مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ويعصوني ، فيخلطون أعمالهم السيئة بأعمال حسنة ، فهؤلاء أمرهم إلى إن شئت عذبتهم فبعدلي ، وإن شئت عفوت عنهم فبفضلي ، فأنبأه الله تعالى بما يكون من ولده وشبههم بالذر الذي أخرجهم من ظهره ، وجعله علامة على كثرة ولده ، ويحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره وجعل أجسام ذريته دون أرواحهم ، وإنما فعل الله تعالى ذلك ليدل آدم عليه‌السلام على العاقبة منه ، ويظهر له من قدرته وسلطانه وعجائب صنعته ، وأعلمه بالكائن قبل كونه ، وليزداد آدم عليه‌السلام به يقينا بربه ، ويدعوه ذلك إلى التوفر على طاعته ، والتمسك بأوامره ، والاجتناب لزواجره.

فأما الأخبار التي جاءت بأن ذرية آدم عليه‌السلام استنطقوا في الذر فنطقوا فأخذ عليهم العهد فأقروا فهي من أخبار التناسخية وقد خلطوا فيها ومزجوا الحق بالباطل والمعتمد من إخراج الذرية ما ذكرناه دون ما عداه مما استمر القول به على الأدلة العقلية والحجج السمعية ، وإنما هو تخليط لا يثبت به أثر على ما وصفناه.

« فصل » فإن تعلق بقوله تبارك اسمه : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ » فظن بظاهر هذا القول تحقق ما رواه أهل التناسخ والحشوية والعامة في إنطاق الذرية وخطابهم وأنهم كانوا أحياء ناطقين؟ فالجواب عنه : أن لهذه الآية من المجاز في اللغة كنظائرها مما هو مجاز واستعارة ، والمعنى فيها أن الله تبارك وتعالى أخذ من كل مكلف يخرج من ظهر آدم وظهور ذريته العهد عليه بربوبيته من حيث أكمل عقله ودله بآثار الصنعة على حدثه ، وأن له محدثا أحدثه لا يشبهه ، يستحق العبادة منه بنعمة عليه ، فذلك هو أخذ العهد منهم وآثار الصنعة فيهم والإشهاد لهم على أنفسهم بأن الله تعالى ربهم

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقوله تعالى : « قالُوا بَلى » يريد به أنهم لم يمتنعوا من لزوم آثار الصنعة فيهم ، ودلائل حدثهم اللازمة لهم ، وحجة العقل عليهم في إثبات صانعهم ، فكأنه سبحانه لما ألزمهم الحجة بعقولهم على حدثهم ووجود محدثهم قال لهم ألست بربكم فلما لم يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدث لهم كانوا كقائلين « بَلى شَهِدْنا » ، وقوله تعالى « أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ » ، ألا ترى أنه احتج عليهم بما لا يقدرون يوم القيامة أن يتأولوا في إنكاره ، ولا يستطيعون وقد قال سبحانه :

« وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ » (١) ولم يرد أن المذكور يسجد كسجود البشر في الصلاة ، وإنما أراد به غير ممتنع من فعل الله فهو كالمطيع لله وهو معبر عنه بالساجد قال الشاعر :

بجمع تظل البلق في حجراته

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

يريد أن الحوافر تدل الأكم بوطئها عليها ، وقوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » (٢) وهو سبحانه لم يخاطب السماء بكلام ، ولا السماء قالت قولا مسموعا ، وإنما أراد أنه عمد إلى السماء فخلقها ولم يتعذر عليه صنعتها ، فكأنه لما خلقها قال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، فلما تعلقتا بقدرته كانتا كالقائل أتينا طائعين ، وكمثل قوله تعالى : « يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ » (٣) والله تعالى يجل عن خطاب النار وهو مما لا يعقل ولا يتكلم ، وإنما الخبر عن سعتها وأنها لا تضيق بمن يحلها من المعاقبين ، وذلك كله على مذهب أهل اللغة وعادتهم في المجاز ، ألا

__________________

(١) سورة الحجّ : ١٨.

(٢) سورة فصّلت : ١١.

