كتاب القضاء - ج ٢

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ٢

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢

القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يده الدار أنه ورثها من أبيه لا يدرى كيف أمرها. قال « ع » : أكثرهم بينة يستحلف وتدفع (١).

وذكر أن عليا عليه‌السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا وقامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك.

فقضى بها لا كثرهم بينة واستحلفهم. قال : فسألته حينئذ أرأيت ان كان الذي ادعى الدار. قال : ان أبا هذا الذي هو فيها قد أخذها بغير ثمن ولم يقم الذي هو فيها بينة الا أنه ورثها عن أبيه. قال : إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها وأقام البينة عليها (٢).

فقد دلت على تقدير النص أو الأظهر عند تعارض البينتان ، لأنه في الحقيقة جمع بينهما على وجه يرتفع التعارض ، لان بينة ذي اليد انما تدل على الملك باعتبار حمل فعل مورثه على الصحيح وأخذ الظاهر يده على الدار. وأما بينة المدعي فهي صريحة في فساد يده وعدم كونها يد ملك ، ولذا قدمت على بينة ذي اليد.

لكن قد يشكل الأمر في الرواية ، بأن مصب السؤال في الصدر أيضا من قبيل تعارض الظاهر والأظهر ، لأن بينة ذي اليد ما شهدت الا بأن الدار من تركة أبيه بخلاف بينة المدعي فإنها شهدت بالملك الفعلي له.

وهذا مما يمكن فيه الجمع ، إذ لا منافاة بين كون الدار من تركة أبيه ظاهرا مع كونها مغصوبة أو مستأجرة أو نحوهما مما أبداه الراوي بسؤاله الثاني ، فما وجه العمل بمقتضى التعارض في السؤال الأول.

الا أن يقال : ان شهادتهم على الإرث شهادة على الملك الفعلي. وفيه : انها الشهادة بالملك عن سبب خاص ، فلا منافاة بينه وبين ما يقتضي فساد ذلك السبب

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

١٤١

كما أبداه الراوي بسؤاله الثاني ، فإن هذا الاحتمال كان قائما في مصب السؤال الأول أيضا.

ثمَّ انه حكي عن بعض شراح الإرشاد تقسيم الجميع الى قريب كما في المثال المتقدم وإلى بعيد ، كما لو شهد أحدهما بالبيع من زيد غدوة ويشهد الأخر بالبيع من عمرو عشية ، فإن الجمع بينهما ممكن على بعض الوجوه البعيدة بإمكان صدور البيعين ، بأن كان قد باع أولا من زيد ثمَّ انتقل المبيع إلى البائع ثانيا قبل العشية بسبب من الأسباب فباعه ثانيا من عمرو ، ولا بأس به إذا كان أمرا غير بعيد بحسب حال البائع.

[ لو لم يمكن الجمع بين المتعارضين ]

هذا كله مع إمكان الجمع ، وان امتنع فاما أن يتعارضان أو يتكاذبان على ما يقضي به ظاهر عبارة القواعد وتقرير الفاضل في شرحه ، فإنه قدس‌سره جعل التكاذب غير التعارض وجعل محل الكلام والنزاع هو الأخير ، أما الأول فحكم فيه بالتساقط.

والكلام تارة في الفرق بينهما ، وأخرى فيما حكم به من التساقط في خصوص التكاذب دون التعارض :

( أما الأول ) فالظاهر ـ على ما يستفاد من ظاهر تمثيله ـ هو أن يكون منافاة قولي البينتين على القتل في وقت وتشهد الأخرى على الحياة في ذلك الوقت ، فان العلم حاصل إجمالا بتعمد أحدهما في الكذب ، إذ القتل والحياة من الأمور الحسية التي يندر وقوع الخطأ فيها ، فلا بد حينئذ أن يكون أحدهما كاذبا في اعتقاده.

ومثله ما مثله في محكي الكشف من أن تشهد بينة على أن هذا الولد ولدته

١٤٢

هذه المرأة وتشهد أخرى بأنه بعينه ولدته امرأة أخرى ، فإن العلم الإجمالي في مثله أيضا حاصل بكذب أحدهما.

الا أن احتمال الخطأ في الثاني أمر ممكن ، وعلى هذا يعم التكاذب الصورتين ويكون المراد به كل ما علم فيه بكذب احدى البينتين كذبا خبريا اما من جهة التعمد أو من جهة الخطأ ويكون المراد بالتعارض حينئذ مالا يعلم ذلك فيه ، كما إذا شهدت إحداهما بملكية العين لزيد وأخرى لعمرو ، إذ من المحتمل صدق كل منهما بحسب معتقد هما من دون أن يكون مخطئا ، بأن يكون مستند شهادة أحدهما شيئا من أصل أو دليل ومستند الأخر من غيره. الا أن العمل بمقتضاهما لما كان ممتنعا عدا من المتعارضين.

ومن هنا ظهر الفرق بين المتعارضين وبين ما يمكن فيه الجمع ، بأن يكون إحداهما ظاهرا بالمعنى المتقدم والأخرى أظهر.

