مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا هو ، وشاهد ومعرف عظم ظهوره ، فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه.

فإذا ما يقصر عن فهمه عقولنا له سببان : أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه وذلك لا يخفى مثاله ، والآخر ما يتناهى وضوحه وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار لا لخفاء النهار واستتاره ولكن لشدة ظهوره ، فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرق ، فيكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببان لامتناع إبصاره فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج الظلام بالضوء وضعف ظهوره فكذلك عقولنا ضعيفة وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة ، وفي غاية الاستغراق والشمول حتى لا يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض فصار ظهوره سبب خفائه ، فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره ، ولا تتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور ، فإن الأشياء تستبان بأضدادها وما عم وجوده حتى لا ضد له عسر إدراكه ، فلو اختلف الأشياء فدل بعضها دون البعض أدركت التفرقة على قرب ، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر.

ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض فإنا نعلم أنه عرض من الإعراض يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس ، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها وهي السواد والبياض وغيرها ، فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد ، وفي الأبيض إلا البياض ، وأما الضوء فلا ندركه وحده لكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالتين ، فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء واتصفت بصفة فارقتها عند الغروب ، فعرفنا وجود النور بعدمه ، وما كنا نطلع عليه لو لا عدمه إلا بعسر شديد ، وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور.

هذا مع أن النور أظهر المحسوسات إذ به يدرك سائر المحسوسات ، فما هو

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره ، انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره لو لا طريان ضده ، فإذا الرب تعالى هو أظهر الأمور وبه ظهرت الأشياء كلها ، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدمت السماوات والأرض وبطل الملك والملكوت ، ولأدركت التفرقة بين الحالتين ، ولو كان بعض الأشياء موجودا به وبعضها موجودا بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة ، ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد ، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه ، فلا جرم أورث شدة الظهور خفاء.

فهذا هو السبب في قصور الأفهام ، وأما من قويت بصيرته ولم يضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله وأفعاله ، وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة ، وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ، ومن هذا حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث أنه سماء وأرض وحيوان وشجر ، بل ينظر فيه من حيث أنه صنع ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ، ورأى فيه الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث هي آثاره لا من حيث إنها حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف.

فكل العالم تصنيف الله تعالى فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله ، وعرفها من حيث إنها فعل الله ، وأحبها من حيث إنها فعل الله لم يكن ناظرا إلا في الله ، ولا عارفا إلا بالله ولا محبا إلا لله ، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ، بل من حيث هو عبد الله.

فهذا هو الذي يقال فيه أنه فني في التوحيد وأنه فنى من نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن ، فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام ، لاشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يغنيهم ، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى.

وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبي عند فقد العقل قليلا قليلا وهو مستغرق الهم بشهواته ، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته ألفها ، فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس.

ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا غريبا أو فعلا من أفعال الله خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا فقال : سبحان الله وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة وكلها شواهد قاطعة ولا يحس بشهادتها لطول الأنس بها ولو فرض أكمه بلغ عاقلا ثم انقشعت غشاوة عن عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة يخاف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة هذه العجائب على خالقها.

وهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات وهي التي سدت على الخلق سبيل الاستضائة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة ، والجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاضة فهذا سد الأمر ، فليتحقق ولذلك قيل :

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد

إلا على أكمه لا يعرف القمرا

لكن بطنت بما أظهرت محتجبا

وكيف يعرف من بالعرف استترا

أقول : وفي كلام سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين على جده وأبيه وأمه وأخيه وعليه وبنيه سلام الله ، ما يرشدك إلى هذا العيان ، بل يغنيك عن هذا البيان حيث قال في دعاء عرفة : كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا.

وقال أيضا : تعرفت لكل شيء ، فما جهلك شيء.

٦٣

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن ابن أبي جميلة ، عن محمد الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » قال فطرهم على التوحيد.

باب

كون المؤمن في صلب الكافر

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن علي بن ميسرة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن نطفة المؤمن لتكون في صلب المشرك فلا يصيبه من الشر شيء حتى إذا صار في رحم المشركة لم يصبها من الشر شيء حتى تضعه فإذا وضعته لم يصبه من الشر شيء حتى يجري عليه القلم.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن علي بن يقطين ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال قلت له إني قد أشفقت من دعوة أبي عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

وقال : تعرفت إلى في كل شيء فرأيتك ظاهرا في كل شيء فأنت الظاهر لكل شيء.