(٣) سورة ق : ٣٠.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ترى إلى قول الشاعر :

وقالت له العينان سمعا وطاعة

وأسبلتا كالدر ما لم يثقب

والعينان لم تقل قولا مسموعا ولكنه أراد منها البكاء ، فكانتا كما أراد من غير تعذر عليه ، ومثله قول عنترة :

فازود من وقع القنا بلبانه

وشكا إلى بعبرة وتحمحم

والفرس لا يشتكي قولا لكنه ظهر منه علامة الخوف والجزع ، فسمي ذلك قولا ، ومنه قول الآخر : « وشكا إلى جملي طول السري » والجمل لا يتكلم لكنه لما ظهر منه النصب والوصب لطول السري عبر عن هذه العلامة بالشكوى التي يكون كالنطق والكلام ، ومنه قولهم أيضا :

امتلاء الحوض وقال قطني

حسبك مني قد ملأت بطني

والحوض لم يقل قطني لكنه لما امتلاء بالماء عبر عنه بأنه قال : حسبي ، ولذلك أمثال كثيرة في منثور كلام العرب ومنظومة ، وهو من الشواهد على ما ذكرناه في تأويل الآية ، والله تعالى نسأل التوفيق.

« فصل » فأما الخبر بأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فهو من أخبار الآحاد ، وقد روته العامة كما روته الخاصة ، وليس هو مع ذلك مما يقطع على الله بصحته ، وإنما نقله رواته لحسن الظن به ، وإن ثبت القول فالمعنى فيه أن الله تعالى قدر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد واخترع الأجساد واخترع لها الأرواح ، فالخلق للأرواح قبل الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدمناه ، وليس بخلق لذواتها كما وصفناه ، والخلق لها بالإحداث والاختراع بعد خلق الأجساد والصور التي تدبرها الأرواح ، ولو لا أن ذلك كذلك لكانت الأرواح يقوم بأنفسها ولا تحتاج إلى آلات تعتملها ، ولكنا نعرف ما سلف لنا من الأحوال قبل خلق الأجساد كما نعلم أحوالنا بعد خلق الأجساد ، وهذا محال لإخفاء بفساده.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الحديث بأن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ، فالمعنى فيه أن الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس ، وتتخاذل بالعوارض ، فما تعارف منها باتفاق الرأي والهوى ائتلف ، وما تناكر منها بمباينة في الرأي والهوى اختلف ، وهذا موجود حسا ومشاهد ، وليس المراد بذلك أن ما تعارف منها في الذر ائتلف كما يذهب إليه الحشوية كما بيناه من أنه لا علم للإنسان بحال كان عليها قبل ظهوره في هذا العالم ، ولو ذكر بكل شيء ما ذكر بذلك فوضح بما ذكرناه أن المراد بالخبر ما شرحناه والله الموفق للصواب ، انتهى.

وأقول : طرح ظواهر الآيات والأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة جرأة على الله وعلى أئمة الدين ، ولو تأملت فيما يدعوهم إلى ذلك من دلائلهم وما يرد عليها من الاعتراضات الواردة لعرفت أن بأمثالها لا يمكن الاجتراء على طرح خبر واحد فكيف يمكن طرح تلك الأخبار الكثيرة الموافقة لظاهر الآية الكريمة بها وبأمثالها ، وقد أوردنا الأخبار الدالة على تقدم خلق الأرواح على الأجساد في كتاب السماء والعالم من كتابنا الكبير وتكلمنا عليها هناك.

ومنها : ما ذكره السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في قوله تعالى : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ » الآية ، حيث قال : وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده ، أن تأويل هذه الآية أن الله تعالى سبحانه استخرج من ظهر آدم عليه‌السلام جميع ذريته وهم في خلق الذر ، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم ، وهذا التأويل مع أن العقل يبطله ويحيله ، مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأن الله تعالى قال : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ » ، ولم يقل من آدم ، وقال « مِنْ ظُهُورِهِمْ » ، ولم يقل : من ظهره ، وقال « ذُرِّيَّتَهُمْ » ، ولم يقل : ذريته ، ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنهم كانوا عن ذلك غافلين ، أو يعتذروا بشرك آبائهم وأنهم نشأوا على دينهم وسنتهم ، وهذا يقتضي أن الآية لم تتناول ولد آدم عليه‌السلام لصلبه ، وأنها إنما

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تناولت من كانت له آباء مشركون ، وهذا يدل على اختصاصها ببعض ذرية بني آدم فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويلهم.