( وأما الثاني ) ـ أعني كون الحكم في المتكاذبين التساقط ليس الا ـ فهو يتجه فيما فرضه في القواعد ، أعني مثال القتل وكل ما هو مثله من الفروض ، لان التساقط عبارة عن فرض البينتين كالعدم ، وهو متعين في مثال القتل بعد عدم الترجيح أو عدم الأخذ به ، إذا لا مسرح لا عمال كل من البينتين هنا في الجملة كما يدعيه الشيخ قدس‌سره ، ولا مجال أيضا للقرعة كما لا يخفى. فلا بد من التساقط والعود إلى الحالة الأولية ، أي حال عدم إقامة البينة رأسا فلا تحالف ومثله كل ما هو من باب المدعي والمنكر.

وأما ما يرجع الى التداعي ـ كالمثال الذي أضافه في كشف اللثام الى مثال القواعد ـ ففيه مشكل ، لأن الوظيفة حينئذ الرجوع الى القرعة بعد العلم الإجمالي بكذب إحداهما ، فيتعين ما هو الحجة من البينتين بها.

ويمكن إرجاع مثال الكشف الى غير التداعي ، بأن تشهد احدى البينتين

١٤٣

بما ينافي شهادة الأخرى لا بما يضاده. مثلا شهدت إحداهما على ولادة امرأة معينة لولد معين في بلد معين في وقت كذلك وشهدت أخرى بأن هذه المرأة عقيمة من أول عمرها مثلا أو أنها في غير ذلك البلد في ذلك الوقت مثلا ، فحينئذ يكون الحكم بالتساقط متجها.

وكيف كان فلنتكلم في حكم تعارض البينتين :

التقاط

[ تعارض البينة في الملك مع عدم إمكان التوفيق ]

إذا تعارض البينتان في ملكية العين على وجه لا يمكن معه التوفيق بينهما فلا يخلو الحال عن أمور أربعة : لأن العين اما أن تكون في يديهما أو في يد أحدهما أو في يد ثالث ، أو لا تكون في يد أحد ، فهاهنا مسائل :

( المسألة الاولى )

( أن تكون العين في أيديهما )

وحكم المسألة حينئذ القضاء بينهما نصفين بلا خلاف في ذلك على ما في المسالك ، وانما الخلاف في سببه.

فقيل بأن الوجه في ذلك تعارض البينتين وتساقطهما ، فيبقى يد كل منهما بالنسبة إلى النصف المشاع قاضية بالملكية كما لو لم تكن بينة أصلا ، فإن الحكم فيه التنصيف كما سبق في الالتقاط السابق وأنه لأجل اعمال السببين المتزاحمين بقدر الإمكان كما قيل ، أو لأجل أن الأيادي المجتمعة ليست دليلا على الملك عرفا وشرعا إلا في النصف مثلا أو الثلث كما هو الحق.

وقيل ان الوجه هو ترجيح بينة لكل منهما بالنسبة الى ما استولت عليه يده ،

١٤٤

أعني الاعتضاد باليد وإلقائها بالنسبة إلى النصف الخارج ، بناء على ترجيح بينة الداخل على بينة الخارج.

وقيل ان الوجه عكس ذلك ، وهو ترجيح كل منهما بالنسبة إلى النصف الذي هو في يد صاحبه لا النصف الذي في يده بناء على ترجيح بينة الخارج.

ولعل هذا هو المشهور ، والكلام في ذلك تارة في حقيقة الأقوال وأخرى في التحالف :

( أما الأول ) فالظاهر أن القول المشهور ـ وهو الأخير ـ أقوى ، إذ الأول لا وجه له ، لان بينة ذي اليد ليست حجة بالنسبة الى ما في يده ، فبينة كل منهما حجة بالنسبة إلى النصف الذي في يد صاحبه لا بالنسبة الى ما في يده. ولا تعارض بين البينتين بالنسبة إلى النصف الخارج ، والتساقط يتوقف على تعارض الحجتين.

والحاصل ان بينة كل منهما وان كانت معارضة بالنسبة إلى الأخرى في مجموع مؤداهما الا أن حجيتهما بالنسبة الى بعض المؤدى ـ وهو النصف الخارج الذي تحت يد صاحبه ـ وفي هذا البعض لا تعارض بينهما كما لا يخفى ، فيعمل ببينة كل منهما في المقدار الذي هي حجة فيه ، ويحكم بذلك بملكية كل منهما لما في يد صاحبه.

فالقول بالتساقط هنا ساقط عن الاعتبار ، سواء قلنا في تعارض بينة الداخل والخارج بالتساقط أو بترجيح بينة الداخل أو الخارج : أما على الأول فلما عرفت من أنه لا تعارض هنا بينهما فيما هما حجتان فيه. وأما على الأخير فواضح لان ترجيح بينة الداخل يقتضي المصير الى القول الثاني وترجيح بينة الخارج القول بالثالث ، فالتساقط لا وجه له.

نعم لو قلنا بأن بينة الداخل حجة شرعية مثل بينة الخارج كان القول

١٤٥

بالتساقط متجها ، لما ذكرنا مرارا أن الأصل في تعارض الامارات هو التوقف والتساقط. لكنه مبنى ضعيف ، إذ الظاهر أن بينة الداخل ليست حجة شرعية.

