مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

أرغم أنف المنافق وأمن كيده ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ومن شنئ الفاسقين

______________________________________________________

البغض ، يقال : شنئه كسمعه ومنعه شنأ مثلثة وشناءة وشنآنا وهذا أولى مراتب النهي عن المنكر ، وقيل : هو مقتضى الإيمان ويجب على كل حال ، وليس داخلا في النهي عن المنكر.

« شد ظهر المؤمن » وفي النهج ظهور المؤمنين وشد الظهر كناية عن التقوية كما أن قصم الظهر كناية عن ضدها ، والأمر بالمعروف يقوى المؤمن لأنه يريد ترويج شرائع الإيمان وعسى أن لا يتمكن منه « أرغم أنف المنافقين » وفي النهج أنوف المنافقين وإرغام الأنف كناية عن الإذلال ، وأصله إلصاق الأنف بالرغام وهو التراب ، ويطلق على الإكراه على الأمر ويقال : فعلته على رغم أنفه أي على كره منه ، والرغم مثلثة الكره ، والمنكر مطلوب للمنافقين والفساق الذين هم صنف منهم حقيقة ، والنهي عن المنكر يرغم أنوفهم « ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه » وفي سائر الكتب سوى الخصال : قضى ما عليه أي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يقدر على أكثر من ذلك أو من جميع التكاليف فإن الصدق في الإيمان والعقائد يقتضي العمل بجميع التكاليف فعلا وتركا أو لأنه يأتي بها لئلا يكون كاذبا إذا سئل عنها « ومن شنئ الفاسقين » المضبوط في النهج بكسر النون ، وفيه بعده : وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة ، ثم ذكر دعائم الكفر كما سيأتي في أبواب الكفر ، والكليني فرق الخبر على الأبواب.

ولنتمم كلام المحقق البحراني وإن لم يكن فيه كثير فائدة بعد ما ذكرنا ، قال بعد ما مر : وأما شعب هذه الدعائم فاعلم أنه جعل لكل دعامة منها أربع شعب من الفضائل بل تتشعب منها ، وتتفرع عليها فهي كالفروع لها والأغصان.

إما شعب الصبر الذي هو عبارة عن ملكة العفة فأحدها : الشوق إلى الجنة ومحبة الخيرات الباقية ، الثاني : الشفق وهو الخوف من النار وما يؤدي إليها ، الثالث : الزهد في الدنيا وهو الإعراض بالقلب عن متاعها وطيباتها ، الرابع

٣٢١

غضب لله ومن غضب لله غضب الله له فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه.

______________________________________________________

ترقب الموت ، وهذه الأربع فضائل منبعثة عن ملكة العفة لأن كلا منها يستلزمها.

وأما شعب اليقين فأحدها تبصرة الفطنة وأعمالها ، الثاني : تأول الحكمة وهو تفسيرها ، الثالث : موعظة العبرة ، الرابع : أن يلحظ سنة الأولين حتى يصير كأنه فيهم ، وهذه الأربع هي فضائل تحت الحكمة كالفروع لها وبعضها كالفروع للبعض.

وأما شعب العدل فأحدها غوص الفهم أي الفهم الغائص ، فأضاف الصفة إلى الموصوف وقدمها للاهتمام بها ورسم هذه الفضيلة أنها قوة إدراك المعنى المشار إليه بلفظ أو كتابة أو إشارة ونحوها ، الثاني : غور العلم وأقصاه وهو العلم بالشيء كما هو بحقيقته وكنهه ، الثالث : نور الحكم أي تكون الأحكام الصادرة عنه نيرة واضحة لا لبس فيها ولا شبهة ، الرابع : ملكة الحلم وعبر عنها بالرسوخ لأن شأن الملكة ذلك ، والحلم هو الإمساك عن المبادرة إلى قضاء وطر الغضب فيمن يجني عليه جناية يصل مكروهها إليه.

واعلم أن فضيلتي جودة الفهم وغور العلم وإن كانتا داخلتين تحت الحكمة وكذلك فضيلة الحلم داخلة تحت ملكة الشجاعة إلا أن العدل لما كان فضيلة موجودة في الأصول الثلاثة كانت في الحقيقة هي وفروعها شعبا للعدل ، بيانه أن الفضائل كلها ملكات متوسطة بين طرف إفراط وتفريط ، وتوسطها ذلك هو معنى كونها عدلا فهي بأسرها شعب له وجزئيات تحته.

وأما شعب الشجاعة المعبر عنها بالجهاد فأحدها الأمر بالمعروف ، والثاني : النهي عن المنكر ، والثالث : الصدق في المواطن المكروهة ، ووجود الشجاعة في هذه الشعب الثلاث ظاهر ، والرابع : شنآن الفاسقين ، وظاهر أن بغضهم مستلزم لعداوتهم في الله ، وثوران القوة الغضبية في سبيله لجهادهم وهو مستلزم للشجاعة.