فأما شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي استخرجت من ظهر آدم عليه‌السلام وخوطبت وقررت من أن تكون كاملة العقول ، مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون كذلك ، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال ، وما قرروا به واستشهدوا عليه لأن العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وإن بعد العهد وطال الزمان ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله.

وليس أيضا لتخلل الموت بين الحالين تأثير ، لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذكر لكان تخلل النوم والسكر والجنون والإغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم ، لأن سائر ما عددناه مما نفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا الباب ، وليس لهم أن يقولوا إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفولية جاز ما ذكرنا ، وذلك أنا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى عليهم وهم كاملو العقل ، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم توجب عليهم ما أوجبناه ، على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الفرض في الآية ، وذلك أن الله تعالى أخبر بأنه إنما قررهم وأشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه ، وإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة عنهم وزوالها ، وإن كانوا على صفة الثانية من فقد العلم وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم ، وصار ذلك عبثا قبيحا يتعالى الله عنه.

فإن قيل : قد أبطلتم تأويل مخالفيكم فما تأويلها الصحيح عندكم؟

قلنا : في الآية وجهان « أحدهما » أن يكون تعالى إنما عني بها جماعة من ذرية

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بني آدم خلقهم وبلغهم وأكمل عقولهم وقررهم على ألسن رسله عليهم‌السلام بمعرفته وما يجب من طاعته ، فأقروا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم ، وإنما أتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظن أن الذرية لا يقع إلا على من لم يكن كاملا عاقلا وليس الأمر كما ظن لأنا نسمي جميع البشر بأنهم ذرية آدم وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون وقد قال الله تعالى : « رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ » (١) ولفظ الصالح لا يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلفين فهذا جوابهم.

الجواب الثاني : أنه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدل على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم وكانوا امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقر المعترف وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى وتعذر ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » (٢) وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ولا منهما جواب ، ومثله قوله تعالى : « شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ » (٣) ونحن نعلم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم وأنهم لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ، ومثل هذا قولهم : جوارحي تشهد بنعمتك وحالي معترفة بإحسانك ، وما روى عن بعض الحكماء : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا إجابتك اعتبارا ، وهذا باب كبير وله نظائر كثيرة في النظم والنثر يغني

__________________

(١) سورة غافر : ٨.

(٢) سورة فصّلت : ١١.

(٣) سورة التوبة : ١٧.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عن ذكر جميعها القدر الذي ذكرناه منها.

ومنها : ما ذكره الرازي في تفسير تلك الآية حيث قال : في تفسير تلك الآية قولان مشهوران « الأول » وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر : ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عنها؟ فقال : إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة ، وقال مقاتل : إن الله مسح ظهر آدم اليمنى فخرج منه ذرية بيضاء كهيأة الذر تتحرك ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فخرج منه ذرية سود كهيأة الذر فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم : ألست بربكم قالوا بلى فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشيمة ثم أعادهم جميعا في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول : « وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ » (١) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي.

وأما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٠٢.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه : « الأولى » : أنه قال من بني آدم ، من ظهورهم فقوله : من ظهورهم بدل من قوله : بني آدم ، فلم يذكر الله أنه أخذ من ظهر آدم شيئا.

الثانية : أنه لو كان كذلك لما قال : من ظهورهم ، ولا من ذرياتهم بل قال : من ظهره وذريته.

الثالثة : أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا « إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ » ، وهذا الكلام لا يليق بأولاد آدم لأنه عليه‌السلام ما كان مشركا.

الرابعة : أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فلو أخذ الله الميثاق من أولئك لكانوا عقلاء ، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلا أن ينساها نسيانا كليا لا يتذكر منها شيئا لا بالقليل ولا بالكثير وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ ، فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في أجساد أخرى ، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلا ، فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة وجب القول بمقتضاه.

الخامسة أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عليه‌السلام عدد عظيم وكثرة كثيرة فالمجموع الحاصل من تلك الذرات تبلغ مبلغا عظيما في الحجمية والمقدار ، وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لهذا المجموع.