الحديث الخامس : ضعيف.

باب كون المؤمن في صلب الكافر

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« فلا يصيبه من الشر »و في بعض النسخ من الشرك ، أي يحفظه الله من أن يصيبه من شرك الأبوين أو شركهما شيء ، بحيث يضره واقعا والحكم عليه بالكفر والنجاسة بالتبعية قبل البلوغ نظرا إلى الظاهر لا ينافي إيمانه الواقعي في علم الله.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

وكان يقطين بن موسى من دعاة العباسية في ابتداء دولتهم وكان له اختصاص بهم ، قال الشيخ في الفهرست : علي بن يقطين ( ره) ثقة جليل القدر له منزلة عظيمة

٦٤

على يقطين وما ولد فقال يا أبا الحسن ليس حيث تذهب إنما المؤمن في صلب الكافر بمنزلة الحصاة في اللبنة يجيء المطر فيغسل اللبنة ولا يضر الحصاة شيئا.

______________________________________________________

عند أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، عظيم المكان في الطائفة ، وكان يقطين من وجوه الدعاة وطلبه مروان فهرب ، وابنه علي بن يقطين هذا ولد بالكوفة سنة أربع وعشرين ومائة وهربت أم علي به وبأخيه عبيد بن يقطين إلى المدينة ، فلما ظهرت الدولة الهاشمية ظهر يقطين وعادت أم علي بعلي وعبيد فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس وأبي جعفر المنصور ، ومع ذلك كان يتشيع ويقول بالإمامة ، وكذلك ولده يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد عليه‌السلام ونمى خبره إلى المنصور والمهدي فصرف الله عنه كيدهما ، انتهى.

وأقول : هذا الخبر وما تقدم في باب كراهية التوقيت يدلان على أن يقطين لم يكن مشكورا وكان منحرفا عن هذه الناحية ، وهذا الخبر يدل على أن الصادق عليه‌السلام كان دعا على يقطين وولده ولعنهم وكان علي مشفقا خائفا من أن يصيبه أثر تلك الدعوة واللعنة ، فأجاب عليه‌السلام بأن اللعنة وسائر الشرار لا تصيب المؤمن الذي في صلب الكافر ، وشبه ذلك بالحصاة في اللبنة ، فإنه لا يضر الحصاة ما تقع على اللبنة من المطر وغيره ، فعلى هذا شبه عليه‌السلام اللعنة بالمطر لأن المطر يفتت اللبنة ويفرقها ويبطلها ، فكذا اللعنة تبطل من تصيبه وتفتته وتفرقه.

ويحتمل أن يكون شبه عليه‌السلام الرحمة والألطاف التي تشمل من الله تعالى المؤمن بالمطر ، ويكون الغرض أن ألطافه سبحانه ورحماته التي تحفظ طينة المؤمن تغسله وتظهره من لوث الكفر وما يلزمه وما يتبعه من اللعنات والعقوبات كما يغسل المطر لوث الطين من الحصاة ولعله أظهر.

وحاصل الكلام على الوجهين أن دعاؤه عليه‌السلام كان مشروطا بعدم إيمانهم ولم يكن مطلقا ، وكان غرضه عليه‌السلام اللعن على من يشبهه من أولاده.

قوله عليه‌السلام شيئا ، أي من الضرر ، وفي بعض النسخ شيء أي من الآفات واللعنات والشرور.

٦٥

باب

إذا أراد الله عز وجل أن يخلق المؤمن

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن إبراهيم بن مسلم الحلواني ، عن أبي إسماعيل الصيقل الرازي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن في الجنة لشجرة تسمى المزن فإذا أراد الله أن يخلق مؤمنا أقطر منها قطرة فلا تصيب

______________________________________________________

باب إذا أراد الله أن يخلق المؤمن

الحديث الأول : مجهول.

وفي المصباح حلوان بالضم بلد مشهور من سواد العراق وهي آخر مدن العراق وبينها وبين بغداد نحو خمس مراحل ، قيل : سميت باسم بانيها وهو حلوان بن عمران ابن الحارث بن قضاعة ، وفي القاموس : المزن بالضم السحاب أو أبيضه أو ذو الماء ، انتهى.

