مرآة العقول - ج ٢٥

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد جعفر الحسيني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

كثر خيله ورجله وشارك في المال والولد من أشركه فعمل بالبدعة وترك الكتاب والسنة ونطق أولياء الله بالحجة وأخذوا بالكتاب والحكمة فتفرق من ذلك اليوم أهل الحق وأهل الباطل وتخاذل وتهادن أهل الهدى وتعاون أهل الضلالة حتى كانت الجماعة مع فلان وأشباهه فاعرف هذا الصنف وصنف آخر فأبصرهم رأي العين نجباء والزمهم حتى تردأ هلك ، فإِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.

لى هاهنا رواية الحسين وفي رواية محمد بن يحيى زيادة

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « وكثر خيله ورجله » الخيل : جماعة الفرسان ، والرجل : المشاة أي أعوانه القوية والضعيفة.

قوله عليه‌السلام : « من أشركه » أي الشيطان باتباعه ، وعدم الاستعاذة منه.

قوله عليه‌السلام : « وتخاذل » أي تركوا نصرة الحق ، وفي بعض النسخ « تخادن » من الخدن ، وهو الصديق وتهادن من المهادنة بمعنى المصالحة ، وفي بعض النسخ و « تهاون » أي عن نصرة الحق ، وهذا أنسب بالتخاذل ، كما أن التهادن أنسب بالتخادن.

قوله : « مع فلان » يعني أبا بكر.

قوله عليه‌السلام : « حتى ترد أهلك » أي في الآخرة من الأنبياء والأئمة والمؤمنين وأشار عليه‌السلام بذلك إلى تفسير خسران أهليهم في الآية وأن المراد خسران مرافقة هؤلاء في القيامة ، وفي الجنة وشفاعتهم. قوله عليه‌السلام : « فإن كان دونهم بلاء » أي كان عندهم ابتلاء وامتحان للخلق من مظلوميتهم ومغلوبيتهم ، فلا تجعل ذلك دليلا على عدم حقيتهم ، ولا تحقرهم بذلك ، فإن ذلك علامة حقيتهم ، وعما قليل تنقضي بلاياهم ، ثم تصير وتنقلب تلك البلايا إلى رخاء لا يوصف في الآخرة ، أو في الدنيا عند قيام القائم عليه‌السلام و « العسف » الظلم و « الخسف » كناية عن الخمول وعدم الذكر.

قوله عليه‌السلام : « ثم اعلم أن إخوان الثقة » تحريص على تحصيل الإخوان في الله

١٢١

لهم علم بالطريق فإن كان دونهم بلاء فلا تنظر إليهم فإن كان دونهم عسف من أهل العسف وخسف ودونهم بلايا تنقضي ـ ثم تصير إلى رخاء ثم اعلم أن إخوان الثقة ذخائر بعضهم لبعض ولو لا أن تذهب بك الظنون عني لجليت لك عن أشياء من الحق غطيتها ولنشرت لك أشياء من الحق كتمتها ولكني أتقيك وأستبقيك وليس الحليم الذي لا يتقي أحدا في مكان التقوى والحلم لباس العالم فلا تعرين منه والسلام.

( رسالة منه عليه‌السلام إليه أيضا )

١٧ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن عمه حمزة بن بزيع قال كتب أبو جعفر عليه‌السلام إلى سعد الخير « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه معرفة ما لا ينبغي تركه وطاعة من رضا الله رضاه فقلت من ذلك لنفسك ما كانت نفسك مرتهنة لو تركته تعجب أن رضا الله وطاعته ونصيحته لا تقبل ولا توجد ولا تعرف إلا في عباد غرباء أخلاء

______________________________________________________

الموثوق بهم وبأخوتهم.

قوله : « ولو لا أن تذهب بك الظنون عني » أي يصير ظنك السيء بي سببا لانحرافك عني ، وعدم إصغائك إلى بعد ذلك ، وكأنه عليه‌السلام كان يعلم أنه لا يقبل صريح الحق دفعة ، فأراد أن يقربه من الحق شيئا فشيئا لئلا ينفر عن الحق وأهله ، قوله : « في مكان التقوى » أي في محل التقية.

رسالة أيضا منه إليه

الحديث السابع عشر : صحيح على الظاهر.

قوله عليه‌السلام : « ما كانت نفسك مرتهنة » بفتح الهاء أي مرهونة ، والأنفس مرهونة عند الله بما لله عليها من الحقوق والطاعات ، وترك المعاصي فإذا عمل بما يجب عليه وترك ما نهى عنه ، فقد فك رهانها وإلا فيؤخذ منها بتعذيبها كما أن صاحب الدين

١٢٢

من الناس قد اتخذهم الناس سخريا لما يرمونهم به من المنكرات وكان يقال لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون أبغض إلى الناس من جيفة الحمار ولو لا أن يصيبك من

______________________________________________________

يأخذ من الرهن حقه كما قال تعالى « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ » (١) فإنهم فكوا رهانها.

