مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

باب

السبق إلى الإيمان

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد قال حدثنا أبو عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له إن للإيمان درجات ومنازل يتفاضل المؤمنون فيها عند الله قال نعم قلت صفه لي رحمك الله حتى أفهمه قال إن الله سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان ثم فضلهم

______________________________________________________

القلبي ، وحصلت مرتبة أعلى تقتضي عملا أكثر ، وهكذا وسيأتي مزيد تأييد لذلك في الأخبار إنشاء الله تعالى.

باب السبق إلى الإيمان

الحديث الأول : ضعيف ، وتتمة من الحديث الكبير المذكور في الباب السابق.

« درجات » أي ذو درجات أو نفسه باعتبار إضافة الدرجات وقيل : الدرجات مراتب الترقيات ، والمنازل مراتب التنزلات ، ويحتمل أن يكون المقصود منهما واحدا أطلق عليهما اللفظان باعتبارين « إن الله سبق » على بناء التفعيل المعلوم ، ويسبق على بناء التفعيل المجهول ، أي قرر السبق وقدره بينهم في الإيمان ، وندبهم إليه كما يسابق بين الخيل يوم الرهان ، والخيل جماعة الأفراس لا واحد له ، وقيل : واحده خائل لأنه يختال وجمعه أخيال وخيول ، ويطلق الخيل علي الفرسان ، أيضا والمراهنة والرهان بالكسر المسابقة على الخيل ، وكأنه عليه‌السلام سبه مدة الحياة بالمضمار والأرواح بالفرسان ، والأبدان بالخيول ، والعلم الذي يسبق إليه منتهى مراتب الإيمان ، والسبق الذي يراهن عليه الجنة ، فمنهم من سبق الكل وبلغ الغاية وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهم من تأخر عن الكل ، ومنهم من

٢٦١

على درجاتهم في السبق إليه فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه لا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقا ـ ولا مفضول فاضلا تفاضل بذلك أوائل هذه الأمة وأواخرها ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الأمة أولها نعم ولتقدموهم إذا لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على من أبطأ عنه

______________________________________________________

بقي في وسط الميدان ومنازلهم بحسب العقائد والأعمال كما وكيفا لا يتناهى.

قوله عليه‌السلام : فجعل كل امرئ منهم ، أي أعطاه ما يستحقه من الكرامة والأجر والذكر الجميل ، قيل في الاقتصار بنفي النقص دون الزيادة إيماء إلى جوازها من باب التفضل وإن لم يستحق.

« ولا يتقدم » أي في الفضل والثواب « مسبوق » في الإيمان « سابقا » فيه ولا مفضول في الكمالات والأعمال الصالحة سابقا فيهما « تفاضل » استئناف بياني « بذلك » أي بالسبق « أوائل هذه الأمة » أي من تقدم إيمانه من الصحابة « أواخرها » منهم أو الأعم من الصحابة وغيرهم أو الصحابة على التابعين ، والتابعين على غيرهم ، وظاهره السبق الزماني إشعارا بأن الغاصبين للخلافة وإن فرض منهم تحقق إسلام وعمل صالح فلا يجوز تقديمهم على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد كان أولهم إيمانا وأسبقهم مع قطع النظر عن سائر الكمالات والفضائل التي استحق بها التقديم.

ويحتمل أن يكون المراد أعم من السبق الزماني والسبق بحسب الرتبة وكمال اليقين ، فالأكثرية بحسب الكمية لا الكيفية فإنها تابعة للكمالات النفسانية والحقائق الإيمانية التي هي من الأعمال القلبية لكنه بعيد عن السياق ، وقوله : نعم تأكيد لقوله : للحق ، وقوله ولتقدموهم عطف على قوله : نعم ، أو على قوله : للحق ، وقوله : إذا لم يكن إعادة للشرط السابق تأكيدا.

أو المعنى أنه لو لم يكن للسبق الزماني مدخل في الفضل ، للزم أن يجوز لحوق المتأخرين السابقين أو تقدمهم عليهم مع عدم تحقق فضل في أصل الإيمان وشرائطه

٢٦٢

ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالإبطاء عن الإيمان أخر الله المقصرين لأنا نجد من المؤمنين من الآخرين من هو أكثر عملا من الأولين وأكثرهم صلاة وصوما وحجا وزكاة وجهادا وإنفاقا ولو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون بعضهم

______________________________________________________

ومكملاته للسابقين على اللاحقين ، فاللحوق في صورة المساواة ، والتقدم في صورة زيادة إيمان اللاحقين على إيمان السابقين ، والحال أنه ليس كذلك فإن لهم بالتقدم الزماني فضلا عليهم ، فالمراد بالفضل ما هو غير السبق الزماني ، وقوله : ولكن إضراب عن قوله : نعم ولتقدموهم « إلخ ».