وأما ثمرات هذه الفضائل فأشار إليها للترغيب في مثمراتها ، فثمرات شعب

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العفة أربع : أحدها : ثمرة الشوق إلى الجنة وهو السلو عن الشهوات ، وظاهر كونه ثمرة له إذ السالك إلى الله ما لم يشتق إلى ما وعد المتقون لم يكن له صارف عن الشهوات الحاضرة مع توفر الدواعي إليها ، فلم يسل عنها ، الثانية : ثمرة الخوف من النار وهو اجتناب المحرمات ، الثالثة : ثمرة الزهد وهي الاستهانة بالمصيبات لأن غالبها وعامها إنما يلحق بسبب فقد المحبوب من الأمور الدنيوية فمن أعرض عنها بقلبه كانت المصيبة بها هينة عنده ، الرابعة : ثمرة ترقب الموت وهي المسارعة في الخيرات والعمل له ولما بعده.

وأما ثمرات اليقين فإن بعض شعبة ثمرة لبعض فإن تبين الحكمة وتعلمها ثمرات لإعمال الفطنة والفكرة ومعرفة العبر ومواقع الاعتبار بالماضين ، والاستدلال بذلك على صانع حكيم ثمرة لتبيين وجوه الحكمة وكيفية الاعتبار.

وأما ثمرات العدل فبعضها كذلك أيضا وذلك أن جودة الفهم وغوصة مستلزم للوقوف على غور العلم وغامضة ، والوقوف على غامض العلم مستلزم للوقوف على شرائع الحكم العادل ، والصدور عنها بين الخلق من القضاء الحق.

وأما ثمرة الحلم فعدم وقوع الحليم في طرف التفريط والتقصير عن هذه الفضيلة وهي رذيلة الجبن ، وأن يعيش في الناس محمودا بفضيلته.

وأما ثمرات الجهاد فأحدها ثمرة الأمر بالمعروف وهو شد ظهور المؤمنين ومعاونتهم على إقامة الفضيلة ، الثانية : ثمرة النهي عن المنكر وهي إرغام أنوف المنافقين وإذلالهم بالقهر عن ارتكاب المنكرات ، وإظهار الرذيلة ، الثالثة : ثمرة الصدق في المواطن المكروهة وهي قضاء الواجب من أمر الله تعالى في دفع أعدائه والذب عن الحريم ، والرابعة : ثمرة بغض الفاسقين والغضب لله وهي غضب الله لمن أبغضهم وإرضاؤه يوم القيامة في دار كرامته.

٣٢٣

باب

فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان

١ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن سالم ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام يا أخا جعف إن الإيمان أفضل من الإسلام وإن اليقين أفضل من الإيمان وما من شيء أعز من اليقين.

______________________________________________________

باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان

الحديث الأول : ضعيف.

« يا أخا جعف » أي يا جعفي وهم قبيلة من اليمن ، وفي المصباح هو أخو تميم أي واحد منهم ، وفضل الإيمان على الإسلام إما باعتبار الولاية في الأول أو الإذعان القلبي فيه مع الأعمال أو بدونها كما مر جميع ذلك ، وعلى أي معنى أخذت يعتبر في الإيمان ما لا يعتبر في الإسلام فهو أخص وأفضل ، وكذا اليقين يعتبر فيه أعلى مراتب الجزم بحيث يترتب عليه الآثار ، ويوجب فعل الطاعات وترك المناهي ، ولا يعتبر ذلك في الإيمان أي في حقيقته حتى يكون في جميع أفراده فهو أخص وأفضل أفراد الإيمان ، أو يعتبر في اليقين عدم احتمال النقيض ، ولا يعتبر ذلك في الإيمان مطلقا كما مر ، والأظهر أن التصديق الذي لا يحتمل النقيض تختلف مراتبه حتى يصل إلى مرتبة اليقين كما أومأنا إليه سابقا.

« وما شيء أعز من اليقين » أي أقل وجودا في الناس منه أو أشرف منه ، والأول أظهر ، إذ اليقين لا يجتمع مع المعصية لا سيما مع الإصرار عليها ، وتارك ذلك نادر قليل ، بل يمكن أن يدعى أن أيمان أكثر الخلق ليس إلا تقليدا وظنا يزول بأدنى وسوسة من النفس والشيطان ، ألا ترى أن الطبيب إذا أخبر أحدهم بأن الطعام الفلاني يضره أو يوجب زيادة مرضه أو بطوء برئه يحتمي الطعام بمحض

٣٢٤

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد والحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد جميعا ، عن الوشاء ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال سمعته يقول الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسم في الناس

______________________________________________________

قول هذا الطبيب حفظا لنفسه من الضرر الضعيف المتوهم ، ولا يترك المعصية الكبيرة مع إخبار الله ورسوله وأئمة الهدى عليهم‌السلام بأنها مهلكة وموجبة للعذاب الشديد وليس ذلك إلا لضعف الإيمان وعدم اليقين.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور معتبر.

