كتاب القضاء - ج ٢

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ٢

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

٣
٤

القول في الشاهد واليمين

يبحث فيهما عن جهات في ضمن التقاطات :

التقاط

[ القضاء بالشاهد واليمين والدليل عليه ]

يقضى بالشاهد واليمين في الجملة بالإجماع بل بالضرورة ، والروايات عليه من طرق العامة والخاصة مستفيضة ، ومن طرق الخاصة ما رواه عبد الرحمن ابن الحجاج قال : دخل الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه‌السلام فسألاه عن شاهد ويمين فقال : قضى به رسول الله « ص » وعلي « ع » بالكوفة فقالا : هذا خلاف القرآن. فقال : وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا : ان الله تبارك وتعالى يقول « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (١). فقال عليه‌السلام لهما : فقوله « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » هو أن لا تقبلوا شهادة واحد ويمينا (٢).

نقول : لعلهما ما قرءا القرآن حتى يعلما موضع هذه الآية ، فإنها وردت في

__________________

(١) سورة الطلاق : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

٥

الطلاق ولم يقل فيه أحد بكفاية شاهد ويمين ، ولو قرءا قوله تعالى « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ » (١) كان أحسن ، وحينئذ فالجواب : أولا ما أشار إليه الإمام بطريق الإنكار والرد ، أعني عدم دلالتها على عدم قبول شاهد ويمين. وثانيا ان الأمر في هذه الآية للإرث أولان ترك الاشهاد في معرض الوقوع في النزاع ، فلا مساس له بالمقام أعني عدم جواز القضاء بالشاهد واليمين.

فان قلت : لو كان هذا كافيا لما كان وجه لاعتبار التعدد في الشاهد ، إذ الشاهد الواحد حينئذ يكفي في الفرار عن خوف ذهاب الحق.

قلنا : أولا ان التعدد في الشاهد يمنع من إنكار المشهود عليه دون الوحدة ، وثانيا ان التعدد آكد في مقام إلزام الخصم ، فيكون ذكره في مقام الإرشاد أولى مما هو دونه في الإلزام ـ أعني الشاهد.

ثمَّ قال عليه‌السلام : ان عليا « ع » كان قاعدا في مسجد الكوفة فمر به عبد الله ابن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي : هذه درع طلحة أخذ يوم البصرة غلولا. فقال له عبد الله بن قفل : فاجعل بيني وبينك قاضيك الذي نصبته للمسلمين ، فجعل بينه وبينه شريحا ، فقال له علي عليه‌السلام : هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة. فقال له شريح : هات على ما تقول بينة. فأتاه بالحسن « ع » فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقال : هذا شاهد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر. قال : فدعا قنبرا فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ، فقال شريح : هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك. قال : فغضب « ع » وقال : خذها فان هذا قضى بالجور ـ ثلاث مرات ـ فقال له : ويلك أو ويحكم اني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٢.

٦

فقلت هات على ما تقول بينة وقد قال رسول الله صلى الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة (١).

نقول : الغلول دخول شي‌ء في شي‌ء بالرفق كدخول الماء في الشجر ، والغول هنا مال عن الغنيمة أخذ على نحو يشبه بالسرقة قبل القسمة.

ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان مدعي أخذ الغنيمة يصدق بلا بينة ولا يمين بعد معلومية كونه من الغنيمة ، وأما مع الشك فيه وكون الدعوى في أصل كونه من الغنيمة فلا معنى لأخذه بلا بينة ، وحينئذ فالحكم على طبق القواعد ، لان مدعي كونها على غير وجه الغلولية مدعي مطالب بالبينة لموافقة قول منكره للأصل بل الأصول.

ووجه استشهاد الامام عليه‌السلام في درع طلحة بقول رسول الله « ص » أنه لما كان كون الدرع درع طلحة وكونه من الغنيمة أمرا معلوما وكان دعواه عليه‌السلام أنه أخذ غلولا ـ يعني بدون اذن الامام وتقسيم الغنيمة ـ كان مطالبة البينة منه عليه‌السلام قضاء جوريا.

