معتبرة ، والا كان تخصيصها بالحكاية من بين سائر الخصوصيات لغوا عاريا عن الفائدة ، فيعلم من ذلك أن الفرق بينها وبين الخصوصيات المسكوت عنها هو اعتبارها في الحكم ـ أعني الإقراع ـ دون سائر الخصوصيات.

فثبت بذلك اعتبار صفة التساوي في العدد في الإقراع ، فإنه مع عدم التساوي لا قرعة هنا ، أما لأجل كونه من موارد الترجيح وهو الظاهر ، أو لأجل

١٩٢

كونه من موارد القضاء بالتنصيف وهو باطل ، إذ على تقدير عدم اعتبار الأكثرية في الحكم بالقرعة يكون وجودها كعدمها ، فيكون مثل صورة التساوي الذي حكم فيه بالقرعة ، فلا معنى للقضاء بالتنصيف أيضا. فتأمل. وللإجماع على عدم القضاء بالتنصيف مع كون احدى البينتين أكثر ، فإن الاحتمال فيه دائر بين الحكم للأكثر أو القرعة.

وأما الترجيح بالأعدلية فيدل عليه روايتان :

إحداهما ـ رواية البصري المتقدمة : كان علي عليه‌السلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء وعددهم سواء أقرع بينهما. فإنها بالمفهوم تدل على اعتبار التساوي في العدل والعدد ، وأنه إذا انتفت المساواة في كل منهما لم يقرع (١). والكلام في أن عدم الإقراع لا يستلزم الترجيح والحكم للأرجح ما مر ، وكذا الكلام في اعتبار مفهوم الصحة أو كونها حكاية عن الحكم في قضية واقعة.

وثانيتهما ـ المرسل المتقدم عن أمير المؤمنين في البينتين يختلفان في الشي‌ء الواحد يدعيه الرجلان انه يقرع بينهما إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما (٢).

لان الاعتدال عبارة عن المساواة في جميع ما يعد في العرف مرجحا ، لأنه أمر عرفي ، فيدل عدم الإقراع عند عدم الاعتدال العرفي مطلقا ، ولا ريب أن الأعدلية توجب عدم الاعتدال فلا قرعة ـ الى آخر ما عرفت فيما تقدم من الرد.

وروي عن بعض النسخ « عدلت » مكان « اعتدلت » ، وهو مؤيد بقوله « بينة كل واحد منهما » ، لان الاعتدال لا يتم معناه الا بطرفين ، فكان ينبغي أن يكون هكذا : إذا اعتدل البينتان أو بينة كل منهما مع بينة الأخر.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ٥.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١٥.

١٩٣

( وأما المقام الثاني ) فقد يستدل على تقديم الأكثرية على الأعدلية بإطلاق مفهوم قوله عليه‌السلام في رواية سماعة « سواء في العدد » ، لأنه بإطلاقه يدل على عدم الإقراع مع عدم المساواة فيه ولو مع كون الأقل أعدل.

وقد يجاب : بأن منطوقه مقيد بمنطوق رواية البصري المصرحة باعتبار التساوي في العدالة زيادة على التساوي في العدد ، وإذا قيد المنطوق كان الجزاء ـ وهو الإقراع ـ متوقفا على أمرين : المساواة في العدد ، والمساواة في العدالة.

ومقتضى مدخليتهما معا في الحكم عدم الإقراع عند انتفاء كل واحد منهما مستقلا ، لان عدم كل واحد من أجزاء العلة وشرائطها علة تامة لعدم المعلول ، وحينئذ قد يقع التعارض بين مفهومي القيدين فيما نحن فيه ، لأن المنتفي ان كان أحد القيدين فلا اشكال ، وكذا ان كان كليهما مع عدم التعارض ، مثل ما إذا كان احدى البينتين أكثر وأعدل فالاكثرية سبب لانتفاء القيد الثاني مع عدم التعارض بينهما.

وأما إذا كانت الأكثرية في إحداهما والأعدلية في الأخرى ، فمقتضى الانتفائين أيضا عدم الإقراع ، لكن لما كان عدم الإقراع لأجل الترجيح لا لأجل التنصيف كما مر فيقع التعارض بينهما. فمقتضى انتفاء القيد الأول ـ أعني التساوي في العدد ـ الحكم لا كثرهما بينة ، ومقتضى انتفاء القيد الثاني الحكم لأعدلهما بينة ، فلا دلالة في إطلاق مفهوم قوله عليه‌السلام « سواء في العدد » في رواية سماعة على تقديم الأكثر على الأعدل مع ملاحظة رواية البصري المقيدة لمنطوقها بالمساواة في العدد أيضا ، وانما يدل على تقديم الأكثر مع عدم تقييد المنطوق به.

