مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا وسلاما وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن أبان بن عثمان ، عن محمد بن علي الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم عليه‌السلام أرسل الماء على الطين ثم قبض قبضة فعركها ثم فرقها فرقتين بيده ثم ذرأهم فإذا هم يدبون ثم رفع لهم نارا فأمر أهل الشمال أن يدخلوها فذهبوا إليها فهابوها فلم يدخلوها ثم أمر أهل اليمين أن يدخلوها فذهبوا فدخلوها فأمر الله جل وعز النار فكانت عليهم بردا وسلاما فلما رأى ذلك أهل الشمال قالوا ربنا أقلنا فأقالهم ثم قال لهم ادخلوها فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها فأعادهم طينا وخلق منها آدم عليه‌السلام وقال أبو عبد الله عليه‌السلام فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء قال فيرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أول من دخل تلك النار فذلك قوله جل وعز : « قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا

______________________________________________________

من يمينه وشماله ، الضميران راجعان إلى الملك المأمور بهذا الأمر كجبرئيل أو العرش أو إلى التراب فاستعار اليمين للجهة التي فيها اليمن والبركة ، والشمال للأخرى ، أو اليمين لصفة الرحمانية والشمال لصفة القهارية ، فالضميران راجعان إلى الله تعالى كما في الدعاء : الخير في يديك ، أي كلما يصدر منك من خير أو شر أو نفع أو ضر فهو خير ، ومشتمل على المصالح الجليلة.

الحديث الثالث : حسن موثق كالصحيح.

قوله : فيرون ، أي أهل البيت عليه‌السلام « قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ » الآية ، قيل في تفسير الآية وجوه :

« الأول » فإنا أول العابدين منكم ، فإن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح له ، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ، ومن حق تعظيم الوالد تعظيم ولده ، ولا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد وعبادته له ، فإن المحال قد يستلزم

٢١

أَوَّلُ الْعابِدِينَ » (١).

باب آخر منه

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن داود العجلي ، عن زرارة ، عن حمران ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون إلى الجنة بسلام وقال لأصحاب الشمال إلى النار ولا أبالي ثم قال « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا

______________________________________________________

المحال ، بل المراد نفيهما.

والثاني : أن معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له.

الثالث : أن المعنى إن كان له ولد فأنا أول الآنفين منه أو من أن يكون له ولد ، من عبد يعبد إذا اشتد أنفه.

الرابع : أن كلمة إن نافية أي ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة.

أقول : وبناء الخبر على التفسير الأول ، إذ يظهر منه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبادرا إلى كل خير وسعادة وإطاعة ، فلا بد أن يكون مبادرا في دخول النار عند الأمر به.

باب آخر منه

الحديث الأول : مجهول.

« فأخذ طينا » أي مزجه بالمائين ليحصل فيه استعداد الخير والشر معا فيصح التكليف « إلى الجنة » أي امضوا إلى الجنة سالمين من العذاب والنكال ، أو إلى ما يوجب الجنة سالمين من شبه الشياطين ووساوسهم « أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ » يعني فعل ذلك كراهة أن تقولوا ، وفي أكثر النسخ أن تقولوا بصيغة الخطاب كما في القراءات

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨١.

٢٢

بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ » ثم أخذ الميثاق على النبيين فقال « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » وأن هذا محمد رسولي وأن هذا علي أمير المؤمنين « قالُوا بَلى » فثبتت لهم النبوة وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي عليه‌السلام وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعا وكرها قالوا أقررنا يا رب وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقر فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به وهو قوله عز وجل : « وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » (١) قال إنما هو فترك ثم أمر نارا فأججت

______________________________________________________

المشهورة ، فيكون ذكر تتمة الآية استطرادا ، والأصوب هنا أن يقولوا بصيغة الغيبة موافقا لقراءة أبي عمرو في الآية.

قوله عليه‌السلام : ثم أخذ ، لعل كلمة ثم هنا وفيما سيأتي للتراخي الرتبي لا الزماني ، لما بين الميثاقين من التفاوت ، وإلا فالظاهر تقدم أخذ الميثاق على النبيين على غيرهم ، وكذا أخذ الميثاق على أولي العزم وغيرهم لما سيأتي ، وأريد بأولى العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ينافي دخول الإقرار بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليهم دخوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المعهود إليهم ، قيل : ولما كانوا معهودين معلومين جاز أن يشار إليهم بهؤلاء الخمسة مع عدم ذكرهم مفصلا ، وإنما زاد في أخذ الميثاق على من زاد في رتبته وشرفه لأن التكليف إنما يكون بقدر الفهم والاستعداد ، فكلما زاد زاد ، وإنما يعرف مراتب الوجود من له حظ منها وبقدر حظه منها ، وأما آدم فلما لم يعزم على الإقرار بالمهدي لم يعد من أولي العزم ، وإن عزم على الإقرار بغيره من الأوصياء.

