مرآة العقول - ج ٢٥

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد جعفر الحسيني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

الأدب ولا نصب أوضع من الغضب ولا جمال أزين من العقل ولا سوأة أسوأ من الكذب ولا حافظ أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت.

أيها الناس إنه من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره ومن سل سيف البغي قتل به ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته ومن نسي زلله استعظم زلل غيره ومن أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل ومن تكبر على الناس ذل ومن سفه على الناس شتم ومن خالط الأنذال حقر ومن حمل ما لا يطيق عجز.

أيها الناس إنه لا مال هو أعود من العقل ولا فقر هو أشد من الجهل ولا واعظ هو أبلغ من النصح ولا عقل كالتدبير ولا عبادة كالتفكر ولا مظاهرة

______________________________________________________

العقلانية التي توسطوا في الحياة المعنوية بالإيمان والعلوم والكمالات.

قوله عليه‌السلام : « ولا نصب » بالصاد في أكثر النسخ أي التعب الذي يتفرع على الغضب من أخس المتاعب ، إذ لا ثمرة له ولا داعي إليه إلا عدم تملك النفس ، وفي بعض النسخ بالسين أي نسب صاحب الغضب الذي يغضب على الناس بشرافته نسبا (١) ، أوضع الأنساب في الكلام تقدير والظاهر أنه تصحيف.

قوله عليه‌السلام : « ولا سوءة » السوءة : الخلة القبيحة.

قوله عليه‌السلام : « من نظر في عيب نفسه » اشتغل عن عيب غيره إما لكثرة ما يظهر عليه من عيوب نفسه فيحزنه ذلك ، أو يشتغل بدفعها فلا يتوجه إلى عيوب غيره أو لأنه يظهر عليه من عيوب نفسه ما هو أشنع مما يرى في غيره ، فلا يعظم عنده عيب غيره ولا يعيبهم عليها لما يرى في نفسه.

قوله : « ومن خالط الأنذال » النذل : الخسيس من الناس المحتقر في جميع أحواله ، أي ذوي الأخلاق الدنية.

قوله عليه‌السلام : « أعود » أي أنفع.

قوله عليه‌السلام : « ولا واعظ » لعل المراد أن من ينصح الناس ولا يغشهم ويأمرهم

__________________

(١) في النسخة المخطوطة « بشرافة نسبه ... ».

٤١

أوثق من المشاورة ولا وحشة أشد من العجب ولا ورع كالكف عن المحارم ولا حلم كالصبر والصمت.

أيها الناس في الإنسان عشر خصال يظهرها لسانه شاهد يخبر عن الضمير حاكم يفصل بين الخطاب وناطق يرد به الجواب وشافع يدرك به الحاجة وواصف يعرف به الأشياء وأمير يأمر بالحسن وواعظ ينهى عن القبيح ومعز تسكن به

______________________________________________________

بما يصلحهم يتعظ هو أيضا بما يعظ غيره ، فذاك واعظه ، أو من يعظ رجلا على وجه النصح يؤثر فيه ، وإن لم يبالغ في ذلك ولم يطل الكلام ، ومن لم يكن غرضه النصح لا يؤثر كثيرا ، وإن أكثر وأطنب فيما يناسب المقام.

قوله عليه‌السلام : « ولا عقل كالتدبير » التدبير النظر في عواقب الأمور ، ويطلق غالبا في الأخبار على تدبير أمر المعاش والاقتصاد فيه ، والمظاهرة : المعاونة.

قوله عليه‌السلام : « ولا وحشة أشد من العجب » العجب : إعجاب المرء بنفسه وبفضائله وأعماله ، وهو موجب لتحقير الناس فيحترز عن مخالطة عامتهم لذلك ، وموجب للترفع والتطاول عليهم ، فيصير سببا لوحشة الناس عنه ، وأيضا يستلزم عدم إصلاح معائبه وتدارك ما فات منه فتنقطع عنه مواد رحمة الله ولطفه وهدايته فينفرد عن ربه وعن الخلق ، فلا وحشة أوحش منه.

قوله عليه‌السلام : « ولا ورع » إلخ هذا لبيان أن الورع عن المحارم مقدم على الورع عن الشبهات والمكروهات ، فإن أكثر الناس يتنزهون عن كثير من المكروهات لإظهار الورع ، ولا يبالون بارتكاب أكثر المحرمات.

قوله عليه‌السلام : « ولا حلم » بضم الحاء بمعنى العقل ، ويحتمل الكسر أيضا وفي بعض النسخ « ولا حكم » أي ولا حكمة.

قوله عليه‌السلام : « يفضل بين الخطاب » أي يميز الحق من الباطل ، قوله : « ومعز » من التعزية بمعنى التسلية.

٤٢

الأحزان وحاضر تجلى به الضغائن ومونق تلتذ به الأسماع.

أيها الناس إنه لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل.

واعلموا أيها الناس أنه من لم يملك لسانه يندم ومن لا يعلم يجهل ومن لا يتحلم لا يحلم ومن لا يرتدع لا يعقل ومن لا يعلم يهن ومن يهن لا يوقر ومن لا يوقر

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « وحاضر تجلى به الضغائن » الضغينة الحقد أقول : هكذا فيما عندنا من النسخ ، ولعل المراد أنه حاضر دائم الحضور يجلي به الضغائن عن النفس ويدفع به الخصوم ، ولا يحتاج إلى عدة ومدة بخلاف سائر ما تجلى به الضغائن ، من المحاربات والمغالبات ، ويمكن أن يكون المراد رفع ضغينة الخصم بلين الكلام واللطف ، ويحتمل أن يكون المراد بالحاضر : القوم والجماعة.

كما قال في النهاية (١) : في حديث عمرو بن سلمة الجرمي « كنا بحاضر يمر بنا الناس » الحاضر : القوم النزول على ماء يقيمون به ، ولا يرحلون عنه ، وقال في المغرب (٢) : الحاضر والحاضرة : الذين حضروا الدار التي بها مجتمعهم ، وفي تحف العقول (٣) « وحامد ».