قوله عليه‌السلام : « فعجب » أي كون رضى الله وطاعته منحصرة في هؤلاء القوم الذين يستحقرهم الناس محل للتعجب يستبعده الناس ، وتأبى عنه أوهامهم وعقولهم الفاسدة التي ألفت بالدنيا وزينتها ، وفي بعض النسخ [ بعجب ] بضم العين ، فيكون متعلقا بالترك أي إن تركته بسبب الإعجاب بالنفس والتكبر عن قبول الحق وإطاعة أهله قال الفيروزآبادي : العجب بالضم : الزهو والكبر (٢) ، وفي بعضها[ تعجب ] على صيغة الخطاب وعلى هذا كأنه كان تعجب في نفسه أو أظهر تعجبه في رسالته فرد عليه‌السلام ذلك عليه ، قوله : « ونصيحته » أي نصح عبادة أو طاعته مجازا.

قوله عليه‌السلام : « في عباد غرباء » الغربة عبارة عن قلة الأعوان وقلة الموافقين لهم فيما هم فيه من دين الحق ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إن الإسلام بدأ غريبا فطوبى للغرباء (٣) ».

قوله عليه‌السلام : « أخلاء من الناس » الإخلاء : جمع خلو بالكسر ، وهو الخالي عن الشيء ويكون بمعنى المنفرد ، ويقال : أخلاء إذا انفرد أي هم أخلاء من أخلاق عامة الناس وأطوارهم الباطلة أو منفردون عن الناس معتزلون عن شرارهم.

قوله عليه‌السلام : « لما يرمونهم به من المنكرات » أي يتخذهم الناس سخرية واستهزاء بسبب ما يرميهم الناس ويتهمهم به من المنكرات التي هم براء منها ، أو من أشياء يزعمونها من المناكير ، وليست بها ، ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل راجعا إلى العباد المحقين أي إنما يتخذون هؤلاء العباد سخريا لأنهم ينسبونهم إلى المنكرات أي يبينون أن أفعالهم وأديانهم منكرة وينهونهم عنها.

قوله عليه‌السلام : « وكان يقال » أي يقول النبي وأهل هذا البيت عليهم‌السلام وهذا رد

__________________

(١) سورة المدّثّر : ٣٨.

(٢) القاموس المحيط : ج ١ ص ١٠١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ٣٢٨ ح ٤٦ ـ ب ٦٧. والحديث مرويّ عن الباقر ( عليه‌السلام ).

١٢٣

البلاء مثل الذي أصابنا فتجعل « فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ » وأعيذك بالله وإيانا من ذلك لقربت على بعد منزلتك واعلم رحمك الله أنه لا تنال محبة الله إلا ببغض كثير من الناس ولا ولايته إلا بمعاداتهم وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون

______________________________________________________

للعجب والاستبعاد.

قوله عليه‌السلام : « مثل الذي أصابنا » أي من أذى الخلق وتحقيرهم واستهزائهم.

قوله عليه‌السلام : « فتجعل فتنة الناس كعذاب الله » الفتنة هنا البلية ، والأذى أي تجعل أذى الناس كعذاب الله في الضرر وتساوي بينهما ، فتختار عذاب الله بالرجوع عن الحق للاحتراز عن ضررهم ، وهو إشارة إلى قوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ » (١) أي بأن عذبهم الكفرة على الإيمان.« جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ » أي ما يصيبهم من أذيتهم في الصرف عن الإيمان « كَعَذابِ اللهِ » في الصرف عن الكفر.

قوله عليه‌السلام : « لقربت » جزاء الشرط وهو إما بتشديد الراء على صيغة المتكلم المعلوم أي لجعلتك قريبا من الحق مع غاية بعدك عنه ، أو على صيغة المخاطب المجهول أو بتخفيف الراء إما بصيغة المتكلم أي لقربت إليك ببيان الحق والتصريح به ، أو بصيغة الخطاب أي لصرت قريبا بما ألقي إليك من الحق.

قوله عليه‌السلام : « وفوت ذلك » أي ما يفوتك بسبب معاداة الناس قليل حقير بالنظر إلى ما تدركه من المنافع الأخروية من الله ، فقوله عليه‌السلام : « لدرك » علة للقلة والحقارة.

قوله عليه‌السلام : « ذلك » ثانيا إما راجع إلى الثواب المعلوم بقرينة المقام ، أو إلى ما رجع إليه اسم الإشارة أولا أي عوضه ، وجزاء تركه.

قوله : « لقوم يعلمون » أي لا يعلم حقيقة هذه الحقارة وذلك الشرف إلا العالمون بضعة الدنيا ودناءة منزلتها وحقارتها ، والعارفون برفعته درجات الآخرة وشرفها.

__________________

(١) العنكبوت. ١٠.

١٢٤

يا أخي إن الله عز وجل جعل في كل من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون معهم على الأذى يجيبون داعي الله ويدعون إلى الله فأبصرهم رحمك الله فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة إنهم يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرن بنور الله من العمى كم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه يبذلون دماءهم دون هلكة العباد وما أحسن أثرهم على العباد وأقبح آثار العباد عليهم.

١٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير قال بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم جالسا إذ أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن فيك شبها من عيسى ابن مريم ولو لا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى ابن مريم لقلت فيك قولا لا تمر بملإ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة قال فغضب الأعرابيان والمغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم فقالوا ما رضي أن يضرب لابن عمه مثلا إلا عيسى

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « في كل من الرسل » أي في أمة كل من الرسل أو لكل منهم بأن يكون « في » بمعنى اللام ، قوله : « يصبرون معهم » أي مع الأمة وبينهم أو مع الرسل.