« إنما هو فترك » يعني معنى فنسي هيهنا ليس إلا فترك ، ولعل السر في عدم عزم آدم على الإقرار بالمهدي استبعاده أن يكون لهذا النوع الإنساني اتفاق على أمر

__________________

(١) سورة طه : ١١٥.

٢٣

فقال لأصحاب الشمال ادخلوها فهابوها وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما فقال أصحاب الشمال يا رب أقلنا فقال قد أقلتكم اذهبوا فادخلوا فهابوها فثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن حبيب السجستاني قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم عليه‌السلام من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال الله عز وجل لآدم انظر ما ذا ترى قال فنظر آدم عليه‌السلام إلى ذريته وهم ذر قد ملئوا السماء قال آدم عليه‌السلام يا رب ما أكثر ذريتي ولأمر ما خلقتهم فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم قال الله عز وجل « يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ

______________________________________________________

واحد ، انتهى.

وأقول : الظاهر أن المراد بعدم العزم عدم الاهتمام به وتذكره ، أو عدم التصديق اللساني حيث لم يكن ذلك واجبا لا عدم التصديق به مطلقا ، فإنه لا يناسب منصب النبوة ، بل ما هو أدون منه.

وقوله : إنما هو فترك ، أي معنى النسيان هنا الترك ، لأن النسيان غير مجوز على الأنبياء عليه‌السلام ، أو كان في قراءتهم عليه‌السلام « فترك » مكان « فنسي » أو المعنى أن العزم إنما كان ما ذكر ، أي العزم على الإقرار المذكور ، فترك آدم عليه‌السلام أو كان المطلوب الإقرار التام ولم يأت به ، أو عزم أولا ثم ترك والأول أظهر.

وفي القاموس الأجيج تلهب النار كالتأجج ، وأججتها تأجيجا فتأججت.

الحديث الثاني : حسن.

قوله : فكان ، وثم قال ، وفنظر ، الكل معطوف على أخرج ، وقوله : قال آدم ، جواب لما ، و « لأمر ما » أي لأمر عظيم قوله : يعبدونني ، أي أريد منهم أن يعبدونني ، وقوله : لا يشركون بي شيئا ، حال أو استئناف بياني قوله : وكذلك

٢٤

بِي شَيْئاً » ويؤمنون برسلي ويتبعونهم قال آدم عليه‌السلام يا رب فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض وبعضهم له نور كثير وبعضهم له نور قليل وبعضهم ليس له نور فقال الله عز وجل كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم قال آدم عليه‌السلام يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم قال الله عز وجل تكلم فإن روحك من روحي وطبيعتك [ من ] خلاف كينونتي قال آدم يا رب فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شيء من الأشياء قال الله عز وجل يا آدم بروحي نطقت وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به وأنا الخالق

______________________________________________________

خلقتهم ، في بعض النسخ لذلك أي لأجل الاختلاف ، كما قال سبحانه : « وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ » على بعض التفاسير ، أو لأن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا.

« مِنْ رُوحِي » أي من روح اصطفيته واخترته ، أو من عالم المجردات بناء على تجرد النفس ، وقيل : الروح الأول النفس ، والثاني جبرئيل ، ولا يخفى ما فيه « وطبيعتك » أي خلقتك الجسمانية البدنية أو صفاتها التابعة لها « خلاف كينونتي » أي وجودي فإنها من عالم الماديات ، ولا تناسب عالم المجردات أو الخطأ والوهم ناش منها ، وقيل : الكينونة هنا مصدر كان الناقصة والإضافة أيضا للتشريف ، أي صفاتك البدنية مخالفة للآداب المرضية لي ـ ككونك صابرا وقانعا وراضيا بقضائه تعالى ، والجبلة بكسر الجيم والباء وتشديد اللام : الخلقة ، وقوله : وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به ، في بعض النسخ وبضعف قوتك تكلمت ، والحاصل أن حكمك بأنهم إذا كانوا على صفات واحدة كان أقرب إلى الحكمة والصواب إنما نشأ من الأوهام التابعة للقوي البدنية فإنهم لو كانوا كذلك لم يتيسر التكليف المعرض لهم لأرفع الدرجات ، ولم تبق نظام النوع ، ولم يرتكبوا الصناعات الشاقة التي بها بقاء نوعهم

٢٥

العالم بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري وإلى تدبيري وتقديري صائرون لا تبديل لخلقي إنما خلقت الجن والإنس لِيَعْبُدُونِ وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني

______________________________________________________

إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

« بعلمي خالفت بين خلقهم » إذ علمت أن في مخالفة خلقتهم صلاحهم وبقاء نوعهم « وبمشيتي » أي إرادتي التابعة لحكمتي « يمضي فيهم أمري » أي الأمر التكويني أو التكليفي أو الأعم « لا تبديل لخلقي » أي لتقديري ، أو لما قررت فيهم من القابليات والاستعدادات ، وقيل : أي من حسنت أحواله في ذلك الوقت حسنت أحواله في الدنيا ، ومن حسنت أحواله في الدنيا حسنت أحواله في الآخرة ، ومن قبحت أحواله في ذلك الوقت قبحت أحواله في الموطنين الآخرين لا يتبدل هؤلاء إلى هؤلاء ولا هؤلاء إلى هؤلاء.