أو المراد بالدرجات ما هو باعتبار السبق الزماني من الأولين أو من بعضهم مقدمين على الأولين أي مطلقا ، لكن ليس كذلك بل ربما كان بعض الأولين باعتبار السبق أفضل من كثير من الآخرين وإن كانوا أقل منهم عملا باعتبار تقدمهم وسبقهم وصعوبة الإيمان في ذلك الزمان ، وبسبب أن لهم مدخلا عظيما في أيمان الآخرين.

والحاصل أن المسابقة تكون بحسب الرتبة والزمان ، فمن اجتمعا فيه كأمير المؤمنين صلوات الله عليه فهو الكامل حق الكمال ، والسابق على كل حال ، ومن انتفى عنه الأمران فهو الناقص المستحق للخذلان والوبال ، وأما إذا تعارض الأمران فظاهر الخبر أن السابق زمانا أفضل وأعلى درجة من الآخر ، وقال بعض المحققين : الغرض من هذا الحديث أن يبين أن تفاضل درجات الإيمان بقدر السبق والمبادرة إلى إجابة الدعوة إلى الإيمان.

وهذا يحتمل عدة معان : أحدها : أن يكون المراد بالسبق السبق في الذر وعند الميثاق كما مر أنه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأي شيء سبقت ولد آدم؟ قال : إنني أول من أقر بربي إن الله أخذ ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فكنت أول من أجاب ، وعلى هذا يكون المراد بأوائل هذه الأمة وأواخرها أوائلها وأواخرها في الإقرار والإجابة هناك فالفضل للمتقدم في قوله بلى ، والمبادرة إلى

٢٦٣

بعضا عند الله لكان الآخرون بكثرة العمل مقدمين على الأولين ولكن أبى الله عز وجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها

______________________________________________________

ذلك ، ثم المتقدم والمبادرة.

والمعنى الثاني أن يكون المراد بالسبق السبق في الشرف والرتبة والعلم والحكمة وزيادة العقل والبصيرة في الدين ، ووفور سهام الإيمان الآتي ذكرها ، ولا سيما اليقين كما يستفاد من الأخبار الآتية ، وعلى هذا يكون المراد بأوائل هذه الأمة وأواخرها أوائلها وأواخرها في مراتب الشرف والعقل والعلم ، فالفضل للأعقل والأعلم والأجمع للكمالات ، وهذا المعنى يرجع إلى المعنى الأول لتلازمهما ووحدة ما لهما واتحاد محصلهما ، والوجه في أن الفضل للسابق على هذين المعنيين ظاهر لا مرية فيه ، ومما يدل على إرادة هذين المعنيين الذين مرجعهما إلى واحد ، قوله عليه‌السلام : ولو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون إلى قوله : من قدم الله ، ولا سيما قوله : أبي الله أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها.

ومن تأمل في تتمة الحديث أيضا حق التأمل يظهر له أنه المراد إنشاء الله تعالى.

والمعنى الثالث أن يكون المراد بالسبق الزماني في الدنيا عند دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياهم إلى الإيمان ، وعلى هذا يكون المراد بأوائل هذه الأمة وأواخرها في الإجابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبول الإسلام والتسليم بالقلب والانقياد للتكاليف الشرعية طوعا ، ويعرف الحكم في سائر الأزمنة بالمقايسة.

وسبب فضل السابق على هذا المعنى أن السبق في الإجابة للحق دليل على زيادة البصيرة والعقل والشرف التي هي الفضيلة والكمال.

والمعنى الرابع أن يراد بالسبق السبق الزماني عند بلوغ الدعوة فيعم الأزمنة المتأخرة عن زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا المعنى يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد بالأوائل والأواخر ما ذكرناه أخيرا ، وكذا السبب في الفضل ، والآخر : أن يكون المراد بالأوائل من

٢٦٤

من قدم الله قلت أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان فقال قول الله عز وجل : « سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ » (١) وقال « السَّابِقُونَ

______________________________________________________

كان زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالأواخر من كان بعد ذلك ، ويكون سبب فضل الأوائل صعوبة قبول الإسلام وترك ما نشأوا عليه في تلك الزمن ، وسهولته فيما بعد استقرار الأمر وظهور الإسلام وانتشاره في البلاد ، مع أن الأوائل سبب لاهتداء الأواخر إذ بهم وبنصرتهم استقر ما استقر وقوي ما قوي وبأن ما استبان والله المستعان ، انتهى.

قوله : أخبرني عما ندب الله ، لما دل كلامه عليه‌السلام سابقا على أنه تعالى طلب منهم الاستباق إلى الإيمان سأله الراوي عن الآيات الدالة عليه. « سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ » كذا في سورة الحديد ، وفي سورة آل عمران : « وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » (٢) وكان مقتضى الجمع بين الآيتين أن المراد بالمسارعة المسابقة ، أي سارعوا مسابقين إلى سبب مغفرة من ربكم من الإيمان والأعمال الصالحة « وَجَنَّةٍ » أي إلى جنة « عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » وفي آل عمران « عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ».