ثمَّ قال عليه‌السلام : فقلت لم يسمع هذا الحديث فهذه واحدة ، ثمَّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله « ص » بشاهد واحد ويمين فهذه ثنتان ، ثمَّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقلت هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك ولا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا ، ثمَّ قال : ويلك أو ويحك امام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا.

صدق الله العلي العظيم وصدق رسوله الكريم ووجهه العليم.

__________________

(١) نقس الحديث السابق وبقيته.

٧

التقاط

[ هل الشاهد واليمين معا حجة للمدعي؟ ]

هل الشاهد واليمين هما معا حجة للمدعي ، أو أن الحجة وهو الشاهد واليمين شرط ، أو العكس؟

قيل : وتظهر الفائدة في الغرم وقدره مع رجوع الشاهد : فعلى الأول يغرم الشاهد النصف ، وعلى الثاني الكل ، ولا يلزم شيئا على الثالث.

استدل على الأول بظاهر النصوص الدالة على توقف القضاء بهما معا ويتوقف كل منهما على الأخر ، فيكون الحجة مركبة منهما.

وعلى الثاني بأن اليمين قول المدعي فلا يكون حجة على المنكر بل هو شرط كيمين الاستظهار ، والاولى الاستدلال عليه بنحو « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بعد دعوى صدق البينة على الشاهد الواحد كصدقها على أربعة مثلا ، فان الشاهد يكون حينئذ كالشاهدين في الحجية وان اشترط بشي‌ء كالبينة في الدعوى على الميت.

وعلى الثالث بأن اليمين جزء آخر للعلة فيكون هو الحجة ، والاولى الاستدلال عليه بأن الشاهد انما هو لتقوية جانب المدعي وصيرورة المقام به مقام إحلاف المدعي ، إذ عرفت سابقا أن الحلف انما هو على من يقوي جانبه منكرا كان أو مدعيا ، وان اختصاص المنكر به غالبا انما هو لقوة جانبه للأصل ، فلو قوى جانب المدعي للأمارة نوعية أو شخصية انقلب الأمر. والشاهد الواحد ليس من موازين القضاء أبدا ، وانما فائدته تقوية جانب المدعي ليحلف ، فالحلف هو الحجة بحكم قوله عليه‌السلام « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (١) ، وانما يحتاج في استعماله الى الشاهد ليصير المقام مقامه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٨

وكيف كان فلا جدوى في هذا النزاع وما ذكره من الثمرة بل واضح ، لان الحلف سواء كان شرطا أو شطرا أو مشروطا فله مدخل في الحكم وسبب في الإتلاف على المحكوم عليه ، وهذا القدر يكفي في ضمان الحالف للنصف ، لأن تأثير المقتضي والشرط في مسألة الضمان على نحو واحد وان كان تأثير الأول آكد ، وهو واضح.

التقاط

[ لو قدمت اليمين على الشاهد وقعت لاغية ]

يشترط في الشاهد واليمين تقديم الشاهد على اليمين وتعديله ، بلا خلاف موجود بيننا. فلو قدمت اليمين وقعت لاغية.

والأصل في المسألة بعد الإجماع هو الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ، ولم يثبت في الشاهد واليمين الا ذلك. ويؤيده الترتيب الذكرى في أخبار المسألة ، وليس في الأدلة إطلاق في المقام ، لورودها في مقام أصل تشريع الشاهد واليمين.

