كتاب القضاء - ج ٢

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ٢

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢

فبعضها لا يجري في الشراء ، وذلك بأن يكون الملك المطلق مستندا الى يد مستندة الى الاستعارة من البائع.

وتنزيل الملك المطلق على هذا الوجه يحصل به الجمع ، لعدم المنافاة بين الملك الظاهري بهذا المعنى ، أعني المستند الى يد الاستعارة من البائع وبين الملك الواقعي الحاصل من الشراء من المعير ، فإنما قلنا بأن الجمع بأي وجه أمكن لازم تعين حملهما على هذا الوجه.

فان قلت : كما يحتمل استناد الملك الى يد الاستعارة من البائع كذلك يحتمل مثل ذلك في ملك البائع الذي كان الشراء منه فيتعارض الاحتمالان فلا يمكن الجمع.

قلت : كل ما يحتمل في ملك البائع أو في سائر مقدمات الشراء الصحيح الواقعي من الأمور المنافية لإفادته الملك الواقعي يحتمل أيضا في الملك المطلق لان كل سبب يفرض للملك يحتمل فيه بعض ما يجعله سببا ظاهريا غير مفيد للملك الواقعي.

ولكن يحتمل في الملك المطلق شي‌ء لا يجري في الشراء ، وهو استناده الى يد الاستعارة من البائع الواقعي ، فإنه إذا حملنا الملك المطلق على هذا الاحتمال سلم الشراء الصادر منه عما ينافي إفادته الملك الواقعي من الاحتمالات.

بخلاف تنزيل الشراء على ما أبديت من الاحتمال ـ أعني كونه من البائع الذي كان ملكه ظاهريا ـ فإنه لو حمل الشراء على ذلك لم يسلم الملك المطلق عما يوجب كونه ظاهريا ، إذ لا منافاة بين كون ملك البائع ظاهريا وكون الملك المطلق أيضا ظاهريا ، بأن تكون العين لثالث غير المتداعيين.

والحاصل ان احتمال كون البائع غير مالك واقعا معارض باحتمال كون المطلق أيضا ظاهريا ، فبعد حمل الشراء على الشراء من مستصحب الملكية للتعارض

٢٢١

الاحتمالات ولا يحصل الجمع ، بخلاف حمل الملك المطلق على الاستعارة من البائع ، فإنه على تقدير هذا الحمل سلم الشراء عما يوجب فساده ويكون شراء صحيحا ملكا ، وحينئذ فيجب الجمع بحمل ما يحتمل كونه مستندا الى سبب ظاهري لا يجري في الأخر على ذلك السبب الظاهري.

وبذلك ينقدح وجه جمع آخر في مسألة تعارض القديم والأقدم ، لأن جميع الاحتمالات المنافية للملك الواقعي التي تحتمل في القديم تحتمل في الأقدم أيضا. بخلاف العكس ، وذلك انه ليس للملك الذي يشهد به بينة القديم بحمل ظاهري لا يكون في الملك الأقدم ـ أعني الملك في الزمان المشترك وهو رأس السنة ـ لأن غاية ما في الملك القديم ابتناؤه على استصحاب يكون بينة الأقدم بالنسبة إليه مزيلا ، بأن تكون الحالة السابقة مقدما على السنتين.

وهذا الاحتمال معارض بالمثل ، إذ يحتمل أن يكون مستند بينة الأقدم في رأس السنتين استصحابا يكون بينة القديم بالنسبة مزيلا ، بأن يكون بينة الأقدم قد علم بالملك قبل السنتين ، وانما شهد به في رأس السنتين استصحابه له ، وبينة القديم قد علم بانتقال الملك منه الى شخص بعد ذلك الزمان وقبل السنتين ثمَّ علم بيعه للمشهود له في رأس السنة فشهد بالملك له في رأسها ، فإن بينة القديم في هذا الفرض مزيل لبينة الأقدم كما ان استصحابه مزيل لاستصحابه.

بخلاف بينة الأقدم ، فإن فيها بعض ما يختص به من الوجوه الظاهرية ، وهو استصحاب الملك من رأس السنتين الى رأس السنة ، فان هذا الاستصحاب غير متصور في مستند الملك القديم ، فاذا حملنا بينة القديم على الاعتماد على هذا الاستصحاب تمحض ببينة القديم مزيلا لسلامته عن هذا المحمل بعد مساواتهما في سائر الوجوه ، فيكون بينة الأقدم بمنزلة « لا أدري » مزيلا للملك الثابت

٢٢٢

في رأس السنتين وبينة القديم بمنزلة « أدري » ، فيعمل ببينة القديم كما في مسألة الجرح والتعديل.

وقد يناقش في ذلك بمنع تمحض بينة القديم في كونه مزيلا له ، بل انما يتمحض في ذلك إذا كان نصا في العلم بالمزيل. وليس كذلك ، لاحتمال رجوع التعارض بينهما الى الملك الثابت في رأس السنتين ، بأن تكون شهادة بينة القديم بالملك في رأس السنة باعتبار اعتقادها عدم الملك في رأس السنتين أيضا.

والحاصل أنه على تقدير رجوع شهادة بينة الأقدم بالملك في رأس السنة إلى قوله « لا أدري » المزيل للملك السابق كما هو مبنى الجمع ، يحتمل أن يكون معارضة بينة القديم لها في هذه الجهة ـ أعني جهة عدم العلم بالمزيل ـ فتكون المعارضة في بقاء الملك السابق وعدمه بعد التسالم على حدوثه في رأس السنتين.

