مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن لها حيل وتسويلات لا ينجو منها إلا المقربون.

وقال الشيخ البهائي (ره) : الخالص في اللغة كلما صفا وتخلص ولم يمتزج بغيره سواء كان ذلك الغير أدون منه أو لا ، فمن تصدق لمحض الرياء فصدقته خالصة لغة كمن تصدق لمحض الثواب وقد خص العمل الخالص في العرف بما تجرد قصد التقرب فيه عن جميع الشوائب ، وهذا التجريد يسمى إخلاصا ، وقد عرفه أصحاب القلوب بتعريفات أخر ، فقيل : هو تنزيه العمل عن أن يكون لغير الله فيه نصيب ، وقيل : إخراج الخلق عن معاملة الحق ، وقيل : هو ستر العمل عن الخلائق وتصفيته عن العلائق ، وقيل : أن لا يريد عامله عليه عوضا في الدارين ، وهذه درجة علية عزيزة المنال ، وقد أشار إليها أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

وقال (ره) : ذهب كثير من علماء الخاصة والعامة إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب ، وقالوا : إن هذا القصد مناف للإخلاص الذي هو إرادة وجه الله وحده ، وأن من قصد ذلك فإنه قصد جلب النفع إلى نفسه ، ودفع الضرر عنها لا وجه الله سبحانه ، كما أن من عظم شخصا أو أثنى عليه طمعا في ماله أو خوفا من إهانته لا يعد مخلصا في ذلك التعظيم والثناء.

وممن بالغ في ذلك السيد الجليل صاحب المقامات والكرامات رضي الدين علي بن طاوس قدس الله سره ، ويستفاد من كلام شيخنا الشهيد في قواعده أنه مذهب أكثر أصحابنا رضوان الله عليهم.

ونقل الفخر الرازي في التفسير الكبير اتفاق المتكلمين على أن من عبد الله لأجل الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب لم تصح عبادته ، أورده عند تفسير

٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

قوله تعالى « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً » (١) وجزم في أوائل سورة الفاتحة بأنه لو قال : أصلي لثواب الله أو الهرب من عقابه فسدت صلاته ، ومن قال بأن ذلك القصد غير مفسد للعبادة منع خروجها به عن درجة الإخلاص ، وقال : إن إرادة الفوز بثواب الله والسلامة من سخطه ليس أمرا مخالفا لإرادة وجه الله سبحانه ، وقد قال تعالى في مقام مدح أصفيائه : « كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً » (٢) أي للرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ، وقال سبحانه : « وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً » (٣) وقال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (٤) أي حال كونكم راجين للفلاح ، أو لكي تفلحوا ، والفلاح هو الفوز بالثواب ، نص عليه الشيخ أبو علي الطبرسي.

هذا ما وصل إلينا من كلام هؤلاء ، وللمناقشة فيه مجال ، أما قولهم أن تلك الإرادة ليست مخالفة لإرادة وجه الله تعالى فكلام ظاهري قشري إذ البون البعيد بين إطاعة المحبوب والانقياد إليه لمحض حبه وتحصيل رضاه وبين إطاعته لأغراض أخر أظهر من الشمس في رائعة النهار ، والثانية ساقطة بالكلية عن درجة الاعتبار عند أولي الأبصار ، وأما الاعتضاد بالآيتين الأوليين ، ففيه : أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن المعنى راغبين في الإجابة ، راهبين من الرد والخيبة ، وأما الآية الثالثة فقد ذكر الطبرسي في مجمع البيان أن معنى « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » لكي تسعدوا. ولا ريب أن تحصيل رضاه سبحانه هو السعادة العظمى ، وفسر (ره) الفلاح في قوله تعالى : « أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » بالنجاح والفوز ، وقال شيخ الطائفة في التبيان : المفلحون هم المنجحون

__________________

(١) سورة الأعراف : ٥٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٩٠.

(٣) سورة الأعراف : ٥٦.

(٤) سورة الحجّ : ٧٧.

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الذين أدركوا ما طلبوا من عند الله بأعمالهم وإيمانهم.

وفي تفسير البيضاوي المفلح : الفائز بالمطلوب ، ومثله في الكشاف.

نعم فسر الطبرسي (ره) الفلاح في قوله : « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ » بالفوز بالثواب لكن مجيئه في هذه الآية بهذا المعنى لا يوجب حمله في غيرها أيضا عليه ، وعلى تقدير حمله على هذا المعنى إنما يتم التقريب لو جعلت جملة الترجي حالية ، ولو جعلت تعليلية كما جعله الطبرسي فلا دلالة فيها على ذلك المدعى أصلا كما لا يخفى.

هذا ، والأولى أن يستدل بما رواه الكليني بطريق حسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : العباد ثلاثة قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبا للثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة ، فإن قوله عليه‌السلام وهي أفضل العبادة يعطي أن العبادة على الوجهين السابقين لا يخلو من فضل أيضا فتكون صحيحة وهو المطلوب.