ويدل على أن التقوى أفضل من الإيمان ، والتقوى من الوقاية وهي في اللغة فرط الصيانة ، وفي العرف صيانة النفس عما يضرها في الآخرة وقصرها على ما ينفعها فيها ، ولها ثلاث مراتب الأولى : وقاية النفس عن العذاب المخلد ، بتصحيح العقائد الإيمانية ، والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وهو المعروف عند أهل الشرع ، والثالثة : التوقي عن كل ما يشغل القلب عن الحق ، وهذه درجة الخواص ، من خاص الخاص.

والمراد هنا أحد المعنيين الأخيرين ، وكونه فوق الإيمان بالمعنى الثالث ظاهر على أكثر معاني الإيمان التي سبق ذكرها ، وإن أريد المعنى الثاني فالمراد بالإيمان إما محض العقائد الحقة أو مع فعل الفرائض وترك الكبائر بأن يعتبر ترك الصغائر أيضا في المعنى الثاني ، وقيل : باعتبار أن الملكة معتبرة فيها لا فيه ، ولا يخفى ما فيه.

وكون اليقين فوق التقوى كأنه يعين حملها على المعنى الثاني وإلا فيشكل الفرق ، لكن درجات المرتبة الأخيرة أيضا كثيرة فيمكن حمل اليقين على أعالي درجاتها ، وما قيل في الفرق : أن التقوى قد يوجد بدون اليقين كما في بعض المقلدين فهو ظاهر الفساد ، إذ لا توجد هذه الدرجة الكاملة من التقوى لمن كان بناء إيمانه على الظن والتخمين.

وقوله عليه‌السلام : وما قسم للناس ، يدل على أن للاستعدادات الذاتية والعنايات

٣٢٥

شيء أقل من اليقين.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن حمران بن أعين قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن الله فضل الإيمان على الإسلام بدرجة كما فضل الكعبة على المسجد الحرام.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن هارون بن الجهم أو غيره ، عن عمر بن أبان الكلبي ، عن عبد الحميد الواسطي ، عن أبي بصير قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام يا أبا محمد الإسلام درجة قال قلت نعم قال والإيمان على الإسلام درجة قال قلت نعم قال والتقوى على الإيمان درجة قال قلت نعم قال واليقين على التقوى درجة قال قلت نعم قال فما أوتي الناس أقل

______________________________________________________

الإلهية مدخلا في مراتب الإيمان واليقين كما مرت الإشارة إليه.

الحديث الثالث : حسن.

وقد مر وجه هذا التشبيه في الفرق بين الإسلام والإيمان.

الحديث الرابع : مجهول.

« الإسلام درجة » أي درجة من الدرجات أو أول درجة وهو استفهام أو خبر « ونعم » يقع في جوابهما « على الإسلام » أي مشرفا أو زائدا عليه « ما أوتي الناس أقل من اليقين » أي الإيمان أقل من سائر ما أعطي الناس من الكمالات أو هو عزيز نادر فيهم كما مر ، وقيل : المعنى ما أعطى الناس شيئا قليلا من اليقين ولا يخفى بعده ، وكأنه حمله على ذلك ما سيأتي.

قوله عليه‌السلام : بأدنى الإسلام ، كان المراد بالإسلام هنا مجموع العقائد الحقة بل مع قدر من الأعمال كما مر من اختلاف معاني الإسلام ، ويحتمل أن يكون المراد بالخطاب غير المخاطب من ضعفاء الشيعة ، وقيل : المراد بأدنى الإسلام أدنى الدرجات إلى الإسلام وهو الإيمان من قبيل يوسف أحسن إخوته.

٣٢٦

من اليقين وإنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن ينفلت من أيديكم.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الإيمان والإسلام فقال قال أبو جعفر عليه‌السلام إنما هو الإسلام والإيمان فوقه بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين قال قلت فأي شيء اليقين قال التوكل

______________________________________________________

« أن ينفلت من أيديكم » أي يخرج من قلوبكم فجأة فيدل على أن من لم يكن في درجة كاملة من الإيمان فهو على خطر من زواله فلا يغتر من لم يتق المعاصي بحصول العقائد له ، فإنه يمكن زواله عنه بحيث لم يعلم ، فإن الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة حصون للإيمان تحفظه من سراق شياطين الإنس والجان ، قال الجوهري : يقال كان ذلك الأمر فلتة أي فجأة إذا لم يكن عن تدبر ولا تردد ، وأفلت الشيء وتفلت بمعنى ، وأفلته غيره.

الحديث الخامس : صحيح.

« إنما هو الإسلام » كان الضمير راجع إلى الدين لقوله تعالى : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ » (١) أو ليس أول الدخول في الدين إلا درجة الإسلام.