ويحتمل أن تكون المعارضة في الملك السابق ، بأن يكون تكذيب بينة القديم لها في رأس السنة باعتبار التكذيب في الملك السابق الثابت في رأس السنتين. وعلى هذا الاحتمال لا تكون بينة القديم مزيلة لبينة الأقدم بل معارضة لها.

وهذا هو الوجه في ذهاب الأكثر في مسألة تعارض الملك المطلق والمسبب عن الشراء مثلا الى ترجيح المسبب وعدم ذهابهم الى ترجيح بينة القديم ، لأنه على تقدير حمل الملك المطلق على الملك الظاهري المستند الى يد العارية ونحوها يتمحض بينة الملك المسبب عن الشراء مزيلة ، فيؤخذ بها جمعا ، لعدم المنافاة بين ثبوت الملك الظاهري لأحد بموجب يده مثلا وبين تملك الأخر واقعا بموجب الشراء.

فمقتضى القاعدة المسلمة عندهم من عدم معارضة « لا أدري » مع « أدري » يجب تقديم المسبب ، لأنه بمنزلة « أدري » والملك المطلق بمنزلة « أدري »

٢٢٣

بعض أسباب الملك ظاهرا ولا أعلم مزيله. بخلاف مسألة القديم والأقدم ، فإن غاية ما يتصور في الأقدم حمله على الاستصحاب من رأس السنتين الى رأس السنة ورجوع الشهادة بالملك في رأس السنة إلى قوله « لا أدري » بالمزيل.

وهذا لا يكفي في حصول الجمع بتقديم بينة القديم ، لاحتمال عدم كونها بمنزلة « أدري » المزيل كما ظهر ، فلا بد من تنزيلها بعد تنزيل بينة الأقدم على الاستصحاب المزبور على علمها بالمزيل لا بعدم الملك السابق ليرجع الى التعارض والتكاذب.

وأيضا الجمع بين المطلق والمقيد انما هو بحمل المطلق على مستند ظاهري ، وهكذا جميع صور الجمع بين البينتين التي صرحوا بها في مسائل تعارض البينات ، فان الجمع فيها انما هو بحمل إحداهما على مستند خاص ظاهري.

وهذا غير الجمع المعمول في تعارض القديم والأقدم ، فإنه جمع بالتصرف في مدلول احدى البينتين ، وهي بينة القديم بحمله على الملك الحادث الرافع للملك السابق مع كون المدلول محتملا غير ذلك ، وهو الملك الحادث الرافع للملك السابق الثابت في رأس السنتين للآخر ، بأن كان معتقده عدم ذلك الملك السابق.

فالجمع في مسألة القديم والأقدم يخالف الجمع في مسألة المطلق والمقيد وهكذا في مسألة الجارح والمعدل ومسألة تعارض النافي والمثبت ، وهكذا سائر موارد الجمع من جهتين : إحداهما أن الجمع في تلك الموارد يحصل بتنزيل واحد في إحدى البينتين بخلاف الجمع في هذه ، فإنه كما عرفت يحتاج الى تنزيل بعد تنزيل آخر. وثانيتهما أن الجمع فيها راجع الى التصرف بحسب المستند لا بحسب المدلول ، بخلاف الجمع هنا فإنه جمع بالتصرف في المدلول.

لكن لقائل أن يقول : انه لا غائلة في ارتكاب الوجهين معا ، لعين ما دل على التنزيل الأول ، لأن قاعدة الجمع مهما أمكن كما يقتضي الجمع فيما إذا حصل

٢٢٤

تنزيل واحد حتى يرجع الى تعارض « لا أدري » مع « أدري » كذلك يقتضيه فيما إذا توقف الرجوع الى ذلك على التنزيلين مع التصرف في المدلول.

هذا ، ويمكن توجيه تقديم القديم بتقرير آخر أوضح يرجع الى الترجيح النوعي ، وهو أن يقال : ان في مسألة تعارض القديم والأقدم أمارات ثلاث تفيد كل منها بحسب النوع الظن : إحداها أمارة حدوث الملك في رأس السنتين لزيد وثانيتها أمارة بقاء ذلك الملك الى رأس السنة وهو الاستصحاب ، وثالثتها أمارة حدوث الملك لعمرو في رأس السنة وهي بينة القديم.

ولا تعارض بين شي‌ء من هذه الأمارات ، إلا بين أمارة البقاء في رأس السنة لزيد وأمارة الحدوث لعمرو ، فدار الأمر بين العمل بأمارة الحدوث أو بأمارة البقاء ، والعمل بأمارة البقاء طرح وتكذيب لامارة الحدوث جدا. وأما العمل بأمارة الحدوث فليس طرحا لامارة البقاء ، لان الدليل على اعتبار أمارة البقاء التي تفيد الظن نوعا معلق على عدم مجي‌ء أمارة على زوال البقاء ، والمفروض كون أمارة الحدوث لعمرو في رأس السنة أمارة للزوال ولو لم تكن ناطقة بعدم البقاء ، الا أن عدم البقاء ـ سواء كان باعتبار عدم الحالة السابقة أو باعتبار زوالها في رأس السنة مظنون في رأس السنة بشهادة بينة القديم ـ فتعين العمل بها.

ولعله لأجل ما ذكرنا نقل عن المحقق جمال الدين قدس‌سره في حاشية الروضة القول بتقديم القديم ، كما جنح إليه في محكي كشف اللثام.

فظهر من جميع ما ذكرنا وجه القول المشهور في مسألة تعارض القديم والأقدم ، وهو الذي ذكرنا في المناقشة ، إذ بعد عدم مساعدة قاعدة الجمع على تقديم القديم يتعارضان في رأس السنة وما بعدها ويبقى الملك السابق في رأس السنتين سليما عن المعارض ، فيستصحبه الحاكم.