وقولهم بترجيح بينة الداخل. مبني على التعبد بما دل عليه بعض الروايات وبترجيح بينة الخارج مبني على المسامحة ونسبة عدم الحجية بالمرجح نظرا الى تعارض البدوي.

والحاصل ان القول بالتساقط متجه لو بنينا أن بينة الداخل حجة شرعية مثل بينة الخارج ، والا فأي القولين في مسألة تعارض بينة الداخل والخارج أخذنا فلا وجه للقول بالتساقط هنا.

وأما على القول الثاني فلان مبنى ترجيح بينة الداخل على الخارج أحد أمور لا يجري شي‌ء منها في المقام :

أحدها ـ النص كما سيجي‌ء ، وظاهر أن مورده ما إذا كانت العين في يد أحدهما ، ولا يمكن التعدي إلى المقام لتنقيح المناط : أما أولا فلان هذا التفصيل ـ أعني ترجيح بينة الداخل إذا كانت في يد أحدهما لا في أيديهما ـ وارد في الاخبار فكيف يتعدى. وأما ثانيا فلان حكمة ترجيح بينة الداخل لعله الاعتضاد باليد ، وهو غير موجود فيما نحن فيه كما ستعرف.

وثانيها ـ الاعتضاد ، بأن يقال ان بينة الداخل مؤداها ومؤدى اليد واحد وهو ملكية ذي اليد ، فيحصل التعاضد ويقدم على بينة الخارج. وهذا أيضا لا يجري في المقام :

أما أولا : فلان مؤدى اليد كون النصف هو مجموع ملك ذي اليد ومؤدى البينة كونه بعض ملكه ، فلم يتحد مؤداهما حتى يحصل الاعتضاد. بخلاف ما لو كانت العين بيد أحدهما ، فإن يده وبينته كليهما قاضيان بأن مجموع العين ملك لذي اليد ، فيحصل التعاضد لتطابق المؤديين. فتأمل.

١٤٦

وبعبارة أخرى : ان مقتضى مجموع اليدين كون كل واحد مالكا للنصف بشرط لا ، أي بشرط عدم ملكية نصف الأخر ، فمقتضى يد كل منهما هو ملكية النصف منفردا ومقتضى بينة كل واحد هي ملكية النصف بشرط الانضمام ، أي في ضمن المجموع. ومن الواضح أن ملكية النصف منفردا غير ملكية منضما ، فبين مدلول يد كل منهما وبينته تعارض وتناقض فكيف يحصل التعاضد.

والسر في ذلك ان الاخبار بملكية مجموع العين اخبار واحد بسيط لا يقبل التبعيض في مدلوله من حيث الظن ، فاذا يحصل من المعاضد الظن بالمجموع لم يحصل منه تقوية الظن في البعض أيضا. فتدبر.

وأما ثانيا : فلان الجهة التي يحصل بسببها الاعتضاد بعينها يحصل بها التوهين أيضا ، لأن الاعتضاد انما حصل بسبب البينة ، والمفروض أن قضية البينة المعارضة عدم دلالة اليد على الملك.

الا أن يقال : ان لكل واحد من اليدين بالنسبة إلى ملكيه النصف جهة اعتضاد وجهة توهين ، فينظر إلى الجهة المعاضدة ويؤخذ بها دون الجهة الموهنة.

وفيه : ان ذلك نظير اجتماع الأمر والنهي ، فان الجهة المعاضدة بعد مقابلتها بالجهة الموهنة تخرج عن جهة الاعتضاد ، فيد كل منهما وان كان يؤيدها ويعاضدها بينة صاحبها الا أنه يوهنها بينة الأخر ، فلا يحصل التعاضد. بخلاف ما إذا كانت العين في يد أحدهما ، فإن اليد فيه يعاضد للبينة ويؤيدها من غير معارضة.

وأما ثالثا : فلان يد كل منهما وان كان يصدق البينة في النصف الا أنها مكذبة لها من جهة أخرى ، لأن قضية اليدين ليست الا الحكم بملكية كل منهما للنصف بشرط لا ، وهذا المعنى يكذب البينة ولو بالنسبة إلى النصف أيضا ، لأن مدلول

١٤٧

البينة ملكية الكل فالذي مدلوله النصف بشرط لا مكذب لهما ، لأن ملكية النصف بشرط لا خلاف ما يقضي به البينة ولو في النصف.

والفرق بين هذا الوجه والأول هو أن مبنى الأول على منع الاعتضاد ومبنى هذا الوجه على دعوى التوهين وان كان ملاك كل من الوجهين واحد الا ان التوهين انما ندعيه من الوجه الذي ادعينا بسببه عدم الاعتضاد ، وهو تضاد مدلول اليد ومدلول البينة بالنسبة إلى النصف. فليتدبر.

وثالثها ـ تعارض البينتين وبقاء يد الداخل سليمة عن المعارض ، فان هذا أحد وجوه تقديم بينة الداخل وان كان ضعيفا.