وربما يذكر له بعض الوجوه والاعتبارات قابلة للمناقشة ، مثل ما في المسالك من كون الحجة هو الشاهد واليمين متممة له ووظيفة المتمم التأخير ، ومثل ما عن كشف اللثام من أن الشاهد يوجب تقوية جانب المدعي فيحلف كالمنكر ، فقبل قيام الشاهد لا مورد للحلف. والوجه الأول مبني على كون الحجة الشرعية هو الشاهد واليمين شرطا ، والثاني على العكس ، وشي‌ء منهما ليس بثابت ، وان ذكرنا للأخير وجها في الالتقاط السابق.

نعم يمكن أن يكون سر ما ذهب إليه الأصحاب هو ظهور أدلة الحلف في أنه لا بد أن يكون الحلف بعده الحكم ، فلو قدم على الشاهد لم يقع الحكم

٩

بعده. وهو موافق للاعتبار أيضا ، لأن قضية التعظيم عدم تخلف الحلف عن القضاء ، وهو انما يتم إذا كان جزءا أخيرا للميزان أو بمنزلة الجزء الأخير ، إذ لو كان الجزء الأول فربما لا يلحقه الجزء الأخير فلا يتعقبه حكم.

وقد استفدنا من الأدلة نحو قوله « من حلف بالله فصدقوه » (١) خلاف ذلك ، والأمر فيه سهل بعد وضوح أصل الحكم.

التقاط

( في مورد الشاهد واليمين ومقام استعمالهما )

اعلم أن الدعوى اما أن تكون في شي‌ء متعلق بالله سبحانه ويسمى بحق الله أو في أمر متعلق بالادمي ويسمى بحق الناس ، والأول مثل رؤية هلال رمضان ونحوها من الموضوعات التي تستتبع أحكاما شرعية ، والثاني على أقسام أربعة :

الأول : أن لا يكون مالا ولا مستتبعا لمال كحق القذف.

الثاني : أن يكون بالانحصار.

الثالث : أن يكون غير مال مستتبعا للمال.

وهذا أيضا على قسمين : أحد هما ما كان المقصود الأصلي منه مالا كالبيع والصلح وحق الخيار وحق الشفعة ونحوها ، والثاني ما لم يكن كذلك وان استتبع المال دائما كالنكاح إذا كان المدعي مرأة أو أحيانا كالقصاص فإنه قد يستتبع مالا ، كما إذا كان على المقتضى منه ديون مؤجلة بناء على كون الموت سببا لتعجيل ما على الميت من الديون.

إذا تحقق ذلك فالقسم الأول ـ وهو حق الله المحض ـ لا يثبت بالشاهد

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ باب وجوب الرضا باليمين من كتاب الايمان ح ١ بلفظ « من حلف بالله فليصدق ».

١٠

واليمين ، إذ المحلوف له انما هو الله تعالى ولا فائدة بالنسبة الى الله تعالى كما مر سابقا ، ولعل هذا إجماعي عندنا.

وأما باقي الأقسام ففي ثبوتها بها مطلقا أو التفصيل بين الحق الغير المالي المحض وبين ما عداه فيثبت الثاني مطلقا دون الأول واختصاص الحكم بخصوص الديون من قسم الحقوق المالية. وجوه واحتمالات :

( أما الأول ) فلم نجد قائلا به الا أن إطلاق كثير من الأدلة يقتضيه :

ومنها ـ حديث استخراج الحقوق بأربعة بناء على ما هو الظاهر في مقابلة الجمع بالجمع من الاستغراق (١) ، بمعنى ثبوت كل واحد من الحقوق بكل واحد من الأربعة ، خصوصا بعد ملاحظة ما فيه من بعض الشواهد ، حيث اشتمل على ذكر الأربعة بنحو الترديد والترتيب المشعرين بصلاحية كل مقام لمجي‌ء الأربعة بعد فقد الأول ثمَّ الأول.

لكن ورد في مقابلها أدلة مقيدة لا طلاقها بخصوص الدين ، مضافا الى ما في خصوص حديث الاستخراج من قابليته للإهمال ووروده في مقام أصل بيان جنس الموازين في جنس الحقوق لا في مقام بيان تمام الحكم.