قوله عليه‌السلام : « دون هلكة العباد » أي عند أشرافهم على الهلاك لئلا يهلكوا.

قوله عليه‌السلام : « ما أحسن أثرهم » أي ما يصل منهم إلى العباد وأثر الشيء بقيته وما يحصل منه.% الحديث الثامن عشر : ضعيف.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن فيك شبها من عيسى بن مريم عليه‌السلام » لزهده وعبادته وافتراق الناس فيه ثلاث فرق ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لا أن تقول فيك » إلخ. أي لو لا تحقق هذا الأمر وكون قولي سببا لزيادة رسوخ الناس في هذا الباطل لقلت.

قوله عليه‌السلام : « فغضب الأعرابيان » أي أبو بكر وعمر إذ هما لم يهاجرا إلى الإسلام ، وكانا على كفرهما وكان إسلامهما نفاقا وهجرهما شقاقا فهم داخلون ، في

١٢٥

ابن مريم فأنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ

______________________________________________________

قوله تعالى : « الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً » (١).

قوله عليه‌السلام : « فأنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » إلخ. ولنذكر ما قاله المفسرون في الآية ، ثم لنرجع إلى الخبر « ولما ضرب ابن مريم مثلا » أي ضربه ابن الزبعرى لما جادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » أو غيره بأن قال : النصارى أهل كتاب ، وهم يعبدون عيسى ، ويزعمون أنه ابن الله ، والملائكة أولى بذلك ، وعلى قوله : « وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا » أو أن محمدا يريد أن نعبده كما عبد المسيح « إِذا قَوْمُكَ » قريش « مِنْهُ » من هذا المثل « يَصِدُّونَ » يضجون فرحا لظنهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صار ملزما به ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالضم من الصدود أي يصدون من الحق ، ويعرفون عنه ، وقيل : هما لغتان نحو بعكف ويعكف وقالوا « آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ » أي آلهتنا خير عندك أم عيسى ، فإن كان في النار ، فلتكن آلهتنا معه ، أو آلهتنا الملائكة خير أم عيسى ، فإن جاز أن يعبد ويكون ابن الله كانت آلهتنا أولى بذلك ، أو آلهتنا خير أم محمد ، فنعبده وندع آلهتنا « ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً » ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة لا لتمييز الحق من الباطل « بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » شداد الخصومة ، حراص على اللجاج « إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ » بالنبوة ، « وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ » أمرا عجيبا ، كالمثل السائر لبني إسرائيل ، وهو كالجواب المزيح لتلك الشبهة « وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ » لولدنا منكم يا رجال كما ولدنا عيسى من غير أب أو لجعلنا بدلكم « مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ » يخلفونكم في الأرض ، والمعنى أن حال عيسى وإن كانت عجيبة ، فإنه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك ، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة ، يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا فمن أين لهم استحقاق الألوهية (٢) والانتساب إلى الله سبحانه ، كذا فسرها البيضاوي (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : ٩٧.

(٢) في المصدر : العبودية.

(٣) أنوار التنزيل : ج ٢ ص ٣٧٠ « ط مصر ١٣٨٨ ».

١٢٦

هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ » يعني من بني هاشم « مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ » (١) قال فغضب الحارث بن عمرو الفهري فقال « اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ » أن بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل « فَأَمْطِرْ

______________________________________________________

وروى علي بن إبراهيم (٢) عن أبيه عن وكيع عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن أبي الأعز عن سلمان الفارسي قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في أصحابه إذ قال إنه يدخل عليكم الساعة شبيه عيسى بن مريم ، فخرج بعض من كان جالسا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون هو الداخل ، فدخل علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال الرجل لبعض أصحابه : أما رضي محمد أن فضل عليا علينا حتى يشبهه بعيسى بن مريم ، والله لآلهتنا التي كنا نعبدها في الجاهلية أفضل منه ، فأنزل الله في ذلك المجلس ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يضجون : فحرفوها « يصدون » وقالوا « آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » عليا « إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ » إن علي إلا عبد « أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ » فمحا اسمه عن هذا الموضع ، ثم ذكر الله خطر أمير المؤمنين ، فقال « وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ » يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام فهذا الخبر المروي من رجال العامة يؤيد التفسير الوارد في هذا الخبر ويبينه ، وعلى هذا فيكون المراد بقوله « ما ضَرَبُوهُ لَكَ » تفضيل الآلهة فإنه تشبيه مع تفضيل ، وقوله « وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ » أي شبيها بنبي بني إسرائيل ، وهو عيسى عليه‌السلام وقوله : « وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ » أي من بني هاشم « مَلائِكَةً » أي أئمة كالملائكة في التقدس والطهارة ، والعصمة « فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ » أي يكونوا خلفاء في الأرض ولعل كلمة « لو » استعمل على هذا التفسير مقام « إذا » أي متى تعلقت مشيتنا وأردنا ، نجعل في الأرض منهم خلفاء.