وكان التسمية هنا على التشبيه ، قيل : هذا الحديث كما يناسب ما قيل من أن المراد بالطينة الأصول الممتزجات المنقلة في أطوار الخلقة كالنطفة وما قبلها من موادها مثل النبات والغذاء وما بعدها من العلقة والمضغة والمزاج الإنساني القابل للنفس الناطقة المدبرة ، كذلك يناسب ما ذكر من أن المراد بالطينة طينة الجنة لأن طينة الجنة اختمارها وتربيتها بهذه القطرة كما أنه بماء العذب الفرات المذكور سابقا ، وبالجملة خلقه من طينة الجنة ومزجها بماء الفرات أولا وتربيتها بماء المزن ثانيا لطف منه تعالى بالنسبة إلى المؤمن ليحصل له الوصول إلى أعلى مراتب القرب ، انتهى.

وقال بعض المحققين من أهل التأويل : الجنة تشمل جنان الجبروت والملكوت ، والمزن الحساب وهو أيضا يعم سحاب ماء الرحمة والجود والكرم

٦٦

بقلة ولا ثمرة أكل منها مؤمن أو كافر إلا أخرج الله عز وجل من صلبه مؤمنا

______________________________________________________

وسحاب ماء المطر والخصب والديم ، وكما أن لكل قطرة من ماء المطر صورة وسحابا انفصلت منه في عالم الملك كذلك له صورة وسحاب انفصلت منه في عالمي الملكوت والجبروت ، وكما أن البقلة والثمرة تتربى بصورتها الملكوتية كذلك تتربى بصورتيها الملكوتية والجبروتية المخلوقتين من ذكر الله تعالى اللتين من شجرة المزن الجناني وكما أنهما تتربيان بها قبل الأكل كذلك تتربيان بها بعد الأكل في بدن الآكل ، فإنها ما لم تستحل إلى صورة العضو فهي بعد في التربية ، فالإنسان إذا أكل بقلة أو ثمرة ذكر الله عز وجل عندها وشكر الله عليها ، وصرف قوتها في طاعة الله سبحانه والأفكار الإيمانية والخيالات الروحانية فقد تربت تلك البقلة أو الثمرة في جسده بماء المزن الجناني ، فإذا فضلت من مادتها فضلة منوية فهي من شجرة المزن التي أصلها في الجنة وإذا أكلها على غفلة من الله سبحانه ، ولم يشكر الله عليها وصرف قوتها في معصية الله تعالى والأفكار المموهة الدنيوية والخيالات الشهوانية ، فقد تربت تلك البقلة أو الثمرة في جسده بماء آخر غير صالح لخلق المؤمن إلا أن يكون قد تحقق تربيتها بماء المزن الجناني قبل الأكل ، وأما مأكولة الكافر التي يخلق منها المؤمن فإنما يتحقق تربيتها بذلك الماء قبل أكله لها غالبا ، ولذكر الله عند زرعها أو غرسها مدخل في تلك التربية ، وكذلك لحل ثمنها وتقوى زارعها أو غارسها إلى غير ذلك من الأسباب.

٦٧

باب

في أن الصبغة هي الإسلام

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً » (١) قال الإسلام وقال في قوله عز وجل « فَقَدِ

______________________________________________________

باب أن الصبغة هي الإسلام

الحديث الأول : صحيح.

قوله « صِبْغَةَ اللهِ » ، أقول : تمام الآية وما يتعلق بها هكذا : « وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ. مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ » يعني قالت اليهود كونوا هودا ، وقالت النصارى كونوا نصارى « بَلْ مِلَّةَ » أي بل نكون أهل ملة إبراهيم ، أو بل نتبع ملة إبراهيم ، والحنيف : المائل عن كل دين إلى الحق « وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » تعريض بأهل الكتابين فإنهم كانوا يدعون أتباع ملة إبراهيم ، وهم مع ذلك على الشرك ، والأسباط حفدة يعقوب عليه‌السلام.

« صِبْغَةَ اللهِ » قال البيضاوي أي صبغنا الله صبغة ، وهي « فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » ، فإنها حلية الإنسان ، كما أن الصبغة حلية المصبوغ ، أو هدانا هدايته أو أرشدنا حجته أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم

__________________

(١) سورة البقرة : ١٣٨.

٦٨

اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » (١) قال هي الإيمان بالله وحده لا شريك له.

______________________________________________________

ظهور الصبغ على المصبوغ ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب أو للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه العمودية ، ويقولون هو تطهير لهم وبه تحق نصرانيتهم ، ونصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله آمنا وقيل : على الإغراء ، أي عليكم صبغة الله ، وقيل : على البدل من ملة إبراهيم ، « وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً » لا صبغة أحسن من صبغته « وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ » تعريض بهم أي لا نشرك به كشرككم ، انتهى.