أقول : وسيأتي الكلام في تفسير قوله تعالى : « لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ » (١) وكان هذا إشارة إليه « إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون » إشارة إلى قوله تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » (٢) وأورد على ظاهر الآية أن بعض الجن والإنس لا يعبدون أصلا إما لكفر أو جنون أو موت قبل البلوغ أو نحو ذلك ، وعدم ترتب العلة الغائية على فعل الحكيم ممتنع ، وأجيب بوجوه أربعة :

الأول : أنه أراد سبحانه بالجن والإنس الذين بلغوا حد التكليف قبل الممات والتعليل المفهوم من اللام أعم من العلة الغائية ، كما روى الصدوق في التوحيد عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام أنه قال معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أن الله عز وجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله عز وجل : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » فيسر كلاما لما خلق له ، فالويل لمن استحب العمى على الهدى.

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠.

(٢) سورة الذاريات : ٥٩.

٢٦

ولم يتبع رسلي ولا أبالي وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم « أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » في دار الدنيا في حياتكم

______________________________________________________

الثاني : أنه إن سلمنا أن المراد بالجن والإنس ما هو أعم من المكلفين وأن اللام للعلة الغائية ، لا نسلم العموم في ضمير الجمع في قوله : ليعبدون ، إذ لعل المراد عبادة بعض الجن والإنس.

الثالث : إن سلمنا عموم ضمير يعبدون أيضا فلا نسلم رجوع الضمير إلى الجن والإنس إذ يمكن عوده إلى المؤمنين المذكورين قبل هذه الآية في قوله تعالى : « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » فتدل على أن خلق غير المؤمنين لأجل المؤمنين كما يومئ إليه قوله عليه‌السلام في هذا الخبر : وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدوني ولذلك خلقتهم « إلخ ».

الرابع : لو سلمنا جميع ذلك نقول : ترتب الغاية على فعل الحكيم ووجوبه إنما هو فيما هو غاية بالذات ، والغاية بالذات هنا إنما هي التكليف بالعبادة ، والعبادة غاية بالعرض ، والتكليف شامل لجميع أفراد الجن والإنس للروايات الدالة على أن الأطفال والمجانين يكلفون في القيامة كما سيأتي في كتاب الجنائز. (١)

قوله : وقبل مماتكم ، كان تخصيص قبل الممات بالذكر وإن كان داخلا في الحياة للتنبيه على أن المدار على العاقبة في السعادة والشقاوة ، « لأبلوك وأبلوهم » أي لأعاملك وإياهم معاملة المختبر « أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » مفعول ثان للبلوى بتضمين معنى العلم.

__________________

(١) وقال بعض الأساتيد في الجواب عن هذا الإيراد ما لفظه :

قلت : الإشكال مبنيّ على كون اللام في الجنّ والإنس للاستغراق فيكون تخلف الغرض في بعض الأفراد منافيا له ، وتخلفا من الغرض ، والظاهر أنّ اللام فيها للجنس دون الاستغراق فوجود العبارة في النوع في الجملة تحقّق للغرض لا يضرّه تخلفه في بعض الأفراد ، نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلانا للغرض ولله سبحانه في النوع غرض كما أنّ له في الفرد غرضا.

٢٧

وقبل مماتكم فلذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل والجميل والدميم والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لا عاهة به فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء وفيما أعافيهم وفيما أبتليهم وفيما أعطيهم

______________________________________________________

قوله : والطاعة والمعصية إسناد خلقهما إليه سبحانه إسناد إلى العلة البعيدة ، أو المراد به جعل المعصية معصية ، والطاعة طاعة ، أو المراد بالخلق التقدير على عموم المجاز أو الاشتراك ، وظاهره أن الجنة والنار مخلوقتان كما هو مذهب أكثر الإمامية بل كلهم ، وأكثر العامة ، وذهب جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقتين الآن ، وستخلقان.