قوله : « هرقلا بعد هرقل » بكسر الهاء والقاف اسم ملك الروم أي ملكا بعد ملك ، وكأنه عبر عنهم هكذا كفرا وعنادا وإظهارا لبطلانهم قوله تعالى : « وَما

__________________

(١) الزخرف : ٦٠.

(٢) تفسير القمّيّ : ج ٢ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

١٢٧

عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » فأنزل الله عليه مقالة الحارث ونزلت هذه الآية « وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » ثم قال له يا ابن عمرو إما تبت وإما رحلت فقال يا محمد بل تجعل لسائر قريش شيئا مما في يديك فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس ذلك إلي ذلك إلى الله تبارك وتعالى فقال يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة ولكن أرحل عنك فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة أتته جندلة فرضخت هامته ثم أتى الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ » بولاية علي « لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ » (١) قال قلت جعلت فداك إنا لا نقرؤها هكذا فقال هكذا والله

______________________________________________________

كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » يحتمل أن يكون المراد ترك عذاب الاستئصال ببركته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا ينافي ورود هذا العذاب عليه.

ويحتمل أن يكون المراد بأول الآية نفي عذاب الاستئصال ، وبقوله : « وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » نفي العذاب الوارد على الأشخاص ، فلذا أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتوبة لرفعه ، فلما لم يتب نزل عليه.

قوله : « جندلة » أي حجارة.

قوله عليه‌السلام : « فرضت » وفي بعض النسخ فرضخت والرض : الدق ، والرضخ ، الكسر والدق.

قوله تعالى : « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ » أي دعا داع به بمعنى استدعائه ، ولذلك عدي الفعل بالباء قال البيضاوي : السائل نضر بن الحرث ، فإنه قال « إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً » وأبو جهل فإنه قال : « فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ » سأله استهزاء : أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعجل بعذابهم. قوله تعالى : « ذِي الْمَعارِجِ » أي ذي المصاعد ، وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح ، أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم ، أو في دار ثوابهم أو مراتب الملائكة أو في السماوات ، فإن الملائكة يعرجون فيها.

__________________

(١) أنوار التنزيل : ج ٢ ص ٥٠٢ ـ ٥٠٣ « ط مصر ١٣٨٨ ».

١٢٨

نزل بها جبرئيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهكذا هو والله مثبت في مصحف فاطمة عليها‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن حوله من المنافقين انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به قال الله عز وجل : « وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ » (١).

١٩ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن علي بن النعمان ، عن ابن مسكان ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله عز وجل : « ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « إنا لا نقرؤها هكذا » كأنه سقط من بين الآية شيء ، وقد روي هذا الخبر في الأصول عن محمد بن سليمان بسند آخر هكذا علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى : « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ » بولاية علي « لَيْسَ لَهُ دافِعٌ » ثم قال : هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

قوله تعالى : « وَاسْتَفْتَحُوا » ظاهر الخبر أن المراد بالاستفتاح استفتاح العذاب وقال البيضاوي (٣) : أي سألوا من الله الفتح على أعدائهم أو القضاء بينهم وبين أعاديهم من الفتاحة كقوله « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ » (٤).

الحديث التاسع عشر : صحيح.

قوله تعالى : « ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » قال البيضاوي : كالقحط والموتان ، وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات ، وكثرة المضار أو الضلالة والظلم ، وقيل :

المراد بالبحر : قرى السواحل ، وقرى البحور « بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه ، وقيل : ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه ، وفي البحر بأن جلندا كان « يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً » انتهى.

وقال البغوي : أراد بالبر البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية ، قال عكرمة : تسمى العرب المصر بحرا ، وقال عطية البر ظهر الأرض والبحر هو البحر المعروف ، وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر ، فتخلوا أجواف الأصداف ، لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ، ويفتح فاه فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤا ، وقال ابن عباس ومجاهد وضحاك : كانت

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٥. (٢) أصول الكافي ج ١ ص ٤٢٢ ح ٤٧.

(٣) أنوار التنزيل : ج ١ ص ٥٢٧ « ط مصر ١٣٨٨ ». (٤) الأعراف : ٨٩.

١٢٩

كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » (١) قال ذاك والله حين قالت الأنصار : « منا أمير ومنكم أمير ».

٢٠ ـ وعنه ، عن محمد بن علي ، عن ابن مسكان ، عن ميسر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت قول الله عز وجل : « وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها » قال فقال يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله عز وجل بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال « وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ».

______________________________________________________

الأرض خضرة مؤنقة لا يأتي الرجل شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذبا ، وكان لا يقصد الأسد البقر ولا الغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا ، وقصد الحيوان بعضها بعضا (٣).

قوله : « حين قالت الأنصار » إلخ. لعل. المراد غصب الخلافة ، أو قول هذه الكلمة القبيحة وتركهم خليفة الرسول ، وصار ترك خليفة الحق سببا للضلال الساري في البر والبحر ، أي المحيط بجميع العالم ، وبسبب عدم استيلاء أهل الحق والعدل فشى الجور في البراري والبحار بالظلم ، والغصب والنهب ، وبسبب استيلاء أهل الباطل منعت بركات السماء والأرض عن العباد كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بنا يفتح الله وبنا يختم الله وبنا يمحو ما يشاء ، وبنا يثبت ، وبنا يدفع الزمان الكلب وبنا ينزل الغيث ، فلا يغرنكم بالله الغرور ، ما أنزلت السماء قطرة من ماء منذ حبسه الله عز وجل ، ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ، ولا خرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد ، واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه (٤).