قال المحقق الأردبيلي قدس‌سره : كنى بالعرض عن مطلق المقدار وهو متعارف ، ونقل على ذلك الإشعار في مجمع البيان ، أو لأنه لما علم أن عرضه الذي هو أقل من الطول عرفا في غير المساوي علم أن طوله أيضا يكون إما أكثر أو مثله.

وقال القاضي : ذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريق التمثيل لأنه دون الطول ، وعن ابن عباس كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض ، وظاهر الآية وجوب المسارعة أو رجحانها إلى الطاعة الموجبة للدخول في الجنة وأعظمها الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والترقي إلى مقاماتها العالية.

« أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ » ظاهر هذه الآية وغيرها من الآيات

__________________

(١) سورة الحديد : ٢١.

(٢) الآية : ١٣٣.

٢٦٥

السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ » (١) وقال « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ

______________________________________________________

والروايات أن الجنة مخلوقة الآن وكذا النار وقال به الأصحاب ، وصرح به الشيخ المفيد في بعض رسائله وقال : إن الجنة مخلوقة مسكونة سكنتها الملائكة وظاهر الآية أنها في السماء ، والظاهر أن المراد به أنه يكون بعضها في المساء ويكون البعض الآخر فوقها ، أو يكون أبوابها فيها أو فوق الكل ، وما ذكره الحكماء غير مسموع شرعا وهو ظاهر كما قيل أن النار تحت الأرض فتكون الآية دليلا على بطلان ما قالوه ، انتهى.

وقال البيضاوي : فيه دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها خارجة عن هذا العالم ، وذهب جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقتين وأنهما تخلقان يوم القيامة.

« وقال » : أي في الواقعة « وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ » قال البيضاوي : أي الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، أو سبقوا إلى حيازة الفضائل والكمالات أو الأنبياء فإنهم مقدموا أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم وعرفت ما لهم كقول أبي النجم : « وشعري شعري » أو الذين سبقوا إلى الجنة.

« أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ » « فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ » أي الذين قربت درجاتهم في الجنة وأعليت مراتبهم.

« وقال » أي في التوبة « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ » في المجمع أي السابقون إلى الإيمان وإلى الطاعات ، وإنما مدحهم بالسبق لأن السابق إلى الشيء يتبعه غيره فيكون متبوعا وغيره تابع له ، فهو إمام فيه وداع له إلى الخير بسبقه إليه ، وكذلك من سبق إلى الشر يكون أسوأ حالا لهذه العلة « مِنَ الْمُهاجِرِينَ » الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ، وإلى الحبشة « وَالْأَنْصارِ » أي ومن الأنصار الذين سبقوا

__________________

(١) سورة الواقعة : ١٠.

٢٦٦

وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ » (١) فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به أولياءه بعضهم على بعض فقال عز وجل : « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ

______________________________________________________

نظراءهم من أهل المدينة إلى الإسلام ، وقرأ يعقوب والأنصار بالرفع فلم يجعلهم من السابقين ، وجعل السبق للمهاجرين خاصة « وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ » أي بأفعال الخير والدخول في الإسلام بعدهم وسلوك منهاجهم ، ويدخل في ذلك من بعدهم إلى يوم القيامة « رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » قال : وفي هذه الآية دلالة على فضل السابقين ومزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين ، فمنها مفارقة العشائر والأقربين ومنها مباينة المألوف من الدين ومنها نصرة الإسلام مع قلة العدد وكثرة العدو ، ومنها السبق إلى الإيمان والدعاء إليه ، انتهى.

وقال بعضهم : السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا وأسلموا قبل الهجرة ، ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين ، وقال بعض المخالفين : كلمة « من » للتبيين فيتناول المدح جميع الصحابة.

قوله عليه‌السلام : « ثم ذكر » كلمة ثم للتراخي بحسب المرتبة ، إذ سورة البقرة نزلت قبل سورتي التوبة والحديد « فقال الله عز وجل » أي في سورة البقرة « تِلْكَ الرُّسُلُ » قيل : إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة أو المعلومة للرسول أو جماعة الرسل واللام للاستغراق.

« فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ » بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره « مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ » تفصيل له وهو موسى ، وقيل موسى ومحمد صلى الله عليهما وآله ، كلم موسى ليلة

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٠.

٢٦٧

وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فوق بعض دَرَجاتٍ » إلى آخر الآية (١) وقال « وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ

______________________________________________________

الحيرة وفي الطور ، ومحمدا ليلة المعراج ، حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد ، وفي المصاحف : ورفع بعضهم درجات ، وليس فيهما فوق بعض ، فالزيادة إما من الرواة أو النساخ أو منه عليه‌السلام زاده للبيان والتفسير ، وهذه الزيادة مذكورة في سورة الزخرف حيث قال : « نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ » (٢) فيحتمل أن يكون الزيادة للإشارة إلى الآيتين ، قيل : ورفع بعضهم درجات بأن فضله على غيره من وجوه متعددة وبمراتب متباعدة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه خص بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة والآيات المترتبة المتعاقبة بتعاقب الدهر والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف ، المستغني عن التعيين ، وقيل : إبراهيم خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب ، وقيل : إدريس لقوله تعالى : « وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا » وقيل : أولوا العزم من الرسل ، وبعد ذلك « وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ».