السادسة : أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم ، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من الذرات الهباء أن تكون عاقلا فاهما مصنفا للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة ، وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات ، وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون فاهما عاقلا

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلا إذا حصلت له قدرة من البنية والجثة ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم عليه‌السلام إلى آخر فناء الدنيا لا تحويهم عرصة الدنيا فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه‌السلام.

السابعة : قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذ الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا ، والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا ، لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير حجة عليهم في التمسك بالإيمان.

الثامنة : قال الكعبي إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، فلما لم يمكن توجيه التكليف على الطفل فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذر؟ وأجاب الزجاج عنه وقال : لما لم يبعد أن يؤتي الله النمل كما قال : « قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ » (١) وأن يعطى الجبل الفهم حتى يسبح كما قال : « وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ » (٢) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هنا.

التاسعة : أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا كذلك ، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة ، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ، ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا ، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧.

(٢) سورة الأنبياء : ٧٩.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لافتقر التكليف في سبق ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال ، وأما الثاني وهو أن يقال : إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ، ولا كاملي القدر ، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم.

العاشرة : قوله تعالى : « فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ » (١) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء ، فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقا من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن ، فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : أنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته ، ثم إنه خلقه مرة أخرى إلى رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة الدنيا؟ قلنا : هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على سبيل الابتداء بل كان تجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة ، وأجمع المسلمون علي أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل.

الحادية عشر : هي أن تلك الذرات إما أن يقال أنه عين هؤلاء الناس أو غيرهم ، والقول الثاني باطل بالإجماع في القول الأول ، فنقول : إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة ، أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل ، والثاني يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات ، أولها وقت الميثاق ، وثانيها في الدنيا ، وثالثها في القبر ، ورابعها في القيامة وأنه حصل له الموت ثلاث مرات موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول ، وموت في الدنيا وموت في القبر ، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى : « رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ

__________________

(١) سورة الطارق : ٦.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » (١).

الثانية عشر : قوله تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » (٢) فلو كان القول بهذا الذر صحيحا لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب ، وذلك باطل لأن الذر غير مخلوق من النطفة والعلقة والمضغة ، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة والمضغة ، وهو قوله : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » وقوله : « قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ » (٣).

فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.

والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات أنه أخرج الذر وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة ، فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا ، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه ، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى ، وإن لم يكن هناك قول باللسان ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » (٤) ومنها قوله تعالى : « إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (٥) وقول العرب : قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال : سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي وقال الشاعر : « امتلاء الحوض وقال قطني ».

وهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهورة في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين ، وهذا القول الثاني لا طعن فيه البتة ، وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافيا لصحة القول الأول ، إنما الكلام في

__________________

(١) سورة الغافر : ١١.

(٢) سورة المؤمنون : ١٢.

(٣) سورة العبس : ١٧.

(٤) سورة فصّلت : ١١.

(٥) سورة النحل : ٤٠.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

أن القول الأول هل يصح أم لا.

فإن قال قائل : فما المختار عندكم فيه؟ قلنا : هيهنا مقامان : « أحدهما » أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر؟ والثاني أن بتقدير أن يصح القول به فهل يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية؟

أما المقام الأول فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها ، ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع :

أما الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة وهو أنه لو صح القول بأخذ هذه الميثاق لوجب أن نتذكره الآن؟ قلنا : خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية ، والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى ، وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها ، فإن قالوا : فإذا جوزتم هذا فجوزوا أن يقال أن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدان؟ قلنا : الفرق بين الأمرين ظاهر ، وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهورا امتنع في مجرى العادة نسيانها أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان وأقل وقت فلم يبعد حصول النسيان والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساها ، أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساها فظهر الفرق.