وهذا قد عرفت ضعفه ، لأن قضية ذلك هو القول الأول أعني التساقط ، وأما الثاني أعني التحالف فجملة الكلام فيه أن التحالف هنا لا بد أن يعلل بأحد أمور :

الأول : النص ، وهو خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ان رجلين اختصما الى أمير المؤمنين عليه‌السلام في دابة في أيديهما وأقام كل واحد منهما البينة على أنها نتجت عنده ، فأحلفهما علي « ع » فحلف واحد وأبى الأخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف (١).

الثاني : التساقط ، أي تساقط البينتين بعد تعارض خارج كل منهما بداخل الأخر بناء على حجية الداخل كبينة الخارج ، كما يدل عليه ذيل الرواية المتقدمة قال بعد ما ذكر فقيل له فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة. قال : أحلفهما فأيهما حلف ونكل الأخر جعلتها للحالف ، فان حلفا جميعا جعلتهما بينهما نصفين قيل : فان كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة. قال : أقضي بها للحالف الذي هو في يده. فدل باستحلاف ذي اليد على حجية بينته مع بينة الخارج

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

١٤٨

وتساقطهما ، لان حلف ذي اليد ينافي عدم حجية بينته بعد كون المدعي قد أقام البينة فلا بد أن يكون حجة.

ثمَّ بعد ذلك يحكم بتساقط البينتين معا ، إذ مع ترجيح احدى البينتين أيضا لا وجه لإحلاف ذي اليد ، لان الراجح ان كان بينته استغنى عن اليمين ، لان بينة المنكر على تقدير حجيتها وسماعها لا يمين معها ، وان كان الراجح بينة المدعي الخارج فلا وجه أيضا لا حلاف المدعى عليه الداخل كما لا يخفى. فاذا تساقطا فلا بد في القضاء لكل منهما من التحليف ، كما لو تنازعا ولا بينة لأحدهما ، لأن كلا منهما بالنسبة الى ما في يد الأخر مدعى له إحلافه.

الثالث : الحكم بأن اليدين المجتمعتين في حكم التساقط وعدم اليد رأسا ، وهذا بناء على ما مضى في الالتقاط السابق من عدم كون اليد على الكل مع الاشتراك دليلا على ملك النصف عرفا وان اليد المشتركة بمنزلة السبب الذي يزاحمه غيره ، فإن الإحلاف حينئذ يتجه أيضا لو قلنا في تعارض البينتين على ما لا يد لأحد عليه بالإحلاف ، كما يأتي في المسألة إنشاء الله تعالى.

وهذه الوجوه الثلاثة كلها ضعيفة :

( أما الأول ) فلان التعبد برواية غير واضحة السند في مقابلة القواعد العامة ـ كقاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر مثلا ـ من غير عمل معتد به كما ترى.

( وأما الثاني ) فمع أن الاستدلال به مبني على عدم الفرق بين الدخول والخروج الحسيين والمعنويين ، لان العين كانت في أيديهما معا فيكون كل منهما داخلا بالنسبة إلى النصف وخارجا بالنسبة إلى النصف ـ كما هو المختار ـ أمر معنوي اعتباري ، والا فبحسب الظاهر كل منهما ذو اليد وداخل فلا خارج.

فلا بد في الاستدلال بذيل الرواية الواردة فيما إذا كان ذو اليد أحدهما

١٤٩

خاصة على التساقط فيما إذا كانت في أيديهما من ادعاء مقدمة أخرى يمكن منعها (١) ، وهي عدم الفرق بين الخروج الحتمي والحكمي ، معارض برواية منصور عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده ولم يهب ولم يبع وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول انها ولدت عنده ولم يبع ولم يهب. قال عليه‌السلام : حقها للمدعي ولا أقبل من الذي في يده بينة ، ان الله عزوجل إنما أمر أن يطلب البينة من المدعي فان كانت له بينة والا فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر الله عزوجل.

لأنها تدل على عدم قبول البينة من الداخل وعدم حجيتها حتى يعارض ببينة الخارج فيتساقطان ، فان رجحنا هذه الرواية والا فلا بد من الرجوع الى ما دل بعمومه على التنصيف في تعارض البينتين من غير تحالف أو الى قوله « البينة على المدعي واليمين على المنكر » ، حيث أن مقتضاه عدم التحالف أيضا ، لأن كلا منهما بالنسبة الى ما في يد صاحبه مدعي وله بينة ولا يمين معها.

فان قلت : قد بينت وفاقا لغير واحد فيما تقدم أن البينة من المنكر مسموعة وأنها مسقطة ليمينه بناء على أن قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لا يدل على أزيد من رفع إلزام المنكر بالبينة كالمدعي ، أما لان اللزوم المدلول عليه بكلمة « على » وارد في مقام توهم الكلفة ـ أي كلفة إقامة البينة على المنكر أيضا ـ أو لأن المراد عدم قبول البينة من المنكر في جهة إنكاره ونفيه ، فلا ينافي قبولها منه إذا ادعى أمرا ثبوتيا قابلا لإقامة البينة عليه ، فرواية منصور على ما بينت سابقا لا بد من الاعراض عنها.

قلت : قد بينا سابقا على ما ذكرت في غير مقام التعارض ، بأن يكون المنكر

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١٤.