منها ـ الجعفري : كان رسول الله « ص » يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين ولم يكن يجيز في الهلال إلا شاهدي عدل (٢). دل بظاهره على انحصار موردهما بالدين.

لا يقال : هذه حكاية حال لا تدل على أزيد من كون الصادر من الرسول « ص » هو القضاء بها في خصوص الدين ، ومن أين يستفاد الحصر ، لان عدم قضاء الرسول في غيره لا يدل على عدم جواز القضاء بهما فيه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

١١

لأنا نقول : ليس المراد أن الرسول قضى بهما في الدين دون غيره فلا يجوز ضرورة عدم اقتضائه لذلك ، بل المراد أن كلام الامام « ع » مسوق لبيان شرعية القضاء بهما وبيان موردهما ، والا فلا جدوى في ذكر الدين وان كان الصادر من الرسول « ص » هو القضاء بهما فيه خاصة ، إذ ليس في بيان جميع خصوصيات الأمر الواقع فائدة.

وأيضا في لفظ « كان » دلالة على بيان ما عليه عادة الرسول لا ما وقع في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها ـ الجعفري أيضا ، وفيه : فكان رسول الله « ص » يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وذلك في الدين (١).

ودلالته أوضح ، لأن ظاهر قوله عليه‌السلام « وذلك في الدين » بيان ما شرع فيه القضاء بهما لا ما وقع فيه قضاء الرسول « ص ».

ومنها ـ قوله عليه‌السلام أيضا : قضى رسول الله « ص » بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده (٢).

وهو أظهر دلالة منهما ، لمكان لفظة « وحده » الظاهرة أو الصريحة في الاحتراز عما عدا الدين.

وحمله على بيان ما وقع فيه قضاء الرسول « ص » ركيك قريب باللغو في كلام الامام عليه‌السلام ، إذ بيان أن الرسول ما قضى بهما في غير الدين لو لم تكن لتحديد محلهما وموردهما من الدعاوي ، لم يتصور له فائدة مصححة لصدوره من الامام « ع ».

ثمَّ لا يتوهم أن المثبتين لا يقيد فيهما ، لان المثبتين في الأحكام الوضعية ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ٥.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ١٠.

١٢

خصوصا إذا كان المقيد في مقام التحديد ، وإعطاء الميزان يقيد مطلقهما بالمقيد. فظهر أن احتمال ثبوت كل حق آدمي ولو لغير المالي بهما لا مجال له.

ثمَّ نقول : ان المراد بالدين ليس هو الدين بالمعنى الأخص ، أعني الأمر الثابت في الذمة بعد خروج مثل الإنفاق على واجب النفقة ونحوها من الحقوق المالية الغير المستقرة في الذمة ، وكذا خروج مثل المبيع والصلح ونحو هما من أسباب الملك. فالدين مثال عن كل مال أو كل شي‌ء يكون المقصود الأصلي منه المال ، فلا حاجة في إلحاق العين به الى الإجماع المركب ، فبطل الاحتمال الأخير الذي حكي القول به من غير واحد من القدماء. ولعلهم أرادوا أيضا بالدين ما قلنا ، أعني مطلق الحقوق المالية سواء كان دينا أو عينا أو شيئا يقصد منه أحدهما ، فتعين الاحتمال الثاني.

ثمَّ ان تميز الحق المالي عن غيره وتميز ما يقصد منه المال عن غيره لا يخلو عن غموض ، إذ لو جعلنا المدار على القصد الشخصي لزم خروج مثل دعوى الخيار الغير المقصود منه في الواقعة الشخصية يحصل المال ، ولو جعلنا المدار على القصد النوعي لزم خروج مثل النكاح مطلقا حتى ما لو كان المدعي هي الزوجة ، لأن وضع النكاح ليس لتحصيل المال وان ترتب عليه غالبا أو دائما.