« وبعلمي النافذ فيهم » أي المتعلق بكنه ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم ، كأنه نفذ في أعماقهم أو الجاري أثره فيهم « فجعلت منهم الشقي والسعيد » أي من كنت أعلم عند خلقه أنه يصير شقيا ، أو المادة القابلة للشقاوة وإن لم يكن مجبورا عليها ، وكذا السعيد « والبصير » أي بصرا أو بصيرة ، وكذا الأعمى و « الذميم » في أكثر النسخ بالذال المعجمة ، أي المذموم الخلقة ، في القاموس : ذمه ذما ومذمة فهو مذموم وذميم وبئر ذميم وذميمة قليلة الماء ، غزيرة ضد ، وبه ذميمة أي زمانة تمنعه الخروج ، وكأمير بثر يعلو الوجوه من حر أو جرب ، وفي بعض النسخ بالدال المهملة ، في القاموس : والدمة بالكسر الرجل القصير الحقير ، وأدم أقبح أو ولد له ولد قبيح

٢٨

وفيما أمنعهم وأنا الله الملك القادر ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت وأنا الله الفعال لما أريد لا أسأل عما أفعل وأنا أسأل خلقي عما

______________________________________________________

دميم ، وقال : الزمانة العاهة وقوله : لأبلوهم بدل لقوله لذلك خلقتهم.

قوله : ولي أن أغير إشارة إلى أن الطينات المختلفة والخلق منها ، وتقدير الأمور المذكورة فيهم ليس مما ينفي اختيار الخير والشر أو من الأمور الحتمية التي لا تقبل البداء « لا أسأل عما أفعل » إنما لا يسأل لأنه سبحانه الكامل بالذات العادل في كل ما أراد ، العالم بالحكم والمصالح الخفية التي لا تصل إليها عقول الخلق ، بخلاف غيره فإنهم مسئولون عن أعمالهم وأحوالهم لأن فيها الحسن والقبيح والإيمان والكفر ، لا بالمعنى التي تذهب إليه الأشاعرة أنه يجوز أن يدخل الأنبياء عليه‌السلام النار والكفار الجنة ، ولا يجب عليه شيء ، وقيل : إن هذا إشارة إلى عدم الوجوب السابق وجواز تخلف المعلول عن العلة التامة كما اختاره هذا القائل.

وقال بعض أرباب التأويل في شرح هذا الخبر : إنما ملأوا السماء لأن الملكوت إنما هو في باطن السماء وقد ملأها ، وكانوا يومئذ ملكوتين ، والسر في تفاوت الخلائق في الخيرات والشرور واختلافهم في السعادة والشقاوة واختلاف استعداداتهم وتنوع حقائقهم لتباين المواد السفلية في اللطافة والكثافة واختلاف أمزجتهم في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي واختلاف الأرواح التي بإزائها في الصفاء والكدورة والقوة والضعف وترتب درجاتهم في القرب من الله سبحانه والبعد عنه كما أشير إليه في الحديث : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.

وأما سر هذا السر أعني سر اختلاف الاستعدادات وتنوع الحقائق فهو تقابل صفات الله سبحانه وأسمائه الحسنى التي هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ، وضرورة تباين مظاهرها التي بها يظهر أثر تلك الأسماء ، فكل من الأسماء يوجب تعلق إرادته سبحانه وقدرته إلى إيجاد مخلوق يدل عليه من حيث اتصافه بتلك الصفة

٢٩

هم فاعلون.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل ، عن صالح بن عقبة ، عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقلت وأي شيء الظلال فقال ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء ثم

______________________________________________________

فلا بد من إيجاد المخلوقات كلها على اختلافها وتباين أنواعها لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى جميعا ، ومجالي لصفاته العليا قاطبة ، كما أشير إلى لمعة منه في هذا الحديث ، انتهى.

وأقول : هذه الكلمات مبنية على خرافات الصوفية وإنما نورد أمثالها لتطلع على مسالك القوم في ذلك وآرائهم.

الحديث الثالث : ضعيف ، وقد مضى هذا الخبر بأدنى تغيير في المتن والسند في باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية ، وقد شرحناه هناك ، وقيل : « ما » في قوله : « ما أحب » « وما أبغض » مصدرية وقد مضى تأويله بالعلم أو باختلاف الاستعدادات ، والمراد بالظل إما عالم الأرواح أو عالم المثال ، فعلى الأول شبه الروح المجرد على القول به أو الجسم اللطيف بالظل للطافته وعدم كثافته ، أو لكونه تابعا لعالم الأجساد الأصلية ، وعلى الثاني ظاهر ، وقوله : شيئا بتقدير تحسبه أو الرؤية بمعنى العلم لكن ينافيه تعديتها بإلى ، والأظهر شيء كما كان فيما مضى.

وقيل : أراد بقوله وليس بشيء أن الحياة والتكليف في ذلك الوقت لا يصيران سببا للثواب والعقاب كأفعال النائم ولا يبقى ، بل مثال وحكاية عن الحياة والتكليف في الأبدان ولذا يسمى الوجود الذهني بالوجود الظلي ، لعدم كونه منشأ للآثار ومبدءا للأحكام ، وقيل : يمكن أن يراد به عالم الذر المبائن لعالم الأجسام الكثيفة وهو يحكى عن هذا العالم ويشبهه وليس منه فهو ظل بالنسبة إليه ، أو عالم الأرواح

٣٠

بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز وجل وهو قوله عز وجل : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (١) ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعض ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله « فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » (٢) ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام كان التكذيب ثم.

