مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

عز وجل : « وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ » (١) وقال « نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ

______________________________________________________

فإذا عرفت هذا فلم يحتج إلى ما تكلفه بعضهم أنه لما ذكر عليه‌السلام أن الإيمان مفروض على الجوارح وأنه يزيد وينقص وعلم السائل الأول صريحا من الآيات المذكورة ، والثاني ضمنا أو التزاما منها للعلم الضروري بأن العلم يزيد وينقص سأل عن الآيات الدالة على الثاني صريحا ، أو قصده من السؤال أني قد فهمت مما ذكر نقصان الإيمان العملي وتمامه باعتبار أن العمل يزيد وينقص فمن أين جاءت زيادة الإيمان التصديقي وأية آية تدل عليها؟ وفيه حينئذ استخدام إذ أراد بلفظ الإيمان الإيمان العملي ، وبضميره الإيمان التصديقي ، وعلى التقديرين لا يرد أنه إذا علم نقصان الإيمان وتمامه فقد علم زيادته ، لأن في التام زيادة ليست في الناقص ، انتهى.

« فَمِنْهُمْ » قال البيضاوي : فمن المنافقين « مَنْ يَقُولُ » إنكارا واستهزاء « أَيُّكُمْ زادَتْهُ » « هذِهِ » السورة « إِيماناً » وقرأ أيكم بالنصب على إضمار فعل يفسره زادته « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً » بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى أيمانهم « وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ » بنزولها لأنها سبب لزيادة كما لهم وارتفاع درجاتهم « وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » كفر « فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ » كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها « وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ » واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه « وَزِدْناهُمْ هُدىً » أي هداية إلى الإيمان أو زدناهم بسبب الإيمان ثباتا وشدة يقين وصبر على المكاره في الدين كما قال « وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ » فهذه الهداية الخاصة الربانية زيادة على الإيمان الذي كانوا به متصفين حيث قال تعالى

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٦.

٢٤١

وَزِدْناهُمْ هُدىً » (١) ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ولاستوت النعم فيه ولاستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرطون النار.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا ، عن البرقي ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن عبيد الله بن لحسن ، عن الحسن بن هارون قال قال لي أبو عبد الله

______________________________________________________

أولا « إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ » « ولو كان كله واحدا » أي كل الإيمان واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد من المؤمنين فضل على الآخر ، لأن الفضل إنما هو بالإيمان فلا فضل مع مساواتهم فيه « ولاستوت النعم » أي نعم الله بالهدايات الخاصة في الإيمان « ولاستوى الناس » في دخول الجنة أو في الخير والشر ، وبطل تفضيل بعضهم على بعض بالدرجات والكمالات ، واللوازم كلها باطلة بالكتاب والسنة.

« ولكن بتمام الإيمان » باعتبار أصل التصديق والعمل بالفرائض أو بالواجبات وترك الكبائر أو المنهيات « دخل المؤمنون » المتصفون به « الجنة وبالزيادة في الإيمان » بضم سائر الواجبات مع المندوبات أو المندوبات وترك الصغائر مع المكروهات ، أو المكروهات وتحصيل الآداب المرغوبة والأخلاق المطلوبة « تفاضل المؤمنون » المتصفون بها بدرجات الجنة العالية ، والمنازل الرفيعة في قربه تعالى « وبالنقصان » في التصديق أو التقصير في الأعمال الواجبة وارتكاب المحرمات « دخل المفرطون » في النار إن لم ينجوا بفضله وعفوه سبحانه.

الحديث الثاني : مجهول ، والظاهر زيادة عن أبيه عن النساخ لأن محمد بن يحيى عطف على العدة ، والبرقي هو محمد بن خالد كما هو المصرح به في بعض النسخ ،

__________________

(١) سورة الكهف : ١٣.

٢٤٢

عليه‌السلام « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » (١) قال يسأل السمع عما سمع والبصر عما نظر إليه والفؤاد عما عقد عليه.

٣ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان أو غيره ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الإيمان فقال شهادة أن لا إله إلا الله أن محمدا رسول الله والإقرار بما جاء من عند الله وما استقر في القلوب من التصديق بذلك قال قلت الشهادة أليست عملا قال بلى قلت العمل من الإيمان قال نعم الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلا بعمل.

______________________________________________________

وأحمد البرقي وابن عيسى يرويان عن محمد البرقي.

الحديث الثالث : مرسل قوله : شهادة أن لا إله إلا الله أي التكلم بكلمة التوحيد والإقرار به ظاهرا وإنما اكتفي بها عن الإقرار بالرسالة لتلازمهما أو هو داخل في قوله : والإقرار بما جاء من عند الله ، والضمير في « جاء » راجع إلى الموصول أي الإقرار بكل ما أرسله الله من نبي أو كتاب أو حكم ما علم تفصيلا وما لم يعلم إجمالا ، وكل ذلك الإقرار الظاهري.

وقوله : ما استقر في القلوب ، الإقرار القلبي بجميع ذلك ، وهذا أحد معاني الإيمان كما عرفت ، ولا يدخل فيه أعمال الجوارح سوى الإقرار الظاهري بما صدق به قلبا ، ولما كان عند السائل أن الإيمان محض العلوم والعقائد ولا يدخل فيه الأعمال استبعد كون الشهادة التي هي من عمل الجوارح من الإيمان ، فأجاب عليه‌السلام بأن العمل جزء الإيمان.