قوله عليه‌السلام : التوكل على الله ، تفسير اليقين بما ذكر من باب تعريف الشيء بلوازمه وآثاره ، فإنه إذا حصل اليقين في النفس بالله سبحانه ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته وتقديره للأشياء وتدبيره فيها ورأفته بالعباد ورحمته ، يلزم التوكل عليه في أموره والاعتماد عليه والوثوق به ، وإن توسل بالأسباب تعبدا والتسليم له في جميع أحكامه ، ولخلفائه فيما يصدر عنهم ، والرضا بكل ما يقضي عليه على حسب المصالح من النعمة والبلاء والفقر والغناء ، والعز والذل وغيرها ، وتفويض الأمر إليه في دفع شر الأعادي الظاهرة والباطنة ، أورد الأمر بالكلية إليه في جميع الأمور بحيث يرى قدرته مضمحلة في جنب قدرته ، وإرادته معدومة

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩.

٣٢٧

على الله والتسليم لله والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله قلت فما تفسير ذلك قال هكذا قال أبو جعفر عليه‌السلام.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن الرضا عليه‌السلام قال الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بين العباد شيء أقل من اليقين.

______________________________________________________

عند إرادته كما قال الله تعالى : « وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ » (١) ويعبر عن هذه المرتبة بالفناء في الله.

قوله عليه‌السلام : هكذا « إلخ » لما كان السائل قاصرا عن فهم حقائق هذه الصفات لم يجبه عليه‌السلام بالتفسير بل أكد حقيته بالرواية عن والده عليهما‌السلام ، وقيل : استبعد الراوي كون هذه الأمور تفسيرا لليقين ، فأجاب عليه‌السلام بأن الباقر عليه‌السلام كذا فسره.

الحديث السادس : صحيح ومطابق لحديث الوشاء.

قال بعض المحققين : اعلم أن العلم والعبادة جوهران لأجلهما كان كلما ترى وتسمع من تصنيف المصنفين وتعليم المعلمين ووعظ الواعظين ونظر الناظرين ، بل لأجلهما أنزلت الكتب وأرسلت الرسل ، بل لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما فيهما من الخلق ، وناهيك لشرف العلم قول الله عز وجل : « اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً » (٢) ولشرف العبادة قوله سبحانه : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ » (٣) فحق للعبد أن لا يشتغل إلا بهما ، ولا يتعب إلا لهما ، وأشرف الجوهرين العلم كما ورد : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.

__________________

(١) سورة الإنسان : ٣٠.

(٢) سورة الطلاق : ١٢.

(٣) سورة الذاريات : ٥٦.

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والمراد بالعلم الدين أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قال الله عز وجل : « آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ » (١) وقال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً » (٢) ومرجع الإيمان إلى العلم ، وذلك لأن الإيمان هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصور ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم ، والكفر ما يقابله وهو بمعنى الستر والغطاء ، ومرجعه إلى الجهل ، وقد خص الإيمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة ولو إجمالا ، فالعلم بها لا بد منه ، وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، ولكن لكل إنسان بحسب طاقته ووسعه ، « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » ، فإن العلم والإيمان درجات مترتبة في القوة والضعف والزيادة والنقصان ، بعضها فوق بعض ، كما دلت عليه الأخبار الكثيرة.

وذلك لأن الإيمان إنما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الله جل جلاله. « اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » وليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه ، وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار. « وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً » كلما ارتفع حجاب ازداد نور فيقوى الإيمان

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٥.

(٢) سورة النساء : ١٣٦.

٣٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ويتكامل إلى أن ينبسط نور فينشرح صدره ويطلع على خلق الأشياء وتجلى له الغيوب ويعرف كل شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم‌السلام في جميع ما أخبروا عنه إجمالا وتفصيلا على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور ، والاجتناب عن كل محظور فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة « نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ » « نُورٌ عَلى نُورٍ » وكل عبادة تقع على وجهها تورث في القلب صفاء يجعله مستعدا لحصول نور فيه وانشراح ومعرفة ويقين ، ثم ذلك النور والمعرفة واليقين تحمله على عبادة أخرى وإخلاص آخر فيها يوجب نورا آخر وانشراحا أتم ومعرفة أخرى ويقينا أقوى ، وهكذا إلى ما شاء الله جل جلاله ، وعلى كل من ذلك شواهد من الكتاب والسنة.