ثم قال رحمه‌الله : المانعون في نية العبادة من قصد تحصيل الثواب أو دفع العقاب جعلوا هذا القصد مفسدا لها وإن انضم إليه قصد وجه الله تعالى على ما يفهم من كلامهم ، أما بقية الضمائم اللازمة الحصول مع العبادة نويت أو لم تنو كالخلاص من النفقة بعتق العبد في الكفارة ، والحمية في الصوم والتبرد في الوضوء وإعلام المأموم الدخول في الصلاة بالتكبير ، ومماطلة الغريم بالتشاغل بالصلاة وملازمته بالطواف والسعي ، وحفظه المتاع بالقيام لصلاة الليل وأمثال ذلك فالظاهر أن قصدها عندهم مفسد أيضا بالطريق الأولى وأما الذين لا يجعلون قصد الثواب مفسدا فقد اختلفوا في الإفساد بأمثال هذه الضمائم ، فأكثرهم على عدمه ، وبه قطع الشيخ في المبسوط ، والمحقق في المعتبر ، والعلامة في التحرير والمنتهى ، لأنها تحصل لا محالة فلا يضر قصدها ، وفيه أن لزوم حصولها لا يستلزم صحة قصد حصولها ، والمتأخرون من أصحابنا حكموا بفساد العبادة بقصدها وهو مذهب العلامة في النهاية

٨٣

وإن النية هي العمل ثم تلا قوله عز وجل : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ » (١) يعني على نيته

______________________________________________________

والقواعد ، وولده فخر المحققين في الشرح ، وشيخنا الشهيد في البيان لفوت الإخلاص وهو الأصح ، واحتمل شيخنا الشهيد في قواعده التفصيل بأن القربة إن كانت هي المقصود بالذات والضميمة مقصودة تبعا صحت العبادة وإن انعكس الأمر أو تساويا بطلت.

هذا ، واعلم أن الضميمة إن كانت راجحة ولاحظ القاصد رجحانها وجوبا أو ندبا كالحمية في الصوم لوجوب حفظ البدن ، والإعلام بالدخول في الصلاة للتعاون على البر فينبغي أن لا تكون مضرة إذ هي حينئذ مؤكدة ، وإنما الكلام في الضمائم غير الملحوظة الرجحان ، فصوم من ضم قصد الحمية مطلقا صحيح مستحبا كان الصوم أو واجبا ، معينا كان الواجب أو غير معين ، ولكن في النفس من صحة غير المعين شيء ، وعدمها محتمل ، والله أعلم.

قوله عليه‌السلام : والنية أفضل من العمل ، أي النية الخالصة أو إخلاص النية أفضل من العمل ، والنية تطلق على إرادة إيقاع الفعل وعلى الغرض الباعث على الفعل وعلى العزم على الفعل والأولتان مقارنتان للفعل دون الثالثة ، والأولى لا تنفك فعل الفاعل المختار عنها ، والثانية الإخلاص فيها من أشق الأمور وأصعبها وبه تتفاضل عبادات المكلفين وهي روح العبادة وبدونها لا تصح ، وكلما كانت أخلص عن الشوائب والأغراض الفاسدة كان العمل أكمل ، ولذا ورد أن نية المؤمن خير من عمله ، ولا ينافي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأعمال أحمزها ، إذ تصحيح النية أصعب من تصحيح العمل بمراتب شتى إذ ليس المراد بالنية ما يتكلم به الإنسان عند الفعل ، أو يتصوره ويخطره بباله ، بل هو الباعث الأصلي والغرض الواقعي الداعي للإنسان على الفعل وهو تابع للحالة التي عليها الإنسان ، والطريقة التي يسلكها ، فمن غلب عليه حب الدنيا وشهواتها لا يمكنه قصد القربة وإخلاص النية عن دواعيها فإن نفسه متوجهة إلى الدنيا وهمته مقصورة عليها ، فما لم يقلع عن قلبه عروق حب الدنيا ولم يستقر فيه

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٤.

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

طلب النشأة الأخرى وحب الرب الأعلى لم يمكنه إخلاص النية واقعا عن تلك الأغراض الدنية ، وذلك متوقف على مجاهدات عظيمة ورياضات طويلة وتفكرات صحيحة ، واعتزال عن شرار الخلق ، فلذا ورد أن نية المؤمن خير من عمله ، ومن عرف ذلك لم يحتج إلى تأويل الخبر بما ستسمع من الوجوه مع ركاكة أكثرها وبعدها عن نظم الكلام ، فلذا قال عليه‌السلام : النية أفضل من العمل والسعي في تصحيحها أهم.