١٥٠

مستطيعا على إقامة البينة على أمر وجودي مستلزم لصدق قوله ، كما في مدعي الإعسار الذي هو منكر حقيقة ، وأما في مقام التعارض فلا. وقد نبهنا على ذلك هنالك أيضا ، وهو موافق للحكمة غالبا ، لان بينة المنكر إذا وقعت في مقابل بينة المدعي فغالبا تكون من قبيل وقوع الظاهر في مقابل الأظهر ، لجواز اعتماد البينة على يد المنكر أو الأصل الذي به صار المنكر منكرا ، فمن أجل هذه الحكمة أمكن القول بالفرق بين صورة التعارض وغيرها.

ولا يقدح في ذلك عدم مجي‌ء هذه الحكمة في بعض الصور ، كما إذا شهدت بينة المنكر بالملك مع الاستناد الى سبب آخر غير اليد ، لأن الحكمة لا يجب أن تكون مطردة.

والحاصل ان سماع بينة المنكر وكفايتها عن اليمين مع عدم المعارض ، وأما معه فالظاهر عدم حجيتها رأسا ، فلا يصغى بعد إقامة المدعي البينة إلى قول المنكر أن له البينة. ولعل هذا مراد المشهور من تقديم بينة الخارج ، الا ما يقضي به ظاهره من الترجيح المبني على حجية الطرف المقابل.

( وأما الثالث ) فلما ظهر سابقا من أن اليد المشتركة في العرف والشرع دليل على ملكية النصف ، فلا وجه للحكم بتساقط اليدين وكون المسألة من باب تعارض البينتين على مالا يد لأحد عليه. فظهر مما ذكرنا أن المشهور ـ أعني عدم التحالف ـ هو المنصور. والله العالم.

المسألة الثانية

( ما إذا كانت العين في يد أحدهما )

وصورها ثلاث : لأنه اما أن يقيم البينة المدعي خاصة ، أن المنكر كذلك أو يقيمان معا.

١٥١

ولا إشكال في الصورة الاولى ، وأما الثانية ففي سماع بينة المنكر حينئذ وجهان بل قولان قد تقدما من ظاهر قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ومن أن مطالبة اليمين من المنكر مبنية على الترفيه والتخفيف ودفع العسر ، فلا يدل على عدم القبول لو أقامها.

توضيح المقال : انه لا شبهة في أن مقتضى ظاهر قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بملاحظة تعريف المسند إليه في الفقرتين حصر جميع أفراد البينة في المدعي وجميع أفراد اليمين في المنكر ، أي كل بينة على المدعي وكل يمين على المنكر. وقضية ذلك عدم سماع البينة من المنكر رأسا والا لا نتقض الكلية الأولى.

الا أن هنا ما يصرفه عن ظاهره الى إرادة نفي الإلزام دون القبول ، فيكون الملحوظ في الكلية الأولى اللزوم دون القبول ، وذلك من وجهين :

أحدهما : ان الأمر بالنسبة إلى البينة أخف ، لأن إقامة البينة كلفة واضحة بخلاف اليمين ، وتعين الأمر الأخف على شخص دون الأثقل لا يفيد عرفا سوى الترفيه والترخيص وعدم الإلزام بالأثقل ، نظير الأمر الوارد في مقام وهم الحظر وحينئذ يكون قوله « اليمين على المنكر » أن وظيفته التي لا يسعه التخلف عنها هي اليمين. وأما أنه لو أقام البينة فهل يقبل منه أم لا ، فهو ساكت عنه ، فلا بد فيه من الرجوع الى ما دل على عموم حجية البينة.

والثاني : ان مدلول قوله « اليمين على من أنكر » عدم قبول البينة منه من حيث إنكاره ، فلا يمنع ذلك عن قبولها منه من جهة أخرى راجعة إلى الإثبات.

ويؤيده أن حكمة رفع البينة عن المنكر كون إقامة البينة على الإنكار المحض عسرا ، كما يدل عليه تعليل مطالبة اليمين من المنكر في علل فضل بن شاذان

١٥٢

بأنه جاحد والجاحد لا يستطيع على إقامة البينة. فإذا فرض دعوى المنكر أمرا وجوديا كان حاله كحال المدعي من حيث

العسر واليسر ، فلا تجرى فيه تلك العلة بل يرجع فيه الى عمومات حجية البينة. وحينئذ فلا بد من التصرف في ظاهر قوله عليه‌السلام « ولا أقبل من الذي في يده البينة » في رواية منصور المتقدمة بحمله على عدم القبول في صورة التعارض كما هو مورد تلك الرواية فدعوى عمومها لصورتي التعارض وعدمه موهونة بملاحظة ما ذكرنا من الوجهين في معنى قوله عليه‌السلام « اليمين على من أنكر » فينزل قوله « ولا أقبل » في رواية منصور على صورة التعارض بإرادة العهد من الموصول دون العموم.

( وأما الصورة الثالثة ) فاختلف فيها من حيث الترجيح بالدخول والخروج مطلقا أو التفصيل من حيث الأكثرية والأعدلية إلى أقوال ، وجملة القول فيه أن المرجحات المتصورة في تعارض بينة الداخل والخارج ثلاثة أو أربعة.