« ولا يثبت الإيمان » أي لا يتحقق واقعا أو لا يثبت الإيمان عند الناس إلا بالإقرار والشهادة التي هي عمل الجوارح أو لا يستقر الإيمان إلا بأعمال الجوارح ، فإن التصديق الذي لم يكن معه عمل يزول ولا يبقى.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣٦.

٢٤٣

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن عبد الله بن مسكان ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له ما الإسلام فقال دين الله اسمه الإسلام ـ وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم وبعد أن تكونوا فمن أقر بدين الله فهو مسلم ومن عمل بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن.

٥ ـ عنه ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن أيوب بن الحر ، عن أبي بصير قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فقال له سلام إن خيثمة ابن أبي خيثمة يحدثنا عنك أنه سألك عن الإسلام فقلت له إن

______________________________________________________

الحديث الرابع : مرسل

قوله عليه‌السلام : دين الله اسمه الإسلام ، لقوله تعالى : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ » (١) وقوله : « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً » (٢).

« وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم » أي قبل أن تكونوا في عالم من العوالم أي حين لم تكونوا في عالم الأجساد ، ولا في عالم الأرواح وبعد أن تكونوا في أحد العوالم ، أو قبل أن تكونوا وتوجدوا على هذا الهيكل المخصوص حيث كنتم في الأظلة أو في العلم الأزلي « وبعد أن تكونوا » في عالم الأبدان ، والأول أظهر ، وعلى التقديرين المراد عدم التغير في الأديان والأزمان « فمن أقر بدين الله » أي العقائد التي أمر الله بالإقرار بها في كل دين قلبا وظاهرا « فهو مسلم ومن عمل » أي مع ذلك الإقرار « بما أمر الله عز وجل به » من الفرائض وترك الكبائر أو الأعم « فهو مؤمن » وهذا أحد المعاني التي ذكرنا من الإسلام والإيمان.

الحديث الخامس : صحيح.

وسلام يحتمل ابن المستنير الجعفي ، وابن أبي عمرة الخراساني وكلاهما مجهولان من أصحاب الباقر عليه‌السلام وخيثمة بفتح الخاء ثم الياء المثناة الساكنة ثم المثلثة المفتوحة غير مذكور في الرجال.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩.

(٢) سورة آل عمران : ٨٥.

٢٤٤

الإسلام من استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا ونسك نسكنا ووالى ولينا وعادى عدونا فهو مسلم فقال صدق خيثمة قلت وسألك عن الإيمان فقلت الإيمان بالله والتصديق بكتاب الله وأن لا يعصى الله فقال صدق خيثمة.

______________________________________________________

قوله : من استقبل قبلتنا ، أي دين من استقبل فقوله : فهو مسلم ، تفريع وتأكيد ، أو قوله : فهو مسلم قائم مقام العائد لأنه بمنزلة فهو صاحبه ، أو فهو المتصف به « وشهد شهادتنا » أي شهادة جميع المسلمين.

« ونسك نسكنا » أي عبد كعبادة المسلمين فيأتي بالصلاة والزكاة والصوم والحج ، أو المراد بالنسك أفعال الحج أو الذبح ، قال الراغب : النسك العبادة والناسك العابد ، واختص بأعمال الحج ، والمناسك مواقف النسك وأعمالها ، والنسيكة مختصة بالذبيحة ، قال : « فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ » (١) وقال تعالى : « فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ » (٢) وقال : « مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ » (٣).

« ووالى ولينا » أي ولي جميع المسلمين « وعادى عدونا » أي عدو جميع المسلمين وهم المشركون وسائر الكفار فهذا يشمل جميع فرق المسلمين.

« والتصديق بكتاب الله » يدخل فيه الإقرار بالرسالة والإمامة والعدل والمعاد « وأن لا يعصي الله » بالعمل بالفرائض وترك الكبائر أو العمل بجميع الواجبات وترك جميع المحرمات ، والحاصل أنه يحتمل أن يكون المراد بالإسلام الإسلام الظاهري وإن لم يكن مع التصديق القلبي ، وبالإيمان العقائد القلبية مع الإقرار بالولاية والإتيان بالأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : والى ولينا وعادى عدونا ، موالاة أولياء الأئمة عليهم‌السلام ومعاداة أعدائهم ، فالإسلام عبارة عن الإذعان بجميع العقائد الحقة ظاهرا وباطنا والإيمان عبارة عن انضمام العقائد القلبية والأعمال معه أو الأعمال فقط ، وعلى كل تقدير يرجع إلى أحد المعاني المتقدمة لهما.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٠.

(٣) سورة الحجّ : ٦٧.

٢٤٥

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الإيمان فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال قلت أليس هذا عمل قال بلى قلت فالعمل من الإيمان قال لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل والعمل منه.

