القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

فظهر أنّ الاجتهاد وعملية الاستنباط إنّما يعني بذل الجهد وما في وسع الإنسان واستفراغ ما عنده في استنباط الحكم الشرعي من أدلّته التفصيليّة من الكتاب والسنّة ، ويتطلّب ذلك جهوداً علمية ضخمة تتمثّل بالإحاطة الكاملة والشمولية العامة لاستعمالات أهل اللغة ، مع فهم كامل لأحكام القرآن الكريم والسنّة الشريفة لا سيّما مع الابتعاد عن زمن صدور النصّ وامتداد الفاصل الزمني بين المجتهد وبين عصر الكتاب والسنّة ، بكلّ ما يحمله هذا الامتداد من مضاعفات كضياع جملة من الأحاديث وتغيير كثير من أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيء كثير من الدسّ والافتراء في المجاميع الحديثية ممّا يتطلّب العناية البالغة في التمحيص والتدقيق في أسانيد الروايات وفي دلالاتها ، كما والحياة تتطوّر والحوادث الواقعة تتزايد وتتجدّد ، ولم يرد فيها الحكم الخاص ، فلا بدّ من استنباطها على ضوء القواعد الفقهية العامة ، وهذا يتطلّب تخصّص علمي في فهم تلك المصادر واستخراج الأحكام الشرعية ، فلا بدّ من الاستدلال عليها ، وهو الذي يعبّر عنه بالاجتهاد ، فيبذل الفقيه جهده في استخراج الحكم واستنباطه من أدلّته ومسانيده ومداركه ، والمقصود منه تحديد موقف عملي تجاه الحكم الشرعي ، ومثل هذا الاجتهاد يصبو إليه أتباع مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) ، ويدلّ عليه النصوص والسيرة وحكم العقل ، وليس هذا من الاجتهاد المذموم والمحارب من قبل أئمة الهدى وأتباعهم ، والذي يعني استعمال الرأي الشخصي في عرض وقبال الكتاب والسنّة ، فالاجتهاد الممدوح ما كان في طول الكتاب والسنّة ، فتدبّر.

٨١

القوّة القدسيّة في الاجتهاد

هذا ولا بأس أن نذكر مجمل ما يقوله المحقّق العظيم الوحيد البهبهاني صاحب المدرسة الأُصولية المتأخّرة في كتابه الفوائد (١) : إنّ شرط الاجتهاد هي معرفة العلوم اللغوية لأنّه إن لم يعرفها فربما يزلّ فيضلّ ويضلّ .. ومعرفة عرف العام والخاص الذي هو حجّة في الفقه .. وعلم الكلام لتوقّفه على معرفة أُصول الدين بالدليل وإلّا لكان مقلّداً .. والمنطق لشدّة الاحتياج إلى الاستدلال في الفقه وفي العلوم التي هي شرط في الاجتهاد لأنّ الجميع نظريات .. وأُصول الفقه والحاجة إليه من البديهيات كما صرّح به المحقّقون وهذا العلم ليس بحادث بل كان في زمان المعصوم (عليه‌السلام) .. والعلم بالأحاديث المتعلّقة بالفقه والعلم بالتفسير ومعرفة فقه الفقهاء وكتب استدلالهم وكونه شرطاً غير خفي على من له أدنى فطانة إذ لو لم يطّلع عليها رأساً لا يمكن الاجتهاد والفتوى .. ومعرفة الرجال للوثوق بالسند من حيث العدالة أو الانجبار أو لأجل الترجيح .. ومن الشرائط القوّة القدسيّة والملكة القويّة وهو أصل الشرائط لو وجد ينفع باقي الشرائط ، وينتفع من الأدلّة والأمارات والتنبيهات بل وبأدنى إشارة يتفطّن بالاختلالات وعلاجها .. واعلم أنّ هذا الشرط يتضمّن

__________________

(١) ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد : ٢١٢ ، الفائدة ٣٦. في ذكر شرائط الاجتهاد على سبيل الإجمال.

٨٢

أُموراً :

الأوّل : أن لا يكون معوجّ السليقة فإنّه آفة للحاسّة الباطنة ، كما أنّ الحاسّة الظاهرة بما تصير مألوفة .. وطريق معرفة الاعوجاج العرض على أفهام الفقهاء واجتهاداتهم ، فإن وجد فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء فليحمد الله ويشكره ، وإن يجد يخالفها فليتّهم نفسه .. ربما يلقي الشيطان في قلوبهم أنّ موافقة الفقهاء تقليد لهم وهو حرام ونقص فضيلة ، فلا بدّ من المخالفة حتّى يصير الإنسان مجتهداً فاضلاً ، ولا يدري أنّ هذا غرور من الشيطان ..