ولو جعل المدار على أحد الأمرين كان أمتن ، لأن العبرة بصدق كون الدعوى في الدين بالمعنى الأعم ، فلو كان المدعى به مالا أو شيئا وضع لأجل تحصيل المال صدق أن الدعوى في الدين وان علمنا من حال المدعي أن غرضه ليس تحصيل المال.

وكذا لو كان المدعى به في خصوص الواقعة الشخصية شيئا مستتبعا للمال وكان غرض المدعي أيضا تحصيل المال كالقصاص فيما لو كان على المدعى عليه ديون مؤجلة ، صدق أيضا أن الدعوى في الدين.

١٣

الا أن الذي يظهر من الأدلة ومن كلام الأصحاب كون المدار على الوضع النوعي ، فكلما وضع بحسب النوع لجلب المال فيثبت بالشاهد واليمين.

ثمَّ ان ذا الجنبتين والموارد المشكوكة حكمها واضح ، فإن الأول كالسرقة مثلا يعمل فيه بالنسبة الى كل جهة ما هو وظيفتها ، والثاني يرجع فيه الى الأصل والقواعد وهو عدم الثبوت.

هذا إذا كانت الشبهة غير موضوعية ، وأما إذا كانت موضوعية فهي غير متصورة إذا كان المدار على القصد النوعي كما لا يخفى. نعم لو اعتبر القصد الشخصي أيضا فلا يبعد إيقاف الحكم حتى يستفسر عن قصد المدعي. والله العالم.

التقاط

[ حلف جماعة من المدعين في الدعوى الواحدة ]

لو ادعى جماعة مالا لمورثهم مثلا حلفوا أجمع مع شاهدهم وثبت الدعوى ولو حلف بعض أخذ نصيبه ولم يكن للممتنع مشاركة معه ـ كذا في الشرائع.

وإطلاقه لا يفرق بين كون المدعى به عينا أو دينا ، لكن الفاضل في محكي التحرير والإرشاد والقواعد فرق بينهما ، فحكم بمشاركة الممتنع معه فيما أخذ إذا كان عينا. واستشكل في المسالك الفرق بين ما نحن فيه وبين ما لو أقر المدعى عليه لأحدهما فإنه يشاركه الأخر فيما وصل اليه.

فهنا إشكالان : أحدهما الفرق بين الشاهد واليمين وبين الإقرار ، والثاني الفرق بين العين والدين في الشاهد واليمين.

ثمَّ ان هنا اشكالا ثالثا ، وهو الفرق بين المقام وبين ما عليه الأكثر من أن الدين المشترك بين الاثنين كل ما يحصل أحد الشريكين منه مشاركة الأخر ان شاء ولو نوى الدافع كونه للأخذ.

١٤

ويمكن دفع هذا الإشكال بأن الدين المشترك متعين في الخارج بتعيين المديون ، فاذا تعين جرى على ذلك العين الخارجي حكم الشركة ، ولا يؤثر فيه تعيينه لأحد الشريكين ، لأنه ليس له ولاية على تقسيم ذلك المشترك ، وكذا ليس للأخذ أيضا ذلك ، فيبقى مراعى بإجازة الأخر. بخلاف ما يعينه المدعى عليه في المقام في الخارج للحالف ، فإنه لم يعينه على أن يكون تعيينا للدين المدعى به ، إذ المفروض إنكاره وعدم اعترافه بالدين ، فذلك العين باق في ملك المدعى عليه وانما يأخذه الحاكم للحالف بحكم الشرع المستند الى الحلف ، فلو حكم بمشاركة غير الحالف معه لزم كون اليمين مثبتة مالا لغير الحالف ، وهو غير جائز سواء كان مستقلا كحلف الوكيل لإثبات مال الموكل أو الولي لإثبات المال المولى عليه أو في ضمن إثبات مال للحالف كما إذا كانا شريكين.