٧ ـ بعض أصحابنا ، عن علي بن العباس ، عن علي بن ميسر ، عن حماد بن عمرو النصيبي قال سأل رجل العالم عليه‌السلام فقال أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله قال ما لا يقبل عمل إلا به فقال وما ذلك قال الإيمان بالله الذي هو أعلى الأعمال درجة وأسناها حظا وأشرفها منزلة قلت أخبرني عن الإيمان أقول وعمل أم قول بلا عمل قال الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بينه في كتابه واضح نوره ثابتة حجته يشهد به الكتاب ويدعو إليه قلت صف لي ذلك حتى أفهمه فقال إن الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل فمنه التام المنتهى تمامه ومنه الناقص المنتهى نقصانه ومنه الزائد الراجح زيادته قلت وإن الإيمان ليتم ويزيد وينقص قال نعم قلت و

______________________________________________________

الحديث السادس : صحيح ومضمونه قريب من الحديث الثالث.

« أليس هذا عمل » كذا في النسخ بالرفع ولعله من تصحيف النساخ ويحتمل أن يكون اسم ليس ضمير الشأن ويكون مبنيا على لغة بني تميم حيث ذهبوا إلى أن ليس إذا انتقض نفيه يحمل على ما في الإهمال ، والنفي هنا منتقض بالاستفهام الإنكاري.

قوله عليه‌السلام : لا يثبت له الإيمان ، الضمير راجع إلى المؤمن المدلول عليه بالإيمان.

الحديث السابع : ضعيف على المشهور.

وهو جزء من الحديث الأول بتغييرات مخلة.

منها ، قوله : بالله الذي هو ، فإن الصحيح بالله الذي لا إله إلا هو وقوله

٢٤٦

كيف ذلك قال إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم وقسمه عليها وفرقه عليها فليس من جوارحهم جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا تورد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره ومنها يداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي الباه من قبله ولسانه الذي ينطق به الكتاب

______________________________________________________

بينه ، الأصح بين ، وقوله : المنتهى نقصانه ، كان البين نقصانه أصح ، وقوله : لا تورد على بناء المجهول والأصح لا ترد كما في بعض النسخ هنا أيضا.

قوله : ينطق به الكتاب يظهر مما مر أنه سقط هنا نحو من سطرين ، من ينطق به إلى ينطق به ، ويمكن أن يتكلف في تصحيح ما في النسخ بأن يقال من عمل اللسان أن ما يكتب في الكتب يصير متلفظا به ، فكان الكتاب ينطق بسبب اللسان كما قال تعالى : « هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ » (١) و « يشهد » على بناء المفعول « به » أي بالكتاب « عليها » أي على اللسان بتأويل الجارحة ، وفي المصباح قال الفراء : لم أسمع اللسان من العرب إلا مذكرا ، وقال أبو عمرو بن العلاء : اللسان يذكر ويؤنث ، انتهى.

وقد صرح في المغرب أيضا بأنه يذكر ويؤنث ، أو المراد باللسان عند إرجاع الضمير الكلمات الصادرة عنه ، فلذا أنت قال الجوهري : اللسان جارحة الكلام وقد يكنى بها عن الكلمة فيؤنث حينئذ ، انتهى.

ففيه استخدام ، ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب أولا كتاب الأعمال ، ويمكن إرجاع ضمير به إلى اللسان وضمير عليها إلى الجوارح ، أي تؤاخذ الجوارح بما يشهد اللسان عليها.

كل ذلك خطر بالبال وإن كان كل منها لا يخلو من بعد ، وقيل : الظاهر

__________________

(١) سورة الجاثية : ٢٩.

٢٤٧

ويشهد به عليها وعيناه اللتان يبصر بهما وأذناه اللتان يسمع بهما وفرض على القلب غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والتصديق والتسليم والعقد والرضا بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحدا صمدا لم يتخذ « صاحِبَةً وَلا وَلَداً » وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله.

٨ ـ محمد بن الحسن ، عن بعض أصحابنا ، عن الأشعث بن محمد ، عن محمد بن حفص بن خارجة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول وسأله رجل عن قول

______________________________________________________

أن المراد بالكتاب القرآن والضمير في « يشهد » راجع إليه وفي « به » إلى النطق أو إلى اللسان بحذف مضاف أي بأقواله ، وفي « عليها » إلى اللسان ونطق القرآن بأقوال اللسان خيرا وشرا وشهادته عليها كثير ، ويحتمل أن يراد بالكتاب كتاب الإيمان وصحيفتها وشهادته عليها يوم القيامة ظاهرة ، وربما يقرأ الكتاب بضم الكاف وتشديد التاء بأن يراد به الحفظة للأعمال.

الحديث الثامن : مجهول.

ومفعول يقول قوله : سبحان الله إلى آخر الكلام ، وإعادة « فقال » للتأكيد لطول الفصل ، وقد مر أن المرجئة قوم يقولون أنه لا يضر مع الأيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة ، ويظهر من هذا الخبر أنهم كانوا يقولون بأن الإيمان هو الإقرار الظاهري ولا يشترط فيه الاعتقاد القلبي ، وكذا الكفر لكنه غير مشهور عنهم ، قال في المواقف وشرحه : من كبار الفرق الإسلامية المرجئة لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية أي يؤخرونه ، أو لأنهم يقولون لا يضر مع الأيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فهم يعطون الرجاء وعلى هذا ينبغي أن لا يهمز لفظ المرجئة وفرقهم خمس : اليونسية أصحاب يونس النميري ،