قوله عليه‌السلام : « ومن لا يعلم يجهل » إن قرأ يعلم محمد صيغة المجرد فيمكن أن يقرأ الفعلان على المعلوم ، والمراد بالجهل حينئذ مقابل العقل ، أي من لا يكون عالما لا يكون عاقلا ، أو المراد بالعلم الكامل منه أي ما دون كمال العلم مراتب الجهل ، ويمكن أن يقرأ « يجهل » على المجهول أي العلم سبب لرفعة الذكر ، ومن لا يعلم يكون مجهولا خامل الذكر ويمكن أن يقرأ يعلم من باب التفعيل ، إما على صيغة المعلوم أي تعليم العلم سبب لوفوره ، وتركه سبب لزواله ، أو على المجهول ، أي طريق العلم التعلم ، فمن لا يتعلم يكون جاهلا والله يعلم.

قوله عليه‌السلام : « ومن لا يتحلم لا يحلم » أي لا يحصل ملكة الحلم إلا بالتحلم أي

__________________

(١) النهاية : ج ١ ص ٣٩٩.

(٢) المغرب للمطرزي : ص ١٢٠ ط بيروت.

(٣) تحف العقول : ص ٩٤.

٤٣

يتوبخ ومن يكتسب مالا من غير حقه يصرفه في غير أجره ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم ومن لم يعط قاعدا منع قائما ومن يطلب العز بغير حق يذل ومن يغلب بالجور يغلب ومن عاند الحق لزمه الوهن ومن تفقه وقر ومن تكبر حقر ومن لا يحسن لا يحمد

______________________________________________________

تكلف الحلم بمشقة.

قوله عليه‌السلام : « ومن لا يرتدع لا يعقل » أي من لا ينزجر عن القبائح بنصح الناصحين لا يكون عاقلا أو لا يكمل عقله ، أو لا يعقل قبح القبائح ، ومن كان كذلك يهينه الناس ويعدونه هينا ، ومن كان كذلك لا يوقرونه ، وإذا لم يوقروه يوبخونه على أفعاله.

قوله عليه‌السلام : « في غير أجره » أي فيما لا يؤجر عليه في الدنيا والآخرة.

قوله عليه‌السلام : « ومن لا يدع وهو محمود » أي من لا يترك القبيح بالنصح ، أو بالتفكر والتنبه يدعه إما بزجر زاجر أو بالموت ولا يحمد بهذا الترك.

قوله عليه‌السلام : « ومن لم يعط قاعدا منع قائما » الفعل الثاني على صيغة المجهول ويمكن أن يكون الأول أيضا على المجهول ، أي من لم يأته رزقه بلا طلب وكد لم ينفعه الطلب والسعي ، فالقيام كناية عن الطلب والسعي ، والقعود عن تركهما كذا ذكره ابن أبي الحديد (١). أقول : ويحتمل وجوها أخر : الأول : أن يكون المراد من لم يعطه الناس مع عدم السؤال لم يعطوه إذا سأل ، وقام عند غيره للسؤال.

الثاني : أن يقرأ الفعل الأول على صيغة المعلوم ، أي من لم يعط السؤال والمحتاجين في حالكونه قاعدا يقوم عنده الناس ، ويسألونه يبتلي بأن يفتقر إلى السؤال غيره فيقوم بين يديه ، ويسأله ولا يعطيه ، وهو عندي أظهر الوجوه.

الثالث : أن يكون قاعدا مفعول الإعطاء أي من لم يعط قاعدا زمنا محتاجا ابتلي بسؤال الناس مع الحرمان وفيه بعد.

قوله عليه‌السلام : « ومن تكبر » أي عن طلب الفقه بقرينة المقابلة أو الأعم.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٩ ص ٣٦٣ « المختار من الحكم ٤٠٥ ».

٤٤

أيها الناس إن المنية قبل الدنية والتجلد قبل التبلد والحساب قبل العقاب والقبر خير من الفقر وغض البصر خير من كثير من النظر والدهر يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فبكليهما تمتحن [ وفي نسخة وكلاهما سيختبر ].

أيها الناس أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « إن المنية قبل الدنية » الدنيئة مهموزا ، وقد يخفف النقيصة والحالة الخسيسة أي ينبغي تحمل الموت ، والمنية قبل أن تنتهي الحال إلى الدنية كما إذا أرادك العدو فتترك الجهاد وتصير له أسيرا فالجهاد والموت قبله أفضل من تركه إلى أن يرد عليك الدنيئة ، وقيل : المراد أن المنية متقدم وخير من الدنية ، فالمراد القبلية في الشرف ، وفيه بعد ، ويؤيد أحد المعنيين ما في نسخ نهج البلاغة (١) « المنية ولا الدنية » كما يقولون : النار ، ولا العار ، وقيل : المراد أن المنية ينبغي أن يكون قبل الموت الاضطراري الذي هو الدنية ، لقوله : « موتوا قبل أن تموتوا ، ومنهم من قرأ المنية بالتخفيف بمعنى الأمنية أي ينبغي أن تكون المني قبل العجز عن تحصيلها ، وما ذكرنا أو لا هو الظاهر كما لا يخفى.

قوله عليه‌السلام : « والتجلد قبل التبلد » التبلد : التردد والتحير والعجز والتجلد ضده أي ينبغي أن يكون السعي في الطاعات قبل العجز والتحير ، وكذا الحساب ينبغي أن يكون في الدنيا ، أي محاسبة النفس قبل حلول العقاب في الآخرة.

قوله عليه‌السلام : « والقبر خير من الفقر » أي الافتقار إلى الناس ، لا قلة المال ، فإنه ممدوح.

قوله عليه‌السلام : « وغض البصر » وفي بعض النسخ « وعمى البصر » ولعله أظهر.

قوله عليه‌السلام : « فلا تبطر » البطر الطغيان عند النعمة.