الحديث العشرون : صحيح على الظاهر ، إذ الظاهر أن محمد بن علي هو ابن محبوب ، ويحتمل أبا سمينة فيكون ضعيفا.

قوله عليه‌السلام : « كانت فاسدة » أي بالكفر والجهل والضلال والظلم والجور.

__________________

(١) سورة الروم : ٤١.

(٢) سورة الأعراف : ٥٥ و ٨٤.

(٣) معالم التنزيل : « ذيل تفيسر ابن كثير ط مصر » ح ٦ ص ٤٣٨ باختلاف يسير وتلخيص.

(٤) بحار الأنوار : ج ٥٢ ص ٣١٦ ح ١١.

١٣٠

( خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام )

٢١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عثمان ، عن سليم بن قيس الهلالي قال خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل واحدة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ـ فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا عمل وإنما بدء وقوع الفتن

______________________________________________________

خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام

الحديث الحادي والعشرون :

الخبر مختلف فيه بسليم ، وعلى هذه النسخة لعل فيه إرسالا إذ لم يعهد برواية إبراهيم بن عثمان وهو أبو أيوب الخراز عن سليم ، وقد مر مثل هذا السند مرارا عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبان بن أبي عياش عن سليم ، ولعله سقط من النساخ ، فالخبر ضعيف على المشهور ، لكن عندي معتبر ، لوجوه ذكرها محمد بن سليمان في كتاب منتخب البصائر وغيره.

قوله عليه‌السلام : « إن أخوف » مشتق من المبني للمفعول على خلاف القياس كأشهر.

قوله عليه‌السلام : « عمل » قال ابن ميثم (١) قائم مقام الخبر من قبيل استعمال المضاف إليه مقام المضاف أي اليوم يوم عمل أو وقت عمل.

قوله عليه‌السلام : « قد ترحلت » قال الفيروزآبادي (٢) : ارتحل القوم عن المكان انتقلوا كترحلوا شبه عليه‌السلام انقضاء العمر شيئا فشيئا ونقص لذاتها بترحلها وإدبارها ، وقرب الموت يوما فيوما بترحلها وإقبالها.

قوله عليه‌السلام : « إنما بدء وقوع الفتن » إلخ ، قد مر في كتاب العقل (٣) هذا الجزء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ميثم : ج ٢ ص ١٠٩.

(٢) القاموس : ج ٣ ص ٣٨٣. « ط مصر ».

(٣) لاحظ ج ١ ص ١٨٥ ح ١.

١٣١

من أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالا ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجللان معا فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير يجري الناس عليها ويتخذونها سنة فإذا غير منها شيء قيل قد غيرت السنة وقد أتى الناس منكرا ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحى بثفالها ويتفقهون

______________________________________________________

من الخبر بسند صحيح عن الباقر عليه‌السلام ، وفيه « أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ».

قوله عليه‌السلام : « من هذا ضغث » الضغث : ملأ الكف من الشجر والحشيش والشماريخ ، قوله : « فيجليان » (١) وفيما مر فيجيئان (٢) معا فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى » وهو الأظهر ، وعلى ما في هذا الخبر لعل المراد نجا الذين قال الله فيهم « سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى » أي سبقت لهم في علم الله وقضائه ومشيته الخصلة الحسنى ، وهي السعادة أو التوفيق للطاعة أو البشرى بالجنة أو العاقبة الحسنى.

قوله عليه‌السلام : « لبستم » كذا في بعض النسخ وهو ظاهر ، وفي بعضها « ألبستم » على بناء المجهول من الأفعال وهو أظهر وفي أكثرها « ألبستكم » فيحتمل المعلوم والمجهول بتكلف إما لفظا وإما معنى.

قوله عليه‌السلام « يربو فيها الصغير » قال الفيروزآبادي : ربا ربوا كعلو ورباء زاد ونما ، (٣) والغرض بيان كثرة امتدادها ، قوله : « وقد أتى الناس منكرا » لعله داخل تحت القول ويحتمل العدم.

قوله عليه‌السلام : « وكما تدق الرحى بثقالها » في أكثر النسخ بالقاف ولعله تصحيف والظاهر الفاء قال الجزري (٤) : وفي حديث علي عليه‌السلام : « وتدقهم الفتن دق الرحى

__________________

(١) في بعض نسخ المتن [ فيجالان ] والموجود هنا « فيجلّلان ».

(٢) لاحظ : ج ١ ص ١٨٦.

(٣) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٣٣٢ « ط مصر ».

(٤) النهاية : ج ١ ص ٢١٥.

١٣٢

لغير الله ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورددت فدكا إلى ورثة فاطمة عليها‌السلام ورددت صاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ورددت قضايا من الجور قضي بها ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن

______________________________________________________

بثقالها » الثقال بالكسر : جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق ، ويسمى الحجر الأسفل ثقالا بها والمعنى أنها تدقهم دق الرحى للحب إذا كانت مثقلة ، ولا تثفل إلا عند الطحن ، وقال الفيروزآبادي (١) : وقول زهير بثقالها أي على ثقالها أي حال كونها طاحنة لأنهم لا يثقلونها إلا إذا طحنت انتهى.