______________________________________________________

كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه : ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها ، ودوحة أنا ساقتها ، وإني من أحمد بمنزلة الضوء ، من الضوء ، كما إظلالا تحت العرش قبل البشر وقبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا حالية لا أجساما نامية.

« لَيَقُولُنَّ اللهُ » أي خلقنا الله أو الله خلقنا على اختلاف في تقديم المحذوف وتأخيره ، والمشهور الأول ، والغرض أن اضطرارهم إلى هذا الجواب بمقتضى العهد والميثاق ، قوله « فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا » ، الآية في سورة الأعراف هكذا : « تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ » وقال البيضاوي : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيئهم بالمعجزات ، « بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ » ، أي بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل ولم يؤثر قط فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم.

__________________

(١) سورة لقمان : ٢٥.

(٢) سورة الأعراف : ١٠١.

٣١

باب

أن رسول الله (ص) أول من أجاب وأقر لله عز وجل بالربوبية

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن بعض قريش قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأي شيء سبقت الأنبياء ـ وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم فقال إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين « وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » فكنت

______________________________________________________

باب أن رسول الله (ص) أول من أجاب وأقر لله تعالى بالربوبية

الحديث الأول : ضعيف وقد مر في باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله : سبقت الأنبياء ، أي رتبة وفضلا وآخرهم منصوب بالظرفية وخاتمهم مرفوع بالعطف على بعثت ، وعلى طريقة أصحاب التأويل يمكن أن يراد بسبقه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإقرار كونه أكثر قابلية واستعدادا لقبول الحق وإدراك المعارف الربانية ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أخذ الله ، يمكن تعلقه بالجملتين معا وبالأخيرة فقط ، كما هو الظاهر ، فعلى الأخير يمكن أن يكون سبق الإيمان إشارة إلى سبق خلق روحه على خلق سائر الأرواح وقد آمن عند وجوده ، فزمان إيمانه وإقراره أكثر من زمان إيمان الجميع ، ويمكن أن يكون المراد الإيمان في عالم الأجساد أي عند تعلق الروح بالبدن كان معرفتي وإيماني قبل سائر الأنبياء فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متكلما بالتوحيد في بطن أمه وهو بعيد ، وقيل في علة تأخيره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوجود البدني والبعثة وجوه : « منها » تعظيمه لأن سائر الأنبياء مقدمة له مخبرة بوجوده وبعثته كالمقدمة للسلطان ، ومنها : تكميله للأديان السابقة كما قال : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، ومنها : تعظيم دينه من جهة نسخه للشرائع السابقة وعدم نسخ شرع آخر ، ومنها : أن يكون شاهدا لتبليغ جميع الأنبياء ، وأيضا مقتضى الترتيب الترقي من الأدنى

٣٢

أنا أول نبي قال « بَلى » فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل.

٢ ـ أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك إني لأرى بعض أصحابنا يعتريه النزق والحدة والطيش فأغتم لذلك غما شديدا وأرى من خالفنا فأراه حسن السمت قال لا تقل حسن السمت فإن السمت سمت الطريق ولكن قل حسن السيماء ـ فإن الله عز وجل يقول « سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ » (١) قال قلت فأراه حسن

______________________________________________________

إلى الأعلى ، ولو جيء بالأدون بعد الأفضل لا تظهر رتبتهما وفضلهما كما لا يخفى.

الحديث الثاني : مرسل.

ويقال : عراه واعتراه أي غشيه وأتاه ، والنزق بالفتح والتحريك الخفة عند الغضب ، والحدة والطيش قريبان منه ، وقال الجوهري : السمت الطريق وسمت يسمت بالضم أي قصد ، والسمت هيئة أهل الخير ، يقال : ما أحسن سمته أي هديه ، وقال : السيما مقصور من الواو ، قال تعالى : « سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ » وقد يجيء السيماء والسيمياء ممدودين ، وقال الفيروزآبادي : السمت الطريق وهيئة أهل الخير ، والسير على الطريق بالظن وحسن النحو وقصد الشيء ، وقال : السيما والسيماء والسيمياء بكسرهن : العلامة ، وقال الجزري : السمت : الهيئة الحسنة ، ومنه فينظرون إلى سمته وهديه أي حسن هيئته ومنظره في الدين ، وليس من الحسن والجمال.

وقيل : هو من السمت : الطريق ، يقال : ألزم هذا السمت ، وفلان حسن السمت أي حسن القصد ، وقال الزمخشري : السمت أخذ النهج ولزوم المحجة يقال : ما أحسن سمته أي طريقتها أي طريقتها التي ينتهجها في تحري الخير والتزيي بزي الصالحين ، وفي المصباح : السمت الطريق والقصد والسكينة والوقار والهيئة انتهى.