وفيه : ان حكم ثبوت التقييد بدليل منفصل بعد ما كان ظاهر الجملة الشرطية سببية الشرط للجزاء غير حكم المقيد المذكور في الشرط. وما ذكرت من التحقيق انما يتم في الثاني دون الأول.

١٩٤

بيانه : ان ظاهر الجملة يدل على سببية الشرط للجزاء ، فان كان الشرط مركبا من أمرين بطريق العطف ، كقولك « إذا جاءك زيد وعمرو أفعل كذا » ، أو بطريق التقييد كما في قولك « إذا جاءك زيد راكبا فافعل كذا » يدل على سببية المنضم والمنضم اليه معا وان كان الشرط منفردا في الكلام ، فمقتضى ظاهر الجملة كونه سببا للجزاء ، ثمَّ بملاحظة إطلاق الشرط يثبت كونه علة تامة على ما هو التحقيق المقرر في محله.

وأظهر الوجوه في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، فاذا ثبت من الخارج مدخلية شي‌ء آخر ، ثبت أن طلاق الشرط مقيد وأنه ليس بعلة تامة لكن كونه سببا أيضا باق بحاله ، لأن مجرد مدخلية شي‌ء آخر في الجزاء لا ينافي سببية الشرط لاحتمال كونه شرطا ، فلا يلزم من اعتبار التساوي في العدالة أيضا خروج التساوي في العدد عن السببية التي دلت الجملة بظاهرها عليها.

بل نقول : ان التساوي في العدد سبب والتساوي في العدالة شرط فاذا انتفيا معا لزم أن يكون انتفاء الجزاء وهو المعلول ـ أعني الإقراع فيما نحن فيه ـ مستندا الى عدم المساواة في العدد أعني الأكثرية دون العدالة ، لأن عدم المعلول لا يستند عرفا الى عدم الشرط أو عدم المانع مع عدم المقتضي ، إذ يقبح أن يعتذر الفقير مثلا في عدم تجارته بخوف الضرر في الطريق مع عدم استطاعته وعدم تملكه مالا يتجر به.

فظهر أن الأكثرية هي المستند إليها في عدم الإقراع وان اجتمع معها الأعدلية موافقة أو مخالفة ، وان الأعدلية مع وجود الأكثرية لا عبرة بها ، وهو المراد.

هذا ، ويرد عليه أن ما ذكر انما يتجه إذا كان الاستواء في العدد في حيز الشرط ، وليس كذلك بل الموجود في رواية سماعة (١) أن عليا عليه‌السلام حكم

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١٢.

١٩٥

بالقرعة فيما أقام كل من المتداعيين بينة سواء في العدد. وهذا لا يدل على كون الاستواء في العدد سببا للإقراع ، وانما يدل على مدخليته فيه فيكون حاله كحال ثمَّ ان مدلول رواية البصري (١) بعد ملاحظة مفهوم الاستواء في العدد والعدالة يدل على الحكم بالأرجح عند عدم التعارض ، وأما معه ـ كما إذا كانت الأكثرية التي هي عبارة عن انتفاء المساواة في العدد في جانب والأعدلية في آخر ـ فالمستفاد منها عدم الإقراع ، فيدور الأمر بين القضاء بالتنصيف أو ترجيح الأكثر أو الأعدل ، وحيث لم يثبت شي‌ء منهما تعين التنصيف. وليس الحال هنا كالحال في صورة رجحان احدى البينتين بالأكثرية والأعدلية في بطلان التنصيف بالإجماع لعدم الإجماع هنا على ذلك.

( وأما المقام الثالث ) فقد يستدل عليه بمفهوم قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في المرسل المذكور « إذا اعتدلت بينة كل منهما » ، لان الاعتدال أمر عرفي ينتفي عرفا بكل مزية مثل الأضبطية ونحوها ، فينتفي الإقراع ويتم المدعي على التقريب المتقدم في الروايات السابقة. وهو استدلال ضعيف كما لا يخفى ، فالتعدي مشكل مع عدم ظهور قول الأصحاب به.

فقد تلخص مما ذكرنا أن الحكم مع عدم الترجيح للقرعة ومعه الأخذ بالمرجح المنصوص لا مطلقا. وهل يحتاج الى اليمين في الموضعين أم لا؟

الأقوى اعتبار اليمين فيهما ، لان القضاء لا يكون إلا بأحد من البينة واليمين مع الإمكان ، فمن خرجت باسمه الحلف وقضى له وكذا من كان بينته أرجح :

( أما الأول ) فواضح بعد ملاحظة مثل قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » وإمكان القضاء بالحلف هنا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ٥.