٢٢٥

كما ظهر أيضا وجه القول بتقديم القديم ، وأما وجه التساقط وعدم العمل باستصحاب الملك السابق كما أبداه العلامة في القواعد ، فهو اما عدم صلاحية استصحاب الملك السابق لا ثبات الملك الاتي أو عدم جريان هذا الاستصحاب أيضا بعد تعارضهما في البقاء ، لان الرجوع الى الحالة السابقة مع وجود الدليل على خلافها انما يتصور إذا كان لذلك الدليل معارض من جنسه ، بأن يكون دليل ارتفاعها واقعا معارضا بدليل وجودها الواقعي ، كما إذا تعارض دليل الوجوب الواقعي مع دليل الإباحة الواقعية ، فإنه حينئذ يرجع الى الحالة السابقة ، وهي البراءة الأصلية لأن بقاء تلك البراءة بمقتضى الظن الاستصحابي سليم حينئذ عن المعارض.

وأما إذا كان الدليل على خلاف الحالة السابقة معارضا لنفس الظن الاستصحابي لا لدليل آخر من جنسه ناظر الى وجود الحالة السابقة في الان الثاني واقعا لم يكن فيه للأخذ بالحالة السابقة وجه بعد فرض صلاحية ذلك الاستصحاب ، أعني البقاء الذي يقضي به الظن الاستصحابي لمعارضة ذلك الدليل.

والحاصل أنه ان قلنا ان الظن الحاصل بالبقاء الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة لا يعارض الظن بالحدوث الناشئ من بينة القديم ، فهذا يقتضي الحكم بتقديم بينة القديم جمعا ، وهو خلاف الفرض ، إذ الفرض كما عليه المشهور التعارض بين الظنين والتساقط ، وبعد سقوط الظن الاستصحابي لم يبق هنا للحاكم استصحاب آخر حتى يعول عليه.

ودعوى ان التساقط بسبب المعارضة هو البقاء الذي كان مدلولا لبينة الأقدم فلا ينافي حكم الحاكم بالبقاء بعد سقوط مدلول تلك البينة. مدفوعة بأنه ليس هنا بقاء ان يكون أحدهما مدلول البينة والأخر ميزانا للحاكم بعد تساقط البينتين والأول أوجه كما يظهر بالتأمل. والله العالم.

٢٢٦

التقاط

( في تعارض المرجحات )

قد سبق في أول باب تعارض البينات أن المرجح على ثلاثة أقسام : أحدها ما يكون من قبيل المرجحات المستعملة به في الاخبار كالاعدلية والأكثرية والأضبطية ونحوها مما يرجع الى وجوه البينتين في المتعارضتين وانها صدق أحدهما على الأخر. والثاني ما يكون من قبيل المرجحات الدلالية في الاخبار ، وقد سميناه فيما سبق بالترجيح المدلولي. والثالث ما يكون من المرجحات الخارجية كالخروج والدخول.

ثمَّ ظهر بعد ذلك أيضا ان من جملة المرجحات اشتمال احدى البينتين على زيادة لم تكن في الأخرى ، ثمَّ قسمتها الزيادة إلى صورية مثل أن بينة أحدهما تشهد بالملك القديم والأخرى به في الحال ، أو تشهد إحداهما بالأقدم والأخرى بالقديم ، ومعنوية مثل أن يكون مدلول احدى البينتين الملك ومدلول الأخرى اليد ، أو يكون مدلول إحداهما الملك المطلق والأخرى المسبب كالملك الحاصل من الشراء ، وهكذا الى سائر ما يكون مدلول إحداهما أخص من مدلول الأخرى ، فإن الخاص يزيد على العام باعتبار ما فيه من الخصوصية.

فاعلم أن هذه المرجحات قد يقع التعارض بينهما ، والذي سبق على تفاصيله كان بيانا لحكمها مع قطع النظر عن التعارض ، فلا بد من بيان صورة ما يقع بينها فيها المعارضة.

[ تعارض الأعدلية والأكثرية ونحوهما ]

فنقول :

( أما المرجح الأول ) ـ أعني الأعدلية والأكثرية وأضرابهما ـ فلا يتعلق

٢٢٧

ببيان الحال فيها غرض ، لان الدليل على اعتبارها ان كان هو المقيد كانت مقدمة على الجميع ، لأنها حينئذ مرجحات منصوصة لا يقاومها المرجحات الغير المنصوصة ، لأنها مرجحات حيث لا يكون مرجح.

نعم بعض صور الترجيح بالأمور المزبورة ـ كأن يرجع الى عدم التعارض رأسا ـ لا يلتفت إليها أيضا ، مثل ما إذا شهدت إحداهما بالملك بموجب الاستصحاب وشهدت الأخرى بالمزيل ، فان الحكم بتقديم المزيل هنا في الحقيقة جمع بين البينتين لا ترجيح ، وتسميته ترجيحا مبني على التسامح.

ففي مثل هذه الصورة لا ينبغي الاعتداد بالأعدلية مثلا ولو كان اعتبارها ثابتا بالنص تعبدا ، لان ذلك إنما هو في مقام التعارض وهنا لا تعارض. وأما في مثل المطلق والمقيد فقد ذكرنا أيضا وجه جريان الترجيح بالأعدلية فيه وعدمه في الصورة الرابعة من صور تعارض بينة الداخل والخارج. فارجع.