وليعلم أن المراد بالدخول والخروج موافقة كل أصل أو دليل شرعي ومخالفتهما ، فليس المراد بالداخل خصوص ذي اليد وبالخارج خصوص غيره بل ما يعم مدعي الصحة في العقد مثلا أيضا.

الأول : من المرجحات النص ، بأن ثبت من الاخبار تعبدا أنه إذا تعارضت البينتان قدم الداخل أو الخارج.

والثاني : احتمال أحدهما بعض المحامل الذي لا يوجد في الأخر ، كما في صورة الشهادة على الملك المطلق ، فان فيه من الاحتمالات الغير المنافية لعدم الملك واقعا ما ليس في الشهادة عليه بالسبب المعين المحسوس. مثل أن يشهد أحدهما بالملك وسكت عن السبب ويشهد الأخر بسببه كالحيازة مثلا ، فان هذه الشهادة بموجبها صريحة في الملك ، بخلاف الأول فإن الملك المطلق الذي

١٥٣

شهدت به البينة يحتمل كونها ظاهرية مستندة الى أصل أو أمارة ، وهذا المرجح يجري مجرى المرجحات الدلالية في الاخبار.

والثالث : أن يكون احتمال الكذب الخبري في أحدهما أبعد منه في الأخر كاحتمال الكذب في خبر الأعدل فإنه أبعد منه في خبر العادل ، وكذا الأكثر أو الأضبط أو نحوهما مما يوجب الترجيح بحسب الصدق والكذب الخبريين.

وهذه تجري مجرى المرجحات السندية والمضمونية في الاخبار.

وهذه المرجحات الثلاث مرتبة ، فمع وجود الاولى لا يلتفت الى الأخيرين لأن الحكم التعبدي في مورد التعارض هو المتبع كالتخيير أو ترجيح ما وافق الاحتياط في تعارض الاخبار على اختلاف المذاهب. ومع وجود الثاني لا يلتفت الى الأخير أيضا ، لأن الأخذ بذلك المرجح حقيقة جمع عملي بين البينتين ، فإن الأخذ بمقتضى مالا يحتمل إلا الملكية الواقعية مثلا لا ينافي فساد قول من يحتمل مع قوله عدم الملكية الواقعية.

إذا تحقق ذلك فنقول : مقتضى الأصل الأولي المستفاد من عموم ما دل على حجية قول العدلين في الموضوعات أنه إذا تعارض بينة المدعي والمنكر كالتساقط ، لأنه الثابت في الأمارات والحجج الشرعية المتعارضة. لكنه في باب القضاء استفدنا من أدلة هذا الباب أن بينة المدعي علة تامة في إثبات الحق على المنكر بحيث إذا كان له بينة فلا يلتفت بعد ذلك الى شي‌ء آخر حتى السلامة عن المعارض.

وبعبارة أخرى : يستفاد منها أن بينة المدعي بالنسبة إلى إثبات الحق على المنكر ليست كسائر الحجج القابلة للمعارضة ، بأن تكون مقتضية لإثبات الحق بل هي علة تامة يترتب على مجرد وجودها ثبوت الحق على المنكر. وهذه الاستفادة من وجوه :

١٥٤

أحدها : ظاهر الاخبار الناطقة بأنه إذا أقام المدعي البينة قضي له (١). فإنها بإطلاقها تدل على عدم إيقاف الحكم لاحتمال قيام المنكر أيضا ببينته والنظر من ترجيح أحدهما على الأخر ، وهذه وبين قولي وفعلي وظاهر وأظهر كما لا يخفى على المتتبع.

وثانيها : قوله عليه‌السلام « استخراج الحقوق بأربعة » (٢) ، فإن ظاهره ولو بمعونة وروده في مقام إعطاء الميزان كون كل واحد من الأربعة علة تامة لا يترقب مع وجود أحدها وجود شي‌ء آخر حتى السلامة عن المعارض في القضاء.

وثالثها : رواية منصور المتقدمة (٣) ، دلت بصريحها على عدم قبول البينة من الذي في يده العين.

ورابعها : قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (٤) بضميمة قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (٥) وقوله « احكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » (٦) ونحوها مما دل على أن كل واحد من البينة والايمان علة تامة للقضاء ، فاذا استفدنا منها كون كل واحد منها علة تامة ثمَّ استفدنا من قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي » أن المطالب بالبينة هو المدعي استفدنا عدم احتياج المدعي بعد إقامة البينة إلى شي‌ء آخر في إثبات الحق على المنكر حتى السلامة عن المعارض. نعم يحتاج الى تعديل

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢ و ٣ من أبواب كيفية الحكم.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ٧ من أبواب كيفية الحكم ح ٤.

(٣) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١٤.

(٤) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٥) الوسائل ج ١٨ ب ٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٦) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

١٥٥

بينته للجهل بحالها ، لكنه أمر يتحقق به موضوع البينة وليس أمرا زائدا عليها يحتاج إليه المدعي.