وقيل : على هذه الأخبار يحتمل أن تكون منصوبة على المصدر من مسلمون ، ثم يحتمل أن يكون معناها وموردها مختصا بالخواص والخلص المخاطبين بقولوا دون سائر أفراد بني آدم ، بل يتعين هذا المعنى إن فسر الإسلام بالخضوع والانقياد للأوامر والنواهي كما فعلوه ، وإن فسر بالمعنى العرفي فتوجيه التعميم فيه كتوجيه التعميم في فطرة الله.

وقيل « صِبْغَةَ اللهِ » إبداع الممكنات وإخراجها من العدم إلى الوجود وإعطاء كل ما يليق به من الصفات والغايات وغيرهما.

قوله « فَقَدِ اسْتَمْسَكَ » ، قال تعالى « فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها » وفسر الطاغوت في الأخبار بالشيطان وبأئمة الضلال ، والأولى التعميم ليشمل كل ما عبد من دون الله من صنم أو صاد عن سبيل الله « وَيُؤْمِنْ بِاللهِ » بالتوحيد وتصديق الرسل وأوصيائهم « فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » أي طلب الإمساك من نفسه بالحبل الوثيق ، وهي مستعار ملتمسك الحق من النظر الصحيح والدين القويم « لَا انْفِصامَ لَها » أي لا انقطاع لها.

وما ورد في الخبر من تفسيره بالإيمان كان المراد به أنه تعالى شبه الإيمان الكامل بالعروة الوثقى ، وعلى ما ورد في كثير من الأخبار من أن المراد بالطاغوت

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٦.

٦٩

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن داود بن سرحان ، عن عبد الله بن فرقد ، عن حمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً » قال الصبغة هي الإسلام.

٣ ـ حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن غير واحد ، عن أبان ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عز وجل : « صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً » قال الصبغة هي الإسلام وقال في قوله عز وجل : « فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » قال هي الإيمان.

______________________________________________________

الغاصبون للخلافة فالمعنى من رفض متابعة أئمة الضلالة وآمن بما جاء من عند الله في علي والأوصياء من بعده عليه‌السلام فقد آمن بالله وحده لا شريك له ، وإلا فهو مشرك كما روي في معاني الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحب أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي ووصيي علي بن أبي طالب فإنه لا يهلك من أحبه وتولاه ولا ينجو من أبغضه وعاداه ، وعن الباقر عليه‌السلام أن العروة الوثقى هو مودتنا أهل البيت.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

الحديث الثالث : مرسل كالموثق ، وقال الجوهري : صبغة الله دينه ، ويقال : أصله من صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم ، وقال الفيروزآبادي : الصبغة بالكسر الدين والملة ، وصبغة الله فطرة الله ، أو التي أمر الله تعالى بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي الختانة

٧٠

باب

في أن السكينة هي الإيمان

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل : « أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي

______________________________________________________

باب أن السكينة هي الإيمان

الحديث الأول : صحيح كما في بعض النسخ عن أبي حمزة ، وضعيف على المشهور إن كان عن علي بن أبي حمزة كما في بعض النسخ.

« هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ » الآية في سورة الفتح هكذا : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » والظاهر أن المراد بالسكينة الثبات وطمأنينة النفس وشدة اليقين بحيث لا يتزلزل عند الفتن وعروض الشبهات ، بل هذا إيمان موهبي يتفرع على الأعمال الصالحة والمجاهدات الدينية سوى الإيمان الحاصل بالدليل والبرهان ، ولذا قال : « لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ».

وقال في مجمع البيان : هي أن يفعل الله بهم اللطف الذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحق ما تسكن إليه نفوسهم ، وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلة الدالة عليه ، فهذه النعمة التامة للمؤمنين خاصة ، وأما غيرهم فتضطرب نفوسهم لأول عارض من شبهة ترد عليهم إذ لا يجدون برد اليقين وروح الطمأنينة في قلوبهم ، وقيل : هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم ، ويثبتوا في القتال ، وقيل : ما أسكن قلوبهم من التعظيم لله ولرسوله ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح وعلو كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا ، وقيل : ليزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام وهو أنهم كلما أمروا بشيء من الشرائع والفرائض كالصلاة والصيام والصدقات صدقوا به ، وذلك بالسكينة التي أنزلها الله في قلوبهم عن ابن عباس

٧١

قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ » (١) قال هو الإيمان قال وسألته عن قول الله عز وجل : « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » (٢) قال هو الإيمان.