فإن قيل : العمل بلا نية باطل ، ومعها النية داخلة فيه فكيف يفضل النية على العمل فإنه يوجب تفضيل الجزء على الكل؟.

قلنا : المراد به أن العمل المقرون بالنية نيته خير من سائر أجزائه ، سواء جعلنا النية جزءا من العمل أو شرطا فيه وقوله عليه‌السلام : ألا وإن النية هي العمل ، مبالغة في اشتراط العمل بها ، وأنه لا اعتداد بالعمل بدونها ، فكأنها عينه ، ولذا أكد بحرف التأكيد وحرف التنبيه واسمية الجملة ، وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر ، وضمير الفصل المؤكد له.

وقيل : إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن المفضل عليه لا بد أن يكون من جنس المفضل والنية ليست من جنس العمل ، فأجاب عليه‌السلام بأن النية أيضا عمل من أعمال القلب ولا يخفى ضعفه ، والاستشهاد بالآية الكريمة لبيان أن مدار العمل على النية صحة وفسادا ونقصا وكمالا ، حيث قال : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ » يعني على نيته وكأنه عليه‌السلام فسر الشاكلة التي تطلق غالبا على الحالة والطريقة بالنية إيذانا بأن النية تابعة لحالة الإنسان وطريقته كما أومأنا إليه ، وإن ورد بمعنى النية أيضا ، قال الفيروزآبادي : الشاكلة : الشكل والناحية والنية والطريقة ، وقال في مجمع البيان : أي كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها عن ابن عباس ، وقيل : على طريقته وسنته التي اعتادها ، وقيل : ما هو أشكل بالصواب

٨٥

٥ ـ وبهذا الإسناد قال سألته عن قول الله عز وجل : « إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ

______________________________________________________

وأولى بالحق عنده عن الجبائي ، قال : ولهذا قال : « فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً » أي أنه يعلم أي الفريقين على الهدى وأيهما على الضلال ، وقيل : معناه أنه أعلم بمن هو أصوب دينا وأحسن طريقة ، وقال بعض أرباب اللسان هذه الآية أرجى آية في كتاب الله لأن الأليق بكرمه سبحانه وجوده العفو عن عباده ، فهو يعمل به ، انتهى.

ويمكن حمل النية هنا على المعنى الثالث كما سيأتي في الخبر لكنه بعيد عن سياق هذا الخبر وسيأتي مزيد كلام في ذلك في باب النية وباب الرياء.

الحديث الخامس : مثل السابق :

قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ » قال سبحانه في سورة الشعراء حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام حيث قال : « وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ».

قال الطبرسي قدس الله سره أي لا تفضحني ولا تعيرني بذنب يوم يحشر الخلائق ، وهذا الدعاء كان منه عليه‌السلام على وجه الانقطاع إلى الله تعالى لما بينا أن القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء عليه‌السلام ، ثم فسر ذلك اليوم بأن قال : يوم لا ينفع مال ولا بنون أي لا ينفع المال والبنون أحدا إذ لا يتهيأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم به ولا يتحمل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه « إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » من الشرك والشك عن الحسن ومجاهد وقيل : سليم من الفساد والمعاصي ، وإنما خص القلب بالسلامة لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد من حيث أن الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفساد ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : هو القلب الذي سلم من حب الدنيا ، ويؤيده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حب الدنيا رأس كل خطيئة انتهى.

٨٦

سَلِيمٍ » (١) قال القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه قال وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.

٦ ـ بهذا الإسناد ، عن سفيان بن عيينة ، عن السندي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوما أو قال ما أجمل عبد ذكر الله

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : وليس فيه أحد سواه ، أي أخرج عن قلبه حب ما سوى الله والاشتغال بغيره سبحانه ، أولم يختر في قلبه على رضا الله رضا غيره ، أو كانت أعماله ونياته كلها خالصة لله لم يشرك فيها غيره « وكل قلب فيه شرك » أعم من الشرك الجلي والخفي. « أو شك » وهو ما يقابل اليقين الذي يظهر أثره على الجوارح ، فإن كل معصية أو توسل بغيره سبحانه يستلزم ضعفا في اليقين فالشك يشمله « فهو ساقط » أي عن درجة الاعتبار أو بعيد عن الرب تعالى.

« وإنما أرادوا » أي الأنبياء والأوصياء « الزهد » وفي بعض النسخ : أراد بالزهد أي أراد الله ، والباء زائدة يعني أن الزهد في الدنيا ليس مقصودا لذاته ، وإنما أمر الناس به لتكون قلوبهم فارغة عن محبة الدنيا ، صالحة لحب الله تعالى ، خالصة له عز وجل ، لا شركة فيها لما سوى الله ، ولا شك ناشئا من شدة محبتها لغير الله.

الحديث السادس : مثل السابق.