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

٣٣

السيماء وله وقار فأغتم لذلك قال لا تغتم لما رأيت من نزق أصحابك ولما رأيت من حسن سيماء من خالفك إن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يخلق آدم خلق تلك الطينتين ثم فرقهما فرقتين فقال لأصحاب اليمين كونوا خلقا بإذني فكانوا خلقا بمنزلة الذر يسعى وقال لأهل الشمال كونوا خلقا بإذني فكانوا خلقا بمنزلة الذر يدرج ثم رفع لهم نارا فقال ادخلوها بإذني فكان أول من دخلها ـ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم اتبعه « أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » وأوصياؤهم وأتباعهم ثم قال لأصحاب الشمال ادخلوها بإذني فقالوا ربنا خلقتنا لتحرقنا فعصوا فقال لأصحاب اليمين اخرجوا

______________________________________________________

ولعل منعه عليه‌السلام عن إطلاق السمت لأن السمت يكون بمعنى سمت الطريق فيوهم أن طريقهم ومذهبهم حسن فعبر عليه‌السلام بعبارة أخرى لا يوهم ذلك ، أو لما لم يكن السمت بمعنى هيئة أهل الخير فصيحا أمر بعبارة أخرى أفصح منه ، أو أنه عليه‌السلام علم أنه أراد بالسمت السيماء لا هيئة أهل الخير والطريقة الحسنة والأفعال المحمودة فلذا نبهه عليه‌السلام بأن السمت لم يأت بالمعنى الذي أردت وهذا قريب من الأول ، والوقار الاطمئنان والسكينة البدنية « لأصحاب اليمين » أي للذين كانوا في يمين الملك الذي أمره بتفريقها أو للذين كانوا في يمين العرش أو للذين علم أنهم سيصيرون من المؤمنين الذين يقفون في القيامة عن يمين العرش « كونوا خلقا » أي مخلوقين ذوي أرواح ، وقيل : أي كونوا أرواحا بمنزلة الذر أي النمل الصغار « يسعى » وإطلاق السعي هنا والدرج فيما سيأتي إما لمحض التفنن في العبارة ، أو المراد بالسعي سرعة السير ، وبالدرج المشي الضعيف كما يقال : درج الصبي إذا مشى أول مشيه فيكون إشارة إلى مسارعة الأولين إلى الخيرات وبطوء الآخرين عنها ، وقيل : المراد سعي الأولين إلى العلو والآخرين إلى السفل ، ولا دلالة في اللفظ عليهما.

« ثم اتبعه أولوا العزم » أي سائرهم عليه‌السلام ، والكلم : الجرح والفعل كضرب ، وقد يبني على التفعيل ، وفي القاموس : وهج النار تهج وهجا ووهجانا اتقدت ، والاسم الوهج محركة.

٣٤

بإذني من النار لم تكلم النار منهم كلما ولم تؤثر فيهم أثرا فلما رآهم أصحاب الشمال قالوا ربنا نرى أصحابنا قد سلموا فأقلنا ومرنا بالدخول قال قد أقلتكم فادخلوها فلما دنوا وأصابهم الوهج رجعوا فقالوا يا ربنا لا صبر لنا على الاحتراق فعصوا فأمرهم بالدخول ثلاثا كل ذلك يعصون ويرجعون وأمر أولئك ثلاثا كل ذلك يطيعون ويخرجون فقال لهم كونوا طينا بإذني فخلق منه آدم قال

______________________________________________________

وأقول : ما عرفت من التأويلات في الأخبار السابقة يمكن إجراء أكثرها في هذا الخبر كان يقال : لما كان من علم الله منهم السعادة تابعين للعقل والمقتضيات للنفس المقدس فكأنها طينتهم ، ومن علم الله منهم الشقاوة تابعين للشهوات البدنية ودواعي النفس الأمارة فكأنها طينتهم ، ولما مزج الله بينهما في عالم الشهود جرى في غالب الناس الطاعة والمعصية ، والصفات القدسية والملكات الرديئة ، فما كان من الخيرات فهو من جهة العقل والنفس وهما طينة أصحاب اليمين وإن كان في أصحاب الشمال ، وما كان من الشرور والمعاصي فهو من الأجزاء البدنية التي هي طينة أصحاب الشمال وإن كان في أصحاب اليمين ، ويمكن أيضا أن يقال : المعنى أن الله تعالى لما قرر في خلقة آدم عليه‌السلام وطينته دواعي الخير والشر وعلم أنه يكون في ذريته السعداء والأشقياء وخلق آدم عليه‌السلام مع علمه بذلك فكأنه خلط بين الطينتين ، ولما كان أولاد آدم مدنيين بالطبع لا بد لهم في نشأة الدنيا من المخالطة والمصاحبة ، فالسعداء يكتسبون الصفات الذميمة من مخالطة الأشقياء وبالعكس.