______________________________________________________

والمعنى ليزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم ، انتهى.

والحاصل أن تفسيره عليه‌السلام السكينة بالإيمان إما لكون هذا اليقين هو كمال الإيمان ، أو إيمان آخر موهبي ينضم إلى الإيمان الاستدلالي ، وهذا مما يدل على أن اليقين يقبل الشدة والضعف كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله.

وأما الآية الثانية فهي في سورة المجادلة حيث قال : « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ » قال الطبرسي (ره) : كتب في قلوبهم الإيمان بما فعل بهم من الألطاف فصار كالمكتوب عن الحسن ، وقيل : كتب في قلوبهم علامة الإيمان ومعنى ذلك أنها سمة وعلامة لمن شاهدهم من الملائكة على أنهم مؤمنون كما أن قوله في الكفار : وطبع الله على قلوبهم ، علامة يعلم من شاهدها من الملائكة أنه مطبوع على قلبه ، عن أبي علي الفارسي.

« وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » أي قواهم بنور الإيمان ، ويدل عليه : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ » عن الزجاج ، وقيل : معناه وقواهم بنور الحجج والبرهان حتى اهتدوا للحق وعملوا به ، وقيل : قواهم بالقرآن الذي هو حياة القلوب من الجهل عن الربيع ، وقيل : أيدهم بجبرئيل في كثير من المواطن ينصرهم ويدفع عنهم ، انتهى.

أقول : لعل المراد بالروح الإيمان الموهبي لأنه قال ذلك بعد قوله : « كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ » أو المراد به قوة الإيمان وكماله ، ويحتمل أن يراد به أنه سبب

__________________

(١) سورة الفتح : ٤.

(٢) سورة المجادلة : ٢٢.

٧٢

٢ ـ عنه ، عن أحمد ، عن صفوان ، عن أبان ، عن فضيل قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ » هل لهم فيما كتب في قلوبهم صنع قال لا.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال السكينة الإيمان.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري وهشام بن سالم وغيرهما ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ » قال هو الإيمان.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن جميل قال :

______________________________________________________

الإيمان وقوته وكماله لما سيأتي أن الله تعالى أيد المؤمن بروح يحضره في كل. وقت يحسن فيه ويتقي ويغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي وإن أمكن تأويل تلك الأخبار بما يوافق ظاهر هذا الخبر كما سيأتي في باب الروح الذي أيد به المؤمن.

الحديث الثاني : موثق كالصحيح.

وإنما ذكر هذا مع عدم اشتماله على ما عنون به الباب لأنه كالتتمة لما ذكر في آخر الخبر السابق لأنهما في آية واحدة ، ويدل على أن الإيمان من الله وليس للعباد فيها صنع واختيار ، وإنما كلف العباد بعدم الجحد ظاهرا وبإخراج التعصب والأغراض الباطلة عن النفس ، أو مع السعي في الجملة أيضا ، ويمكن تخصيصه بمعرفة الصانع كما مر أو بكمال المعرفة وقد مضى تفصيل القول في ذلك في باب البيان والتعريف ، وفي بعض النسخ صبغ بالباء الموحدة والغين المعجمة ، أي لهذه الكتابة صبغ ولون وهو تصحيف.

الحديث الثالث : صحيح.

الحديث الرابع : حسن كالصحيح.

الحديث الخامس : صحيح وفسر أكثر المفسرين كلمة التقوى بكلمة التوحيد

٧٣

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عز وجل : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ » قال هو الإيمان قال : « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » قال : هو الإيمان وعن قوله : « وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى » (١) قال هو الإيمان.

باب الإخلاص

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « حَنِيفاً مُسْلِماً » (٢) قال خالصا مخلصا ليس فيه شيء من

______________________________________________________

فإنه يتقي بها من عذاب الله وما فسرها عليه‌السلام به أظهر ، إذ بجميع العقائد الإيمانية واجتماعها يتقي من عذاب الله لا بكلمة التوحيد فقط ، وفسرت في كثير من الأخبار بالولاية لأنها مستلزم لسائر العقائد ، وفي بعضها بأمير المؤمنين عليه‌السلام وفي بعضها بجميع الأئمة عليهم‌السلام أي ولايتهم والإقرار بإمامتهم كلمة التقوى ، وأنهم يعبرون عن الله ما يتقى به من عذابه كما ورد في الأخبار الكثيرة أنهم كلمات الله.