ثم اعلم أن أوائل درجات الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك والشبه على اختلاف مراتبها ، ويمكن معها الشرك" « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ » " وعنها يعبر بالإسلام في الأكثر" « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ » " وأواسطها تصديقات لا يشوبها شك ولا شبهة" « الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا » " وأكثر إطلاق الإيمان عليها خاصة" « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » " وأواخرها تصديقات كذلك مع كشف وشهود وذوق وعيان ، ومحبة كاملة لله سبحانه ، وشوق تام إلى حضرته المقدسة « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ». ، « لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ » ، وعنها العبارة تارة بالإحسان ، الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وأخرى بالإيقان" « وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ » " وإلى المراتب الثلاث الإشارة بقوله عز وجل : " « لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا

٣٣٠

باب

حقيقة الإيمان واليقين

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن عذافر ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________________________________

مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » (١) وإلى مقابلاته التي هي مراتب الكفر الإشارة بقوله جل وعز : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً » (٢) فنسبة الإحسان واليقين إلى الإيمان كنسبة الإيمان إلى الإسلام ، ولليقين ثلاث مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين « كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ » أن هذا لهو حق اليقين.

والفرق بينها إنما ينكشف بمثال فعلم اليقين بالنار مثلا هو مشاهدة المرئيات بتوسط نورها ، وعين اليقين بها هو معاينة جرمها ، وحق اليقين بها الاحتراق فيها ، وانمحاء الهوية بها والصيرورة نارا صرفا وليس وراء هذا غاية ، ولا هو قابل للزيادة ، لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

باب حقيقة الإيمان واليقين

الحديث الأول : مجهول وقد مر مضمونه بسند صحيح قبل ذلك بورقة.

« بينا رسول الله » بينا هي بين الظرفية أشبعت فتحتها فصارت ألفا ويقع بعدها حينئذ إذ الفجائية غالبا ، وعاملها محذوف يفسره الفعل الواقع بعد إذ عند بعض ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٣.

(٢) سورة النساء : ١٣٧.

٣٣١

في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا السلام عليك يا رسول الله فقال ما أنتم فقالوا نحن مؤمنون يا رسول الله قال فما حقيقة إيمانكم قالوا الرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله والتسليم لأمر الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن ابن محبوب ، عن أبي محمد الوابشي وإبراهيم بن مهزم ، عن إسحاق بن عمار

______________________________________________________

وبعضهم يجعلها خبرا عن مصدر مسبوك من الفعل ، أي بين أوقات سفره لقاء الركب ، والركب جمع راكب كصحب وصاحب.

« فقال ما أنتم » أي أي صنف أنتم من الناس؟ قيل : كما أن ما تكون سؤالا عن حقيقة الشيء يكون سؤالا عن خواصه وآثاره المترتبة عليه ، وهو المراد هنا فلذلك أجابوا بها « فقالوا نحن مؤمنون » انتهى.

وقال الراغب في معاني « ما » الثالث : الاستفهام ، ويسأل به عن جنس ذات الشيء ونوعه ، وعن جنس صفات الشيء ونوعها ، وقد يسأل به عن الأشخاص والأعيان في غير الناطقين ، انتهى.

« فما حقيقة إيمانكم » لما كانت للإيمان حقائق مختلفة ودرجات متفاوتة سألهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حقيقة الإيمان الذي يدعونه فأجابوا بلوازمه وآثاره ليظهر حقيقة ما ادعوه ، أو المراد بالحقيقة ما يحقه ويثبته أي الإيمان أمر قلبي إنما يثبت بآثاره ، فما ظهر من آثار إيمانكم ليدل على ثبوته في قلوبكم ، والمعنى الأول أنسب بما مر من مضمون هذا الخبر ، حيث قال : وما بلغ من إيمانكم ، فإن الظاهر اتحاد الواقعة ، والتفويض إلى الله هنا التوكل عليه في جميع الأمور.

الحديث الثاني : موثق.

٣٣٢

قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف أصبحت يا فلان قال أصبحت يا رسول الله موقنا فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله وقال إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك فقال إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ

______________________________________________________

« فنظر إلى شاب » كأنه الحارثة الآتي في الخبر الثاني « وهو يخفق ويهوي برأسه » للنعاس بكثرة العبادة في الليل في القاموس : خفقت الراية ينخفق وتخفق وخفقا وخفقانا محركة اضطربت وتحركت ، وفلان حرك رأسه إذا نعس كأخفق وقال : هوى هويا سقط من علو إلى سفل ، انتهى.

فقوله : ويهوي برأسه كالتفسير لقوله : يخفق ، أو مبالغة في الخفق إذ يكفي فيه الحركة القليلة ونحف كتعب وقرب نحافة : هزل « كيف أصبحت » أي على أي حال دخلت في الصباح ، أو كيف صرت « فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » كتعب أي تعجب منه لندرة مثل ذلك ، أو أعجبه وسر به قال الراغب : العجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل : لا يصح على الله التعجب إذ هو علام الغيوب ، ويقال : لما لا يعهد مثله عجب ، قال تعالى : « أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا » (١) « كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً » (٢) « إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً » (٣) أي لم نعهد مثله ولم نعرف سببه ، ويستعار تارة للمؤنق فيقال أعجبني كذا أي راقني ، وقال تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ » (٤).