« وإخلاص الأيمان » مما يشوبه من الشرك والرياء والمعاصي ، وأن يكون جميع أعماله خالصة لله تعالى ، ولعل خصوص الأربعين لأن الله تعالى جعل انتقال الإنسان في أصل الخلقة من حال إلى حال في أربعين يوما كالانتقال من النطفة إلى العلقة ومن العلقة إلى المضغة ، ومن المضغة إلى العظام ومنها إلى اكتساء اللحم.

ولذا يوقف قبول توبة شارب الخمر إلى أربعين يوما كما ورد في الخبر ، والزهد في الشيء تركه وعدم الرغبة فيه ، وداء الدنيا المعاصي والصفات الذميمة وما

__________________

(١) سورة الشعراء : ٨٩.

٨٧

عز وجل أربعين يوما إلا زهده الله عز وجل في الدنيا وبصره داءها ودواءها فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه ثم تلا : « إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ » (١) فلا ترى صاحب بدعة

______________________________________________________

يوجب البعد عن الله تعالى ، ودواؤها ما يوجب تركها واجتنابها من الرياضات والمجاهدات والتفكرات الصحيحة وأمثالها ، أو المراد بدائها الأمراض القلبية الحاصلة من محبة الدنيا ، ودواؤها ملازمة ما يوجب تركها ، وقيل : أي قدر الضرورة منها والزائد عليه أو ميل القلب إليها وصرفه عنها أو الضار والمنافع منها في الآخرة أعني الطاعة والمعصية والحكمة العلوم الحقة الواقعية وأصلها ومنبعها معرفة الإمام ولذا فسرت بها كما مر.

وفي مناسبة ذكر الآية لما تقدم إشكال ، ويمكن أن يقال في توجيهه وجوه :

الأول : ما خطر بالبال وهو أنه لما ذكر فوائد إخلاص الأربعين وقد أبدع جماعة من الصوفية فيها ما ليس في الدين ، دفع عليه‌السلام توهم شموله لذلك بالاستشهاد بالآية ، وأنها تدل على أن كل مبتدع في الأحكام ومفتر على الله ورسوله في حكم من الأحكام ذليل في الدنيا والآخرة ، لقوله تعالى : « كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ » وقوله : أو مفتريا أي لا ترى مفتريا ، وبعبارة أخرى لما كان صحة العبادة وكما لها مشترطة بأمرين : الأول ، كونها على وفق السنة ، والثاني : كونها خالصة لوجه الله تعالى ، فأشار أولا إلى الثاني ، وثانيا إلى الأول ، فتأمل.

الثاني : ما قيل أن الوجه في تلاوته عليه‌السلام الآية التنبيه على أن من كانت عبادته لله تعالى واجتهاده فيها على وفق السنة بصره الله عيوب الدنيا فزهده فيها ، فصار بسبب زهده فيها عزيزا لأن المذلة في الدنيا إنما تكون بسبب الرغبة فيها ، ومن كانت عبادته على وفق الهوى أعمى الله قلبه عن عيوب الدنيا ، فصار بسبب رغبته فيها ذليلا ، فأصحاب البدع لا يزالون أذلاء صغارا ، ومن هنا قال الله في متخذي العجل ما قال.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥١.

٨٨

إلا ذليلا ومفتريا على الله عز وجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أهل بيته صلوات الله عليهم إلا ذليلا.

باب الشرائع

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وعدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن إبراهيم بن محمد الثقفي ، عن محمد بن مروان جميعا ، عن أبان بن عثمان عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام التوحيد والإخلاص

______________________________________________________

الثالث : ما قيل أيضا أن الغرض من تلاوتها هو التنبيه على أن غير المخلص مندرج فيها ، والوعيد متوجه إليه أيضا لأنك قد عرفت أن قلبه ساقط ، لكونه ذا شرك أو شك وهما بدعة وافتراء على الله ورسوله ، والآية على تقدير نزولها في قوم مخصوصين لا يقتضي تخصيص الوعيد بهم.

الرابع : ما خطر بالبال أيضا وهو أن الإخلاص المذكور في صدر الخبر يشمل الإخلاص عن الرياء والبدعة ، وكل ما ينافي قبول العمل فاستشهد لأحد أجزائه بالآية.

باب الشرائع

الحديث الأول : مرسل.