قوله عليه‌السلام : « وله مواد من الحكمة » إلخ. قال ابن أبي الحديد (٢) : ليست الأمور التي عدها شرحا للكلام المجمل المتقدم ، وإن ظن قوم أنه أراد ذلك ، ألا ترى أن

__________________

(١) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : ص ٥٤٦ « المختار من الحكم ـ ٣٩٦ » وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٩ ص ٣٦٢ « المختار من الحكم ـ ٤٠٤ ».

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٢٧١ « المختار من الحكم ـ ١٠٥ » باختلاف يسير وتليخص.

٤٥

خلافها فإن سنح له الرجاء أذله الطمع وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص وإن ملكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن أسعد بالرضى

______________________________________________________

الأمور التي عدها عليه‌السلام ليس فيها شيء من باب الحكمة وخلافها ، بل هو كلام مستأنف إنما هو بيان أن كل شيء مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر انتهى. ولا يخفى ضعفه ، بل الظاهر أنه شرح ، ويمكن أن يوجه بوجهين. أحدهما : أن يكون المراد بمواد الحكمة العدل والتوسط في الأمور الذي هو الكمال ، وكل إفراط وتفريط داخل في الأضداد التي هي من الرذائل الخلقية ، وبين عليه‌السلام الأضداد ونفاها ، ليعلم أن الحكمة هي الوسط بينهما.

قال : الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، والثاني : أن يحمل في كل منها أحد المذكورين على ما هو الكمال.

والآخر على إفراطه المذموم ، ففي الأول : الرجاء إنما وضع في النفس ليرجو الإنسان من فضله تعالى ما لا يضر في دنياه وآخرته ، فإذا سنح له رجاء ينجر إلى الإفراط فيطمع فيما لا حاجة له إليه في دنياه ، وممن لا ينبغي الطمع منه من المخلوقين العاجزين فيحصل فيه رذيلة الحرص. وقد يترك الرجاء رأسا فينتهي إلى اليأس من روح الله فيموت أسفا على ما فات منه لفقد رجاء التدارك من فضله تعالى فعلى الأول الرجاء هو القدر الباطل منه ، وعلى الثاني المراد الوسط الممدوح ، والثاني هنا أظهر.

قوله عليه‌السلام : « وإن أسعد بالرضا » وفي نهج البلاغة (١) « إن أسعده الرضا » وعلى الأول تكون الملكة المحمودة الحالة المتوسطة التي هي عدم الإفراط في الرضا ، وعدم التفريط بالغضب وهي المسمى بالعدل ، ورعاية الحق في الأمور ، بأن لا يدعوه رضاه [ مرضات ] عن أحد ولا سخطه [ والسخيمة ] عن آخر إلى الخروج عن الإنصاف والعدل ، فإن أسعده الرضا الذي هو المطلوب نسي أن يتحفظ ويربط نفسه على الحق ، فيطغى رضاه عن أخيه في الدين أو قرابته وحميمه إلى أن يرتكب خلاف الحق لأجله ، وكذا الغض [ الغضب ] عن

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٦

نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحذر وإن اتسع له الأمن استلبته العزة [ وفي نسخة أخذته العزة ] وإن جددت له نعمة أخذته العزة وإن أفاد مالا أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغله البلاء [ وفي نسخة جهده البكاء ] وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع وإن أجهده الجوع قعد به الضعف وإن أفرط في الشبع كظته البطنة فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد.

أيها الناس إنه من فل ذل ومن جاد ساد ومن كثر ماله رأس ومن كثر حلمه

______________________________________________________

خلاف الحق داخل في العدل ممدوح ، وإفراطه ينتهي إلى الحمية والعصبية ، وعلى الثاني يكون الغرض بيان الرضا والغضب الممدوحين والمذمومين وكذلك في سائر الفقرات.

قوله عليه‌السلام : « شغله الحذر » أي شغله شدة الخوف عن العمل لرفع ما يخاف منه فينجر إلى اليأس ، أو المراد شغله عن الحذر ، الخوف من مخاوف الدنيا والمراد يشغله الحذر عن مخاوف الدنيا عن العمل للآخرة ، ولعل الأخير أظهر ، والعزة : الاغترار والغفلة ، أو العزة : التكبر والغلبة ، وعلى الثاني يومئ إلى قوله تعالى : « أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ » (١).

قوله عليه‌السلام : « وإن عضته » العض المسك بالأسنان ، وفي بعض النسخ بالظاء المعجمة ، وعظ (٢) الزمان والحرب شدتهما وفي النهج (٣) بالضاد وهو أظهر.

قوله عليه‌السلام : « كظته البطنة » قال الجوهري (٤) : الكظة بالكسر : شيء يعتري الإنسان عن الامتلاء من الطعام ، يقال كظة كظا وكظني هذا الأمر أي جهدني من الكرب ، وقال : البطنة : الكظة.

قوله عليه‌السلام : « من قل ذل » أي من قل في الإحسان والجود أو في كل ما هو كمال إما في الآخرة أو في الدنيا ، فهو ذليل ، أو من قل أعوانه ذل.

قوله عليه‌السلام : « ومن كثر ماله رأس » بفتح الهمزة أي هو رئيس للقوم.

__________________

(١) البقرة : ٢٠٦.

(٢) عضّ الزمان والحرب : شدّتهما على المجاز. وقيل : هما عظّ بالظاء المشالة « أقرب الموارد : ج ٢ ص ٧٩٤ ».

(٣) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح ص ٤٨٧ « المختار من الحكم ـ ١٠٨ ».

(٤) الصحاح ج ٣ ص ١١٧٨.

٤٧

نبل ومن أفكر في ذات الله تزندق ومن أكثر من شيء عرف به ومن كثر مزاحه استخف به ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته فسد حسب من ليس له أدب إن أفضل الفعال صيانة العرض بالمال ليس من جالس الجاهل بذي معقول من جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال لن ينجو من الموت غني بماله ولا فقير لإقلاله.