فان قلت : لو شاركه الأخر فإنما يشاركه بمقتضى اعترافه بالشركة لا لأجل الحلف ، لان الحلف متعلقه أمر كلي في الذمة ولا شركة فيه ومتعلق الشركة انما هو المأخوذ الخارجي ، وهذه الشركة انما جاءت بمقتضى اعتراف الحالف بالشركة في الدين.

قلنا : متعلق الاعتراف أيضا هو المشاركة في الدين الكلي الثابت في ذمة المدعى عليه ، وكلما يوجد من ذلك الدين في الخارج ، وأما المأخوذ فليس مصداقا لذلك الدين ، لان المفروض عدم قصد الدافع كونه وفاء للدين حتى يجري فيه حكم الشركة بمقتضى الاعتراف ، فهو في الواقع والظاهر ملك طلق للمدعي عليه وانما يدفعه الى الحالف غصبا عليه بحسب حكم الحاكم ، فليس ذلك مما يقتضي الاعتراف بأصل الشركة في الدين المشاركة فيه ، فلو شاركناه مع الحالف لكان الحلف مثبتا لمال الغير.

لا يقال : نية الحاكم هنا قائم مقام نية الدافع فيجب أن يتشاركا ، لان الحاكم

١٥

انما حكم بدفعه وفاء للدين المشترك ، فيكون ذلك المدفوع حصة من الدين المشترك والا لم يجز للحالف أيضا أخذه إلا تقاصا.

لأنا نقول : لم يثبت ترتب ذلك الحكم الوضعي على حكم الحاكم ، بمعنى كون حكمه ونيته بمنزلة نية المديون في تعيين الدين الكلي ، وانما ثبت جواز أخذ الحالف بمقتضى الحكم.

هذا ، وقد يناقش فيه : بأن الحالف يأخذه بعنوان كونه من الدين لا بعنوان المقاصة ، فيشاركه الأخر بمقتضى اعترافه بكون المأخوذ حصة من الدين المشاع.

ومنه يظهر الفرق بين المأخوذ بالحلف والمأخوذ بالمقاصة ، فإنه لا مشاركة في الثاني قطعا بخلاف الأول فإن قضية الإشاعة مشاركتهما فيما يحصل للحالف فيه ، الا أن المشهور لعله الأول.

ومما ذكرنا ظهر الفرق بين العين والدين أيضا ، لأن العين لما كانت ذاتها مشتركة مشاعة بينهما جرى على ما يحصل منها في يد الحالف حكم الإشاعة ، وليس كالدين محتاجة إلى القصد والنية حتى تتشخص في الخارج على وجه الإشاعة ، فالمأخوذة من العين مشاعة بينهما قبل الأخذ وبعده ، بخلاف المأخوذ من الدين فإنه قبل الأخذ ملك طلق للمدعي عليه وبعد الأخذ يصير ملكا للحالف.

وأما الفرق بين ما نحن فيه وبين الإقرار فهو أيضا واضح ، وان كان في إلحاقه بالمقام أيضا وجه من حيث أن المدعى عليه منكر للآخر فيكون مثل ما نحن فيه. الا أن الأظهر الحاقه بالمعترف بها ، لأنه باعتبار اعترافه لأحدهما يتعين ما يدفعه اليه للدين ، فيجري فيه حكم الشركة بمقتضى اعترافه.

والمسألة من حيث هذه الإشكالات تحتاج الى تتبع وتأمل مزيدين. والله العالم.

١٦

التقاط

[ البطون الموقوف عليهم متعاقبا ]

[ هل يأخذون الوقف بلا يمين ]

لو ادعى بعض أن الميت وقف عليهم دارا مثلا وبعدهم على نسلهم مترتبا ، فان حلف المدعون مع شاهدهم قضى لهم بالوقفية ولا يؤدى منها دين ولا ميراث ولا وصية ، فان انقرضوا معا أو على التعاقب فهل يأخذ البطن الثاني الدار من غير يمين أو يتوقف عليها؟

صرح في الشرائع بعدم الاحتياج الى يمين مستأنفة ، لأن الثبوت الأول أغنى عن تجديده ، لكن في المسالك : فيه وجهان مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من البطن الأول دون الواقف ، فعلى الأول كما هو الأشهر فلا حاجة الى اليمين ، كما إذا أثبت الوارث ملكا بالشاهد واليمين ثمَّ مات فان وإرثه يأخذه بغير يمين ـ انتهى.