« وقال » أي في سورة الأسرى : « وَلَقَدْ فَضَّلْنا » إلخ.

قال البيضاوي : أي بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والأتباع حتى داود فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتي من الملك ، وقيل : هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله : « آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* » تنبيه على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.

« وقال » أي في الأسرى أيضا قيل : هو عطف على ثم ذكر ، لا على قوله : فقال ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٣.

(٢) سورة الزخرف : ٣٢.

٢٦٨

النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ » (١) وقال « انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً » (٢) وقال « هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ » (٣) وقال « وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ » (٤) وقال « الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ

______________________________________________________

لعدم اختصاص ما يذكر بعده بالأولياء بل هو في مطلق المؤمنين « كيف فضلنا » قيل : أي في الرزق ، وفي المجمع بأن جعلنا بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء وبعضهم عبيدا وبعضهم أصحاء وبعضهم مرضى على حسب ما علمناه من المصالح « وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ » أي درجاتها ومراتبها أعلى وأفضل ، فينبغي أن يكون رغبتهم فيها وسعيهم لها أكثر.

« وقال » أي في آل عمران « هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ » قيل : شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب ، أو هم ذوو درجات فقال : « وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ».

« وقال » أي في هود « وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ » أي في دينه « فَضْلَهُ » أي جزاء فضله في الدنيا والآخرة ، ويدل على عدم تفضيل المفضول.

« وقال » أي في التوبة « وَهاجَرُوا » أي إلى الرسول وفارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران ، وطلبوا مرضات الرحمن « وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ » بصرفها « وَأَنْفُسِهِمْ » ببذلها « أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ » أي أعلى رتبة وأكثر كرامة ، ممن لم يستجمع هذه الصفات أو من أهل السقاية والعمارة عندكم ، إذ قبلها « أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ».

« وقال » أي في سورة النساء ، وقبل الآية : « لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا

__________________

(١) سورة الإسراء : ٥٥.

(٢) سورة الإسراء : ٢١.

(٣) سورة آل عمران : ١٦٣.

(٤) سورة هود : ٣.

٢٦٩

دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ » (١) وقال « فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً » (٢) وقال « لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا » (٣) وقال : « يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » (٤) وقال « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ

______________________________________________________

وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً » قال البيضاوي : نصب على المصدر لأن فضل بمعنى آجر ، أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قال : وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة ، كل واحد منها بدل من أجرا ، ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك ضربته أسواطا وأجرا على الحال عنها ، تقدمت عليها لأنها نكرة « وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً » على المصدر بإضمار فعلهما ، وتتمة الآية « وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ».

« وقال » أي في سورة الحديد : « لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ » قال البيضاوي : بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين وتحري الحاجات حثا على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق ، وذكر القتال للاستطراد ، وقسم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه ، والفتح فتح مكة إذ أعز الإسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإنفاق.

« مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا » أي من بعد الفتح ، والتتمة « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ».

" وقال : أي في سورة المجادلة والآية هكذا : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ » والتفسح التوسع « وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا » أي أنهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو

__________________

(١) سورة التوبة : ٢٠.

(٢) سورة النساء : ٩٦.

(٣) سورة الحديد : ١٠.

(٤) سورة المجادلة : ١١.

٢٧٠

اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ » (١) وقال « وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ » (٢) وقال « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » (٣) فهذا ذكر درجات الإيمان

______________________________________________________

جهاد أو ارتفعوا في المجلس « يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ » بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة « وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » ويرفع العلماء منهم خاصة « دَرَجاتٍ » بما جمعوا من العلم ، وقد مر تفسيرهم بالأئمة عليهم‌السلام.

« وقال » أي في سورة التوبة حيث قال : « ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ » ذلك ، قيل : إشارة إلى ما دل عليه قوله : ما كان ، من النهي عن التخلف أو وجوب المتابعة لأنهم بسبب أنهم « لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ » أي شيء من العطش « وَلا نَصَبٌ » أي تعب « وَلا مَخْمَصَةٌ » أي مجاعة « فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ » أي لا يدرسون « مَوْطِئاً » أي مكانا « يَغِيظُ الْكُفَّارَ » أي يغضبهم وطيه « وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً » كالقتل والأسر والنهب « إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ » أي إلا استوجبوا الثواب وذلك مما يوجب المسابقة « إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ».