وأما الوجه الثاني وهو أن يقال : مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه‌السلام؟ قلنا : عندنا البنية ليست شرطا لحصول الحياة والجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزى قابل للحياة والعقل ، فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهرا فردا فلم قلتم أن ظهر آدم لا يتسع لمجموعها ، إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا : الإنسان جوهر فرد وجزء لا يتجزى في البدن ، على ما هو مذهب

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بعض القدماء ، وأما إذا قلنا الإنسان هو النفس الناطقة وأنه جوهر غير متحيز ولا حال في متحيز فالسؤال زائل.

وأما الوجه الثالث وهو قوله : فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا ، فجوابنا أن نقول : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأيضا أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا : لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف ، فكذا هيهنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة من تميز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف ، وقيل : أيضا إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة.

وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين.

وأما المقام الثاني وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخذ الميثاق من الذر فهل يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية فنقول : الوجوه الثلاثة المذكورة أولا دافعة لذلك ، لأن قوله : أخذ ربك من بني آدم ، من ظهورهم ، ذريتهم ، فقد بينا أن المراد منه وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ، وأيضا لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم يقال من ظهره ، ذريته ، ولم يقل من ظهورهم ، ذريتهم ، أجاب الناصرون لذلك القول بأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه ، والطعن في تفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ممكن؟ فنقول : ظاهر الآية تدل على أنه تعالى أخرج ذرا من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان ، ومن ذلك الفلان فلان آخر ، فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض ، وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ، وليس في الآية أيضا ما يدل على بطلانه إلا أن الخبر قد دل عليه ، فثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر ، وعلى هذا التقدير فلا منافاة بين الأمرين ولا مدافعة فوجب

٥٣

باب

فطرة الخلق على التوحيد

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » (١) قال التوحيد.

______________________________________________________

المصير إليهما معا صونا للآية والخبر عن الطعن بقدر الإمكان ، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام ، انتهى.

ولنكتف بنقل ما نقلنا من غير تعرض لجرح وتعديل فإن من له بصيرة نافذة إذا أحاط بما نقلنا من الأخبار وكلام من تكلم في ذلك يتضح له طريق الوصول إلى ما هو الحق في ذلك بفضله تعالى.

باب فطرة الخلق على التوحيد

الحديث الأول : حسن.

« فِطْرَتَ اللهِ » إشارة إلى قوله سبحانه في سورة الروم : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً » قال البيضاوي أي فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه ، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه وبه « فِطْرَتَ اللهِ » خلقته ، نصب على الإغراء أو المصدر بما دل عليه ما بعدها « الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه ، أو لملة الإسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدي بهم إليها ، وقيل : العهد المأخوذ من آدم وذريته « لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغيره « ذلِكَ » إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة « وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » استقامته لعدم تدبرهم ، انتهى.

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال في النهاية : فيه : كل مولود يولد على الفطرة ، الفطر الابتداء والاختراع والفطرة منه الحالة كالجلسة والركبة ، والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيّئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها ، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد ، ثم تمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم ، والميل إلى أديانهم من مقتضى الفطرة السليمة ، وقيل :

معناه كل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به ، فلا تجد أحدا إلا وهو يقر بأن الله صانعه وإن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره ، ومنه حديث حذيفة : على غير فطرة محمد ، أراد دين الإسلام الذي هو منسوب إليه ، انتهى.

وقيل : الفطرة بالكسر مصدر للنوع من الإيجاد وهو إيجاد الإنسان على نوع مخصوص من الكمال وهو التوحيد ومعرفة الربوبية مأخوذا عليهم ميثاق العبودية والاستقامة على سنن العدل ، وقال بعض العامة : الفطرة ما سبق من سعادة أو شقاوة ، فمن علم الله سعادته ولد على فطرة الإسلام ، ومن علم شقاوته ولد على فطرة الكفر ، تعلق بقوله تعالى : « لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » وبحديث الغلام الذي قتله الخضر عليه‌السلام طبع يوم طبع كافرا فإنه يمنع من كون تولده على فطرة الإسلام ، وأجيب عن الأول بأن معنى لا تبديل : لا تغيير يعني لا يكون بعضهم على فطرة الكفر وبعضهم على فطرة الإسلام ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه فإن المراد بهذه الفطرة فطرة الإسلام.