قوله عليه‌السلام : شرائع نوح ، يحتمل أن يكون المراد بالشرائع أصول الدين ويكون التوحيد والإخلاص وخلع الأنداد بيانا لها ، والفطرة الحنيفية معطوفة على الشرائع وإنما خص عليه‌السلام ما به الاشتراك بهذه الثلاثة مع اشتراكه عليه‌السلام معهم في كثير من العبادات لاختلاف المشتركات فيها دون هذه الثلاثة ، ولعله عليه‌السلام لم يرد حصر المشتركات فيما ذكر لعدم ذكر سائر أصول الدين ، كالعدل والمعاد مع أنه يمكن

٨٩

وخلع الأنداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة أحل فيها الطيبات

______________________________________________________

إدخالهما في بعض ما ذكر ، لا سيما الإخلاص بتكلف ويمكن أن يكون المراد منها الأصول وأصول الفروع المشتركة ، وإن اختلفت في الخصوصيات والكيفيات وحينئذ يكون جميع تلك الفقرات إلى قوله عليه‌السلام : وزاده ، بيانا للشرائع ، ويشكل حينئذ ذكر الرهبانية والسياحة إذ المشهور أن عدمهما من خصائص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أن يقال : المراد عدم الوجوب وهو مشترك ، أو يقال : إنهما لم يكونا في شريعة عيسى عليه‌السلام أيضا وإن استشكل بالجهاد وأنه لم يجاهد عيسى عليه‌السلام ، فالجواب أنه يمكن أن يكون واجبا عليه لكن لم يتحقق شرائطه ، ولذا لم يجاهد ولعل قوله عليه‌السلام : زاده وفضله ، بهذا الوجه أوفق.

وكان المراد بالتوحيد نفي الشريك في الخلق ، وبالإخلاص نفي الشريك في العبادة ، وخلع الأنداد تأكيد لهما ، أو المراد به ترك اتباع خلفاء الجور وأئمة الضلالة أو نفي الشرك الخفي أو المراد بالإخلاص نفي الشرك الخفي وبخلع الأنداد نفي الشريك في استحقاق العبادة ، والأنداد جمع ند وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره ويناده أي يخالفه ، والفطرة ملة الإسلام التي فطر الله الناس عليها كما مر والحنيفية المائلة من الباطل إلى الحق أو الموافقة لملة إبراهيم عليه‌السلام قال في النهاية : الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه‌السلام ، وأصل الحنيف الميل ، ومنه الحديث : بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ، وفي القاموس : السمحة الملة التي ما فيها ضيق.

وفي النهاية : فيه لا رهبانية في الإسلام ، هي من رهبة النصارى ، وأصله من الرهبة الخوف ، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها ، والعزلة عن أهلها ، وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ، ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب ، فنفاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الإسلام ونهى المسلمين

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

عنها ، انتهى.

وقال الطبرسي قدس‌سره : في قوله تعالى : « وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها » (١) هي الخصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة إما في لبسته أو انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نسك صاحبه والمعنى ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم ، وقيل : إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء واتخاذ الصوامع عن قتادة ، قال : وتقديره ورهبانية ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، وقيل : إن الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال في خبر مرفوع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما رعاها الذين بعدهم حق رعايتها ، وذلك لتكذيبهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ابن عباس.

وقيل : إن الرهبانية هي الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة « ما كَتَبْناها » أي ما فرضناها عليهم ، وقال الزجاج : إن تقديره ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر الله فهذا وجه ، قال : وفيها وجه آخر جاء في التفسير أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه فاتخذوا أسرابا وصوامع وابتدعوا ذلك ، فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع ودخلوا عليه لزمهم إتمامه ، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمه.

قال : وقوله : فما رعوها حق رعايتها ، على ضربين أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم ، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يؤمنوا به ، وكانوا تاركين لطاعة الله فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها ، ودليل ذلك قوله : « فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ » يعني الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ » أي كافرون ، انتهى كلام الزجاج.

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٧.

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

ويعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حمار فقال : يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه‌السلام يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا هؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه ، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه‌السلام يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسك بدينه ، ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : " « وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ » ، إلى آخرها ، ثم قال : يا بن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة.

وفي حديث آخر عن ابن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعيتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ، انتهى.

وقال في النهاية : فيه لا سياحة في الإسلام ، يقال : ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها وأصله من السيح وهو الماء الجاري أي المنبسط على الأرض ، أراد مفارقة الأمصار وسكنى البراري وترك شهود الجمعة والجماعات ، وقيل : أراد الذين يسيحون في الأرض بالشر والنميمة والإفساد بين الناس ، ومن الأول سياحة هذه الأمة الصيام قيل للصائم : سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا يسيح ولا زاد معه ولا ماء ، فحين يجد يطعم ، والصائم يمضي نهاره لا يأكل ولا يشرب شيئا فشبه به ، انتهى.