باب الإخلاص

الحديث الأول : صحيح.

وقد مر معنى الحنيف وأنه المائل إلى الدين الحق ، وهو الدين الخالص والمسلم المنقاد لله في جميع أوامره ونواهيه ، ولما قال سبحانه « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ، وجعل الحنيف المسلم في مقابلة المشرك ، فلذا فسر عليه‌السلام الحنيف المسلم بمن كان خالصا لله مخلصا عمله من الشرك الجلي والخفي ، فالأوثان أعم من الأوثان الحقيقة والمجازية ، فيشمل عبادة الشياطين في إغوائها وعبادة النفس في أهوائها كما قال تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ » (٣) وقال سبحانه : « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ » (٤)

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٦.

(٢) سورة الروم : ٦٧.

(٣) سورة يس : ٦٠.

(٤) سورة الفرقان : ٤٣.

٧٤

عبادة الأوثان.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه رفعه إلى أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أيها الناس إنما هو الله والشيطان والحق والباطل والهدى والضلالة والرشد والغي والعاجلة والآجلة والعاقبة والحسنات

______________________________________________________

وقال : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » (١) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ملعون من عبد الدنيا والدرهم ، وفي المحاسن هكذا : خالصا مخلصا لا يشوبه شيء ، من دون ذكر عبادة الأوثان.

الحديث الثاني : مرفوع.

« إنما هو الله » الضمير راجع إلى المقصود في العبادة أو الأعم منه ومن الباعث عليها ، أو الموجود في الدنيا والمقصود فيها ، والغرض أن الحق والهدى والرشد ورعاية الآجلة والحسنات منسوب إلى الله ، وأضدادها منسوبة إلى الشيطان ، فما كان خالصا لله فهو من الحسنات ، وما كان للشيطان فيه مدخل فهو من السيئات ، ففي الكلام شبه قلب ، أو المعنى أن الرب تعالى والحق والهدى والرشد والآجلة والحسنات في جانب ، وأضدادها في جانب آخر ، فالحسنات ما يكون موافقا للحق ومعلوما بهداية الله ، ويكون سببا للرشد والمنظور فيه الدرجات الأخروية دون اللذات الدنيوية وقربه تعالى فهو منسوب إلى الله ، وإلا فهو من خطوات الشيطان ووساوسه ، والرشد ما يوصل إلى السعادة الأبدية والغي ما يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقبة عطف تفسير للآجلة.

وكان المناسب للترتيب سائر الفقرات تقديم الآجلة على العاجلة ، ولعله عليه‌السلام إنما غير الأسلوب لأن الآجلة بعد العاجلة.

قال بعض المحققين أريد بالحسنات والسيئات الأعمال الصالحة والسيئة المترتبتان على الأمور الثمانية الناشئتان منها « فما كان من حسنات » يعني ما نشأ

__________________

(١) سورة التوبة : ٣١.

٧٥

والسيئات فما كان من حسنات فلله وما كان من سيئات فللشيطان لعنه الله.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يقول طوبى لمن أخلص لله

______________________________________________________

من الحق والهدى والرشد ورعاية العاقبة من الأعمال الصالحة « وما كان من سيئات » يعني ما نشأ من الباطل والضلالة والغي ورعاية العاجلة من الأعمال السيئة ، فكل من عمل عملا من الخير طاعة لله آتيا فيه بالحق على هدى من ربه ورشدة من أمره ، ولعاقبة أمره فهو حسنة تقبله الله بقبول حسن ، ومن عمل عملا من الخير أو الشر طاعة للشيطان آتيا فيه بالباطل على ضلالة من نفسه وغي من أمره ولعاجلة أمره فهو سيئة مردود إلى من عمل له ، ومن عمل عملا مركبا من أجزاء بعضها لله وبعضها للشيطان فما كان لله فهو لله وما كان للشيطان فهو للشيطان ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فإن أشرك بالله الشيطان في عمله أو في جزء عمله فهو مردود إليه لأن الله لا يقبل الشريك كما يأتي بيانه في باب الرياء إنشاء الله.