وان كان وجه اعتبارها غير الاخبار ـ بناء على وجوب الترجيح في البينات المتعارضة ـ كانت رتبتها متأخرة عن جميع المرجحات المزبورة ، لأن هذه المرجحات بمنزلة الترجيح من حيث الدلالة في الاخبار التي مرجعها الى الجمع أو الى الترجيح من حيث المرجحات الداخلية بالنسبة إلى الأعدلية ونحوها.

وكيف كان فالغرض هنا متعلق ببيان حال التعارض فيما عداها من اليد والزيادة والإطلاق والتقييد ، ويندرج فيه مسائل :

( الأولى ) تعارض الزيادة الصورية مع الدخول والخروج ، وتحتها ثمان : لأن الزيادة الصورية اما أن تكون في طرف الخارج أو الداخل ، وعلى التقديرين فاما أن يتكلم على القول بترجيح بينة الخارج أو الداخل ، وعلى التقادير الأربعة فاما أن يقال في مسألة الاختلاف في الزيادة الصورية بتقديم القديم على الحادث

٢٢٨

أو الأقدم على القديم ، أو يقال بالعكس كما جنح إليه في كشف اللثام وقويناه بوجوه عديدة وأطوار عجيبة.

فهذه ثمان مسائل ، وانما أسقطنا الاحتمال الثالث في مسألة تعارض القديم والأقدم الذي أبداه العلامة ، وهو القول بالتساقط وعدم الرجوع الى استصحاب الملك القديم أو الأقدم ، لأن الزيادة على هذا القول ليس من المرجحات وكذا النقصان ، ولازمه عدم التكافؤ لشي‌ء من المرجحات ، يعني وجوب الأخذ بالمرجح سواء كان في طرف السابق أو اللاحق.

وتوضيح الحال في المسائل الثمان هو أنه على القول بترجيح السابق ، فاما أن يكون السبق في بينة الخارج أو الداخل. وعلى التقديرين يتكلم تارة على القول بتقديم بينة الداخل ، فهذه أربع مسائل :

الاولى : أن يكون السبق في بينة الخارج وبنينا على تقديم الخارج ، فهنا لا إشكال في تقديمها على بينة الخارج مطلقا.

الثانية : أن يكون السبق في طرف الخارج أيضا وبنينا على تقديم بينة الداخل ، فان قلنا ان اليد مرجع لا مرجح أشكل الأمر في الترجيح هنا ، لان ترجيح السبق أيضا يرجع الى تساقط البينتين والرجوع الى استصحاب الملك لان هذا الاستصحاب لا يعقل أن يكون مرجحا للبينة ، إذ الملك السابق حالة سابقة واحدة تارة يعول عليها الشاهد وأخرى يعول عليها الحاكم.

وبعد سقوط تعويل الشاهد عليها باعتبار معارضة بينة اللاحق يرجع إليها الحاكم ، فليس استصحاب الحاكم أمارة أخرى يعاضد بينة السابق على القول باعتضاد الاستصحاب للدليل فضلا عن القول بعدم صلاحية الأصل لأن يكون مرجحا ، وانما يكون الاستصحاب كذلك إذا لم يكن الموافق له معولا عليه كما لو تعارض دليل الوجوب الواقعي والإباحة الواقعية ، فإن الحالة السابقة ـ أعني

٢٢٩

البراءة الأصلية ـ تكون أمارة معاضدة لدليل الإباحة الواقعية الغير المستند الى الاستصحاب بل الى الحس ونحوه.

بخلاف بينة السابق ، فان شهادتها بالملك اللاحق مبنية على سبق الملك ، ومستندة الى الحالة السابقة أو محتملة للاستناد إليها ، فلا تكون كل واحدة من البينة والحالة أمارة مستقلة تصلح لاعتضاد الأخرى.

وحينئذ فيشكل الترجيح في المقام ، الا أن يقال : ان بعد تساقط البينتين يقع التعارض بين المرجعين الاستصحاب واليد ، وحيث أن اليد واردة وحاكمة على الاستصحاب تعين الأخذ بها ويترجح بينة الداخل.

هذا إذا قلنا ان اليد مرجع لا مرجح ، وان قلنا انها مرجحة كان ترجيح بينة الداخل حينئذ أوضح وان كان السبق للأخرى ، لما عرفت من عدم صلاحية السبق للترجيح ، وان إطلاق الترجيح عليه مسامحة ، إذ المراد به تساقط البينتين والرجوع الى الاستصحاب ، فلا يصلح للمعارضة مع شي‌ء من المرجحات.

والثالثة : أن يكون السبق في بينة الداخل وقلنا بترجيحها على بينة الخارج وحينئذ وجب تقديمها ، سواء كانت اليد مرجعا أو مرجحا كما لا يخفى.

والرابعة : أن يكون السبق لبينة الداخل أيضا وبنينا على ترجيح بينة الخارج وحينئذ فإن قلنا ان وجه ترجيح الخارج هو أن البينة غير مسموعة من الداخل مطلقا ، سواء كان في صورة المعارضة أم لا كما هو أحد الاحتمالات في المسألة على ما سبق وان كان قد عرفت ضعفه.

فلا فائدة في هذا المرجح ـ أعني البقاء ـ إذ الفرض عدم حجية بينة الداخل والسبق انما يكون مرجحا إذا كانت البينة التي تشهد بها حجة.

وان قلنا ان وجه الترجيح رجحان بينة الخارج باعتبار الخروج ، أشكل حينئذ في ترجيح الخارج أو الداخل من إطلاق رواية منصور ولا أقبل من الذي

٢٣٠

في يده بينة ، ومن أن عدم القبول انما هو في صورة التكافؤ لا في صورة رجحان بينة الداخل بمرجح كالسبق ، والأول أظهر عملا بإطلاق الأدلة.