أيها الناس لو أن الموت يشترى لاشتراه من أهل الدنيا الكريم الأبلج واللئيم الملهوج

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « ومن كثر حلمه نبل » النبالة : الفضل والشرف ، والفعل نبل بضم الباء.

قوله عليه‌السلام : « ومن أفكر » إلخ. أفكر في الشيء وفكر فيه وتفكر ، بمعنى وتزندق أي صار زنديقا ويطلق الزنديق على الثنوي وعلى المنكر للصانع وعلى كل ملحد كافر.

قوله عليه‌السلام : « بذي معقول » قال الجوهري (١) : عقل يعقل عقلا ومعقولا أيضا وهو مصدر ، وقال سيبويه : هو صفة ، وكان يقول إن المصدر لا يأتي على وزن مفعول البتة ، ويتأول المعقول فيقول كأنه عقل له شيء أي حبس وأيد وشدد.

قوله عليه‌السلام : « لقيل وقال » قال الفيروزآبادي (٢) : القول في الخير ، والقال والقيل والقالة في الشر أو القول مصدر ، والقال والقيل : اسمان له ، والقال الابتداء ، والقيل بالكسر الجواب.

قوله عليه‌السلام : « لو أن الموت يشتري » إلخ ، الأبلج الوجه : مشرقه ، والأبلج هو الذي قد وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا ، وهذه من علامات اليمن والبركة والكرم في المشهور ، والملهوج لم يأت في اللغة ، واللهج بالشيء الولوع به ، وهو لازم. نعم قال الجوهري (٣) : شواء ملهوج بضم الميم وفتح اللام والواو إذا لم ينضج ، وهو لا يناسب المقام إلا بتكلف ، والظاهر أن المراد به الحريص ، ويمكن أن يوجه حاصل هذا الكلام بوجوه.

__________________

(١) الصحاح ج ٥ ص ١٧٦٩ « ط مصر ».

(٢) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٤٢ « ط مصر ».

(٣) الصحاح : ج ١ ص ٣٤٠ « ط مصر ».

٤٨

أيها الناس إن للقلوب شواهد تجري الأنفس عن مدرجة أهل التفريط وفطنة الفهم للمواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطر وللقلوب خواطر للهوى والعقول تزجر وتنهى وفي التجارب علم مستأنف والاعتبار يقود إلى الرشاد وكفاك

______________________________________________________

الأول : أن يكون المراد أنه لو كان الموت مما يمكن أن يشتري لاشتراه الكريم لشدة حرصه في الكرم وقلة بضاعته ، كما هو الغالب في أصحاب الكرم ، فلا يجد ما يجود به وهو محزون دائما لذلك ، ويتمنى الموت ويشتريه إن وجده ، واللئيم يشتريه لأنه لا يحصل له ما هو مقتضى حرصه ، وقد ينقص من ماله شيء بالضرورة وهو مخالف لسجيته ، ويرى الناس في نعمه فيحسدهم عليها ، فهو في شدة لازمة لا ينفك عنها بدون الموت فيتمناه.

الثاني : أن يكون المراد أنه يشتري الكريم لنفسه ليتخلص منه البائع ، واللئيم لأنه حريص على جمع جميع الأشياء حتى الموت.

الثالث : أن يقال : أنه يشتري الكريم ليرفع الموت من بين الخلق ، واللئيم ليميت جميعهم ويستبد بأموالهم ، قوله عليه‌السلام : « عن مدرجة » قال الجوهري : المدرجة : المذهب والمسلك (١) ، والحاصل أن للقلوب شواهد مما يفيض عليها من أنوار حكمة الله ، أو مما جبلها الله عليه من معرفة الحق أو مما يشاهده ويعتبر به في عالم الخلق تجري تلك الشواهد ، وتخرج الأنفس عن مسالك أهل التقصير في العبادة إلى منازل المتعبدين ودرجات المقربين.

قوله عليه‌السلام : « وفطنة الفهم » يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره قوله : « ما يدعو » بأن تكون ما موصولة ، أو يكون مع خبره ما مطرفا فتنحسب عليه كلمة « إن » أي إن فطنة الفهم هي ما يدعو النفس إلى الحذر من مخاطرات الآخرة لا مجرد فهمها مع عدم العمل بها. ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله « شواهد » أي إن للقلوب فطنة الفهم للمواعظ ما دام يدعو النفس أو مقدار ما يدعو النفس إلى الحذر والله أعلم.

__________________

(١) الصحاح : ج ١ ص ٣١٤.

٤٩

أدبا لنفسك ما تكرهه لغيرك وعليك لأخيك المؤمن مثل الذي لك عليه لقد خاطر من استغنى برأيه والتدبر قبل العمل فإنه يؤمنك من الندم ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطإ ومن أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول ومن حصن شهوته فقد صان قدره ومن أمسك لسانه أمنه قومه ونال حاجته وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال والأيام توضح لك السرائر الكامنة وليس في البرق الخاطف مستمتع

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « والعقول » تزجر وتنهى أي عن خواطر الهوى.

قوله عليه‌السلام : « ما تكرهه لغيرك » وفي نهج البلاغة « (١) اجتناب ما تكرهه » وهو المراد ، أو المعنى كفاك مؤدبا لنفسك ملاحظة ما تكرهه لغيرك والتأمل فيها.

قوله عليه‌السلام : « مثل الذي لك عليه » أي ينبغي أن تفعل به ما تأمل وترجو منه.

قوله عليه‌السلام : « لقد خاطر » في الأخبار الآخر « خاطر بنفسه » وهو مراد هيهنا ، قال الجوهري (٢) : الخطر : الإشراف على الهلاك ، يقال : خاطر بنفسه.

قوله عليه‌السلام : « والتدبر قبل العمل » أي يجب أن يكون التدبر قبل العمل ليؤمن من الندم بعده.

قوله عليه‌السلام : « من استقبل وجوه الآراء » أي استشار الناس وأقبل نحو آرائهم وتفكر فيها ولا يبادر بالرد أو تفكر في كل أمر ليقبل إليه الآراء والأفكار.