٢٤٨

المرجئة في الكفر والإيمان وقال إنهم يحتجون علينا ويقولون كما أن الكافر

______________________________________________________

قالوا : الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له والمحبة بالقلب ، فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن ولا يضر معها ترك الطاعات وارتكاب المعاصي ، ولا يعاقب عليها ، والعبيدية أصحاب عبيد المكذب زادوا على اليونسية أن علم الله لم يزل شيئا غيره ، وأنه تعالى على صورة الإنسان ، والغسانية أصحاب غسان الكوفي قالوا : الإيمان هو المعرفة بالله ورسوله وبما جاء من عندهما إجمالا لا تفصيلا وهو يزيد ولا ينقص ، وغسان كان يحكيه عن أبي حنيفة وهو افتراء عليه ، فإنه لما قال الإيمان هو التصديق ولا يزيد ولا ينقص ظن به الإرجاء بتأخير العمل عن الإيمان ، والثوبانية أصحاب الثوبان المرجئي قالوا : الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يعقله ، وأما ما جاز في العقل أن يعقله فليس الاعتقاد به من الإيمان وأخروا العمل كله من الإيمان ، والثومنية أصحاب أبي معاذ الثومني قالوا : الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول وترك كله أو بعضه كفر ، وليس بعضه إيمانا ولا بعض إيمان ، وكل معصية لم يجمع على أنه كفر فصاحبه يقال : إنه فسق وعصى وإنه فاسق ، ومن ترك الصلاة مستحلا كفر لتكذيبه لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تركها بنية القضاء لم يكفر ، وقالوا السجود للصنم ليس كفرا بل هو علامة الكفر ، فهذه هي المرجئة الخالصة ، ومنهم من جمع إلى الإرجاء القدر ، انتهى.

قوله : كما أن الكافر ، كأنه قاس الإيمان بالكفر فإن من أنكر ضروريا من ضروريات الدين ظاهرا من غير تقية فهو كافر وإن لم يعتقد ذلك ، فإذا أقر بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن يكون مؤمنا غير معذب وإن لم يعتقد بقلبه شيئا من ذلك ، ولم يضم إليه أفعال الجوارح من الطاعات وترك المعاصي فأجاب عليه‌السلام بأنه مع بطلان القياس لا سيما في المسائل الأصولية فهو قياس مع الفارق ، ثم شبه عليه‌السلام الأمرين بالإقرار والإنكار ليظهر الفرق ، فإن إنكار الضروري مستلزم لترك جزء من أجزاء الإيمان وهو الإقرار الظاهري فهو بمنزلة إقرار الإنسان على نفسه ، فإنه لا يكلف

٢٤٩

عندنا هو الكافر عند الله فكذلك نجد المؤمن إذا أقر بإيمانه أنه عند الله مؤمن فقال ـ سبحان الله وكيف يستوي هذان والكفر إقرار من العبد فلا يكلف بعد إقراره ببينة والإيمان دعوى لا تجوز إلا ببينة وبينته عمله ونيته فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمن والكفر موجود بكل جهة من هذه الجهات الثلاث من نية أو قول أو عمل والأحكام تجري على القول والعمل فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان ويجري عليه أحكام المؤمنين وهو عند الله كافر وقد أصاب من أجرى عليه أحكام

______________________________________________________

بينة على إقراره بل يحكم بمحض الإقرار عليه وإن شهدت البينة على خلافه ، بخلاف إظهار الإيمان والتكلم به ، فإنه وإن أتى بجزء من الإيمان وهو الإقرار الظاهري لكن عمدة أجزائه التصديق القلبي وهو مع ذلك مدع لا بد له من شاهد من عمل الجوارح عند الناس ومن النية والتصديق عند الله ، فإذا اتفق الشاهدان وهما التصديق والعمل ثبت إيمانه عند الله ، ولما كان التصديق القلبي أمرا لا يطلع عليه غير الله لم يكلف الناس في الحكم بإيمانه إلا بالإقرار الظاهري والعمل فإنهما شاهدان عدلان يحكم بهما ظاهرا وإن كانا كاذبين عند الله. والحاصل أنه عليه‌السلام شبه الإقرار الظاهري بالدعوى في سائر الدعاوي ، وكما أن الدعوى في سائر الدعاوي لا تقبل إلا ببينة فكذا جعل الله تعالى هذه الدعوى غير مقبولة إلا بشاهدين من قلبه وجوارحه فلا يثبت عنده إلا بهما ، وأما عند الناس فيكفيهم في الحكم الإقرار والعمل الظاهري كما يكتفي عند الضرورة بالشاهد واليمين ، فالإيمان مركب من ثلاثة أجزاء ولا يثبت الإيمان الواقعي إلا بتحقق الجميع فهو من هذه الجهة يشبه سائر الدعاوي للزوم ثلاثة أشياء في تحققها الدعوى والشاهدين.

ويمكن أن يكون الأصل في الإيمان الأمر القلبي ولما لم يكن ظهوره للناس إلا بالإقرار والعمل ، فجعلهما الله من أجزاء الإيمان أو من شرائطه ولوازمه.

« وقد أصاب » أي حكم بالحق والصواب.