« إن لكل يقين » أي فرد من أفراده أو صنف من أصنافه « حقيقة فما حقيقة يقينك » من أي نوع أو صنف ، أو لكل يقين علامة تدل عليه فما علامة يقينك كما مر « هو الذي أحزنني » أي في أمر الآخرة « وأسهر ليلي » لحزن الآخرة أو

__________________

(١) سوره يونس : ٢.

(٢) سورة الكهف : ٩.

(٣) سورة الجن : ١.

(٤) سورة البقرة : ٢٠٤.

٣٣٣

هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي فقال رسول

______________________________________________________

للاستعداد لها ، أو لحب عبادة الله ومناجاته : عجبا للمحب كيف ينام ، والإسناد مجازي أي أسهرني في ليلي وكذا في قوله : « وأظمأ هواجري » مجاز عقلي أي أظمأني عند الهاجرة وشدة الحر للصوم في الصيف ، وإنما خصه لأنه أشق وأفضل ، في القاموس : الهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا ، وشدة الحر.

وقال : عزفت نفسي عنه تعزف عزوفا زهدت فيه وانصرفت عنه ، أو ملته.

« حتى كأني أنظر » أي شدة اليقين بأحوال الآخرة صيرني إلى حالة المشاهدة ، والاصطراخ الاستغاثة وزفير النار صوت توقدها ، في القاموس : زفر يزفر زفرا وزفيرا أخرج نفسه بعد مده إياه ، والنار سمع لتوقدها صوت.

وقال : المسمع كمنبر الأذن كالسامعة والجمع مسامع ، انتهى.

وقيل : المسامع جمع على غير قياس كمشابه وملامح جمع شبه ولمحة ، وقال بعض المحققين : هذا التنوير الذي أشير به في الحديث إنما يحصل بزيادة الإيمان وشدة اليقين فإنهما ينتهيان بصاحبهما إلى أن يطلع على حقائق الأشياء ، محسوساتها ومعقولاتها فتنكشف له حجبها وأستارها ، فيعرفها بعين اليقين على ما هي عليه من غير وصمة ريب أو شائبة شك فيطمئن لها قلبه ويستريح بها روحه ، وهذه هي الحكمة الحقيقة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا.

وإليه أشار أمير المؤمنين بقوله : هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، وباشروا رواح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ،

٣٣٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان ثم قال له الزم ما أنت عليه فقال الشاب ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له كيف أنت يا حارثة بن مالك فقال يا رسول الله مؤمن حقا فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك فقال

______________________________________________________

وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى.

أراد عليه‌السلام بما استوعره المترفون يعني المتنعمون رفض الشهوات البدنية وقطع التعلقات الدنيوية وملازمة الصمت والسهر والجوع والمراقبة ، والاحتراز عما لا يعني ونحو ذلك ، وإنما يتيسر ذلك بالتجافي عن دار الغرور ، والترقي إلى عالم النور ، والأنس بالله والوحشة عما سواه ، وصيرورة الهموم جميعا هما واحدا ، وذلك لأن القلب مستعد لأن يتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها من اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله تعالى به إلى يوم القيامة وإنما حيل بينه وبينها حجب كنقصان في جوهرة أو كدورة تراكمت عليه من كثرة الشهوات أو عدول به عن جهة الحقيقة المطلوبة ، أو اعتقاد سبق إليه ورسخ فيه على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن ، أو جهل بالجهة التي منها يقع العثور على المطلوب ، وإلى بعض هذه الحجب أشير في الحديث النبوي : لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور لا يقصر عن الصحيح عندي.

« مؤمن حقا » قوله : حقا مؤكد كقولهم : هذا عبد الله حقا ، والحاصل أني مؤمن حق الإيمان ، وكما ينبغي أن يكون المؤمن « فأسهرت ليلي » على صيغة

٣٣٥

يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأني أنظر إلى عرش ربي قد وضع للحساب وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد نور الله قلبه أبصرت فاثبت فقال يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك فقال : اللهم ارزق حارثة الشهادة فلم يلبث إلا أياما حتى بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سرية فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل

______________________________________________________

الغيبة بإرجاع الضمير إلى النفس أو على صيغة التكلم ، وكذا الفقرة التالية تحتمل الوجهين ، ويقال : تزاوروا أي زار بعضهم بعضا ، وقال في النهاية في حديث حارثة : كأني أسمع عواء أهل النار ، أي صياحهم والعواء صوت السباع وكأنه بالذئب والكلب أخص ، وفي القاموس : عوى يعوي عيا وعواءا بالضم لوى خطمه ثم صوت أو مد صوته ولم يفصح.

وقال : السرية من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة ، وفي الصحاح : السرية قطعة من الجيش.