هذا كله على القول بالترجيح بالسبق ، وأما على القول بالترجيح باللحوق ـ كما نقل عن جمال الدين ـ فالصور أيضا أربع مثل الصور المزبورة :

ففي الأولى لا بد من النظر في أن ترجيح بينة الخارج نظير الشاهد واليمين في قبال البينة على الوجهين فيه كما تقدما ، أو لأجل الترجيح بالخروج بعد كون كل من البينتين حجة ، وعلى الأولتين لا فائدة أيضا للحوق في بينة الداخل كما لا يخفى. وعلى الثاني فالظاهر ترجيح بينة الداخل حينئذ لكونه بمنزلة الجمع كما سبق ، فلا يجري فيه الترجيح بالخروج ونحوه.

وفي الصورة الثانية يقدم بينة الداخل ، سواء كان اليد مرجعا أو مرجحا ، لتعاضد المرجحين اللحقوق واليد.

وفي الصورة الثالثة يقدم بينة الخارج ، سواء كان اليد مرجعا أو مرجحا ، لأن الأخذ بالقديم نحو جمع بين البينتين كما تحقق ، فلا عبرة معه باليد على شي‌ء من الوجهين.

وفي الصورة الرابعة يقدم أيضا بينة الداخل بطريق أولى على جميع التقادير ، كما يظهر الوجه بالتأمل والتدبر.

هذه الحال في تعارض الترجيح السبقي واللحوقي مع اليد ، وأما تعارضهما مع بقية المرجحات فقد ظهر الحال في تعارضهما مع الأعدلية والأكثرية ، وأما تعارضهما مع قوة الحجة وضعفها مع أقوائية الشاهدين من الشاهد واليمين فالحال فيه أيضا واضحة ، لأن الحجة الضعيفة ساقطة عن الاعتبار رأسا في مقابل الحجة القوية فلا يجدي فيها المرجحات.

وأما تعارضهما مع الترجيح بالإطلاق والتقييد ـ أعني الملك المسبب ـ

٢٣١

فالظاهر أنه غير متصور ، لان تعارض الحادث والقديم أو القديم والأقدم لا يكونان إلا في المسببين ، إذ لو كانا مطلقين أو كان أحدهما مطلقا خرج عن كونها شهادة بالحدوث أو القدم ، وذلك لان الإطلاق في الشهادة كونها على وجه يحتمل معه الاستناد إلى أمارة شرعية ، والشهادة بالحادث أو القديم مرجعها إلى الشهادة بالملك عن سبب لا عن أمارة ، إذ الحادث أو القديم لا يعقل استناده إلى الامارة ، إذ الامارة لا توجب حدوث الملك ولا قدمه ، لان الطريق لا يؤثر في نفس ذي الطريق.

نعم يمكن فرض وقوع التعارض بين السبق واللحوق وبين الإطلاق والتقييد لا بينهما وبين الحادث والقديم ، كما إذا شهدت إحداهما بنفس الملك في رأس السنة لا بحدوث الملك فيه وشهدت الأخرى بالملك في الحال أو شهدت به في رأس السنتين ، فان في مثل هذه الصورة يتصور التعارض بين السبق أو اللحوق وبين المطلق أو المقيد كأن تقول إحداهما « أشهد انه اشتراه في رأس السنة » وتقول الأخرى « أشهد أنه ملكه في الحال » ، وحينئذ فاما أن يتكلم فيه على القول بترجيح السبق أو بترجيح التأخر ، وعلى التقديرين فلإطلاق اما في طرف السابق والتقييد في طرف المتأخر أو العكس.

فهذه أربعة أقسام يظهر حكمها لمن تأمل فيما ذكرنا في الصور الثمان.

ومنه يظهر أيضا ما إذا تعارض السبق والتأخر مع الترجيح باليد والسبب كأن يقول السابق « أشهد أنه اشتراه » واللاحق « أشهد أنه في يده » أو العكس.

وعلى التقديرين فقد يتكلم على القول بترجيح السابق أو المتأخر. فتدبر تنتقل الى ما هو الحكم فيها. والله العالم.

٢٣٢

التقاط

[ عند تعارض البينتين هل يشترط ضم الشاهد ]

هل يشترط في مسألة تعارض القدم والحدوث أو القديم والأقدم المتقدمة ضم الشاهد بالقديم أو الأقدم إلى شهادته بالملك السابق شيئا يدل على عدم علمه بالمزيل كقوله « ولا نعلم مزيلا » أو « لا أدري زال أم لا » ، أو لا يشترط الضميمة مطلقا ، أو يشترط مطلقا ، أو يشترط أن تكون تلك الضميمة بالصيغة الاولى ـ أعني قوله « ولا أعلم له مزيلا » لا بالصيغة الثانية. فيه وجوه أو أقوال :

ظاهر عبارة المحقق وإطلاقها على ما صرح به في المسالك عدم اشتراط الضميمة مطلقا ، وصرح في القواعد بأن الشهادة بالملك السابق لا تسمع إلا بضميمة قوله « لا أعلم له مزيلا ».

وظاهر المسالك أنه مذهب الأكثر ، قال : وعللوه بأن قوله « لا أدري زال أم لا » يقتضي تردد أو ريبة ، فهي بعيدة عن أداء الشهادة ، بخلاف قوله « ولا أعلم له مزيلا ». ومختار صاحب المسالك هو الوجه الثاني ، أعني اشتراط مطلق الضميمة.