وعلى ما في أكثر النسخ لعل المراد مع ثقالها أي إذا كانت معها ما يثقلها من الحبوب ، فيكون أيضا كناية عن كونها طاحنة.

قوله عليه‌السلام : « أو قليل » أي لا يبقى معي إلا قليل.

قوله عليه‌السلام : « لو أمرت بمقام إبراهيم » إشارة إلى ما فعله عمر من تغيير المقام عن الموضع الذي وضعه فيه رسول الله إلى موضع كان فيه في الجاهلية ، رواه الخاصة (٢) والعامة (٣).

قوله : « ونزعت نساء » إلخ ، كالمطلقات ثلاثا في مجلس واحد وغيرها مما خالفوا فيه حكم الله.

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٣٤٢ « ط مصر ».

(٢) الأصول الستة عشر ص ٢٢.

(٣) أخبار مكّة للأزرقي ج ص ٣٣.

١٣٣

واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام وسبيت ذراري بني تغلب ورددت ما قسم من أرض خيبر ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « وسبيت ذراري بني تغلب » لأن عمر رفع عنهم الجزية فهم ليسوا بأهل ذمة فيحل سبي ذراريهم كما روي عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : « إن بني تغلب من نصارى العرب أنفوا واستنكفوا من قبول الجزية ، وسألوا عمر أن يعفيهم عن الجزية ويؤدوا الزكاة مضاعفا فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة فرضوا بذلك » (١).

وقال محيي السنة : روي أن عمر بن الخطاب رام نصارى العرب على الجزية فقالوا : نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم ، ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة ، فقال عمر : هذا فرض الله على المسلمين ، قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية ، فراضاهم على أن ضعف عليهم الصدقة.

قوله : « ومحوت دواوين العطايا » أي التي بنيت على التفضيل بين المسلمين في أزمن الثلاثة.

قوله عليه‌السلام : « ولم أجعلها دولة » قال الجزري (٢) : في حديث أشراط الساعة « إذا كان المغنم دولا » جمع دولة بالضم ، وهو ما يتداول من المال ، فيكون لقوم دون قوم.

قوله عليه‌السلام : « وألقيت المساحة » إشارة إلى ما عده الخاصة والعامة من بدع عمر أنه قال ، ينبغي مكان هذا العشر ونصف العشر دراهم ، نأخذها من أرباب الأملاك فبعث إلى البلدان من مسح على أهلها فألزمهم الخراج ، فأخذ من العراق يوما يليها ما كان أخذه منهم ملوك الفرس على كل جريب درهما واحدا ، وقفيزا من أصناف الحبوب ، وأخذ من مصر ونواحيها دينارا وأردبا عن مساحة جريب كما كان يأخذ منهم ملوك الإسكندرية.

وقد روى محيي السنة وغيره عن علمائهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم« أنه قال : منعت العراق درهمها وقفيزها ، ومنعت الشام مدها ودينارها ، ومنعت مصر إردبها و

__________________

(١) الوسائل : ج ١١ ص ١١٦ ح ٦ ب ٦٨ من أبواب جهاد العدوّ.

(٢) النهاية : ج ٢ ص ١٤٠.

١٣٤

يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة وسويت بين المناكح وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه ورددت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما كان عليه وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه وحرمت المسح على الخفين وحددت على النبيذ وأمرت بإحلال المتعتين وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وألزمت الناس الجهر ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجده ممن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرجه

______________________________________________________

دينارها » (١) والأردب لأهل مصر أربعة وستون منا ، وفسره أكثرهم بأنه قد محي ذلك شريعة الإسلام ، وكان أول بلد مسحه عمر بلد الكوفة وتفصيل الكلام في ذكر هذه البدع موكول إلى الكتب المبسوطة التي دونها أصحابنا لذلك ، كالشافي للسيد المرتضى وعسى الله أن يوفقنا لبسط الكلام في بدع أهل الكفر والجور في شرح كتاب الحجة.

قوله عليه‌السلام : « وسويت بين المناكح » بأن يزوج الشريف والوضيع كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزوج بنت عمه مقداد.

قوله عليه‌السلام : « وأمرت بإحلال المتعتين » أي متعة النساء ومتعة الحج اللتين حرمهما عمر.

قوله عليه‌السلام : « خمس تكبيرات » أي لا أربعا كما ابتدعته العامة.

قوله عليه‌السلام : « وألزمت الناس » إلخ. يدل ظاهرا على وجوب الجهر بالبسملة مطلقا وإن أمكن حمله على تأكد الاستحباب.

قوله عليه‌السلام : « وأخرجت » إلخ. ويحتمل أن يكون المراد إخراج جسدي الملعونين الذين دفنا في بيته بغير إذنه ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لهما لخوخة (٢) في مسجده ، وإدخال جسد فاطمة عليها‌السلام ودفنها عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رفع الجدار من بين قبريهما.

ويحتمل أن يكون المراد إدخال من كان ملازما لمسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ٢٦٢.