قوله عليه‌السلام أحل فيها الطيبات ، إشارة إلى قوله تعالى في الأعراف : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ » الآية ، قال الطبرسي قدس‌سره : ويحل

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث معناه : يبيح لهم المستلذات الحسنة ، ويحرم عليهم القبائح وما تعافه الأنفس ، وقيل : يحل لهم ما اكتسبوه من وجه طيب ويحرم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث ، وقيل : يحل لهم ما حرمه عليهم رهابينهم وأحبارهم وما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر والسوائب وغيرها ، ويحرم عليهم الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر معها « وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ » أي ثقلهم ، شبه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل ، وذلك أن الله سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا ، وجعل توبة هذه الأمة الندم بالقلب حرمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الحسن. وقيل : الإصر هو العهد الذي كان الله سبحانه أخذه على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة عن ابن عباس والضحاك والسدي ، ويجمع المعنيين قول الزجاج :

الإصر ما عقدته من عقد ثقيل.

« وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ » معناه ويضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم ، وجعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق للزومها كما يقال : هذا طوق في عنقك ، وقيل : يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة ، وقرض ما يصيبه البول من أجسادهم وما أشبه ذلك من تحريم السبت ، وتحريم العروق والشحوم وقطع الأعضاء الخاطئة ، ووجوب القصاص دون الدية عن أكثر المفسرين ، انتهى.

وأقول : استدل أكثرهم أصحابنا على تحريم كثير من الأشياء مما تستقذره طباع أكثر الخلق بهذه الآية وهو مشكل ، إذ الظاهر من سياق الآية مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشريعته بأن ما يحل لهم هو طيب واقعا وإن لم نفهم طيبه ، وما يحرم عليهم هو الخبيث واقعا وإن لم نعلم خبثه كالطعام المستلذ الذي يكون من مال اليتيم أو مال السرقة تستلذه الطبع وهو خبيث واقعا ، وأكثر الأدوية التي يحتاج الناس إليها في

٩٣

وحرم فيها الخبائث ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ثم افترض عليه فيها الصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال

______________________________________________________

غاية البشاعة وتستقذرها الطبع ولم أر قائلا بتحريمها ، فالحمل على المعنى الذي لا يحتاج إلى تخصيص ويكون موافقا لقواعد الإمامية من الحسن والقبح العقليين أولى من الحمل على معنى لا بد فيه من تخصيصات كثيرة ، بل ما يخرج منهما أكثر مما يدخل فيهما كما لا يخفى على من تتبع مواردهما ، ويمكن أن يقال : هذه الآية كالصريحة في الحسن والقبح العقليين ولم يستدل بها الأصحاب رضي الله عنهم.

وقيل : الإصر الثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكانه لفرط ثقله ، وقال الزمخشري : هو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته ، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ ، من غير شرع الدية ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم ، وتحريم السبت.

وعن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوخ وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : ثم افترض عليه ، أي على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فيها » أي في الفطرة التي هي ملته ، وكان ثم للتفاوت في الرتبة ، وقيل : المراد بالحلال ما عدا الحرام فيشمل الأحكام الأربعة ، والمراد بالفرائض المواريث ذكرت تأكيدا ، أو مطلق الواجبات وقيل : الفرائض ما له تقدير شرعي من المواريث وهي أعم منها ومن غيرها مما ليس له تقدير ، وقيل : المراد بالفرائض ما فرض من القصاص بقدر الجناية ، وقوله : وزاده الوضوء ، يدل على عدم شرع الوضوء في الأمم السابقة ، وينافيه ما ورد في تفسير قوله تعالى : « فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ » أنهم مسحوا ساقيهم وعنقهم وكان ذلك وضوؤهم إلا أن يقال : المراد زيادة الوضوء كما في بعض النسخ ، وزيادة الوضوء عطفا

٩٤

والحرام والمواريث والحدود والفرائض والجهاد في سبيل الله وزاده الوضوء وفضله بفاتحة الكتاب وبخواتيم سورة البقرة والمفصل وأحل له المغنم والفيء ونصره بالرعب

______________________________________________________

على الجهاد ، وقوله عليه‌السلام : وفضله ، إشارة إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، ومكان الإنجيل المثاني ، ومكان الزبور المئين ، وفضلت بالمفصل ، وفي رواية واثلة بن الأصقع : وأعطيت مكان الإنجيل المئين ، ومكان الزبور المثاني ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش لم يعطها نبي قبلي ، وأعطاني ربي المفصل نافلة.

قال الطبرسي (ره) فالسبع الطويل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع التوبة ، لأنهما تدعيان القرينتين ، ولذلك لم يفصل بينهما بالبسملة وقيل : إن السابعة سورة يونس ، والطول جمع الطولي تأنيث الأطول وإنما سميت هذه السور الطوال ، لأنها أطول سورة القرآن وأما المثاني فهي السور التالية للسبع الطول ، أولها يونس وآخرها النحل وإنما سميت المثاني لأنها ثنت الطول أي تلتها ، وكان الطول هي المبادئ والمثاني لها ثواني وواحدها مثنى مثل المعنى والمعاني ، وقال الفراء ، واحدها مثناة ، وقيل : المثاني سور القرآن كلها طوالها وقصارها ، من قوله تعالى : « كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ » (١) وأما المئون فهي كل سورة تكون نحوا من مائة آية أو فوق ذلك ، أو دوينه ، وهي سبع سور أولها سورة بني إسرائيل وآخرها المؤمنون ، وقيل ، إن المئين : ما ولى السبع الطول ثم المثاني بعدها وهي التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل وسميت مثاني لأن المئين مباديها ، وأما المفصل فما بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن ، سميت مفصلا لكثرة الفصول بين سورها ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، انتهى.