قوله عليه‌السلام : « عدلت رأيه العقول » أي حكم العقول بعدالة رأيه وصوابه.

قوله عليه‌السلام : « أمنه قومه » بالفتح أي أمن قومه من شره أو بالمد له أمن من شر قومه أو علا قومه أمينا ونال الحاجة التي توهم حصولنا (٣) في إطلاق اللسان.

قوله عليه‌السلام : « وليس في البرق الخاطف » إلخ. لعل المراد أنه لا ينفعك ما يقرع سمعك من العلوم النادرة كالبرق الخاطف ، بل ينبغي أن تواظب على سماع المواعظ وتستضيء دائما بأنوار الحكم لتخرجك من ظلم الجهالات ، ويحتمل أن يكون المراد لا ينفع سماع العلم مع الانغماس في ظلمات المعاصي والذنوب.

__________________

(١) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح ص ٥٤٨ « المختار من الحكم ـ ٤١٢ ».

(٢) الصحاح : ج ٢ ص ٦٤٨.

(٣) كذا في النسخ والصواب « حصولها ».

٥٠

لمن يخوض في الظلمة ومن عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار والهيبة وأشرف الغنى ترك المنى والصبر جنة من الفاقة والحرص علامة الفقر والبخل جلباب المسكنة والمودة قرابة مستفادة ووصول معدم خير من جاف مكثر والموعظة كهف لمن وعاها ومن أطلق طرفه كثر أسفه وقد أوجب الدهر شكره على من نال سؤله وقل ما ينصفك اللسان في نشر قبيح أو إحسان ومن ضاق خلقه مله أهله ومن نال

______________________________________________________

قوله : « والصبر » أي على الفقر أو مطلقا قوله : « جلباب المسكنة » قال الفيروزآبادي (١) : الجلباب كسرداب وسنمار : القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما تغطي به ثيابها من فوق كالملحفة أو هو الخمار.

قوله عليه‌السلام : « قرابة مستفادة » أي استفدتها بالمودة.

قوله عليه‌السلام : « ووصول معدم » أي من يصل الناس بحسن الخلق والمودة مع فقره ، خير ممن يكثر في العطاء وهو جاف أي سيئ الخلق غليظ ، وفي الفقيه مكان مكثر « مثر » يعني ذا ثروة من المال ، فالمعنى أن الفقير المتودد خير من الغني المتجافي ، وعبارة الكتاب أيضا يحتمل ذلك.

قوله : « ومن أطلق طرفه » الطرف بسكون الراء والعين وبالتحريك اللسان والخبر يحتملهما كما لا يخفى.

قوله عليه‌السلام : « وقد أوجب الدهر شكره » أي يجب شكر المنعم سواء كان هو سبحانه أو غيره ، ويحتمل أن يكون كناية عن قلة نيل السؤال في الدهر.

قوله : « وقل ما ينصفك اللسان » أي إذا مدحت أحدا لا ينصفك اللسان بل يطري ويتجاوز عن حده ، وإذا سخطت على أحد تذمه أكثر مما هو فيه ، والزائد مما (٢) يستحقه أو أنه في مدح الناس وشكرهم يقصر ، وهو في ذمهم يفرط ، والأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : « من نال استطال » النيل : إصابة السيء ، وفي القاموس : رجل نال جواد أو كثير النائل ونال ينال نائلا ونيلا ونال : ما أكثر نائله (٣) فالمعنى من أصاب ملكا أو عزا

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ١ ص ٤٧ « ط مصر ».

(٢) كذا في النسخ والصواب « مما لا يستحقّه ».

(٣) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٦١ « ط مصر ».

٥١

استطال وقل ما تصدقك الأمنية والتواضع يكسوك المهابة وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق كم من عاكف على ذنبه في آخر أيام عمره ومن كساه الحياء ثوبه خفي على الناس عيبه وانح القصد من القول فإن من تحرى القصد خفت عليه المؤن وفي خلاف النفس رشدك من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد ألا وإن مع كل جرعة شرقا وإن في كل أكلة غصصا لا تنال نعمة إلا بزوال أخرى ولكل ذي رمق قوت

______________________________________________________

أو مالا أو علما أو غيرها من أسباب الشرف ، يلزمه غالبا الفخر والاستطالة ، فحذف المفعول للإبهام والتعميم ، أو المراد أن الجود والكرم غالبا يوجبان الفخر والمن والاستطالة.

قوله عليه‌السلام : « وقل ما تصدقك » على المجرد أي في الغالب أمنيتك كاذبة فيما تعدك.

قوله عليه‌السلام : « كم من عاكف » إلخ. أي من ينبغي الحذر عن الذنوب في جميع الأوقات لاحتمال كل وقت أن يكون آخر عمره وهو لا يعلم.

قوله عليه‌السلام : « وانح القصد » أي اقصد الوسط العدل من القول ، وجانب التعدي والإفراط والتفريط ، ليخف عليك المؤن ، فإن من قال جورا أو ادعى أمرا باطلا يشتد عليه الأمر لعدم إمكان إثباته.

قوله عليه‌السلام : « وإن مع كل جرعة شرقا » الشرق والغصة اعتراض الشيء في الحلق ، وعدم إساغته ، والأول يطلق في المشروبات ، والثاني في المأكولات غالبا.

قوله عليه‌السلام : « لا تنال نعمة إلا بزوال أخرى » قال ابن ميثم (١) : فإن نعمها لا تجتمع أشخاصها كلقمة ولقمة بل وأنواعها كالأكل والشرب والجماع انتهى.

أقول : ظاهر أن عادة الدنيا أن نعمها متناوبة ، فإن من ليس له مال يكون آمنا صحيحا غالبا ، وإذا حصل له الغنى يكون خائفا أو مريضا لا ينتفع بما له ، بل كل حالة من جهة نعمة ، ومن جهة بلاء كالمرض ، فإنه نعمة لتكفيره السيئات ، فإذا ورد عليه نعمة الصحة زالت تلك النعمة الحاصلة بالبلاء.