والتحقيق أن الشهادة بالملك السابق بدون الضميمة ليست شهادة بالمدعى ، وهو الملك الحالي ، فلا بد للحاكم في الحكم بالملك الحالي من التعويل على الاستصحاب ، لأن مجاري الشهادات بل جميع إخبارات المتشرعة بموضوعات الاحكام كالوقف والنسب والملك والزوجية على الاخبار بها اعتمادا على بعض ما عليها من الامارات الشرعية وان لم يصرح به في حال الشهادة بل أطلق ، ضرورة عدم إمكان العلم الواقعي بحقائقها لعدم كونها من الأمور المحسوسة ، فشهادة أحد بالملك تعويلا على الاستصحاب لو خرجت عن موازين القضاء وعد القضاء

٢٣٣

بها من القضاء بالاستصحاب لم يكن لأدلة العمل بالبينة مورد في الأمور الغير المحسوسة ، فمبنى الاخبار بها عرفا على التعويل على بعض الامارات.

نعم لو شهدت البينة بالملك المستصحب ـ بأن كان الاستصحاب من مقومات المشهود به ـ كان جعلها من البينة التي هي من الموازين مشكلة ، ولذا فرق في القواعد بين قوله « لا اعلم له مزيلا » وبين قوله « هذا ملك بمقتضى الاستصحاب » ، فحكم بكفاية الأول دون الثاني.

فإن وجه هذا الفرق هو الذي ذكرنا من أن المدار على صدق الشهادة عرفا ، وأنه إذا شهد بالشي‌ء معولا في شهادته على الاستصحاب أو اليد مثلا يصدق عليه أنه شهد بالمدعى. ولا يقدح فيه التعويل على الامارة الشرعية ، بخلاف ما لو شهدت بالملك الاستصحابى ، فإنه لا يصدق عليه عرفا أنه شهد بالمدعى وهو الملك.

وبالجملة فرق بين تقييد نفس المشهود به بالأمارة كاليد أو الاستصحاب وبين إيقاع الشهادة على الواقع بانيا وتعويلا فيه على الامارة ، فإن الثاني شهادة بالواقع ولو لم تكن عن طريق علمي والثاني بيان واخبار بحكم ظاهري شرعي ، أعني اقتضاء الاستصحاب الملك أو دلالة اليد عليه.

هذا وجه اعتبار الضميمة ، ووجه الفرق بين قوله « لا أعلم له مزيلا » وقوله « هذا ملكه بموجب الاستصحاب » كما ذكره في القواعد.

وأما وجه عدم كفاية قوله « لا أدري زال أم لا » فهو أن مثل هذا القول أيضا يمنع عن صدق الشهادة ، لأن مثل هذا الشخص لا يصدق عليه عرفا أنه شهد بالملك الحالي ، بل العرف في مثله يحكمون بأنه ليس له شهادة في الملك الاتي فضلا عن عدم صدق الشهادة.

ولعل وجهه ما في المسالك وعن الإيضاح من أن هذا القول يكشف عن ريبه في ضمير الشاهد مانعة عن شهادته بالبقاء ولو بملاحظة الاستصحاب.

٢٣٤

[ الاستصحاب عند ثبوت اشتغال الذمة ]

هذا ، ولكن في المقام اشكال ، وهو أن الظاهر عدم الاشكال والخلاف في أنه لو شهد بسبب الاشتغال السابق كالقرض ونحوه أو بنفس الاشتغال حكم الحاكم بالاشتغال الفعلي اتكالا على الاستصحاب من غير حاجة الى ضميمة.

وكذا لو أقر ذو اليد بالملك السابق ، كما صرح به العلامة في القواعد بعد أن قال بعدم فائدة في الشهادة بالملك السابق من دون الضميمة : بل ربما يقال في مثل الشهادة بسبب الاشتغال أو سبب الزوجية أو بنفسها السابقة أنه لا يقدح علم الشاهد بالأداء أو الطلاق.

وقد ذكر العلامة في محكي التحرير والقواعد أنه لو شهد أحد الشاهدين بالقرض السابق مثلا وشهد الأخر بالوفاء لم تنفع شهادة الثاني ، لكون المدعي مكذبا لقول الشاهد كما عن التحرير ، أو لعدم كون الشهادة بالوفاء شهادة صريحة بالقرض في الاشتغال كما عن القواعد ، ولم يعطل عدم الفائدة في شي‌ء من الكتابين بأن ثبوت المدعي في السابق لا يكفي إلا مع كون الشاهد قادرا على الاستصحاب باعتبار عدم علمه بالمزيل.

وهذا منه يفصح عن أن المانع ليس فقدان شهادة الثاني للضميمة ، بل هو اما تكذيب المدعي أو عدم صراحة الشهادة ، فلا وجه لاعتبار عدم علم الشاهد بالزوال.

وحيثما يكون كذلك فمقتضى القاعدة عدم قدح علمه بالخلاف أيضا ، فإنه إذا لم يعتبر استصحاب الشاهد لم يقدح تصريحه بالزوال أيضا.

وبالجملة المانع عن الحكم يقتضي الشهادة بالملك من دون الضميمة ان كان هو عدم صلاحية الاستصحاب ـ أي استصحاب الحاكم للقضاء ـ لزم عدم الحكم بالبينة على الاشتغال أو البيع أو الزوجية السابقة أيضا وكذا بالإقرار

٢٣٥

بالملك السابق ، والا فلا وجه لاعتبار الضميمة في الشهادة بالملك القديم أيضا.