فلعل قوله : من لطخ أصحاب الشمال ومن لطخ أصحاب اليمين إشارة إلى هذا المعنى ، ولما كان السبب الأقوى في اكتساب السعداء صفات الأشقياء ، استيلاء أئمة الجور وأتباعهم على أئمة الحق وأتباعهم ، وعلم الله أن المؤمنين إنما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم وعدم تولي أئمة الحق لسياستهم فيعذرهم بذلك ، ويعفو عنهم ويعذب أئمة الجور وأتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم.

٣٥

فمن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء ومن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء وما رأيت من نزق أصحابك وخلقهم فمما أصابهم من لطخ أصحاب الشمال وما رأيت من حسن سيماء من خالفكم ووقارهم فمما أصابهم من لطخ أصحاب اليمين.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن علي بن إسماعيل ، عن محمد بن إسماعيل ، عن سعدان بن مسلم ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأي شيء سبقت ولد آدم قال إني أول من أقر بربي إن الله أخذ ميثاق النبيين « وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى » فكنت أول من أجاب.

باب

كيف أجابوا وهم ذر

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام كيف أجابوا وهم ذر قال جعل فيهم ما

______________________________________________________

كما ورد في بعض الأخبار : أن الله تعالى يلحق الأعمال السيئة التي اقترفها المؤمنون بالنواصب لأنها من طينتهم ، والأعمال الحسنة التي اكتسبها النواصب بالمؤمنين لأنها من طينتهم ، وقد أوردنا الأخبار في ذلك في كتابنا الكبير ، وهذا باب غامض تعجز العقول عن إدراكها والإقرار بالجهل والعجز في مثله أولى.

الحديث الثالث : ضعيف وشرحه ظاهر مما مر.

باب كيف أجابوا وهم ذر

الحديث الأول : حسن.

« ما إذا سألهم » كلمة « ما » موصولة والعائد محذوف أي أجابوه به ، أي جعل

٣٦

إذا سألهم أجابوه يعني في الميثاق.

______________________________________________________

في كل ذرة العقل وآلة السمع وآلة النطق ، ومن حمل الآية على الاستعارة والتمثيل بحمل الخبر على أن المراد به أن ذلك كناية عن أنه جعلهم بحيث إذا سئلوا في عالم الأبدان أجابوا بلسان المقال وهو بعيد ، وروى العياشي في تفسيره بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه‌السلام قال : أتاه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى عليه‌السلام؟ فقال علي عليه‌السلام : قد كلم الله جميع خلقه برهم وفاجرهم وردوا عليه الجواب ، فثقل ذلك على ابن الكواء ولم يعرفه ، فقال له : كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له : أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى » فأسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب كما تسمع في قوله الله يا ابن الكواء : « قالُوا بَلى » فقال لهم : إني أنا الله لا إله إلا أنا وأنا الرحمن ، فأقروا له بالطاعة والربوبية وميز الرسل والأنبياء والأوصياء ، وأمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق ، فقالت الملائكة : شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.

ثم قال العياشي : قال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخبرني عن الذر حيث أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى وأسر بعضهم خلاف ما أظهر كيف علموا القول حيث قيل لهم ألست بربكم؟ قال : إن الله جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه وروي أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى » قلت : قالوا بألسنتهم؟ قال : نعم ، وقالوا بقلوبهم ، قلت : وأي شيء كانوا يومئذ؟ قال : صنع فيهم ما اكتفى به.

تذييل نفعه جليل اعلم أن آيات الميثاق والأخبار الواردة في ذلك مما يقصر عنه عقول أكثر

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الخلق ، وللناس فيها مسالك :

الأول : طريقة المحدثين والمتورعين فإنهم يقولون نؤمن بظاهرها ولا نخوض فيها ولا نطرق فيها التوجيه والتأويل.

والثاني : حملها على الاستعارة والمجاز والتمثيل.

والثالث : حملها على أخذ الميثاق في عالم التكليف بعد إكمال العقل بالبرهان والدليل.

فلنذكر هنا بعض ما ذكره أصحابنا والمخالفون في ذلك.

فمنها : ما ذكره الشيخ المفيد (ره) في جواب المسائل السروية حيث سئل :

ما قوله أدام الله تأييده في معنى الأخبار المروية عن الأئمة الهادية عليه‌السلام في الأشباح وخلق الله تعالى الأرواح قبل خلق آدم عليه‌السلام بألفي عام وإخراج الذرية من صلبه على صور الذر ، ومعنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف؟