قوله : وفي رواية القاسم بن يزيد ، يحتمل الإرسال أو يكون الراوي عنه ابن سنان ، فيكون بحكم السند السابق.

ثم اعلم أن هاتين الروايتين تدلان على أن حارثة استشهد في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال بعضهم : وينافيه ما ذكر الشيخ في رجاله حيث قال : حارثة بن نعمان الأنصاري كنيته أبو عبد الله شهد بدرا وأحدا وما بعدهما من المشاهد ، وذكر هو أنه رأى جبرئيل عليه‌السلام دفعتين على صورة دحية الكلبي أو لهما حين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني قريظة ، والثاني حين رجع من حنين ، وشهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام القتال ، وتوفي في زمن معاوية ، انتهى.

وهو خطاء لأن المذكور في الخبر حارثة بن مالك وجده النعمان ، وما ذكره الشيخ حارثة بن النعمان وهو غيره ، والعجب أن هذا الحديث مذكور في

٣٣٦

وفي رواية القاسم بن بريد ، عن أبي بصير قال استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه إن على كل حق حقيقة وعلى كل

______________________________________________________

كتب العامة أيضا كما يظهر من النهاية ، وهذا الرجل غير مذكور في رجالهم وكأنه لعدم الرواية عنه كما أن أصحابنا أيضا لم يذكروه لذلك.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور.

ويمكن أن يكون المراد بالحقيقة الدليل العقلي وبالنور الدليل النقلي من الكتاب والسنة ، أو يكون المراد بالحقيقة العلامة الدالة على وجوده كما مر ، وبالنور الدلائل الدالة على المسائل الأصولية والفروعية ، عقلية كانت أو نقلية ، ويحتمل أن يكون المراد بالنور الآيات القرآنية فالمراد بالحقيقة السنة أو الأعم منها ومن الدلائل العقلية لأنه قد مضى هذا الخبر بهذا السند في باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ، وله تتمة وهي قوله : فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه.

وقيل : المراد بالحق ظاهر الشريعة وبالحقيقة باطنه وغايته وماله وما به كماله ، كما قيل : ينقسم ما جاء به الشارع إلى شريعة وحقيقة فالشريعة ظاهر ما ورد به النقل ، والحقيقة باطنه وهو بين العبد وبين الله ، فحكم الشريعة على الظاهر وحكم الحقيقة على الباطن كما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحن نحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر ، فكل عبادة ظاهرة إن لم تصدر عن حقيقة باطنة كأعمال المنافقين والمرائين فهي باطلة ، وكالتقوى فإن أوله حق يشمل عوام المؤمنين ، وله حقيقة وغاية يبلغها خواص الأولياء وكذلك الأيمان فإن أوله حق وبه يخرج عن الكفر وله حقيقة وغاية هي كماله يبلغها خواص المؤمنين.

٣٣٧

صواب نورا.

باب التفكر

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول نبه بالتفكر قلبك وجاف عن الليل

______________________________________________________

وبالجملة الحق في كل شيء بمنزلة القشر والحقيقة بمنزلة اللب ، وإنما قال : على كل حق ، ولم يقل لكل حق للتنبيه بالاستعلاء على أن حقيقة كل شيء مرتفع على حقه ومستول عليه إذ هو المقصود منه ولمجانسة قوله : وعلى كل صواب نورا ، والصواب ضد الخطإ أي على كل صواب من قول أو فعل أو عقد برهان يحققه ، ودليل يصدقه ، وإنما سمي نورا لأنه سبب ظهوره.

باب التفكر الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

والتنبيه الإيقاظ عن النوم وعن الغفلة ، وفي القاموس النبه بالضم الفطنة والقيام من النوم ، وأنبهه ونبهه فتنبه وانتبه وهذا منبهة على كذا يشعر به ، ولفلان مشعر بقدره ومعل له ، وما نبه له كفرح : ما فطن والاسم النبه بالضم ، ونبه باسمه تنبيها نوه ، انتهى.

والتفكر إعمال الفكر فيما يفيد العلم به قوة الإيمان واليقين ، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ، قال الغزالي : حقيقة التفكر طلب علم غير بديهي من مقدمات موصلة إليه كما إذا تفكر إن الآخرة باقية والدنيا فانية ، فإنه يحصل له العلم بأن الآخرة خير من الدنيا ، وهو يبعثه على العمل للآخرة فالتفكر سبب لهذا العلم ، وهذا العلم حالة نفسانية وهو التوجه إلى الآخرة وهذه الحالة تقتضي العمل لها ، وقس على هذا فالتفكر موجب لتنور القلب وخروجه من الغفلة ،

٣٣٨

جنبك واتق الله ربك.