هذا ، ويمكن الذب عن الإشكال بأن المقامين مختلفان ، لأن الشهادة بالقرض السابق تحدث حقا على المدعى عليه بالخصوص في الزمان السابق ، وبعد ثبوت هذا الحق ينقطع أثر إنكاره ، فلا بد له من دعوى جديدة بالإبراء والا كان إنكاره مع ثبوت ذلك الحق باطلا ، بمعنى أنه لا يترتب على إنكاره بدون تجديد الدعوى وظيفة الإنكار وأثره الشرعي ـ أعني الحلف ـ لأنه إذا حلف على عدم الاشتغال رأسا وفي شي‌ء من الأزمنة ، وهو باطل لأنه مكذب للبينة. والثاني الحلف على عدم الاشتغال المسبب عن سبب البراءة ، وهو حلف على أمر وجودي أو عدم حادث لا العدم الأزلي ، وهو أيضا باطل.

وهكذا إذا أقر المدعى عليه بالملك السابق ، فإن الإقرار بالملك للمدعي ولو سابقا يوجب تعلق إلزام ولو تقديرا على المدعى عليه المقر ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز مطلقا في أي زمان كان. وتعلق هذا الإلزام أيضا يبطل أثر إنكاره ، لأنه اما يحلف على عدم وجود شي‌ء ملزم عليه رأسا فهذا مكذب للإقرار ، أو يحلف على حصول ما أوجب رفع هذا الإلزام المسبب من الإقرار فهو حلف على الإثبات.

وهكذا الكلام إذا أقام أحد المتداعيين بينة على سبب الملك السابق الملزم على صاحبه شيئا في السابق فإنه يحكم له على صاحبه ، كما إذا تداعيا عينا في يد ثالث وأقام أحدهما بينة على أنه اشتراها منه أمس أو قبل الأمس. فإن هذه البينة تكفي في هذا المقام ، إذ مع وجودها لا يترتب على دعوى الأخر أثر ، لأنه ان كان يدعي عدم حجة له رأسا وفي جميع الأزمنة فهذا دعوى مكذبة للبينة ، وان كان يدعي الحجة على صاحبه بانتقال ونحوه فهذه دعوى بلا بينة.

ولا كذا إذا أقام في هذه الصورة بينة على مجرد الملك السابق أو الشراء

٢٣٦

من شخص ما ، فان هذه البينة لا تبطل دعوى خصمه ، فالقضاء بموجبها قضاء بما لا يبطل قول الخصم. وضم الاستصحاب الى تلك البينة حتى تكون البينة بضميمة استصحاب الحاكم مبطلة لدعوى الخصم قضاء بالاستصحاب لا بالبينة ، بخلاف الأول فإن القضاء بالبينة القائمة على الشراء من الخصم قضاء بالبينة ، لأنها قد أوجبت على الخصم حقا في شي‌ء من الأزمنة ، فالحكم بذلك الحق حق بموجب البينة.

فإن قلت : لا بد للحاكم في هذه الصور كلها من الاستصحاب ، لان وجود سبب الاشتغال أو نفس الاشتغال أو سبب الزوجية أو نفس الزوجية أو الشراء السابق من المدعى عليه في مسألة التداعي ، وبالجملة ثبوت الحق السابق غير منطبق على دعوى المدعي ، وهو الحق في الحال ، فلا يكفي في قطع الإنكار أو قطع الدعوى. الا أن يستصحب الحاكم ذلك الحق السابق ، فكيف يكون الفاصل نفس البينة.

قلنا : يكفي في استناد القضاء إلى البينة إيجابها حقا في أحد الأزمنة بدون مئونة الاستصحاب ، واحتياج الحاكم في إثبات ذلك الحق في الحال الى الاستصحاب انما هو في مقام العمل ان استتم ميزان القضاء ، فالاحتياج الى الاستصحاب انما هو لترتب أثر الحق الثابت بالبينة.

وهذا ليس استناد أصل القضاء وابطال دعوى الخصم بضميمة الاستصحاب وانما يكون كذلك لو كان الثابت بالبينة في السابق أمرا غير ملزم على المدعى عليه بوجوده السابق وكان اقتضاؤه إبطال دعوى الخصم موقوفا على استصحاب الحاكم لذلك الأمر السابق كما في الشهادة بالملك السابق ، فان ثبوت الملك سابقا لأحد الخصمين لا يبطل دعوى الأخر ولا يحدث حقا له عليه بعد استصحاب الملك السابق وإثباته في الحال.

٢٣٧

ومما يدل على كفاية اشتمال مدلول البينة حقا ولو في السابق في استناد القضاء إليها أنه لا ريب في سماع دعوى الحق السابق وكون دعواه دعوى ملزمة يجب سماعها ، فاذا وجب سماعها وجب قبول البينة على طبقها والحكم على طبقها. بخلاف دعوى الملك السابق ، فإنها دعوى غير ملزمة ، فلا تسمع فلا تفيد البينة عليه شيئا.