فان قلت : مقتضى جميع ما ذكرت كون يمين المنكر أيضا علة تامة ، ومن الواضح أنه لا يجتمع عليتها وعلية البينة للمدعي ، لاستحالة اجتماع علتي الحكمين المتناقضين ، فينكشف من ذلك كون كل واحد من البينة واليمين مقتضيا للحكم لا علة ، لأن الجمع بين مقتضى المتناقضين أمر ممكن.

قلنا : هذا انما يتجه إذا كان مرتبة اليمين في مرتبة البينة ، وأما إذا كانتا مترتبتين ـ بأن كانت مرتبة أحدهما بعد عدم الأخر كمرتبة اليمين بالنسبة إلى مرتبة البينة حيث قضت الضرورة بعدم كون اليمين ميزانا مع بينة المدعي ـ فلا استحالة في كون كل واحد منهما علة تامة للقضاء في مورده وموضع استعماله.

فان قلت : قد بنيت على أن بينة المنكر مع عدم المعارض أيضا حجة مسموعة مغنية عن اليمين ، وهذا البناء يستلزم البناء على كون بينة المدعي مقتضية لا علة تامة ، لان موازين القضاء كلها من باب واحد من حيث كونها علة أو مقتضية ، ويستحيل اجتماع العلتين لأمرين متناقضين الا على وجه الترتيب ، والقدر المسلم انما هو الترتيب بين يمين المنكر وبينة المدعي ، وأما الترتيب بين بينته وبينة المدعي فهو أول الكلام ، وحينئذ لا بد من حمل الموازين على كونها مقتضية لا علة.

قلت : يثبت الترتيب بينهما أيضا بملاحظة ظهور ما ذكرنا في كون بينة المدعي علة تامة وعدم ظهور دليل قبول البينة من المنكر إلا في كونها مقتضية ، وذلك لان ذلك الدليل ليس سوى عمومات حجية قول العدلين ، ومن الواضح عدم دلالته الا على كون قولهما مقتضيا قابلا للمعارضة. فإذا لاحظنا ذلك ولاحظنا

١٥٦

ظهور أدلة حجية بينة المدعى في كونها علة تامة حصل من هاتين الملاحظتين تأخر رتبة بينة المنكر عن بينة المدعي ، فلا تسمع الا بعد أن لم تكن للمدعي بينة.

وبالجملة قد استفدنا من باب القضاء أن بينة المدعي بالنسبة إلى إثبات الحق على المنكر علة تامة ، وهذه الاستفادة أمر زائد على ما يقضي به عموم حجية البينة ، فإنه لا يفيد سوى كونه مقتضيا قابلا للمعارضة.

وقضية هذه الاستفادة تقديم بينة المدعي على بينة المنكر في صورة المعارضة ، لأن الدليل على حجية بينة المنكر على القول به لا يزيد مؤداه على كونها حجة مع عدم المعارضة ، كما هو الشأن في جميع أدلة الامارات ، فإنها انما تدل على حجتها الفعلية مع عدم المعارضة ، فلا يقاوم بينة المدعي التي ثبت كونها حجة مطلقا.

فان قلت : لو كان بينة المدعي حجة فعلية مطلقا ـ أي علة تامة للقضاء ـ لم يتصور تعارض البينتين في التداعي مثلا ، مع أن بطلان التالي واضح.

قلت : يمكن أن يقال انا استفدنا من أدلة القضاء كونها حجة فعلية وعلة تامة بالنسبة إلى ثبوت الحق على المنكر خاصة ، فيختص حينئذ بما إذا كان المقام من مقام المدعى والمنكر لأمن مقام التداعي ، لأنه الذي يستفاد من المأثور قولا وفعلا.

ثمَّ لا يذهب عليك أن الأدلة الفعلية ليست محتملة في الباب حتى يمنع دلالتها على المدعي الاستدلال ، فاذا حكم الصادق عليه‌السلام وذكر قضية من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من الأمير عليه‌السلام في مقام الاستدلال على ذلك والاستشهاد له ، كان جميع ما في تلك القضية من الإطلاق والتقييد حجة كالقول.

مضافا الى أن سياق الروايات الحاكية عن قضايا الرسول صلّى الله عليه

١٥٧

وآله مثل ما يقرب معنى من أنه كان رسول الله « ص » إذا اختصم اليه رجلان يقول للمدعي : ألك بينة؟ فان قال نعم قضى بها وان قال لا أحلف المنكر (١).

وما أشبهها وسائر ما بها من خصوصيات التعبير ، ربما يفيد العلم لو لم يفد الظن بأن المدعي مع إقامة البينة يقضي وليس للحاكم بعدها حالة منتظرة أخرى كالسلامة عن المعارض ونحوها. هذه قضية القاعدة مع قطع النظر عن الروايات الواردة في المسألة.

وأما الروايات : فمنها ما يدل على تقديم بينة الخارج أيضا ، مثل رواية منصور المتقدمة (٢) ، ودونها في الدلالة المرسل المروي في كشف اللثام عن الأمير عليه‌السلام. ومنها ما يدل على تقديم بينة الداخل ، وهي رواية جابر عن فعل النبي « ص » ورواية غياث بن إبراهيم. ومنها ما يدل على ترجيح الأكثر كخبر أبي بصير المتقدم.