وفيما ذكره اشكال من وجهين :

( أحد هما ) انهم ذكروا في باب الوقف أن إجارة البطن الأول للوقف الى ما بعد انقراضهم باطلة لتعلق حق البطن الثاني بالوقف ، معللين بأن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف دون البطن الأول. ولم يخالف فيه أحد. وان احتمل المحقق « ره » صحة الإجارة مع كون الأجرة للبطن الثاني ، وهذا كيف يجامع ما ذكره من تلقيهم الوقف من البطن الأول.

( والثاني ) ان مسألة تلقي الوقف من البطن الأول أو من الواقف ليس معنونا في كلام القوم على وجه يمكن تحصيل الشهرة على أحد طرفيها ، فكيف ذكر أن الأشهر التلقي من البطن الأول.

١٧

ويمكن دفع الإشكال الأول بأن المراد بتلقي الوقف من الواقف في مسألة الإجارة غير المراد به في المقام وأمثاله ، لأن المراد به في باب الإجارة عدم كون الوقف منتقلا من البطن الأول الى الثاني نحو انتقال الإرث ، وهو حق سواء قلنا بأنهم يلقون من الواقف أو من البطن الأول ، إذ خروج الوقف من ملك الأول ودخوله في ملك الثاني على القول بتلقيهم من الأول ليس على نحو تلقي الإرث من المورث ، لان المورث يترك ماله للوارث بجعل الله تعالى وحكمه بخلاف البطن الأول فإنهم يتركون الوقف للبطن الثاني بجعل الواقف.

وان شئت قلت : ان زوال ملكية المورث عن التركة ودخولها في ملك الوارث ليس لأجل قصور في ملكية التركة للمورث ونقصان فيها بل لأجل قصور في المالك لان الميت لا يملك ، بخلاف زوال ملكية الوقف للبطن الأول فإنه لأجل نقصان وقصور في نفس الملك دون المالك ، وان كان هو أيضا قاصرا باعتبار الموت.

وأما المراد به في المقام وأمثاله فهو معنى آخر ، وهو أن يكون الوقف داخلا في ملك البطن الثاني في عرض دخوله في ملك البطن الأول ، من غير فرق الأمن حيث تقدم زمان ملكهم على زمان ملك الثاني ، فيكون المراد التلقي من البطن الأول في مقابل هذا المعنى ، وهو أن يكون الواقف داخلا في ملك الثاني مترتبا على دخوله في ملك الأول.

وبعبارة أخرى : التلقي من الوقف مرجعه الى أن الواقف ملّك العين برهة من الزمان البطن الأول وبرهة البطن الثاني وهكذا ، لا بمعنى تجديد أصل الملك ، فان الملك لا يعقل تجديده ، بل بمعنى جعل الزمان قيدا للمملوك. فالعين المقيدة بكونها خمسين سنة مملوكة للبطن الأول والمقيدة بخمسين بعده مملوكة للثاني وهكذا. نظير تقييد المنفعة ، فإن من يملك منفعة سنة من الدار فإن جعل الملك

١٨

المؤبد وان كان المملوك ـ وهي المنفعة ـ محدودة. ومرجع التلقي من الأول أن الواقف ملكهم ليس الا لكن وجه خاص يرجع الى نقصان وقصور في أصل الملكية ، بأن جعله متعلقا لحق البطن الثاني وتملكهم على نحو يستلزم انتقاله الى البطن الثاني ومنه الى الثالث وهكذا ، فالملك والمملوك على الثاني مستبدان لكن الملك ملك مخصوص متعلق بحق غير المالك ، وعلى الأول فالملك مؤبد تام والملك محدود نظير تحديد المنفعة.