٢٥٠

المؤمنين بظاهر قوله وعمله

______________________________________________________

ثم اعلم أن أكثر المتكلمين من الخاصة والعامة اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان كما يدل عليه بعض أخبار هذا الباب أم لا ومنهم من جعل هذا الخلاف فرع الخلاف في أن الأعمال داخلة فيه أم لا ، قال إمامهم الرازي في المحصل : الإيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص لأنه لما كان اسما لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به ، وهذا لا يقبل التفاوت فسمي الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان ، وعند المعتزلة لما كان اسما لأداء العبادات كان قابلا لهما ، وعند السلف لما كان اسما للإقرار والاعتقاد والعمل فكذلك ، والبحث لغوي ولكل واحد من الفرق نصوص ، والتوفيق أن يقال : الأعمال من ثمرات التصديق ، فما دل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفا إلى أصل الإيمان ، وما دل على كونه قابلا لهما فهو مصروف إلى الإيمان الكامل ، انتهى.

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره في رسالة العقائد : حقيقة الإيمان بعد الاتصاف بها بحيث يكون المتصف بها مؤمنا عند الله تعالى هل تقبل الزيادة أم لا ، فقيل بالثاني لما تقدم من أنه التصديق القلبي الذي بلغ الجزم والثبات ، فلا تتصور فيه الزيادة عن ذلك ، سواء أتى بالطاعات وترك المعاصي أم لا ، وكذا لا تعرض له النقيصة وإلا لما كان ثابتا وقد فرضناه كذلك هذا خلف وأيضا حقيقة الشيء لو قبلت الزيادة والنقصان لكانت حقائق متعددة ، وقد فرضناها واحدة ، هذا خلف ، وإن قلت : حقيقة الإيمان من الأمور الاعتبارية للشارع وحينئذ فيجوز أن يعتبر الشارع للإيمان حقائق متعددة متفاوتة زيادة ونقصانا بحسب مراتب المكلفين في قوة الإدراك وضعفه ، فإنا نقطع بتفاوت المكلفين في العلم والإدراك؟ قلت : لو جاز ذلك وكان واقعا لوجب علي الشارع بيان حقيقة إيمان كل فرقة يتفاوتون في قوة الإدراك ، مع أنه لم يبين ما ورد من جهة الشارع فيما به يتحقق الإيمان من حديث جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأحاديث قد مر ذكره ، وليس فيه شيء يدل على تعدد الحقائق بحسب

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

تفاوت قوي المكلفين.

وأما ما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة مما يشعر بقبوله الزيادة والنقصان كقوله تعالى : « وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً » (١) وقوله تعالى : « لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » (٢) وقوله تعالى : « لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » (٣) وكذا ما ورد من أمثال ذلك في القرآن العزيز فمحمول على زيادة الكمال وهو أمر خارج عن أصل الحقيقة الذي هو محل النزاع ، والآية الثانية صريحة في ذلك فإن قوله تعالى : « مَعَ إِيمانِهِمْ » يدل على أن أصل الإيمان ثابت ، أو على من كان في عصر النبي حيث كانوا يسمعون فرضا بعد فرض منه عليه‌السلام فيزداد إيمانهم به لأنهم لم يكونوا مصدقين به قبل أن يسمعوه.

وحاصله أن الحقيقة الشرعية للإيمان لم تكن حصلت بتمامها في ذلك الوقت ، فكان كلما حصل منها شيء صدقوا به ، واعترض بأن من كان بعد عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمكن في حقه تجدد الاطلاع على تفاصيل الفرائض المتوقف عليها الإيمان فإنه يجب الاعتقاد إجمالا فيما عليم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، ولا ريب أن اعتقاد الأمور المتعددة تفصيلا أزيد وأظهر عند النفس من اعتقادها إجمالا فعلم من ذلك قبول حقيقة الإيمان الزيادة.

أقول : فيه بحث فإن الجازم بحقيقة الجملة جازم بحقيقة كل جزء منها وإن لم يعلمه بعينه ، ألا ترى أنا بعد علمنا بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جازمون بصدق كل ما يخبر به وإن لم نعلم تفصيل ذلك جزءا جزءا ، حتى لو فصل ذلك علينا واحدا واحدا لما ازداد

__________________

(١) سورة الأنفال : ٢.

(٢) سورة الفتح : ٤.

(٣) سورة المائدة : ٩٣.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك الجزم ، نعم الزائد في التفصيل إنما هو إدراك الصور المتعددة من حيث التعدد والتشخص وهو لا يوجب زيادة في التصديق الإجمالي الجازم ، فإن هذه الصور قد كانت مجزوما بها على تقدير دخولها في الهيئة الإجمالية ، وإنما الشاذ عن النفس إدراك خصوصياتها وهو أمر خارج عن تحقق الحقيقة المجزوم بها ، نعم لا ريب في حصول الأكملية به وليس الكلام فيها.

وقد أجاب بعض المفسرين عن الآية الثالثة بأن تكرار الإيمان فيها ليس فيه دلالة على الزيادة ، بل إما أن يكون باعتبار الأزمنة الثلاثة أو باعتبار الأحوال الثلاث ، حال المؤمن مع نفسه ، وحاله مع الناس ، وحاله مع الله تعالى ، ولذا بدل الإيمان بالإحسان كما يرشد إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى ، أو باعتبار ما ينبغي فإنه ينبغي ترك المحرمات حذرا عن العقاب ، وترك الشبهات تباعدا عن الوقوع في المحرمات وهو مرتبة الورع ، وترك بعض المباحات المؤذنة بالنقص حفظا للنفس عن الخسة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة ، أو يكون هذا التكرار كناية عن أنه ينبغي للمؤمن أن يجدد الإيمان في كل وقت بقلبه ولسانه وأعماله الصالحة ، وعبر عنه على بقائه (١) والثبات عليه عند الذهول ليصير الإيمان ملكة للنفس فلا يزلزله عروض شبهة ، انتهى.