وهذه الروايات من حيث السند كلها غير نقية ، وليس في بعضها ترجيح على الأخر ترجيحا يمكن الركون اليه ، الا أن ما دل على ترجيح الخارج أظهر من حيث الدلالة من الباقي ، لأن رواية منصور صريحة في عدم قبول البينة من ذي اليد اما مطلقا أو مع وجود المعارض. وأما روايتا جابر وغياث فهما حاكيتان عن الفعل ، وهو على تقدير اعتباره لا يقاوم دلالة القول. وأما رواية أبي بصير ففي صدرها اضطراب قد سبق إليه الإشارة ، لأنه من مواضع الجمع لأمن مواضع الترجيح ، فلم يبق الا الذيل. وعلى أي حال فرواية منصور أظهر دلالة من الكل.

ثمَّ ان النسبة بينها تباين كلي كما لا يخفى ، فعلى تقدير التخيير لم يبطل

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٦ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١٤.

١٥٨

أيضا ما في رواية منصور ، وكذا على تقدير التساقط ، لما عرفت من القاعدة المطابقة لمضمونها.

وأما روايات القرعة فلا عامل بها عملا معتدا به.

ثمَّ ان ما قويناه من تقديم بينة الخارج لا اشكال فيه في صور ثلاث ، وهي أن يشهد كل من البينتين بالملك المطلق أو بالملك المسبب أو شهد بينة الخارج بالمسبب والداخل بالمطلق ، وان كان الحكم في الأول والثالث أظهر منه في الثاني ، لنهوض جميع ما استدللنا به على ترجيح بينة الخارج في تلك الصور خصوصا الثاني الذي هو مورد رواية منصور.

لان يقال : تقديم بينة الخارج في الثانية وان نطق به رواية منصور الا أنه بعيد عن الاعتبار وعما يقضي به النظر في القواعد العامة ، لأن بينة الداخل بعد أن كانت حجة في نفسها وشهدت بالملك المسبب كانت في رتبة بينة الخارج في القوة مضافا الى اعتضادها باليد ، فتقديم بينة الخارج حينئذ تعبدا محضا لمضمون رواية منصور أمر مشكل.

قلت : لا اشكال فيه بعد ما عرفت من اعتضاد مضمون تلك الرواية بما يدل عليه قوله « البينة على المدعي » وقوله « إنما أقضي بينكم » ونحوها مما مر من كون بينة المدعي علة تامة غير قابلة للمعارضة أصلا. وليس ذلك أمرا تعبديا محضا بل عليه بناء العرف أيضا ، لأن صاحب الحق بعد أن كان له طريق الى التوصل الى حقه بإقامة الحجة فلا معنى لتعطيل حقه باعتبار جعل حجته معارضة لحجة من عليه الحق.

والحاصل ان الحجج الشرعية والعرفية إنما شرعت ووضعت للتوصل الى الحقوق ، فلا بد من كفايتها بذلك المهم صونا للحقوق عن الضياع ، وأما من عليه الحق فليس له حق حتى يصغى الى حجته في مقابلة حجة المدعي. وغاية

١٥٩

ما يقضى به عموم ما دل على حجية البينة سماعها ممن عليه الحق إذا لم يكن لصاحبه حجة على ثبوته ، واما في مقابل حجته فلا.

وأما إذا شهدت بينة الخارج بالملك المطلق وبينة الداخل بالملك المسبب ففي تقديم بينة الخارج أيضا إشكال ، من عموم ما استدللنا به على تقديم بينة الخارج وكونها علة تامة حتى رواية منصور باعتبار عموم ما فيها من التعليل ، ومن أن تقديم بينة الداخل في هذه الصور.

ربما يقال انه جمع بينهما لا ترجيح ، لان الملك المطلق يحتمل احتمالات لا يحتمل الملك المقيد المستند الى سبب خاص بحيث يوجد من بين تلك الاحتمالات احتمال أو احتمالات لو حملت الشهادة عليه لم تكن منافية لشهادة بينة الداخل على الملك المقيد.

مثلا : إذا شهدت بينة ذي اليد على الشراء من زيد المدعي وشهدت بينة على الملك المطلق كان العمل بشهادة بينة الداخل أوثق وأقرب بالواقع وأدخل في وجوب العمل بالبينات ، لان كل واحدة من البينتين متساوية في الاحتمالات النافية للواقع الراجع الى صفات البينة من حيث تعمد الكذب أو الخطأ والنسيان أو نحو هما. وتزيد بينة الخارج على بينة الداخل بأن فيها احتمال الاستناد الى استصحاب وليس في بينة الداخل هذا الاحتمال. وأما احتمال الفسخ بعد الشراء فهو معارض باحتمال الشراء بعد الفسخ أيضا.

والحاصل ان الشهادة بالملك المطلق وان كانت حجة شرعية في إثباته ما لم يعلم باستناده الى ما لا يعارض اليد وان احتمل ذلك الا أنه إذا وقع التعارض بينها وبين الشهادة بالملك المقيد السالم عن ذلك الاحتمال ، فمقتضى الجمع هو تقديم الشهادة على الملك المقيد.

والدليل على هذا الجمع هو عموم أدلة حجية البينة ، فإن مقتضى ذلك

١٦٠