فظهر الفرق بين التلقي من الواقف أو من الأول ، كما ظهر الفرق بين التلقي من الواقف في باب الإجارة وبين التلقي من الواقف في هذا المقام ونظائره ، مثل ما قالوا في قبض الوقف من كفاية قبض الأول لأن الثاني يتلقون منه لا من الواقف.

ويمكن رفع الإشكال الثاني بأن الأشهر في كلامه قدس‌سره صفة للمبني بملاحظة التفريع لا لنفسه ، لان المشهور عدم احتياج تجديد اليمين ، فقوله « كما هو الأشهر » معناه أن التلقي من الأول أشهر من جهة أن عدم تجديد اليمين هو الأشهر لا أن التلقي من الأول في نفسه هو الأشهر. وهذا نظير دعوى الإجماع على الحكم بزعم اندراجه تحت أصل مجمع عليه.

وهذا وجه في العبارة وان كان بعيدا ، وهذا هو الكلام في المبنى.

وأما التفريع والبناء فيمكن النظر فيه من الطرفين :

( فقد يقال ) بتلقيهم من البطن الأول مع لزوم تجديد اليمين كما ذهب اليه بعض مشايخنا ، لأن أصل الملك للبطن الثاني مسبب عن فعل الواقف ، فهم مع البطن الأول سواء في كون كل منهما مدعيا على سائر الورثة ، فعلى كل منهما الحلف ، لان حلف الشخص لا يجدي في إثبات مال للغير ، ومجرد التقدم الرتبي والترتيب في الملك لا يغني عن حلف المتأخر.

١٩

( وقد يقال ) بتلقيهم من الواقف مع عدم الحاجة الى تجديد اليمين ، لان البطون بمنزلة شخص واحد من جهة اتحاد سبب التمليك وان كان ملكهم على نحو الترتيب دون التشريك ، فيكون حلف البطن الأول مغنيا ، لأنه إذا حلف بعض المجموع فقد حلف المجموع ، ولذا يكتفي في القبض بقبض البطن الأول مع اشتراط الوقف بالقبض.

والحاصل ان ما ذكره قدس‌سره من التفريع ليس محل القبول كل القبول ، بل للمناقشة فيه مجال واسع وعلى الناظر التأمل.

[ لو كان الوقف للجنس يبطل لامتناع إثباته بالحلف ]

ولو كان الاستحقاق بعد الأولاد للفقراء ـ أي للجنس ـ بطل الوقف لامتناع إثباته بالحلف ، إذ المستحق إذا كان هو الجنس لم يصدق على فرده المدعى حتى يسمع منه الحلف وعادت الدار إرثا ، اما لبطلان الوقف من أصله لكونه أمرا ظاهريا ثابتا بموجب حلف البطن المنقرض فيرجع الى مقتضى الأصل ، أو لصيرورته حينئذ كالوقف المنقطع الأخر الذي حكمه العود الى ملك الوارث ، وعلى الأول فالعبرة بالوارث حين موت الواقف ، وعلى الثاني يحتمل ذلك أيضا ويحتمل كون العبرة بحين الانقطاع كما يحتمل غير هما أيضا من الوجوه المذكورة في المنقطع الأخر.

وفي المسالك يحتمل صرفه إلى أقرب الناس الى الميت. وهو بظاهره لا وجه له الا أن يكون المراد صرفه الى وجوه البر ، فان الشيخ في محكي المبسوط ذكر ذلك ثمَّ قال : ان أقرب وجوه البر هو الصرف على أقرباء الميت الأقرب فالأقرب ، لان خير الصدقة هي الصدقة على الأقارب ، ولعله المراد كما يعلم من ملاحظة المبسوط.

٢٠