« وقال » أي في المزمل : « وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ » يمكن أن يكون عدم ذكر تتمة الكلام للاختصار ، فإن التتمة « هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً » أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت ، وخيرا ثاني مفعولي « تجدوه » وهو تأكيد أو فصل أو هو مبني على قراءة هو خير بالرفع كما قرأ في الشواذ ، فالكلام إلى قوله : عند الله ، تمام وقوله : هو ، مبتدأ وخير خبره وهي جملة أخرى مؤكدة للأولى.

« وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ » الذرة هي النملة الصغيرة ، أو الهباء المنبث في الجو

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٠.

(٢) سورة البقرة : ١١٠. والمزّمّل : ٢٠.

(٣) سورة الزلزلة : ٧ ـ ٨.

٢٧١

ومنازله عند الله عز وجل.

باب

درجات الإيمان

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن الحسن بن محبوب ، عن عمار بن أبي الأحوص ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله عز وجل وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم ثم قسم ذلك بين

______________________________________________________

وبالجملة هذه الآيات كلها تدل على اختلاف مراتب المؤمنين في الثواب والدرجات عند الله تعالى والمنازل في الجنة كما لا يخفى.

باب درجات الإيمان

الحديث الأول : مجهول بمعاد والبر الإحسان إلى نفسه وإلى غيره ويطلق غالبا على الإحسان بالوالدين والأقربين والإخوان من المؤمنين كما ورد من خالص الإيمان البر بالإخوان.

والصدق هو القول المطابق للواقع ويطلق أيضا على مطابقة العمل للقول والاعتقاد ، وعلى فعل القلب والجوارح المطابقين للقوانين الشرعية والموازين العقلية ومنه الصديق وهو من حصل له ملكة الصدق في جميع هذه الأمور ، ولا يصدر منه خلاف المطلوب عقلا ونقلا كما صرح به المحقق الطوسي (ره) في أوصاف الأشراف.

واليقين الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، وفي عرف الأخبار هو مرتبة من اليقين يصير سببا لظهور آثاره علي الجوارح ويطلق غالبا على ما يتعلق بأمور الآخرة ، وبالقضاء والقدر كما ستعرف ، وله مراتب أشير إليها في القرآن العزيز وهي علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين كما قال تعالى : « لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ » (١) وقال سبحانه : « وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ » (٢).

__________________

(١) سورة التكاثر : ٥ ـ ٧.

(٢) سورة الواقعة : ٩٥.

٢٧٢

الناس ، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل ، محتمل ؛ وقسّم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتّى انتهوا إلى [ الـ ] سبعة ، ثمّ قال : لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم ثمّ قال :

______________________________________________________

وقالوا : الأول مرتبة أرباب الاستدلال كمن لم ير النار واستدل بالدخان ، والثاني مرتبة أصحاب المشاهدة والعيان كمن رأى النار بعينها بعينه ، والثالث مرتبة أرباب اليقين كمن كان في وسط النار واتصف بصفاتها وإن لم يصر عينها كالحديدة المحماة في النار فإنك تظنها نارا وليست بنار ، وهذا هي التي زلت فيها الأقدام وضلت العقول والأحلام وليس محل تحقيقها هذا المقام.

والرضا هو اطمئنان النفس بقضاء الله تعالى عند البلاء والرخاء وعدم الاعتراض عليه سبحانه قولا وفعلا في شيء من الأشياء.

والوفاء هو العمل بعهود الله تعالى من التكاليف الشرعية وما عاهد الله تعالى عليه وألزم على نفسه من الطاعات والوفاء ببيعة النبي والأئمة صلوات الله عليهم ، والوفاء بعهود الخلق ما لم تكن في معصية ، والعلم هو معرفة الله ورسوله وحججه وما أمر به ونهى عنه ، وعلم الشرائع والأحكام والحلال والحرام ، والأخلاق ومقدماتها.

والحلم هو ملكة حاصلة للنفس مانعة لها عن المبادرة إلى الانتقام وطلب التسلط والترفع والغلبة.

« فهو كامل » أي في الإيمان محتمل لشرائطه وأركانه ، قابل لها كما ينبغي « ولا تحملوا على صاحب السهم سهمين » أي لما كانت القابليات والاستعدادات متفاوتة ولم يكلف الله كل امرئ إلا على قدر قابليته فلا تحملوا في العلوم والأعمال والأخلاق على كل امرئ إلا بحسب طاقته ووسعه كما مر : إنما يداق الله العباد في الحساب على قدر ما أتاهم من العقول في الدنيا.

نعم للأعلى أن ينقل الأدنى إلى درجته بالتعليم والتدريج والرفق حتى يصل إلى درجته إن كان قابلا لذلك كما سيأتي إن شاء الله ، وعلى الأدنى أن يسعى ويتضرع

٢٧٣

كذلك حتى ينتهي إلى السبعة.

٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم ، عن أبي اليقظان ، عن يعقوب بن الضحاك ، عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادما لأبي عبد الله عليه‌السلام قال بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه قال فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين قال وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا فجئت وأنا بحال فرميت بنفسي فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله عليه‌السلام قد أقبل قال فقال قد

______________________________________________________

إلى الله تعالى لأن يوفقه للصعود إلى درجة العليا « فتبهضوهم » في بعض النسخ بالضاد وفي بعضها بالظاء وهما معجمتان متقاربان معنى ، قال في القاموس : بهضني الأمر كمنع وأبهضني أي فدحني وبالظاء أكثر ، وقال : بهظه الأمر كمنع غلبه وثقل عليه وبلغ به مشقة ، والراحلة أوقرها فأتعبها.

الحديث الثاني : مجهول.

والحيرة بالكسر بلد كان قرب الكوفة ، وأنا تأكيد للضمير المنصوب في بعثني ، وتأكيد المنصوب والمجرور بالمرفوع جائز و « جماعة » عطف على الضمير أو الواو بمعنى مع « معتمين » الظاهر أنه بالعين المهملة على بناء الأفعال أو التفعيل ، في القاموس : العتمة ـ محركة ـ ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة ، واعتم وعتم سار فيها أو أورد وأصدر فيها ، وظلمة الليل ورجوع الإبل من المرعى بعد ما تمسى ، انتهى.

أي رجعنا داخلين في وقت العتمة ، وفي أكثر النسخ بالغين المعجمة من الغم وكأنه تصحيف (١) ، وربما يقرأ مغتنمين من الغنيمة وهو تحريف ، والحائر المكان المطمئن

__________________

(١) الظاهر أنّ ذهابه (ع) من المدينة إلى الحيرة كان بأمر الخليفة أعني المنصور وهو عليه اللعنة يحتال في قتله (ع) وكانت مواليه مغتمين لذلك ، ويترصدون حاله ومآل أمره مع المنصور وينتظرون رجوعه ، وقوله « أنا بحال » أي بحال سوء من الغمّ كما فسّره في الوافي ، وعليه فما في أكثر النسخ هو الأصحّ.

٢٧٤

أتيناك أو قال جئناك فاستويت جالسا وجلس على صدر فراشي فسألني عما بعثني له فأخبرته فحمد الله ثم جرى ذكر قوم فقلت جعلت فداك إنا نبرأ منهم إنهم لا يقولون ما نقول قال فقال يتولونا ولا يقولون ما تقولون تبرءون منهم قال قلت نعم قال فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم قال قلت لا جعلت فداك قال وهو ذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه اطرحنا قال قلت لا والله جعلت فداك ما نفعل قال فتولوهم ولا تبرءوا منهم إن من المسلمين من له سهم ومنهم من له سهمان ومنهم من له ثلاثة أسهم ومنهم من له أربعة أسهم ومنهم من له خمسة أسهم ومنهم من له ستة أسهم ومنهم من له سبعة أسهم فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة وسأضرب لك مثلا إن رجلا كان له جار

______________________________________________________

والبستان « وأنا بحال » أي بحال سوء من الضعف والكلام « أنهم لا يقولون ما نقول » أي من مراتب فضائل الأئمة عليهم‌السلام وكمالاتهم ومراتب معرفة الله ودقائق مسائل القضاء والقدر وأمثال ذلك مما تختلف تكاليف العباد فيها بحسب إفهامهم واستعداداتهم لا في أصل المسائل الأصولية ، أو المراد اختلافهم في المسائل الفروعية والأول أظهر ، وأما حمله على أدعية الصلاة وغيرها من المستحبات كما قيل فهو في غاية البعد وإن كان يوافقه التمثيل المذكور في آخر الخبر « يتولونا ولا يقولون » إلخ ، استفهام على الإنكار.

« فهو ذا عندنا » أي من المعارف والعلوم والأخلاق والأعمال « ما ليس عندكم فينبغي لنا » على الاستفهام « أطرحنا » أي عن الإيمان والثواب أو عن درجة الاعتبار.

قوله : ما نفعل؟ لما فهم من كلامه عليه‌السلام نفي التبري تردد في أنه هل يلزمه التولي أو عدم ارتكاب شيء من الأمرين فإن نفي أحدهما لا يستلزم ثبوت الآخر « أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين » أي يقاس حاله بحاله ويتوقع

٢٧٥

وكان نصرانيا فدعاه إلى الإسلام وزينه له فأجابه فأتاه سحيرا فقرع عليه الباب فقال له من هذا قال أنا فلان قال وما حاجتك فقال توضأ والبس ثوبيك ومر بنا إلى الصلاة قال فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه قال فصليا ما شاء الله ثم صليا الفجر ثم مكثا حتى أصبحا ـ فقام الذي كان نصرانيا يريد منزله فقال له الرجل أين تذهب النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل قال فجلس معه إلى أن صلى الظهر ثم قال وما بين الظهر والعصر قليل فاحتبسه حتى صلى العصر قال ثم قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له إن هذا آخر النهار وأقل من أوله فاحتبسه حتى صلى المغرب ثم أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له إنما بقيت صلاة واحدة قال فمكث حتى صلى العشاء الآخرة ثم تفرقا فلما كان سحير غدا عليه فضرب عليه الباب فقال من هذا قال أنا فلان قال وما حاجتك قال توضأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصل قال اطلب لهذا الدين من هو أفرغ مني وأنا إنسان مسكين وعلي عيال فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أدخله في شيء أخرجه منه أو قال أدخله من مثل ذه وأخرجه من مثل هذا