______________________________________________________

وأصل لجميع الخيرات.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره : التفكر سير الباطن من المبادئ إلى المقاصد وهو قريب من النظر ولا يرتقي أحد من النقص إلى الكمال إلا بهذا السير ومباديه الآفاق والأنفس بأن يتفكر في أجزاء العالم وذراته وفي الأجرام العلوية من الأفلاك والكواكب وحركاتها وأوضاعها ومقاديرها واختلافاتها ومقارناتها ومفارقاتها وتأثيراتها وتغييراتها وفي الأجرام السفلية وترتيبها وتفاعلها وكيفياتها ومركباتها ومعدنياتها وحيواناتها ، وفي أجزاء الإنسان وأعضائه من العظام والعضلات والعصبات والعروق وغيرها مما لا يحصى كثرة ، ويستدل بها وبما فيها من المصالح والمنافع والحكم والتغيير على كمال الصانع وعظمته وعلمه وقدرته ، وعدم ثبات ما سواه.

وبالجملة التفكر فيما ذكر ونحوه من حيث الخلق والحكمة والمصالح أثره العلم بوجود الصانع وقدرته وحكمته ، ومن حيث تغييره وانقلابه وفنائه بعد وجوده أثره الانقطاع منه والتوجه بالكلية إلى الخالق الحق ، ومن هذا القبيل التفكر في أحوال الماضين وانقطاع أيديهم عن الدنيا وما فيها ، ورجوعهم إلى دار الآخرة فإنه يوجب قطع المحبة عن غير الله والانقطاع إليه بالتقوى والطاعة ، ولذا أمر بهما بعد الأمر بالتفكر ، ويمكن تعميم التفكر بحيث يشمل التفكر في معاني الآيات القرآنية والأخبار النبوية والآثار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام ، والمسائل الدينية والأحكام الشرعية ، وبالجملة كلما أمر الشارع الصادق بالخوض فيه والعلم به.

قوله عليه‌السلام : وجاف عن الليل جنبك ، الجفاء البعد ، وجاف عنه كذا أي باعده عنه ، في الصحاح : جفا السرج عن ظهر الفرس وأجفيته أنا إذا رفعته عنه ، وجافاه عنه فتجافى جنبه عن الفراش أي نبأ ، انتهى.

وقال سبحانه : « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » (١) وإسناد المجافاة إلى الليل مجاز في الإسناد ، أي جاف عن الفراش بالليل أو فيه تقدير مضاف أي جاف عن فراش

__________________

(١) سورة السجدة : ١٦.

٣٣٩

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بعض أصحابه ، عن أبان ، عن الحسن الصيقل قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما يروي الناس أن تفكر ساعة خير من قيام ليلة قلت كيف يتفكر قال يمر بالخربة أو بالدار فيقول أين ساكنوك أين بانوك ما بالك لا تتكلمين.

______________________________________________________

الليل جنبك ، وعلى التقادير كناية عن القيام بالليل للعبادة ، وقد مر معنى التقوى والتوصيف بالرب للتعليل.

الحديث الثاني : مرسل.

« خير من قيام ليلة » أي للعبادة لأن التفكر من أعمال القلب وهو أفضل من أعمال الجوارح ، وأيضا أثره أعظم وأدوم ، إذ ربما صار تفكر ساعة سببا للتوبة عن المعاصي ، ولزوم الطاعة تمام العمر.

« يمر بخربة » (١) كأنه عليه‌السلام ذكر ذلك على سبيل المثال لتفهيم السائل أو قال ذلك على قدر فهم السائل ورتبته فإنه كان قابلا لهذا النوع من التفكر ، والمراد بالدار ما لم تخرب لكن مات من بناها وسكنها غيره ، وبالخربة ما خرب ولم يسكنه. أحد ، وكون الترديد من الراوي كما زعم بعيد ، ويحتمل أن يكون : أين ساكنوك؟ للخربة وأين بانوك؟ للدار على اللف والنشر المرتب ، لكن كونهما لكل منهما أظهر ، والظاهر أن القول بلسان الحال ، ويحتمل المقال ، وقوله : ما لك لا تتكلمين؟ بيان لغاية ظهور الحال أي العبرة فيك بينة بحيث كان ينبغي أن تتكلم بذلك ، وقيل : هو من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، فنفي التكلم كناية عن نفي الاستماع أي لم لا يسمع الغافلون ما تتكلم به بلسان الحال جهرا أو قيل : استفهام إنكاري أي أنت تتكلمين لكن الغافلون لا يستمعون وهو بعيد ، ويمكن أن يكون كلامها كناية عن تنبيه الغافلين أي لم تنتبه المغرورين بالدنيا مع هذه الحالة الواضحة ، ويؤول إلى تعبير الجاهلين بعدم الاتعاظ به كما أنه يقول رجل لوالد رجل فاسق بحضرته : لم لا تعظ ابنك؟ مع أنه يعلم أنه يعظه وإنما يقول ذلك تعييرا للابن.

__________________

(١) وفي المتن « بالحزبة ».

٣٤٠