وعن الثاني بأن المراد بالطبع حالة ثانية طرأت وهي التهيؤ للكفر عن الفطرة التي ولد عليها.

وقال بعضهم : المراد بالفطرة كونه خلقا قابلا للهداية ومتهيئا لها لما أوجد فيه من القوة القابلة لها ، لأن فطرة الإسلام وصوابها موضوع في العقول ، وإنما يدفع العقول عن إدراكها تغيير الأبوين أو غيرهما.

٥٥

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » ما تلك الفطرة قال هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » (١) وفيه المؤمن والكافر.

______________________________________________________

وأجيب عنه بأن حمل الفطرة على الإسلام لا يأباه العقل ، وظاهر الروايات من طريق الأمة يدل عليه ، وحملها على خلاف الظاهر لا وجه له من غير مستند قوي.

الحديث الثاني : صحيح.

وقال في المصباح المنير : فطر الله الخلق فطرأ من باب قتل خلقهم ، والاسم الفطرة بالكسر ، قال الله تعالى : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » وقوله عليه‌السلام : كل مولود يولد على الفطرة قيل : معناه الفطرة الإسلامية والدين الحق وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ، أي ينقلانه إلى دينهما وهذا التفسير مشكل إن حمل اللفظ على حقيقته فقط ، لأنه يلزم منه أن لا يتوارث المشركون مع أولادهم الصغار قبل أن يهودوهم وينصروهم واللازم منتف ، بل الوجه حمله على الحقيقة والمجاز معا ، أما حمله على مجازه فعلى ما قبل البلوغ ، وذلك أن إقامة الأبوين على دينهما سبب لجعل الولد تابعا لهما ، فلما كانت الإقامة سببا جعلت تهويدا وتنصيرا مجازا ، ثم أسند إلى الأبوين توبيخا وتقبيحا عليهما كأنه قال : أبواه بإقامتهما على الشرك يجعلانه مشركا ، ويفهم من هذا أنه لم أقام أحدهما على الشرك وأسلم الآخر لا يكون مشركا بل مسلما ، وقد جعل البيهقي هذا معنى الحديث فقال : فقد جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم الأولاد قبل أن يختاروا لأنفسهم حكم الآباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا ، وأما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجوه الكفر من الأولاد انتهى.

وقوله : على التوحيد متعلق بفطر وأخذ على التنازع.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٢.

٥٦

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن زرارة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » قال فطرهم جميعا على التوحيد.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل : « حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ » (١) قال الحنيفية من الفطرة التي فطر الله « النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » ، قال

______________________________________________________

الحديث الثالث : صحيح وقد مر شرحه.

الحديث الرابع : حسن.

قوله : حنفاء الله ، إشارة إلى قوله سبحانه في سورة الحج : « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ » أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما يجتنب الأنجاس وكل افتراء ، وعن الصادق عليه‌السلام الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء وقال الطبرسي (ره) : حنفاء لله ، أي مستقيمي الطريقة على ما أمر الله مائلين عن سائر الأديان « غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ » أي حجاجا مخلصين وهم مسلمون موحدون لا يشركون في تلبية الحج به أحدا ، وقال في النهاية فيه : خلقت عبادي حنفاء ، أي طاهري الأعضاء من المعاصي لا أنه خلقهم كلهم مسلمين لقوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » (٢) وقيل : أنه أراد خلقهم حنفاء مؤمنين لما أخذ عليهم الميثاق ألست بربكم قالوا بلى ، فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له ربا وإن أشرك به واختلفوا فيه ، والحنفاء جمع حنيف وهو المائل إلى الإسلام الثابت عليه ، والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم ، وأصل الحنف الميل ومنه الحديث : بعثت بالحنيفة السمحة السهلة ، انتهى.

« لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » أي بأن يكون كلهم أو بعضهم عند الخلق مشركين بل

__________________

(١) سورة الحجّ : ٣١.

(٢) سورة التغابن : ٢.

٥٧

فطرهم على المعرفة به قال زرارة وسألته عن قول الله عز وجل : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى » الآية قال أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربه وقال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه كذلك قوله « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (١).