وأقول : اختلف في أول المفصل فقيل : من سورة ق وقيل من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل من سورة الفتح ، وعن النووي : مفصل القرآن من محمد إلى آخر القرآن ، وقصاره من الضحى إلى آخره ، ومطولاته إلى عم ومتوسطاته إلى الضحى ، وفي

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٣.

٩٥

وجعل له الأرض مسجدا وطهورا وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والإنس

______________________________________________________

الخبر : المفصل ثمان وستون سورة وسيأتي تمام الكلام في ذلك في كتاب القرآن.

« أحل له المغنم » في النهاية : الغنمية والغنم والمغنم والغنائم هو ما أصيب من أموال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب ، وقال : الفيء ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد ، وأصل الفيء الرجوع ، يقال : فاء يفيء فئة وفيوءا كأنه في الأصل لهم ثم رجع إليهم ، انتهى.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد بالمغنم المنقولات وبالفيء الأراضي سواء أخذت بحرب أم لا ، وعلى التقديرين في قوله توسع أي له ولأهل بيته وأمته ، ويحتمل أن يكون اللام سببية لا صلة للإحلال ، فيكون من أحل له غير مذكور ، فيشمل الجميع ، والاختصاص لما مر أن الأمم السابقة كانوا لا تحل لهم الغنيمة بل كانوا يجمعونها فتنزل نار من السماء فتحرقها ، وكان ذلك بلية عظيمة عليهم حتى كان قد يقع فيها السرقة ، فيقع الطاعون بينهم فمن الله على هذه الأمة بإحلالها « ونصره بالرعب » مع قلة العدد والعدة وكثرة الأعداء وشدة بأسهم ، والرعب الفزع والخوف فكان الله تعالى يلقي رعبه في قلوب الأعداء حتى إذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه.

« وجعل له الأرض مسجدا » أي مصلى يجوز لهم الصلاة في أي موضع شاءوا بخلاف الأمم السابقة فإن صلاتهم كانت في بيعهم وكنائسهم إلا من ضرورة « وطهورا » أي مطهرا وما يتطهر به تطهر أسفل القدم والنعل ومحل الاستنجاء وتقوم مقام الماء عند تعذره في التيمم ، والمراد بكونها طهورا أنها بمنزلة الطهور في استباحة الصلاة بها ، وحمله السيد (ره) على ظاهره فاستدل بها على ما ذهب إليه أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء.

« وأرسله كافة » إشارة إلى قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ » وكافة في الآية إما حال عما بعدها ، أي إلى الناس جميعا ، ومن لم يجوز تقديم الحال على

٩٦

و أعطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم ثم كلف ما لم يكلف أحد من الأنبياء

______________________________________________________

ذي الحال المجرور قال : هي حال عن الضمير المنصوب في أرسلناك ، والتاء للمبالغة أو صفة لمصدر محذوف ، أي إرساله كافة ، أو مصدر كالكاذبة والعاقبة ، ولعل الأخيرين في الخبر أنسب ، وظاهره أن غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبعث إلى الكافة وهو خلاف المشهور ، ويحتمل أن يكون الحصر إضافيا أو يكون المراد به بعثه على جميع من بعده إذ لا نبي بعده بخلاف سائر أولي العزم فإنهم لم يكونوا كذلك ، بل نسخت شريعتهم.

« الأبيض والأسود » العجم والعرب أو كل من اتصف باللونين ليشمل جميع الناس قال في النهاية : فيه بعثت إلى الأحمر والأسود ، أي العجم والعرب ، لأن الغالب على ألوان العجم الحمرة والبياض ، وعلى ألوان العرب الأدمة والسمرة ، وقيل : الجن والإنس ، وقيل : أراد بالأحمر الأبيض مطلقا فإن العرب تقول : امرأة حمراء أي بيضاء ومنه الحديث أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، هي ما أفاء الله على أمته من كنوز الملوك ، فالأحمر الذهب والأبيض الفضة ، والذهب كنوز الروم لأنه الغالب على نقودهم ، والفضة كنوز الأكاسرة لأنها الغالبة علي نقودهم ، وقيل : أراد العرب والعجم جمعهم الله على دينه وملته ، انتهى.