(٢) الخوخة باب صغير كالنافذة الكبيرة وتكون بيتين ينصب عليها باب. « النهاية ج ٢ ص ٨٦ ».

١٣٥

وأدخلت من أخرج بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أدخله وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة ـ وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لتفرقوا عني والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في

______________________________________________________

حياته كعمار وأضرابه ، وإخراج من أخرجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من المطرودين ، ويمكن أن يكون تأكيدا لما مر من فتح الأبواب وسدها.

قوله عليه‌السلام : « ورددت أهل نجران إلى مواضعهم » لم أظفر إلى الآن بكيفية إخراجهم وسببه وبمن أخرجهم.

قوله عليه‌السلام : « ورددت سبايا فارس » لعل المراد الاسترداد ممن اصطفاهم وأخذ زائدا من حظه.

قوله عليه‌السلام : « ما لقيت » من كلام مستأنف للتعجب.

قوله عليه‌السلام : « وأعطيت » رجوع إلى الكلام السابق ، ولعل التأخير من الرواة.

قوله تعالى : « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ » هذه من تتمة آية الخمس حيث قال تعالى : « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » (١) قال : البيضاوي (٢) : « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ » متعلق بمحذوف دل عليه « وَاعْلَمُوا » أي إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم ، واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم المتعلق بالعمل إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد ، لأنه مقصود بالعرض ، والمقصود بالذات هو العمل ، « وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا » محمد من الآيات والملائكة والنصر « يَوْمَ الْفُرْقانِ » يوم

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤.

(٢) أنوار التنزيل : ج ١ ص ٣٩٥ « ط مصر ١٣٨٨ ».

١٣٦

فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل :« إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » (١) فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال تعالى « فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » فينا خاصة : « كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ » في ظلم آل محمد « إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » (٢) لمن ظلمهم رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ووصى به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا أكرم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضا فرضه الله لنا ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ » على من ظلمنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

______________________________________________________

بدر ، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل « يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » المسلمون والكفار.

أقول : لعل نزول حكم الخمس كان في غزاة بدر ، « وَما أَنْزَلْنا » إشارة إليه كما يظهر من بعض الأخبار (٣) ، وفسر عليه‌السلام ذي القربى بالأئمة عليهم‌السلام كما دلت عليه الأخبار المستفيضة ، وعليه انعقد إجماع الشيعة.

قوله تعالى : « لِكَيْلا يَكُونَ دُولَةً » هذه تتمة لآية أخرى ، ورد في فيئهم عليه‌السلام حيث قال : « ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ » أي الفيء الذي هو حق الإمام عليه‌السلام « دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ » الدولة بالضم : ما يتداوله الأغنياء ، وتدور بينهم كما كان في الجاهلية.

قوله : « رحمة لنا » أي فرض الخمس والفيء لنا رحمة منه لنا ، وليغنينا بهما عن أوساخ أيدي الناس.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣)

١٣٧

( خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام )

٢٢ ـ أحمد بن محمد الكوفي ، عن جعفر بن عبد الله المحمدي ، عن أبي روح فرج بن قرة ، عن جعفر بن عبد الله ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام بالمدينة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله ثم قال أما بعد فإن الله تبارك وتعالى لم يقصم جباري دهر إلا من بعد تمهيل ورخاء ولم يجبر كسر عظم من الأمم إلا بعد أزل وبلاء أيها الناس في دون ما استقبلتم من عطب واستدبرتم من خطب معتبر

______________________________________________________

الحديث الثاني والعشرون : ضعيف قوله : « لم يقصم » أي لم يكسر « جباري دهر إلا من بعد تمهيل » أي تأخير « ورخاء » أي نعمة وسعة عيش ، « ولم يجبر كسر عظم من الأمم » أي يدفع الجبابرة ، واستيلاء أهل الحق عليهم ، وفي نهج البلاغة (١) « ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل وبلاء » الأزل : الضيق والشدة ، « أيها الناس في دون ما استقبلتم من خطب (٢) واستدبرتم من خطب ، معتبر » الخطب : الشأن والأمر.

ويحتمل أن يكون المراد بما استدبروه ما وقع في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من استيلاء الكفرة ، أولا وغلبة الحق وأهله ثانيا ، وانقضاء دولة الظالمين ونصرة الله رسوله على الكافرين ، والمراد بما استقبلوه ما ورد عليهم بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفتن ، واستبداد أهل الجهالة والضلالة بأمور المسلمين بلا نصر من رسول رب العالمين ، وكثرة خطائهم في أحكام الدين ، ثم انقضاء دولتهم ، وما وقع بعد ذلك من الحروب ، والفتن كل ذلك محل للاعتبار لمن عقل وفهم ، وميز الحق عن الباطل فإن زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغزواته ومصالحته ومهادنته مع المشركين كانت منطبقة على أحوال أمير المؤمنين عليه‌السلام من وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى شهادته عليه‌السلام.

ويحتمل أن يكون المراد بما يستقبل وما يستدبر شيئا واحدا ، فإن ما يستقبل قبل وروده يستدبر بعد مضيه ، والمراد التفكر في انقلاب أحوال الدنيا. وسرعة

__________________

(١) نهج البلاغة : تحقيق صبحي الصالح ص ١٢١ « الخطبة ٨٨ » وفيه « ما استقبلتم من عتب ».