الجواب وبالله التوفيق أن الأخبار بذكر الأشباح تختلف ألفاظها وتتباين معانيها ، وقد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة وصنفوا فيها كتبا لغوا فيها وهزوا فيما أثبتوه منه في معانيها ، وأضافوا ما حوته الكتب إلى جماعة من شيوخ أهل الحق وتخرصوا الباطل بإضافتها إليهم ، من جملتها كتاب سموه كتاب الأشباح والأظلة نسبوه في تأليفه إلى محمد بن سنان ولسنا نعلم صحة ما ذكروه في هذا الباب عنه وإن كان صحيحا ، فإن ابن سنان قد طعن عليه وهو متهم بالغلو ، فإن صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضلال لضال عن الحق ، وإن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك ، والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات بأن آدم عليه‌السلام رأى على العرش أشباحا يلمع نورها ، فسأل الله تعالى عنها فأوحى إليه أنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم ، وأعلمه أنه لو لا الأشباح

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضا والوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصور لآدم أن دله على تعظيمهم وتبجيلهم ، وجعل ذلك إجلالا لهم ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم ودليلا على أن مصالح الدين والدنيا لا يتم إلا بهم ، ولم يكونوا في تلك الحال صورا مجيبة ولا أرواحا ناطقة لكنها كانت على مثل صورهم في البشرية يدل على ما يكونون عليه في المستقبل في الهيئة والنور الذي جعله عليهم يدل على نور الدين بهم وضياء الحق بحججهم ، وقد روي أن أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش وأن آدم لما تاب إلى الله عز وجل وناجاه بقبول توبته سأله بحقهم عليه ومحلهم عنده فأجابه ، وهذا غير منكر في العقول ولا مضاد للشرع المنقول وقد رواه الصالحون الثقات المأمونون وسلم لروايته طائفة الحق ولا طريق إلى إنكاره والله ولي التوفيق.

« فصل » ومثل ما بشر الله به آدم عليه‌السلام من تأهيله بنبيه عليه وآله السلام لما أهله له ، وتأهيل أمير المؤمنين والحسن والحسين عليه‌السلام لما أهلهم له ، وفرض عليه تعظيمهم وإجلالهم كما بشر به في الكتب الأولى من بعثته لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال في محكم كتابة : « النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (١) وقوله تعالى مخبرا عن المسيح عليه‌السلام : « وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » (٢) وقوله سبحانه : « وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ » (٣) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحصلت البشائر به من الأنبياء

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٥.

(٢) سورة الصف : ٦.

(٣) سورة آل عمران : ٨١.

٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأممهم قبل إخراجه إلى العالم بالوجود ، وإنما أراد جل اسمه بذلك إجلاله وإعظامه وأن يأخذ العهد على الأنبياء والأمم كلها ، فلذلك أظهر لآدم عليه‌السلام صورة شخصه وأشخاص أهل بيته عليه‌السلام ، وأثبت أسماءهم له ليخبره بعاقبتهم وبين له عن محلهم عنده ومنزلتهم لديه ، ولم يكونوا في تلك الحال أحياء ناطقين ولا أرواحا مكلفين ، وإنما كانت أشباحهم دالة عليهم حسب ما ذكرناه.

« فصل » وقد بشر الله عز وجل بالنبي والأئمة عليه‌السلام في الكتب الأولى فقال في بعض كتبه التي أنزلها على أنبيائه عليه‌السلام وأهل الكتب يقرءونه ، واليهود يعرفونه أنه ناجى إبراهيم الخليل في مناجاته : إني قد عظمتك وباركت عليك وعلى إسماعيل وجعلت منه اثني عشر عظيما وكبرتهم جدا جدا وجعلت منهم شعبا عظيما لأمة عظيمة وأشباه ذلك كثيرة في كتب الله تعالى الأولى.

« فصل » فأما الحديث في إخراج الذرية من صلب آدم عليه‌السلام على صورة الذر فقد جاء الحديث بذلك على اختلاف ألفاظه ومعانيه ، والصحيح أنه إخراج الذرية من ظهره كالذر فملأ بهم الأفق ، وجعل على بعضهم نورا لا يشوبه ظلمة ، وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور ، وعلى بعضهم نورا وظلمة ، فلما رآهم آدم عليه‌السلام عجب من كثرتهم وما عليهم من النور والظلمة ، فقال : يا رب ما هؤلاء؟ قال الله عز وجل له : هؤلاء ذريتك ، يريد تعريفه كثرتهم ، وامتلاء الآفاق بهم ، وأن نسله يكون في الكثرة كالذر الذي رآه ليعرفه قدرته ، ويبشره باتصال نسله وكثرتهم ، فقال آدم عليه‌السلام : يا رب ما لي أرى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه ، وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور ، وعلى بعضهم ظلمة ونورا؟ فقال تبارك وتعالى : أما الذي عليهم النور منهم بلا ظلمة فهم أصفيائي من ولدك الذين يطيعوني ولا يعصوني في شيء من أمري ، فأولئك سكان الجنة ، وأما الذين عليهم ظلمة ولا يشوبها نور فهم الكفار من ولدك الذين يعصوني ولا يطيعوني ، فأما الذين عليهم نور وظلمه فأولئك الذين يطيعوني من ولدك

٤٠