قيل : في بيان قبول الإيمان الزيادة أن الثبات والدوام على الإيمان أمر زائد عليه في كل وقت وزمان ، وحاصل ذلك يرجع إلى أن الإيمان عرض لأنه من الكيفيات النفسانية والعرض لا يبقى زمانين بل بقاؤه إنما يكون بتجدد الأمثال.

أقول : وهذا مع بنائه على ما لم يثبت حقيته بل نفيه فليس من الزيادة في شيء ، إذ لا يقال للمماثل الحاصل بعد انعدام مثله أنه زائد وهذا ظاهر ، وقيل في

__________________

(١) استظهر في هامش المخطوطة أن يكون الأصل « حرصا منه على بقائه ».

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

توجيه قبوله الزيادة : أنه بمعنى زيادة ثمرته من الطاعات وإشراق نوره وضيائه في القلب وأنه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.

أقول : هذا التوجيه وجيه لو كان النزاع في مطلق الزيادة لكنه ليس كذلك بل النزاع إنما هو في أصل حقيقته لا في كمالها.

واستدل بعض المحققين على أن حقيقة التصديق الجازم الثابت تقبل الزيادة والنقصان بأنا نقطع أن تصديقنا ليس كتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أقول : لا ريب في أنا قاطعون بأن تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقوى من تصديقنا وأكمل ، لكن هذا لا يدل على اختلاف أصل حقيقة الإيمان التي قدرها الشارع باعتقاد أمور مخصوصة على وجه الجزم والثبات ، فإن تلك الحقيقة إنما هي من اعتبارات الشارع ، ولم يعهد من الشارع اختلاف حقيقة الإيمان باختلاف المكلفين في قوة الإدراك ، بحيث يحكم بكفر قوي الإدراك لو كان جزمه بالمعارف الإلهية كجزم من هو أضعف إدراكا منه ، نعم الذي تفاوت فيه المكلفون إنما هو مراتب كماله بعد تحقق أصل حقيقته التي يخاطب بتحصيلها كل مكلف ويعتبر بها مؤمنا عند الله تعالى وتستحق الثواب الدائم وبدونها العقاب الدائم ، وأما تلك الكمالات الزائدة فإنما تكون باعتبار قرب المكلف إلى الله تعالى بسبب استشعاره لعظمة الله وكبريائه وشمول قدرته وعلمه ، وذلك لإشراق نفسه واطلاعها على ما في مصنوعات الله تعالى من الأحكام والإتقان والحكم والمصالح ، فإن النفس إذا لاحظت هذه البدائع الغريبة العظيمة التي تحار في تعقلها مع علمها بأنها تشترك في الإمكان والافتقار إلى صانع يبدعها ويبديها متوحد في ذاته بذاته انكشف عليها كبرياء ذلك الصانع وعظمته وجلاله وإحاطته بكل شيء ، فيكثر خوفها وخشيتها واحترامها لذلك الصانع حتى كأنها لا تشاهد سواه ولا تخشى غيره ، فتنقطع عن غيره إليه وتسلم أزمة أمورها إليه حيث علمت أن لا رب غيره وأن المبدأ منه والمعاد إليه ، فلا تزال شاخصة منتظرة

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لأمره حتى تأتيها فتفر إليه من ضيق الجهالة إلى سعة معرفته ورحمته ولطفه ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وكذا ما ورد من السنة المطهرة مما يشعر بقبوله الزيادة والنقصان يمكن حمله على ما ذكرناه كحديث الجوارح ، ذكره في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : صفه لي يعني الإيمان جعلت فداك حتى أفهمه ، فقال : الإيمان حالات ودرجات ، إلى قوله : وبالنقصان دخل المفرطون النار ، انتهى.

ثم قال (ره) : اعلم أن سند هذا الحديث ضعيف لأن في طريقه بكر بن صالح الرازي وهو ضعيف جدا كثير التفرد بالغرائب ، وأبو عمرو الزبيري وهو مجهول فسقط الاستدلال به ، ولو سلم سنده فلا دلالة فيه على اختلاف نفس حقيقة الإيمان التي يترتب عليها النجاة ، وجعل الناقص عنها يترتب عليه دخول النار ، فلم يكن إيمانا وإلا لم يدخل صاحبه النار بقوله تعالى « وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ».

وجعل الزيادة في الإيمان مما يوجب التفاضل في الدرجات ، ولا ريب أن هذه الزيادة لو ترك واقتصر المكلف على ما يحصل به التمام لم يعاقب على ترك هذه الزيادة ، ولأنه عليه‌السلام جعل التمام موجبا للجنة فكيف يوجب العقاب ترك الزيادة مع أن ما دونه وهو التمام يوجب الجنة ، وعلى هذا فتكون الزيادة غير مكلف بها فلم تكن داخلة في أصل حقيقة الإيمان لأنه مكلف به بالنص والإجماع ، فيكون من الكمال ، فظهر بذلك كون الحديث دليلا على عدم قبول حقيقة الإيمان للزيادة والنقصان ، لا دليلا على قبولهما ، وهذا استخراج لم نسبق إليه ، وبيان لم يعثره غيرنا عليه.