ومن أجل ذلك فرق الجل أو الكل بين دعوى المدعي كون هذا الولد من جاريته وبين كون هذا الغزل من قطنه ، فحكموا بسماع الثانية ، لأن ملك القطن مقتضى لملكية الغزل بحيث لو ادعى أحد بعد الاعتراف بملكية القطن ملك الغزل كان مدعيا مطالبا بالحجة ، ولو كان له يد على الغزل فيكون قول المدعي « هذا الغزل من قطني » دعوى ملزمة يجب سماعها على الحاكم ومطالبة البينة على طبقها والحكم بموجبها بعد الإقامة وبعدم سماع الاولى لعدم سببية ملك الجارية لملكية الولد ، فلا تكون دعوى ولادة الولد من المملوكة دعوى ملزمة مسموعة. فالمدار على كون المدعى به ملزما على المدعى عليه حقا وشيئا بلا مئونة الاستصحاب ، فإنه إذا كان كذلك سمع دعواه وقبل البينة ، للملازمة بين سماع الدعوى وقبول البينة على طبقها. بخلاف ما إذا لم يكن كذلك بل توقف سماع الدعوى على ادعاء شي‌ء آخر كقولك سماع دعوى الملك السابق على دعوى الملك الحالي ، فإن البينة لا تسمع إلا إذا تضمنت على ذلك الشي‌ء الذي يتوقف على دعواه سماع الدعوى.

[ ابطال قول الخصم يتوقف على ضم الاستصحاب ]

ومما ذكر ظهر أن قطع الدعوى وابطال قول الخصم في الصورة المزبورة انما حصل بنفس البينة من دون ضميمة الاستصحاب. بخلاف إبطاله في دعوى

٢٣٨

الملك السابق ، فإن إبطاله قول الخصم فيه لا يحصل بمجرد البينة على الملك السابق ، بل يتوقف أصل الإبطال على ضم الاستصحاب.

فان قلت : إذا ادعى على ذي اليد الملك السابق وأقام البينة عليه فهذا ابطال لإنكاره وإفساد لأثره الذي هو الحلف ، فالفصل فيه ـ أعني إبطال أثر قول المدعى عليه وجعله كالعدم ـ مستند إلى البينة من دون ضم الاستصحاب ، وانما يحتاج إليه في مقام العمل لا في مقام الفصل. ووجه ابطال البينة إنكاره كإبطال إنكار منكر الدين في المسألة السابقة هو أن ذا اليد حينئذ اما يحلف على عدم الملك المدعي الظاهر سابقا ولاحقا فهذا مكذب للبينة ، واما يحلف على عدم ملكه المتجدد المسبب عن سبب مزيل للملك منذ أحلف على الإثبات ، فأمر حلف ذي اليد أيضا دائر بين أمرين باطلين نظير حلف منكر الدين كما قلنا ، فالقضاء بالبينة على الملك أيضا قضاء بالبينة خاصة لاستقلالها في إبطال أثر الإنكار ، وأما الاستصحاب فالاحتياج اليه هنا أيضا في مقام العمل لا في مقام الحكم.

قلت : ليس الأمر كذلك ، لأن جهة إنكار ذي اليد والسبب في جعله منكرا مع أنه يدعي الملك فهي في الحقيقة مدعي لا منكر ، وان كان دعواه ملازمة لإنكار ملك المدعي هي أن مرجع قوله في الحقيقة إلى نفي استحقاق شي‌ء عليه نظير إنكار منكر الاشتغال لا الى نفي ملك المدعي ولا الى دعوى ملكية العين عين أمارة شرعية أعني اليد.

توضيحه : ان إنكار ذي اليد فيه جهات ثلاث : إحداها انه يدعي أمرا وجوديا مطابقا للظاهر وموافقا للأمارة الشرعية أعني ملكية ما في اليد ، والثانية أنه ينفي ملك من عداه وملك خصوص المدعي عما في يده ، والثالثة أنه ينفي

٢٣٩

استحقاق المدعي شيئا عليه. فجعل ذي اليد منكرا اما لأجل الجهة الأولى أو الثانية أو الثالثة.

لكن المعين هو الأخير ، لأنه باعتباره صار مدعى عليه ، فيكون تسميته منكرا أيضا من جهة ملاحظة ذلك ، إذ الشخص لا يكون مدعى عليه الا إذا كان المدعى به مربوطا به حتى يكون استحقاق أحد له استحقاقا عليه ، ولذا لا يكون دعوى العين المطروحة دعوى على أحد ، فجهة إنكار ذي اليد هي بعينها جهة لا إنكار في دعوى الدين منكر ، وهي نفي استحقاق المدعي.

فكما أن المدعى عليه في دعوى الدين منكر من جهة نفيه استحقاق المدعي شيئا عليه ، فكذلك في دعوى العين منكر من جهة إنكاره استحقاق المدعي شيئا عليه ، لا من جهة كونه مدعيا لأمر موافق الظاهر ـ أعني ملكية ما في يده ـ ولا من جهة كونه منكرا لملكية المدعي لما في يده ، وحينئذ فحلف ذي اليد انما يتحقق في الحقيقة بنفي الاستحقاق.

ومن الواضح أن الحلف عليه ليس أمره دائرا بين أمرين باطلين كحلف منكر الدين بعد قيام البينة على الاشتغال السابق ، لان عدم الاستحقاق الأزلي ليس مكذبا لبينة المدعي على الملك السابق ، لأنه لم يحدث في السابق حقا على ذي اليد حتى يكون الحلف على عدم الاستحقاق الأزلي مكذبا للبينة ، فإنكاره بعد باق على حكمه الذي هو الحلف ، بخلاف حلف منكر الدين فإنه باطل كما عرفت ، وهو معنى بطلان أثر الإنكار وجعل وجوده كالعدم.

نعم لو علم أن العين في زمان الملك السابق كانت في يد ذي اليد التزمنا فيه بعدم الاحتياج إلى الضميمة ، وان البينة حينئذ كافية في الميزان. نظير البينة على الاشتغال السابق ، لأن الملكية السابقة حينئذ سبب لثبوت حق للمدعي على

٢٤٠