وربما يقال : إن كان الباعث الإلهي مساويا للباعث الشيطاني تقاوما وتساقطا وصار العمل لا له ولا عليه ، وإن كان أحدهما غالبا على الآخر بأن يكون أصلا وسببا مستقلا ويكون الآخر تبعا غير مستقل فالحكم للغالب إلا أن ذلك مما يشتبه على الإنسان في غالب الأمر فربما يظن أن الباعث الأقوى قصد التقرب ويكون الأغلب على سره الحظ النفساني فلا يحصل الأمن إلا بالإخلاص ، وقلما يستيقن بالإخلاص من النفس ، فينبغي أن يكون العبد دائما مترددا بين الرد والقبول ، خائفا من الشوائب ، والله الموفق للخير والسداد.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

« طوبى » أي الجنة أو طيبها أو شجرة فيها كما سيأتي في الخبر ، أو العيش الطيب أو الخير « لمن أخلص لله العبادة والدعاء » أي لم يعبد ولم يدع غيره تعالى

٧٦

العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » (١) قال

______________________________________________________

أو كان غرضه من العبادة والدعاء رضي الله سبحانه من غير رياء « بما ترى عيناه » أي من زخارف الدنيا ومشتهياتها ، والرفعة والملك فيها « ولم ينس ذكر الله » بالقلب واللسان « بما تسمع أذناه » من الغناء وأصوات الملاهي ، وذكر لذات الدنيا وشهواتها والشبهات المضلة والآراء المبتدعة ، والغيبة والبهتان ، وكل ما يلهي عن الله « ولم يحزن صدره بما أعطى غيره » من أسباب العيش وحرمها ، والاتصاف بهذه الصفات العلية إنما يتيسر لمن قطع عن نفسه العلائق الدنية ، وفي الخبر إشعار بأن الإخلاص في العبادة لا يحصل إلا لمن قطع عروق حب الدنيا من قلبه ، كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله.

الحديث الرابع : ضعيف.

قوله : « لِيَبْلُوَكُمْ » إشارة إلى قوله تعالى : « تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » تبارك أي تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير ، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة « الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ » أي بقبضة قدرته التصرف في الأمور كلها « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » أي قدرهما أو أوجدهما وفيه دلالة على أن الموت أمر وجودي ، والمراد بالموت الموت الطاري على الحياة أو العدم الأصلي فإنه قد يسمى موتا أيضا ، كما قال تعالى : « كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ » (٢) وتقديمه على الأول لأنه ادعى إلى حسن العمل وأقوى في ترك الدنيا ولذاتها ،

__________________

(١) سورة الملك : ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٨.

٧٧

ليس يعني أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة

______________________________________________________

وعلى الثاني ظاهر لتقدمه.

« لِيَبْلُوَكُمْ » أي ليعاملكم معاملة المختبر « أَيُّكُمْ » مفعول ثان لفعل البلوى باعتبار تضمينه معنى العلم ، ووجه التعليل أن الموت داع إلى حسن العمل لكمال الاحتياج إليه بعده ، وموجب لعدم الوثوق بالدنيا ولذاتها الفانية ، والحياة نعمة تقتضي الشكر ويقتدر بها على الأعمال الصالحة ، وإن أريد به العدم الأصلي فالمعنى أنه نقلكم منه وألبسكم لباس الحياة لذلك الاختبار ، ولما كان اتصافنا بحسن العمل يتحقق بكثرة العمل تارة وبإصابته وشدة رعاية شرائطه أخرى نفي الأول ، بقوله : ليس يعني أكثركم عملا ، لأن مجرد العمل من غير خلوصه وجودته ليس أمرا يعتد به ، بل هو تضييع للعمر وأثبت الثاني بقوله : ولكن أصوبكم عملا ، لأن صواب العمل وجودته وخلوصه من الشوائب يوجب القرب منه تعالى ، وله درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها.

واسم ليس في قوله : « ليس يعني » ضمير عائد إلى الله عز وجل أو ضمير شأن ، وجملة يعني خبرها ، ثم بين الإصابة وحصرها في أمرين بقوله : إنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة ، وذكر الخشية ثانيا لعله من الرواة أو النساخ ، وليست في بعض النسخ ولو سحت يكون معناه خشية أن لا يقبل كما سيأتي في الخبر ، وهو غير خشية الله ، أو يقال : النية الصادقة مبتدأ والخشية معطوف عليه ، والخبر محذوف أي مقرونتان ، أو الخشية منصوب ليكون مفعولا معه.

فيكون الحاصل أن مدار الإصابة على الخشية وتلزمها النية الصادقة ، وفي بعض النسخ والحسنة أي كونه موافقا لأمره تعالى ، ولا يكون فيه بدعة ، وفي أسرار الصلاة للشهيد الثاني (ره) : والنية الصادقة الحسنة وهو أصوب.