١٩٦

فإن قلت : ظاهر أخبار القرعة كفايتها حيثما تجري في القضاء.

قلت : انها معارضة بما ذكر من الدليل على حصر الميزان في البينة واليمين مع إمكان القضاء بأحدهما ، وهو أخص مطلقا من أخبارها. ولو سلم أن النسبة بينهما عموم من وجه ، فالترجيح لما دل على توقف القضاء باليمين لأنه المشهور ، ولأن أدلة القرعة يشترط في العمل بها انجبار ضعفها بالعمل ، وهو هنا مفقود.

ولو سلم التكافؤ فالمرجع هو الأصل الذي يقتضي الأخذ بالقدر المتيقن.

وهو القضاء بالحلف ، لان نفوذ الأصل خلاف مقتضى الأصل الاولي كما تقدم في أول القضاء.

فان قلت : قد وردت في الباب أدلة أخرى غير تلك الأخبار العامة على القضاء بالقرعة وهي كثيرة ، ومنها أيضا ما تقدم « احكام المسلمين على ثلاثة :

بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » ، وهي أخص مطلقا من الأدلة الحاصرة للميزان في البينة واليمين كما لا يخفى.

قلنا : ان هذه الاخبار مقيدة بأخبار أخر دالة على اعتبار اليمين مع القرعة وقد أشرنا إلى بعضها في أول المسألة.

( وأما الثاني ) ـ أعني إحلاف من بينته أرجح ـ فلان القدر الثابت من الترجيح بالأكثرية كونها مرجحة لجانب من كانت بينته أكثر في القضاء له ، وهو لا ينافي توقف القضاء على الحلف.

والحاصل ان المقتضي للحلف موجود وهو تعارض البينتين ، والمانع ـ وهو سقوط البينة المرجوحة عن قابلية المعارضة ـ غير معلوم ، لاحتمال كون الرجحان بالنسبة إلى مجرد تغليب جانب صاحب البينة الراجحة وتقويته وجعل القول قوله كالمنكر لا بالنسبة إلى ذات البينة حتى يكون المرجوح ساقطا عن الاعتبار وقاصرا عن المعارضة.

١٩٧

فإن قلت : معنى ترجيح احدى البينتين على الأخرى هو كون الحجة الفعلية هو ذلك الراجح كما هو كذلك في ترجيح الاخبار بعضها على بعض والا لم يكن ترجيحا للبينة.

قلت : ليس في الأدلة ان الكثرة في البينتين مرجحة حتى يفرع عليه سقوط الأول عن قابلية المعارضة ، وانما الموجود فيها بعد ملاحظة المفهوم عدم القرعة مع وجود الكثرة ، وهذا بنفسه لا يدل على تغليب جانبها أيضا فضلا عن كونها مرجحة كما تقدم ، والقدر الثابت من الإجماع بطلان التنصيف مع وجودها.

وهذا المقدار لا يقضي بكون الكثرة مرجحة لنفس البينة كما في الاخبار ، لاحتمال اختصاص فائدتها بجعل صاحب البينة الراجحة قوي الجانب وكون القول قولها ، فلا دلالة فيها على سقوط الأقل مثلا عن قابلية المعارضة.

وأما كلمات الأصحاب فهي وان كانت في بادئ النظر ظاهرة في ترجيح أصل البينة ، إلا أن التأمل فيها يقضي بخلاف ذلك الظاهر. لان الموجود في كلام جملة منهم أنه يقضي لأكثرهم بينة.

وهذا لو لم يكن ظاهرا فيما ذكرنا ـ أعني كون القول قوله كما يقتضيه الانصاف ـ فليس بظاهر أيضا في سقوط الأقل مثلا عن درجة الاعتبار. نعم في عبارة الشرائع حيث قال « يقضي بأرجح البينتين » ربما يكون بعض الإشعار إلى ترجيح البينة وان القضاء انما هو بالبينة لا باليمين.

وكيف كان فالمتبع هو الدليل ، ولم نجد مساعدته على كون مستند القضاء في صورة الرجحان هو البينة الراجحة دون اليمين.