والكلام في اختصاص البعث على الجن والإنس به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالكلام فيما سبق ويدل الخبر أيضا على اختصاص الجزية والأسر والفداء ، والجزية : المال الذي يقرره الحاكم على الكتابي إذا أقره على دينه ، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله وأسره ، والفداء بالكسر والمد ، وبالفتح والقصر ، فكان الأسير بالمال الذي قرره الحاكم عليه يقال : فداه يفديه فداءا ، ثم كلف على بناء المفعول وثم هنا أيضا مثل ما سبق لأن هذا التكليف أعظم التكاليف وأشقها فقد ثبت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرب أحد وحنين بعد انهزام أصحابه مصرحا باسمه لا يبالي شيئا ، وأنزل عليه سيف من السماء أي ذو الفقار أو غيره ، وكونه بلا غمد تحريص على الجهاد وإشارة إلى أن سيفه ينبغي أن لا يغمد ، وقيل السيف عبارة عن آية سورة براءة : " « فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ

٩٧

وأنزل عليه سيف من السماء في غير غمد وقيل له : « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ » (١).

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة بن مهران قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله عز وجل : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » (٢) فقال نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قلت كيف صاروا أولي العزم قال لأن نوحا بعث بكتاب وشريعة وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتى جاء

______________________________________________________

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » فإنه يقال لها آية السيف وكونه من غير غمد كناية عن أنها من المحكمات ، ولا يخفى بعده.

والغمد بالكسر الغلاف ، وقال البيضاوي : « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ » أي إن تثبطوا وتركوك وحدك « لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ » أي إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد ، فإن الله ناصرك لا الجنود.

الحديث الثاني : موثق.

« فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » قال الطبرسي قدس‌سره أي فاصبر يا محمد على أذى هؤلاء الكفار على ترك إجابتهم لك كما صبر الرسل ، و « من » هنا تبيين الجنس فالمراد جميع الأنبياء لأنهم عزموا على أداء الرسالة وتحمل أعبائها ، وقيل : أن من هيهنا للتبعيض ، وهو قول أكثر المفسرين ، والظاهر في روايات أصحابنا ، ثم اختلفوا فقيل : هم من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه ، وهم نوح و

__________________

(١) سورة النساء : ٨٤.

(٢) سورة الأحقاف : ٣٥.

٩٨

إبراهيم عليه‌السلام بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به فكل نبي جاء بعد إبراهيم عليه‌السلام أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف وكل نبي جاء بعد موسى عليه‌السلام أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح عليه‌السلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فهؤلاء « أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » عليهم‌السلام

______________________________________________________

إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قالا : وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحى المرسلين وقيل : هم ستة نوح صبر على أذى قومه وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر ويوسف صبر على البئر والسجن وأيوب صبر على الضر عن مجاهد ، وقيل : هم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين عن السدي والكلبي ، وقيل : هم أربعة إبراهيم ونوح وهود ورابعهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبي العالية ، والعزم هو الوجوب والحتم وأولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : لا كفرا به أي إنكار الحقية بل إيمانا به وبصلاحه في وقت دون الآخر ، وللنسخ مصالح كثيرة ، والعبد مأمور بالتسليم ، وكان من جملتها ابتلاء الخلق واختبارهم في ترك ما كانوا متمسكين به.

قوله : ومنهاجه ، كأنه إشارة إلى قوله تعالى : « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً » (١).

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٨.

٩٩

باب

دعائم الإسلام

١ ـ حدثني الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد الزيادي ، عن الحسن بن علي الوشاء قال حدثنا أبان بن عثمان ، عن فضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال بني الإسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية

______________________________________________________

باب دعائم الإسلام

قال الجوهري : الدعامة عماد البيت الذي يقوم به.

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« بني الإسلام على خمس » يحتمل أن يكون المراد بالإسلام الشهادتين ، وكأنهما موضوعتان على هذه الخمسة لا تقومان إلا بها ، أو المراد بالإسلام الإيمان ، والمراد بالبناء عليها كونها أجزاءه وأركانه فحينئذ يمكن أن يكون المراد بالولاية ما يشمل الشهادتين أيضا ، أو يكون عدم ذكر الشهادتين لظهورهما ، وأما ذكر الولاية التي هي من العقائد الإيمانية مع العبادات الفرعية مع تأخيرها عنها إما للمماشاة مع العامة ، أو المراد بالولاية وفور المودة والمتابعة اللتان هما من مكملات الإيمان أو المراد بالأربعة الاعتقاد بها والانقياد لها ، فتكون من أصول الدين لأنها من ضروريات المذهب ، وإنكار كل منها كفر والأول أظهر كما لا يخفى.

« كما نودي بالولاية » أي في يوم الغدير كما سيأتي ، أو في الميثاق وهو بعيد ، والولاية بالكسر الإمارة وكونه أولى بالحكم والتدبير ، وبالفتح المحبة والنصرة وهنا يحتملهما.

١٠٠