__________________

(١) لم نعثر بهذه العبارة في شرح الخطبة ولعلّه قدس‌سره نقل مضمونه لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج ٥ ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

٥٢

ولكل حبة آكل وأنت قوت الموت.

اعلموا أيها الناس أنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها والليل والنهار يتنازعان [ يتسارعان ] في هدم الأعمار.

يا أيها الناس كفر النعمة لؤم وصحبة الجاهل شؤم إن من الكرم لين الكلام ومن العبادة إظهار اللسان وإفشاء السلام إياك والخديعة فإنها من خلق اللئيم ليس كل

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « ولكل ذي رمق » وفي بعض النسخ « ولكل رمق » الرمق محركة : منه الحياة ، أي لكل ذي حياة قوت مقرر أو لكل قدر من الحياة قوت مقدر ، فلا ينفع الحرص في طلبه ، ولا ينبغي ارتكاب الإثم في تحصيله ، ولكل حبة آكل ، قدر الله تعالى أن يأكلها ، فإن قدر أن تأكلها تصل إليك بلا تعب ، وإن قدر أن يأكلها غيرك فلا ينفع تعبك في تحصيلها ، مع أنك قوت الموت ، وتموت البتة فلأي شيء تجمع ما لا تحتاج إليه.

قوله عليه‌السلام : « يتنازعان » أي كأنهما لسرعة انقضائهما وتواليهما يتسارعان في هدم الأعمار ويتسارعان يريد كل منهما أن يسبق صاحبه في ذلك.

قوله عليه‌السلام : « كفر النعمة لؤم » اللؤم بالضم مهموزا : ضد الكرم ، واللوم بالفتح غير مهموز : العذل والملامة ، والعبارة تحتملهما وإن كان الأول أنسب والشؤم بالضم مهموزا : ضد اليمن.

قوله عليه‌السلام : « إن من الكرم » أي الجود أو الكرامة.

قوله عليه‌السلام : « ومن العبادة إظهار اللسان » في أكثر النسخ بالمعجمة بالإضافة إلى المفعول أو الفاعل ، والمراد ما يظهره اللسان من المواعظ والنصائح والمداراة مع الخلق ولين الكلام معهم ، وفي بعضها بالطاء المهملة أي تطهير اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش وأمثالها.

قوله عليه‌السلام : « ليس كل طالب يصيب » الغرض ترك الحرص في طلب الأمور الدنيوية فإنه ليس كل ما يطلب يدرك ، ولا كل غائب يرجع إليك.

٥٣

طالب يصيب ولا كل غائب يئوب لا ترغب فيمن زهد فيك رب بعيد هو أقرب من قريب سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار ألا ومن أسرع في المسير أدركه المقيل استر عورة أخيك كما تعلمها فيك اغتفر زلة صديقك ليوم يركبك عدوك من غضب على من لا يقدر على ضره طال حزنه وعذب نفسه من خاف ربه كف ظلمه [ من خاف ربه كفي عذابه ] ومن لم يزغ في كلامه أظهر فخره ومن لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة إن من الفساد إضاعة الزاد ما أصغر المصيبة

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « لا ترغب فيمن زهد فيك » أو لا تطلب صحبة من لا يريد صحبتك ويتنفر عنك من أبناء الدنيا ، ويمكن أن يكون المراد ترك الدنيا ، أن يكون المراد ترك الدنيا فإنها تفر عن كل من رغب إليها.

قوله عليه‌السلام : « رب بعيد هو أقرب من قريب » إذ كثير من الأمور التي يعدها الإنسان بعيدا عنه كالموت والمصائب بل بعض النعم أيضا قريب منه وهو لا يعلم حتى يرد عليه ، وكذا رب أمر يظنه قريبا منه ولا يأتيه وإن بذل جهده في تحصيله.

قوله عليه‌السلام : « أدركه المقيل » أي النوم والاستراحة في القائلة وهي نصف النهار ، فكذا من أسرع في سفر الآخرة يدرك الراحة بعد انتهاء السفر.

قوله عليه‌السلام : « استر عورة أخيك » أي عيوبه « كما تعلمها فيك (١) » وتسترها على نفسك ، وتبغض من يفشيها عليك ، ولعل هتكك سر أخيك يوجب هتك سرك.

قوله عليه‌السلام : « من لم يرع » بالمهملة من رعى يرعى أي عدم الرعاية في الكلام يوجب إظهار الفخر ويمكن أن يكون بضم الراء من الروع بمعنى الخوف ، وفي بعض النسخ بالمعجمة يقال : « كلام مرغ » إذا لم يفصح عن المعنى فالمراد أن انتظام الكلام والفصاحة فيه إظهار للفخر والكمال ، فيكون مدحا لازما ، وفي أمالي الصدوق « ره » « من لم يرع في كلامه أظهر هجره (٢) » والهجر : الفحش وكثرة الكلام فيما لا ينبغي ولعله أظهر.

قوله عليه‌السلام : « إضاعة الزاد » أي الإسراف فيه وصرفه في غير مصارفه.

__________________

(١) في تحف العقول : « لما يعلمه فيك » منه قدس‌سره.

(٢) لم نعثر عليه في الأمالي المطبوع.

٥٤

مع عظم الفاقة غدا هيهات هيهات وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعيم وما شر بشر بعده الجنة وما خير بخير بعده النار وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية وعند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر تصفية العمل أشد من العمل وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد هيهات لو لا التقى لكنت أدهى العرب

______________________________________________________

قوله : « مع عظم الفاقة غدا » أي في القيامة إلى أجر المصيبة.