على أن هذا الحديث لو قطعنا النظر عما ذكرنا وحملناه على ظاهره لكان

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

معارضا بما سبق من حديث جبرئيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث سأله عن الإيمان فقال : أن تؤمن بالله ورسله واليوم الآخر ، أي تصدق بذلك ، ولو بقي من حقيقته شيء سوى ما ذكره له لبينه له ، فدل على أن حقيقته تتم بما أجابه بالقياس إلى كل مكلف أما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلأنه المجاب به حين سأله ، وأما لغيره فللتأسي به وطريق الجمع بينهما حينئذ حمل ما في حديث الجوارح من الزيادة عن ذلك على مرتبة الكمال بيناه سابقا.

وهيهنا بحث وهو أن حقيقة الإيمان لما كانت من الأمور الاعتبارية للشارع كان تحديدها إنما هو بجعل الشارع وتقريره لها ، فلا يعلم حينئذ مقداره وحقيقته إلا منه ، وحيث رأينا ما وصل إلينا من خطاباته تعالى غير قاطع في الدلالة على تعيين قدر مخصوص من أنواع الاعتقاد والأعمال بحيث تشترك الكل في التكليف به من غير تفاوت بين قوي الإدراك وضعيفة ، بل رأيناها متفاوتة في الدلالة على ذلك يعلم ذلك من تتبع آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة وقد سبق نبذة من ذلك ولا يجوز الاختلاف في خطاباته ، ولا أن يكلف عباده بأمر لا يبين لهم مراده تعالى منه ، لاستحالة تكليف ما لا يطاق وإخلاله باللطف ورأينا الأكثر ورودا في كتابه بذلك الأمر بالاعتقاد القلبي من غير تعيين مقدار مخصوص منه بقاطع يوقفنا على اعتباره أمكن حينئذ أن يكون مراده منه مطلق الاعتقاد العلمي سواء كان علم الطمأنينة أو علم اليقين أو حق اليقين أو عين اليقين فتكون حقيقة واحدة وهو الإذعان القلبي والاعتقاد العلمي ، والتفاوت بالزيادة والنقصان إنما هو في أفراد تلك الحقيقة ومن مشخصاتها فلا يكون داخلا في الحقيقة المذكورة ، وما ورد مما ظاهره الاختلاف في الدلالة على مراد الشارع منه يمكن تنزيله على تفاوت الأفراد المذكورة كعلم الطمأنينة وعلم اليقين وغيرهما فيكون كل واحد منها مرادا وكافيا في امتثال أمر الشارع.

وهذا هو المناسب لسهولة التكليف واختلاف طبقات المكلفين في الإدراك كما

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يخفى ، وبذلك يسهل الخطب في الحكم بإيمان أكثر العوالم الذين لا يتيسر لأنفسهم الاتصاف بالعلم الذي لا يقبل تشكيك المشكك ، فإن علم الطمأنينة متيسر لكل واحد ، وعلى هذا فيكون ما تشعر النفس به من الازدياد في التصديق والاطمئنان عند ما تشاهده من برهان أو عيان ، إنما هو انتقال في أفراد تلك الحقيقة وتبدل واحد بآخر ، والحقيقة واحدة.

لا يقال : أفراد الحقيقة الواحدة لا تنافي الاجتماع في القوة العاقلة فإن أفراد الحيوان والإنسان يصلح اجتماعها في القوة العاقلة وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ لا يمكن اتصاف الحصول بنفس علم الطمأنينة وعلم اليقين في حالة واحدة لتضادهما وبهذا يزول الأول بحصول الثاني فلا يكون ما ذكرت أفراد حقيقة واحدة بل حقائق.

قلت : لا نسلم أن أفراد كل حقيقة يصح اجتماعها في الحصول عند القوة العاقلة ، بل قد لا يصح ذلك لما بينها من التضاد كما في البياض والسواد فإنها فردان لحقيقة واحدة هي اللون مع عدم صحة اجتماعهما في محل واحد لا خارجا ولا ذهنا.

بقي هيهنا شيء وهو أنه لا ريب في تحقق الإيمان الشرعي بالتصديق الجازم الثابت وإن أخل المتصف به ببعض الطاعات ، وقارف بعض المنهيات عند من يكتفي في حصول الإيمان بإذعان الجنان ، وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى للنزاع عند هؤلاء في أن حقيقة الإيمان هل تقبل الزيادة والنقصان ، إذ لو قبلت شيئا منهما لم تكن واحدة بل متعددة ، لأن القابل غير المقبول ، والعارض غير المعروض فإن دخل الزائد في مفهوم الحقيقة بحيث صار ذاتيا لها تعددت وتبدلت ، وكذا الناقص إذا خرج عنها فلا تكون واحدة ، وقد فرضناها كذلك ، هذا خلف ، وإن لم يدخل ولم يخرج شيء منهما كانت واحدة من غير نقصان وزيادة فيها بل هما راجعان إلى الكمال وعدمه

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ فيبقى محل النزاع هل يقبل كما لها الزيادة والنقصان ، وأنت خبير بأن هذا مما لا يختلف في صحته اثنان ، وقد ذكر بعض العلماء أن هذا النزاع إنما يتمشى على قول من جعل الطاعات من الإيمان.