(٢) في المتن « من عطب ».

١٣٨

وما كل ذي قلب بلبيب ولا كل ذي سمع بسميع ولا كل ذي ناظر عين ببصير عباد الله أحسنوا فيما يعنيكم النظر فيه ثم انظروا إلى عرصات من قد أقاده الله بعلمه كانوا على سنة من آل فرعون أهل « جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ » ثم انظروا بما ختم الله لهم بعد النضرة والسرور والأمر والنهي ولمن صبر منكم العاقبة في الجنان والله

______________________________________________________

زوالها وكثرة الفتن فيها فيحث هذا التفكر العاقل اللبيب على ترك الأغراض الدنيوية والسعي لما يوجب حصول السعادات الأخروية. ويحتمل على بعد أن يكون المراد بما يستقبلونه ما أمامهم من أحوال البرزخ وأهوال القيامة ، وعذاب الآخرة ومثوباتها ، وبما استدبروه ما مضى من أيام عمرهم وما ظهر لهم من آثار فناء الدنيا وحقارتها ، وقلة بقائها ، « وما كل ذي قلب بلبيب » أي عاقل ، « ولا كل ذي سمع بسميع » أي يفهم الحق ويؤثر فيه ويعمل به ، « ولا كل ذي ناظر عين ببصير » أي يبصر الحق ويعتبر بما يرى ، وينتفع بما يشاهد ، وليس لفظ « عين » في نسخ النهج ، وفي بعض نسخ الكتاب « عباد الله أحسنوا فيما يعنيكم » أي يهمكم وينفعكم ، وفي بعض النسخ « يعينكم النظر فيه » الظاهر أنه بدل اشتمال لقوله : « فيما يعينكم » ويحتمل أن يكون فاعلا لقوله يعينكم ، بتقدير النظر قبل الظرف أيضا « ثم انظروا إلى عرصات » قال الفيروزآبادي (١) : العرصة كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء ، والجمع عراص وعرصات « من قد أقاده الله بعلمه » يقال : أقاده خيلا أي أعطاه ليقودها ، ولعل المراد من مكنه الله من الملك بأن خلى بينه وبين اختياره ، ولم يمسك يده عما أراده بعلمه وحكمته أي بما يقتضيه علمه من عدم إجبارهم على الطاعات وترك المنهيات.

ويحتمل أن يكون من القود والقصاص ، ويؤيده أن في بعض النسخ بعمله بتقديم الميم على اللام ، فالضمير راجع إلى الموصول « كانوا على سنة » أي طريقة وحالة مشبهة ، ومأخوذة من آل فرعون من الظلم والكفر والطغيان ، أو من الرفاهية والنعمة كما قال : « مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ » (٢) فعلى الأول : حال ، وعلى

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٢ ص ٣٠٧.

(٢) سورة الدخان : ٢٥.

١٣٩

مخلدون « وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ».

فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا ـ وكل امرئ منهم إمام نفسه آخذ منها فيما

______________________________________________________

الثاني : بدل ، من قوله على سنة ، أو عطف بيان له « ثم انظروا بما ختم الله لهم » الباء بمعنى في أو إلى أو زائدة ، أو صلة للختم قدم عليه ، أي انظروا بأي شيء ختم لهم بعد النضرة. والسرور والأمر والنهي ، النضرة : الحسن والرونق « ولمن صبر منكم العاقبة في الجنان والله مخلدون » قوله : « مخلدون » خبر لمبتدء محذوف ، والجملة مبينة ، ومؤكدة للجملة السابقة ، يسأل عن عاقبتهم فيقال : هم والله مخلدون في الجنان ، « وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ » أي مرجعها إلى حكمه كما قيل أو عاقبة الدولة ، والملك والعز لله ولمن طلب رضاه كما هو الأنسب بالمقام « فيا عجبا » بغير تنوين وأصله فيا عجبا ثم قلبوا الياء ألفا ، فإن وقفت قلت يا عجباه ، أي يا عجبي أقبل فهذا أوانك ، أو بالتنوين أي يا قوم أعجبوا عجبا أو أعجب عجبا ، والأول أشهر وأظهر « وما لي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها » الظرف الأخير إما متعلق بالاختلاف أو بالخطإ أو بهما على التنازع ، وقوله : « على اختلاف حججها » أي مذاهبها أو طرقها أو دلائلها على مذاهبهم الباطلة أو على الحق ، مع عدولهم عنها « لا يعتقون أثر نبي » وفي بعض النسخ « لا يقتصون » من قولهم اقتص أثره أي تتبعه « ولا يقتدون بعمل وصي » يعني نفسه عليه‌السلام ولا يؤمنون بغيب ، أي بأمر غائب عن الحس ، مما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجنة والنار وغيرهما « ولا يعفون عن عيب » بكسر العين وتشديد الفاء من العفة ، وبسكون العين وتخفيف الفاء من العفو ، أي عن عيوب الناس « المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا » أي المعروف والخبر عندهم يعرفونه ، ويعدونه معروفا ، ويستحسنونه بعقولهم الناقصة ، وإن كان منكرا في نفس الأمر ، والمراد أن المعروف والمنكر تابعان لإراداتهم وميولهم

١٤٠