قوله عليه‌السلام : « وما تناكرتم » أي ليس تناكركم وتباغضكم إلا لذنوبكم إذ لا منازعة في الطاعات ، ويحتمل أن يراد بالذنوب الأخلاق الذميمة التي هي ذنوب القلب ، وتورث التناكر كالحسد والكبر والحقد وحب الدنيا ، ويحتمل أن يكون المراد بالتناكر الجهل بالحق وفضل الطاعات.

قال الفيروزآبادي (١) : تناكر : تجاهل والقوم تعادوا وتناكره جهله.

قوله عليه‌السلام : « فما أقرب الراحة » أي في الذنوب والمعاصي من التعب في الآخرة أو المراد سرعة تقلب أحوال الدنيا.

قوله عليه‌السلام : « كل نعيم دون الجنة » أي غيرها أو عندها أي بالنسبة إليها وكذا في الفقرة الثانية.

قوله عليه‌السلام : « وعند تصحيح الضمائر » أي إذا أراد الإنسان تصحيح ضميره عن النيات الفاسدة والأخلاق الذميمة تبدو له العيوب الكبيرة العظيمة الكامنة في النفس والأخلاق الذميمة الجليلة التي خفيت عليه تحت أستار الغفلات.

قوله عليه‌السلام : « من طول الجهاد » أي المجاهدة مع الأعادي الظاهرة أو السعي في الطاعات.

قوله عليه‌السلام : « لكنت أدهى العرب » الدهى : الفكر وجودة الرأي والمراد هنا المكر والحيل الباطلة.

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٢ ص ١٤٨.

٥٥

أيها الناس إن الله تعالى وعد نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله الوسيلة ووعده الحق « وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ » ألا وإن الوسيلة على درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الأمنية لها ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام وهو ما بين مرقاة درة إلى مرقاة جوهرة إلى مرقاة زبرجدة إلى مرقاة لؤلؤة إلى مرقاة ياقوتة إلى مرقاة زمردة إلى مرقاة مرجانة إلى مرقاة كافور إلى مرقاة عنبر إلى مرقاة يلنجوج إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة غمام إلى مرقاة هواء إلى مرقاة نور قد أنافت على كل الجنان ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قاعد عليها مرتد بريطتين ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله عليه تاج

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « وذروة ذوائب الزلفة » قال الجوهري : ذرى الشيء بالضم أعاليه ، الواحدة ذروة وذروة أيضا بالضم وهي أعلى السنام (١) ، وقال الفيروزآبادي :

الذؤابة : الناصية أو منبتها من الرأس وشعر في أعلى ناصية الفرس ، ومن العز والشرف ومن كل شيء أعلاه (٢) انتهى.

أقول : المراد أعلى أعالي درجات القرب ، والغاية : النهاية ، وقد تطلق على المسافة أي منتهى نهايات الأماني التي تنتهي إليها أماني الخلق ، أو منتهى مسافتها الممتدة الطويلة المدى ، والحضر بالضم : العدو ، أي مائة عام بقدر عدو الفرس الجواد أي النجيب الكثير العدو.

قوله عليه‌السلام : « ما بين مرقاة درة » هي اللؤلؤة العظيمة ، ولعل المراد منها نوع من اللؤلؤة نوع آخر ، وليست الدرة في رواية ابن سنان ورواية أبي سعيد الخدري في وصف الوسيلة كما ذكرهما الصدوق (٣) « ره » ، والمراد بالجوهر نوع آخر غير ما ذكرنا كالبلور مثلا ، و « يلنجوج » عود البخور.

قوله عليه‌السلام : « قد أنافت » أي ارتفعت وأشرفت.

قوله عليه‌السلام : « بريطتين » الريطة بفتح الراء : كل ثوب رقيق لين ، والإكليل شبه عصابة تزين بالجواهر ، يزين به التاج ، والمراد بتاج النبوة التاج الذي يكسى

__________________

(١) الصحاح : ج ٦ ص ٢٣٤٥.

(٢) القاموس المحيط : ج ١ ص ٦٧.

(٣) أمالي الصدوق : ص ١٠٣ « المجلس ٢٤ ».

٥٦

النبوة وإكليل الرسالة قد أشرق بنوره الموقف وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته وعلي ريطتان ريطة من أرجوان النور وريطة من كافور والرسل والأنبياء قد وقفوا على المراقي وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا وقد تجللهم حلل النور والكرامة لا يرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا وعجب من ضيائنا وجلالتنا وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله غمامة بسطة البصر يأتي منها النداء يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي العربي ومن كفر فالنار موعده وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ظلة يأتي منها النداء يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي والذي له الملك الأعلى لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقي خالقه بالإخلاص لهما والاقتدار بنجومهما ـ فأيقنوا

______________________________________________________

لأجل النبوة أو هو علامة النبوة وكذا إكليل الرسالة.

قوله عليه‌السلام : « من أرجوان النور » هو معرب أرغوان ، ويطلق على كل لون يشبهه « وأعلام الأزمنة » الأوصياء وسائر الأئمة صلوات الله عليهم.

قوله عليه‌السلام : « بهت » أي تحير من العجب. قوله عليه‌السلام : « بسطة البصر » أي قدر مد البصر.

قوله : « طوبى لمن أحب الوصي » قال الجزري (١) : فيه « فطوبى للغرباء » طوبى : اسم الجنة ، وقيل : هي شجرة فيها ، وأصلها : فعلى من الطيب ، فلما ضمت الطاء انقلبت الياء واوا. وفيه : طوبى للشام ، المراد بها هيهنا فعلى من الطيب انتهى.

أقول : ورد في أخبارنا (٢) المتواترة أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام وفي دار كل مؤمن غصن منها.

قوله عليه‌السلام : « ظلمة » وفي بعض النسخ ظلة وهي أظهر وهي بالضم السحاب ، وما أظلك من شجر وغيرها ، قوله : « ولا نال الروح » الروح بالفتح : الراحة والرحمة.

قوله عليه‌السلام : « والاقتداء بنجومهما » أي الأئمة من أولادهما أو آثارهما وعلومهما.