والحاصل أن العمدة في قبول العمل بعد رعاية أجزاء العبادة وشرائطها المختصة النية الخالصة والاجتناب عن المعاصي كما قال تعالى : " « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ

٧٨

والحسنة ثم قال الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص

______________________________________________________

فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً » (١) " وقال سبحانه : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (٢).

قال الشيخ البهائي قدس‌سره : المراد بالنية الصادقة انبعاث القلب نحو الطاعة غير ملحوظ فيه شيء سوى وجه الله سبحانه ، لا كمن يعتق عبد مثلا ملاحظا مع القربة الخلاص من مؤنته أو سوء خلقه أو يتصدق بحضور الناس لغرض الصواب والثناء معا بحيث لو كان منفردا لم يبعثه مجرد الثواب على الصدقة وإن كان يعلم من نفسه أنه لو لا الرغبة في الثواب لم يبعثه مجرد الرياء على الإعطاء ، ولا كمن له ورد في الصلوات وعادة في الصدقات واتفق أن حضر في وقتها جماعة فصار الفعل أخف عليه وحصل له نشاط ما بسبب مشاهدتهم ، وإن كان يعلم من نفسه أنهم لو لم يحضروا لم يكن يترك العمل أو يفتر عنه البتة ، فأمثال هذه الأمور مما يخل بصدق النية وبالجملة فكل عمل قصدت به القربة وانضاف إليه حظ من حظوظ الدنيا بحيث تركب الباعث عليه من ديني ونفسي ، فنيتك فيه غير صادقة سواء كان الباعث الديني أقوى من الباعث النفسي أو أضعف أو مساويا.

قال في مجمع البيان : « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي فيجازى كل عامل بقدر عمله ، وقيل : ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا وأحسن له استعدادا وأحسن صبرا على موته وموت غيره ، وأيكم أكثر امتثالا للأوامر واجتنابا عن النواهي في حال حياته قال أبو قتادة : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى : « أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » ما عنى به؟ فقال : يقول أيكم أحسن عقلا ، ثم قال تعالى : أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا ، وعن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه تلا قوله : « تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » إلى قوله : « أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً »

__________________

(١) سورة النحل : ١١٠.

(٢) سورة المائدة : ٢٧.

٧٩

الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل ألا

______________________________________________________

ثم قال : أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ، وعن الحسن : أيكم ازهد في الدنيا وأترك لها ، انتهى.

وفي القاموس : الصواب ضد الخطإ كالإصابة ، وقال : الإصابة الإتيان بالصواب وإرادته ، والبقاء على العمل محافظته والإشفاق عليه وحفظه عن الفساد ، قال الجوهري أبقيت على فلان إذا دعيت عليه ، يقال : لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي والاسم البقيا ، انتهى.

والحاصل أن رعاية العمل وحفظه عند الشروع وبعده إلى الفراغ منه ، وبعد الفراغ إلى الخروج من الدنيا حتى يخلص عن الشوائب الموجبة لنقصه أو فساده أشد من العمل نفسه كما سيأتي في باب الرياء عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : الإبقاء على العمل أشد من العمل ، قال : وما الإبقاء على العمل؟ قال : يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له ، فيكتب له سرا ثم يذكرها فتمحى وتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء ، ومن عرف معنى النية وخلوصها علم أن إخلاص النية أشد من جميع الأعمال كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله.

ثم بين عليه‌السلام معنى العمل الخالص بأنه هو العمل الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل ، لا عند الفعل ولا بعده أي يكون خالصا عن أنواع الرياء والسمعة.

وقد يقال : لو كان سروره باعتبار أن الله تعالى قبل عمله حيث أظهر جميلة كما روي في الحديث القدسي عملك الصالح عليك سره وعلي إظهاره ، أو باعتبار أنه استدل بإظهار جميلة في الدنيا على إظهار جميلة في الآخرة ، أو باعتبار رغبتهم إلى طاعة الله وميل قلوبهم إليها لم يقدح ذلك في الخلوص ، وإنما يقدح فيه إن كان لرفع منزلته عند الناس وتعظيمهم له واستجلاب الفوائد منهم فإنه بذلك يصير مرائيا مشركا بالشرك الخفي وبه يحبط عمله ، وهذا الكلام له جهة صدق لكن قلما تصدق النفس في ذلك ،

٨٠