وأقول : الذي يقتضيه النظر أنه لا يتمشى على قولهم أيضا ، وذلك أن ما اعتبروه في الإيمان من الطاعات إما أن يريدوا به توقف حصول الإيمان على جميع ما اعتبروه أو عليه في الجملة ، وعلى الأول يلزم كون حقيقته واحدة ، فإذا ترك فرضا من تلك الطاعات يخرج من الإيمان وعلى الثاني يلزم كون ما يتحقق به الإيمان من تلك الطاعات داخلا في حقيقته وما زاد عليه خارجا فتكون واحدة على التقديرين ، فليس الزيادة والنقصان إلا في الكمال على جميع الأقوال ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وقال شارح المقاصد : ظاهر الكتاب والسنة وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة والمحكي عن الشافعي وكثير من العلماء أن الإيمان يزيد وينقص ، وعند أبي حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء وهو اختيار إمام الحرمين أنه لا يزيد ولا ينقص لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان ولا يتصور فيه الزيادة والنقصان ، والمصدق إذا ضم الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة ، ولهذا قال الإمام الرازي وغيره : إن هذا الخلاف فرع تفسير الأيمان ، فإن قلنا : هو التصديق فلا يتفاوت ، وإن قلنا هو الأعمال فمتفاوت.

وقال إمام الحرمين : إذا حملنا الإيمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقا كما لا يفضل علم علما ومن حمله على الطاعة سرا وعلنا وقد مال إليه القلانسي فلا يبعد إطلاق القول بأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ونحن لا نؤثر هذا ، ثم قال : ولقائل أن يقول : لا نسلم أن التصديق لا يتفاوت بل يتفاوت قوة وضعفا كما في التصديق

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم لأنه إما نفس الاعتقاد القابل للتفاوت أو مبني عليه قلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل وأكثر ، فإن ذلك من الإيمان لكونه تصديقا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجمالا فيما علم إجمالا ، وتفصيلا فيما علم تفصيلا.

لا يقال : الواجب تصديق يبلغ حد اليقين وهو لا يتفاوت ، لأن التفاوت لا يتصور إلا باحتمال النقيض.

لأنا نقول : اليقين من باب العلم والمعرفة ، وقد سبق أنه غير التصديق ، ولو سلم أنه التصديق وأن المراد به ما يبلغ حد الإذعان والقبول ويصدق عليه المعنى المسمى بگرويدن ليكون تصديقا قطعا فلا نسلم أنه لا يقبل التفاوت ، بل لليقين مراتب من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات ، وكون التفاوت راجعا إلى مجرد الجلاء والخفاء غير مسلم بل عند الحصول وزوال التردد التفاوت بحاله ، وكفاك قول الخليل : « وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي » وعن علي عليه‌السلام : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

على أن القول بأن المعتبر في حق الكل هو اليقين وأن ليس للظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال حكم اليقين محل نظر.

احتج القائلون بالزيادة والنقصان بالعقل والنقل أما العقل فلأنه لو لم يتفاوت لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمك في الفسق مساويا لتصديق الأنبياء واللازم باطل قطعا وأما النقل فلكثرة النصوص الواردة في هذا المعنى ، قال الله : « وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً » (١) « لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » (٢) « وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً » (٣) « وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً » (٤) « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً » (٥) وعن

__________________

(١) سورة الأنفال : ٢.

(٢) سورة الفتح : ٤.

(٣) سورة المدّثّر. ٣١.

(٤) سورة الأحزاب : ٢٢.

(٥) سورة التوبة : ١٢٤.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ابن عمر قلنا : يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار.

وأجيب بوجوه : الأول : أن المراد الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الأزمان والساعات وهذا ما قال إمام الحرمين : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك ، والتصديق عرض لا يبقى ، فيقع للنبي متواليا ولغيره على الفترات ، فثبت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها ، فيكون إيمانه أكثر ، والزيادة بهذا المعنى مما لا نزاع فيه.

وما يقال : من أن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة ، مدفوع بأن المراد زيادة إعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك.

الثاني : أن المراد الزيادة بحسب زيادة المؤمن به ، والصحابة كانوا آمنوا في الجملة وكان يأتي فرض بعد فرض ، وكانوا يؤمنون بكل فرض خاص ، وحاصله أن الإيمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، والناس متفاوتون في ملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ، فيتفاوت إيمانهم زيادة ونقصانا ولا يختص ذلك بعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يتوهم.

الثالث : أن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإنه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، وهذا مما لا خفاء فيه ، وهذه الوجوه جيدة في التأويل لو ثبت لهم أن التصديق في نفسه لا يقبل التفاوت والكلام فيه ، انتهى.

والحق أن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان ، سواء كانت الأعمال أجزاءه أو شرائطه أو آثاره الدالة عليه ، فإن التصديق القلبي بأي معنى فسر لا ريب أنه يزيد ، وكلما ازدادت آثاره على الأعضاء والجوارح فهي كثرة وقلة تدل على مراتب الإيمان زيادة ونقصانا ، وكل منهما يتفرع على الآخر ، فإن كل مرتبة من مراتب الإيمان يصير سببا لقدر من الأعمال يناسبها ، فإذا أتى بها قوي الإيمان

٢٦٠