__________________

(١) النهاية : ج ٣ ص ١٤١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨ ص ١٣١ ح ٣٣ وص ١٤٨ ح ٨٠ وص ١٥٠ ح ٨٧.

٥٧

يا أهل ولاية الله ببياض وجوهكم وشرف مقعدكم وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم « عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ » ويا أهل الانحراف والصدود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاء بما كنتم تعملون وما من رسول سلف ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبرا أمته بالمرسل الوارد من بعده ومبشرا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وموصيا قومه باتباعه ومحليه عند قومه ليعرفوه بصفته وليتبعوه على شريعته ولئلا يضلوا فيه من بعده فيكون من هلك أو ضل بعد وقوع الإعذار والإنذار عن بينة وتعيين حجة فكانت الأمم في رجاء من الرسل وورود من الأنبياء ولئن أصيبت بفقد نبي بعد نبي على عظم مصائبهم وفجائعها بهم فقد كانت على سعة من الأمل ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن الله ختم به الإنذار والإعذار وقطع به الاحتجاج والعذر بينه وبين خلقه وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به ولا قربة إليه إلا بطاعته وقال في محكم كتابه : « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً » (١) فقرن طاعته بطاعته

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « ومحليه » أي يذكر حليته ووصفه وفضائله يقال : حلاه تحلية أي نعته ووصفه.

قوله عليه‌السلام : « عن بينة » أي بعد بينة « فعن » تكون بمعنى « بعد » أو معرضا عن بينة.

قوله عليه‌السلام : « لأن الله حسم » أي قطع ، وفي بعض النسخ « ختم » قوله عليه‌السلام« ومهيمنه » أي شاهده قوله تعالى : « فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً » أي تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » (٢) أو حفيظا تسأل عن أعمالهم وتعاقب عليها ، بل إنما عليك البلاغ المبين.

قوله عليه‌السلام : « فكان ذلك » أي ما بين في هذه الآية من وجوب طاعته.

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) سورة آل عمران : ٢٠.

٥٨

ومعصيته بمعصيته فكان ذلك دليلا على ما فوض إليه وشاهدا له على من اتبعه وعصاه وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه والترغيب في تصديقه والقبول بدعوته : « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ » (١) فاتباعه ص محبة الله ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنة وفي التولي عنه والإعراض محادة الله وغضبه وسخطه والبعد منه مسكن النار وذلك قوله « وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ » (٢) يعني الجحود به والعصيان له فإن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحاده وجعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين وشد بي أزر رسوله وأكرمني بنصره وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه واختصني بوصيته واصطفاني بخلافته في أمته فقال ص وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصت بهم

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « وشاهدا » أي حجة وبرهانا.

قوله عليه‌السلام : « ورضاه » معطوف على محبة الله و « غفران الذنوب » عطف بيان له ، أو بدل أي اتباعه يوجب رضى الله الذي هو غفران الذنوب ، أو رضاه مبتدأ وضميره راجع إلى الرسول وغفران الذنوب خبره ، والأخير أظهر.

قوله عليه‌السلام : « محادة الله » المحادة : المخالفة والمنازعة. قوله عليه‌السلام : « والبعد » هو مبتدأ « ومسكن النار » على صيغة اسم الفاعل خبره.

قوله عليه‌السلام : « وجعلني زلفة » الزلفة بالضم القرب والمنزلة ، أي جعلني وسيلة قرب المؤمنين.

قوله عليه‌السلام : « وشد بي أزر رسوله » قال الجوهري (٣) : الأزر : القوة ، وقوله تعالى « اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي » (٤) أي ظهري.

قوله : « وحباني بأحكامه » في النهاية (٥) : يقال : حباه كذا وبكذا : إذا أعطاه ، والحباء : العطية.

قوله عليه‌السلام : « وقد حشده » يقال : حشد القوم : أي اجتمعوا وكان فيه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣١. (٢) سورة هود : ١٧.

(٣) الصحاح : ج ٢ ص ٥٧٨. (٤) سورة طه : ٣١.

(٥) النهاية : ج ١ ص ٣٣٦.

٥٩

المحافل.

أيها الناس إن عليا مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأمه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه ولا كنت نبيا فاقتضى نبوة ولكن كان ذلك منه استخلافا لي كما استخلف موسى هارون عليه‌السلام حيث يقول « اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ » (١) وقوله عليه‌السلام حين تكلمت طائفة فقالت نحن موالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حجة الوداع ثم صار إلى غدير خم فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه وأخذ بعضدي حتى رئي بياض إبطيه رافعا صوته قائلا في محفله من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتي عداوة الله وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » (٢) فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الرب جل ذكره وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصا لي وتكرما نحلنيه وإعظاما وتفصيلا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منحنيه وهو قوله تعالى : « ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ

______________________________________________________

حذفا وإيصالا أي حشدوا عنده ، أو معه أو له.

قوله عليه‌السلام : « وأنغصت بهم المحافل » أي تضيقت بهم قال الفيروزآبادي (٣) : منزل غاص بالقوم : ممتلئ وأغص علينا الأرض ضيقها ، وقال : المحفل كمجلس : المجتمع.

قوله عليه‌السلام : « عن الله » الظاهر تعلقه بقوله : « عقل » أي فهموا عن ربهم بتوسط الرسول أو بتوفيق ربهم ، ويحتمل تعلقه بالنطق وهو بعيد ، وعقل عن الله شائع في الأخبار. قوله : « فاقتضى » على صيغة المتكلم أو الغائب أي فاقتضى كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبوة.

قوله عليه‌السلام : « فأصلح » وفي بعض النسخ [ فاصطلح ] بمعناه ، ولعله تصحيف.

قوله عليه‌السلام : « وأنزل الله » إلى آخره يحتمل وجهين :

الأول : أن يكون المراد إنزال الآية السابقة ، فالمراد بقوله عليه‌السلام وهو قوله

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٢) سورة المائدة : ٣.

(٣) القاموس المحيط : ج ٢ ص ٣١٠.

٦٠