______________________________________________________

كان كلهم مسلمين مقرين به أو قائلين للمعرفة وأراهم نفسه بالرؤية العقلية الشبيهة بالرؤية العينية في الظهور ليرسخ فيهم معرفته ، ويعرفوه في دار التكليف ، ولو لا تلك المعرفة الميثاقية لم يحصل لهم تلك القابلية وفسر عليه‌السلام الفطرة في الحديث بالمجبولية على معرفة الصانع والإذعان به « كذلك قوله »أي هذه الآية أيضا محمولة على هذا المعنى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ » أي كفار مكة كما ذكره المفسرون أو الأعم كما هو أظهر من الخبر « لَيَقُولُنَّ اللهُ » لفطرتهم على المعرفة.

وقال البيضاوي : لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه ، انتهى.

والمشهور أنه مبني على أن كفار قريش لم يكونوا ينكرون أن الصانع هو الله ، بل كانوا يعبدون الأصنام لزعمهم أنها شفعاء عند الله ، وظاهر الخبر أن كل كافر لو خلي وطبعه وترك العصبية ومتابعة الأهواء وتقليد الأسلاف والآباء لأقر بذلك ، كما ورد ذلك في الأخبار الكثيرة.

قال بعض المحققين : الدليل على ذلك ما نرى أن الناس يتوكلون بحسب الجبلة على الله ، ويتوجهون توجها غريزيا إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب ، وإن لم يتفطنوا لذلك ، ويشهد لهذا قول الله عز وجل : « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ

__________________

(١) سورة لقمان : ٢٥.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ » (١).

وفي تفسير مولانا العسكري عليه‌السلام أنه سئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن الله؟ فقال للسائل : يا أبا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال : بلى ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : بلى ، فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال : بلى ، قال الصادق عليه‌السلام فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي ، وعلى الإغاثة حين لا مغيث.

ولهذا جعلت الناس معذورين في تركهم اكتساب المعرفة بالله عز وجل ، متروكين على ما فطروا عليه ، مرضيا عنهم بمجرد الإقرار بالقول ، ولم يكلفوا الاستدلالات العلمية في ذلك ، وإنما التعمق لزيادة البصيرة ولطائفة مخصوصة ، وأما الاستدلال فللرد على أهل الضلال.

ثم أن أفهام الناس وعقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان وتحصيل الاطمئنان كما وكيفا ، شدة وضعفا ، سرعة وبطأ ، حالا وعلما ، وكشفا وعيانا ، وإن كان أصل المعرفة فطريا إما ضروري أو يهتدي إليه بأدنى تنبيه ، فلكل طريقة هداه الله عز وجل إليها إن كان من أهل الهداية ، والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، وهم درجات عند الله ، يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات.

قال بعض المنسوبين إلى العلم : اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله عز وجل ، فكان هذا يقتضي أن يكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول ونرى الأمر بالضد من ذلك ، فلا بد من بيان السبب فيه ، وإنما قلنا : إن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى لمعنى لا نفهمه إلا بمثال هو أنا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط مثلا كان كونه حيا من أظهر الموجودات فحياته وعلمه وقدرته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة ، إذ صفاته الباطنة

__________________

(١) سورة الأنعام : ٤١.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه وكل ذلك لا نعرفه ، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته ، أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيوانا فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته ، فإن هذه الصفات لا تحس بشيء من الحواس الخمس ، ثم لا يمكن أن يعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته ، فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفاته ، فما عليه إلا دليل واحد وهو مع ذلك جلي واضح.

ووجود الله وعلمه وقدرته وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبر وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض ، بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأصنافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا ، وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس ، ثم مدركاتنا وسكناتنا بالبصيرة والعقل وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد ، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته ، والموجودات المدركة لا حصر لها.

فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس يشهد له إلا شاهد واحد وهو ما أحسنا من حركة يده ، فكيف لا يظهر عندنا من لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله ، إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وإنما يحتاج إلى موجد ومحرك لها ، يشهد بذلك أولا تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ونبات شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة ، فإنا نعلم أنها لم تأتلف بنفسها ، كما نعلم أن يد الكاتب لم يتحرك بنفسها ، ولكن لما لم يبق في الوجود

٦٠