______________________________________________________

منه ما يتوقع من الثاني من الفهم والمعرفة والعمل « وزينه له » أي حسن الإسلام في نظره « فأتاه سحيرا » هو تصغير السحر وهو سدس آخر الليل أو ساعة آخر الليل وقيل : قبيل الصبح ، والتصغير لبيان أنه كان قريبا من الصبح أو بعيدا منه « ومر بنا » أي معنا « وخرج معه » أي إلى المسجد « ما شاء الله » أي كثيرا « حتى أصبحا » أي دخلا في الصباح ، والمراد الإسفار وانتشار ضوء النهار وظهور الحمرة في الأفق.

قال في المفردات : الصبح والصباح أول النهار وهو وقت ما أحمر الأفق بحاجب الشمس.

قوله : وأقل من أوله ، أي مما انتظرت بعد الفجر لصلاة الظهر « أدخله في شيء » أي من الإسلام صار سببا لخروجه من الإسلام رأسا أو المراد بالشيء الكفر أي أدخله بجهله في الكفر الذي أخرجه منه « أو قال أدخله في مثل هذا » أي العمل الشديد « وأخرجه من مثل هذا » أي هذا الدين القويم.

٢٧٦

باب آخر منه

١ ـ أحمد بن محمد ، عن الحسن بن موسى ، عن أحمد بن عمر ، عن يحيى بن أبان ، عن شهاب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحد أحدا ـ فقلت أصلحك الله فكيف ذاك فقال إن الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءا ثم جعل الأجزاء

______________________________________________________

باب آخر منه

أي هذا باب آخر يمكن عده من الباب الأول وإنما جعله بابا آخر لأن الباب الأول كان مبنيا على قسمة الإيمان بسبعة أسهم ، وأخبار هذا الباب مبنية على أكثر أو أقل أو عبر في أخبار الباب السابق بالسهام ، وفي أخبار هذا الباب بالأجزاء والدرجات والمنازل ، وعلى التقديرين لا تنافي بينهما لأنه لما كان تعدد درجات الإيمان ومنازله متفاوتة تارة بحسب الأخلاق الحسنة كثرة وقلة وشدة وضعفا ، وتارة بحسب الاعتقادات الحقة قوة وضعفا كلا وبعضا ، وتارة بحسب الأعمال الصالحة كثرة وقلة ، خالصة ومشوبة ، ولا يدخل شيء من ذلك تحت الحصر والعد يمكن اعتبار تقسيمها بوجوه مختلفة ، بإدخال بعضها تحت بعض وعدمه ، وقسمتها إلى الأجناس وإلى الأنواع وإلى الأصناف.

الحديث الأول : مجهول.

« لم يلم أحد أحدا » أي في عدم فهم الدقائق والقصور عن بعض المعارف أو في عدم اكتساب الفضائل والأخلاق الحسنة ، وترك الإتيان بالنوافل والمستحبات وإلا فكيف يستقيم عدم الملامة علي ترك الفرائض والواجبات وفعل الكبائر والمحرمات وقد مر أن الله تعالى لا يكلف الناس إلا بقدر وسعهم وليسوا بمجبورين في فعل المعاصي ولا في ترك الواجبات لكن يمكن أن لا يكون في وسع بعضهم معرفة دقائق الأمور

٢٧٧

أعشارا فجعل الجزء عشرة أعشار ثم قسمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشري جزء حتى بلغ به جزءا تاما وفي آخر جزءا وعشر جزء وآخر جزءا وعشري جزء وآخر جزءا وثلاثة أعشار جزء حتى بلغ به جزءين تامين ثم بحساب ذلك حتى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءا فمن لم يجعل فيه إلا عشر جزء ـ لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار وكذلك من تم له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزءين ولو علم الناس أن الله عز وجل خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن بعض أصحابه ، عن الحسن بن علي

______________________________________________________

وغوامض الأسرار فلم يكلفوا بها ، وكذا عن تحصيل بعض مراتب الإخلاص واليقين وغيرها من المكارم ، فليسوا بملومين بتركها ، فالتكاليف بالنسبة إلى العباد مختلفة بحسب اختلاف قابلياتهم واستعداداتهم ، ولا يستحق من لم يكن قابلا لمرتبة من المراتب المذكورة أن يلام لم لا تفهم هذا المعنى ولم تفعل الصلاة كما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يفعله مثلا ، وهكذا قوله عليه‌السلام : بلغ بها ، كأنه جعل كل جزء من السهام السبعة المتقدمة سبعة.