ثمَّ لو حلف من خرجت القرعة باسمه أو من كان بينته أرجح قضي له وان نكلا ردت اليمين إلى الأخر فإن حلف قضي له وان نكل أيضا قسم بالسوية ،

١٩٨

لما مر من أن القضاء بالتنصيف آخر موازين القضاء. وهذا أصل متبع في كل مقام لا يمكن القضاء فيه بالبينة ولا باليمين ولا بالقرعة.

فإن قلت : لا وجه للتنصيف ، بل إذا تعذرت الأمور الثلاثة يجب إيقاف القضاء ، كما لو انحصر القضاء بالبينة ولم تكن للمدعي بينة مثل الدعوى على الغائب مثلا. وبعبارة أخرى : ان المتداعيين إذا لم يكن مع أحدهما شي‌ء من الموازين الثلاثة طردهما الحاكم ولم يسمع الدعوى ولم يقم دليل على القضاء بالتنصيف من غير ميزان بل هو حكم بلا مستند ، فكما أن حكم الواقعة إذا انحصر في البينة مثلا مثل الدعوى على الغائب يوقف فيها القضاء مع عدم بينة للمدعي ولا يسمع دعواه ، فكذلك ما نحن فيه يجب فيه إيقاف القضاء لعدم الميزان.

قلت : إيقاف القضاء تارة يكون باعتبار عدم قدرة المدعي مثلا على اقامة الميزان مع كونه مجهولا شرعا ، مثل عدم سماع الدعوى على الغائب بلا بينة ، وأخرى يكون باعتبار عدم جعل الشارع للواقعة ميزانا :

الأول أمر ممكن ، لان مرجعه الى عدم سماع دعوى المدعي إذا توقف سماعها على البينة التي هو فاقد لها ، وهذا لا ضير فيه ومنافاة للحكمة.

وأما الثاني فهو مناف للحكمة ومناف للغرض المشرع للقضاوة ونصب الاحكام ، لأنه يجب على الشارع في الواقعة التي تسمع فيها الدعوى جعل ميزان للقضاء والا كان السماع لغوا.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنه إذا نكل كل منهما عن اليمين بعد سماع دعواهما ومطالبة البينة منهما وتعارض البينتين واستعمال القرعة وإحلاف من خرجت باسمه ونكوله عن الحلف ورده الى الأخر ونكوله ، فلا بد أن يكون

١٩٩

للقاضي حينئذ ميزان للقضاء حتى يقضي بذلك الميزان ولا يتعطل الحكم ، لان التوقف في القضاء حينئذ لا وجه له ، لأنه ضرر يجب دفعه بأدلة القضاء.

وليس مثل عدم سماع دعوى المدعي إذا لم يكن له بينة في الواقعة التي ينحصر فصلها بالبينة ، لان مقتضى جعل الميزان عدم سماع الدعوى في هذا الفرض والا كان جعل الميزان لغوا وخرج الميزان عن كونه ميزانا. فلا بد حينئذ فيما نحن فيه أن يكون للقضاء ميزان يقضي به حتى لا يلزم توقيف الحكم من قبل الشارع ، وليس هو الا القضاء بالتنصيف ، إذ المفروض عدم جريان شي‌ء من سائر الموازين فيه باعتبار التعارض والتدافع. نعم لو كان المدعى به مالا يتصور الشركة فيه كالزوجية تعين الإقراع ثانيا من دون حلف. فتأمل.

فإن قلت : لم لا يجعل الميزان حينئذ القرعة مع كونها أحد الموازين بعد تعذر البينة واليمين. فان قلت : قد استعملناها بعد تعارض البينتين. قلنا : تلك القرعة كانت لتلخيص من يكون القول قوله وكان الميزان هي اليمين ، وأما القرعة حينئذ ـ أي بعد نكولهما عن الحلف ـ فهي بنفسها تكون ميزانا من غير حلف. والحاصل ان تعارض البينتين واقعة ونكول المتداعيين عن الحلف بعد الإقراع واقعة أخرى ولا يكفي الإقراع في إحداهما عن الأخرى.

قلت : قد عرفت غير مرة أن القرعة بنفسها لا يستتم بها ميزان القضاء ، ومعنى كونها ميزانا له في الجملة أنها المرجع إذا تساوى المتداعيان من جميع الجهات في تعيين من يكون القول قوله بيمينه لقصور أدلتها عن إثبات كونها مستندا للقضاء بنفسها لما مر آنفا ، واليمين متعذرة هنا فلا مجال للقرعة حينئذ.

فإن قلت : النكول عن اليمين المردودة من الموازين للقضاء كما تقدم بلا إشكال فيقضى للراد ، وهو هنا من خرجت باسمه القرعة.

٢٠٠