قوله عليه‌السلام : فجعل الجزء عشرة أعشار ، كان هذا للتأكيد والتوضيح ، ورفع توهم أن المراد جعل كل جزء عشرا من مرتبة فوقه ، فيصير المجموع أربعمائة وتسعين عشرا « حتى بلغ به » الباء للتعدية والضمير راجع إلى الإيمان ، أو إلى الرجل المطلق المفهوم من رجل لا إلى الرجل المذكور ولا إلى آخر لاختلال المعنى وهذا أظهر لقوله : حتى بلغ بأرفعهم إلا عشر جزء ، أي من القابلية أو قابلية عشر جزء من الإيمان وهكذا في البواقي.

الحديث الثاني : ضعيف.

والقراطيسي بايع القراطيس « عشر درجات » كأنه عليه‌السلام عد كل تسعة

٢٧٨

بن أبي عثمان ، عن محمد بن عثمان ، عن محمد بن حماد الخزاز ، عن عبد العزيز القراطيسي قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو

______________________________________________________

وأربعين جزءا من السابق درجة ، أو هذه الدرجات لبعض مراتب الإيمان لا لكلها ، وقيل : يجوز أن يراد بالإيمان هنا التصديق أو الكامل المركب منه ومن العمل « ليصعد » على بناء المجهول « ومنه » نائب مناب الفاعل ، وقيل « من » بمعنى في ، والضمير راجع إلى السلم ، والمرقاة بالفتح والكسر اسم مكان ، أو آلة وهي الدرجة ، وفي المصباح المرقي والمرتقى موضع الرقي ، والمرقاة مثله ، ويجوز فيها فتح الميم على أنه موضع الارتقاء ، ويجوز الكسر تشبيها باسم الآلة كالمطهرة ، وأنكر أبو عبيد الكسر ، انتهى.

« هو » منصوبة على الظرفية للمكان « لست على شيء » أي من الإيمان أو الكمال « فلا تسقط » أي من الإيمان أو من درجة الاعتبار « من هو دونك » أي أسفل منك بدرجة أو أكثر فارفعه إليك.

فإن قلت : كيف يرفعه إليه مع أنه لا يطيقه كما مر في الخبر السابق؟ قلت : يمكن أن تكون الدرجات المذكورة في الخبر السابق درجات القابليات والاستعدادات ولذا نسبها إلى أصل الخلق ، والدرجات المذكورة في هذا الخبر درجات الفعلية والتحقق فيمكن أن يكون رجلان في درجة واحدة من القابلية فسعى أحدهما وحصل ما كان قابلا له والآخر لم يسع ، وبقي في درجة أسفل منه فلو كلفه أن يفهم دفعة ما فهمه في أزمنة متطاولة يعسر الأمر عليه بل يصير سببا لضلالته وحيرته ، بل ينبغي أن يرفق به ويكلمه تدريجا حتى يبلغ إلى تلك الدرجة ، كما أن الكاتب الجيد الخط إذا كلف أميا لم يكتب قط أن يكتب مثله في يوم أو شهر أو سنة لكان تكليفا لما لا يطاق ، بل يجب أن يرقيه تدريجا حتى يصل إلى مرتبته ، وكذا في المراتب العقلية من

٢٧٩

فوقك وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ـ فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن ابن مسكان ، عن سدير قال قال لي أبو جعفر عليه‌السلام إن المؤمنين على منازل منهم على واحدة ومنهم على اثنتين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على ست ومنهم على سبع فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو وعلى صاحب الثلاث أربعا لم يقو وعلى صاحب

______________________________________________________

لم يحصل شيئا منها لا يمكن إفهامه دفعة جميع المسائل الغامضة ، ولو ألقيت إليه لتحير ، بل لم يطق فهمها وضل عن السبيل والمعلم الأديب الكامل يرقيه أولا من البديهيات إلى أوائل النظريات ومنها إلى أواسطها ، ومنها إلى غوامضها فلا ينكسر ولا يتحير.

ويمكن أن تحمل القدرة المذكورة في الخبر السابق على الوسع أي الإمكان بسهولة فلا ينافي المذكور في هذا الخبر ولكن الأول أظهر.

وربما يجاب بأنه لما لم يكن معلوما لصاحب الدرجة العليا عدم قابلية صاحب الدرجة السفلى بل ربما يظن أنه قابل للترقي فهو مأمور بهذا رجاء لتحقق مظنونه ولا يخفى ما فيه « فتكسره » أي تكسر إيمانه وتضله لأنه يرفع يده عما هو فيه ، ولا يصل إلى الدرجة الأخرى فيتحير في دينه أو يكلفه من الطاعات ما لا يطيقها فيسوء ظنه بما كان يعمله فيتركهما جميعا كما مر في الباب السابق.

« فعليه جبره » أي يجب عليه جبره وربما لا ينجبر ويلزمه إصلاح ما أفسد من إيمانه وربما لم ينصلح.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور والمراد بالمنازل الدرجات.

٢٨٠