الثاني : أن لا يكون رجلاً بحّاثاً ، في قلبه محبّة البحث والاعتراض والميل إليه متى ما سمع شيئاً يشتهي أن يعترض عليه إمّا حبّا لإظهار الفضيلة أو أنّه مرض قلبي كالكلب العقور كما نشاهد الحالين في كثير من الناس ، ومثل هذا القلب لا يكاد يهتدي ولا يعرف الحقّ من الباطل ..

الثالث : أن لا يكون لجوجاً عنوداً ، فإنّا نرى كثيراً من الناس أنّهم إذا حكموا بحكم في بادي نظرهم أو تكلّموا بكلام غفلة أو تقليداً أو من شبهة سبقت إليهم أنّهم يلجّون ويكابرون ، ومن قبيل الغريق يتشبّثون بكلّ حشيش للتتميم والتصحيح ، وليس همّتهم متابعة الحقّ بل جعلوا الحقّ تابع قولهم ..

الرابع : أن لا يكون في حال قصوره مستبدّاً برأيه ، فإنّا نرى كثيراً من طلاب العلم في أوّل أمرهم في نهاية قصور الباع وفقد الاطلاع ، ومع ذلك مستبدّون بهذا الرأي القاصر الجاهل الغافل ، فإذا رأوا كلام المجتهدين ولم يفهموا مرامهم لقصورهم وفقدان اطلاعهم يشرعون في الطعن عليهم ، بأنّ ما ذكرتم من أين وكلّ

٨٣

ما لا يفهمون ينكرون بل ويشنّعون عليهم ، ولا يتأمّلون أنّ الإنسان في أوّل أمره قاصر عن كلّ علم ، وكذا عن كلّ صنعة ، وكذا عن كلّ أمر جزئي سهل فضلاً عن الأُمور الكلّية العظام المشكلة ..

الخامس : أن لا يكون له حدّة ذهن زائدة بحيث لا يقف ولا يجزم بشيء مثل أصحاب الجربزة.

السادس : أن لا يكون بليداً لا يتفطّن بالمشكلات والدقائق ، ويقبل كلّما يسمع ويميل مع كلّ قائل ، بل لا بدّ فيه من حذاقة وفطنة يعرف الحقّ من الباطل ويردّ الفروع إلى الأُصول ..

السابع : أن لا يكون مدّة عمره متوغّلاً في الكلام أو الرياضي أو النحو أو غير ذلك ممّا هو طريقته غير طريقة الفقه ، ثمّ يشرع بعد ذلك في الفقه ، فإنّه يخرّب الفقه بسبب انس ذهنه بغير طريقته ..

الثامن : أن لا يأنس بالتوجيه والتأويل في الآية والحديث إلى حدّ يصير المعاني المؤوّلة من جملة المحتملة المساوية للظاهر ، المانعة عن الاطمئنان به ..

التاسع : أن لا يكون جريئاً غاية الجرأة في الفتوى كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة ، فإنّهم يقتلون كثيراً بخلاف المحتاطين منهم.

العاشر : أن لا يكون مفرطاً في الاحتياط فإنّه أيضاً ربما يخرّب الفقه كما شاهدنا من كثير ممّن أفرط في الاحتياط ، بل كلّ من أفرط فيه لم نرَ له فقهاً لا في مقام العمل لنفسه ، ولا في مقام الفتوى لغيره.

واعلم أيضاً أنّ علم المعاني والبيان والبديع والحساب والهيئة والهندسة

٨٤

والطبّ من مكمّلات الاجتهاد ، وجعل جمع : علم المعاني والبيان والبديع من شروط الاجتهاد ، مثل السيّد المرتضى ، والشهيد الثاني والشيخ أحمد بن المتوّج البحراني ، بل الأخيران عدّا علم البديع أيضاً من الشرائط ، وقد أشرنا إلى أنّه ربما يحصل العلم من جهة الفصاحة والبلاغة بكون الكلام عن الإمام (عليه‌السلام) فمن هذه الجهة ربما يكون لهما مدخليّة في الاشتراط ، بل البديع أيضاً ، وأمّا الهيئة فبعض مسائله ربما يكون شرطاً أيضاً مثل ما يتعلّق بالقبلة ، وكون الشهر ثمانية وعشرين يوماً بالنسبة إلى بعض الأشخاص وواحدة وثلاثين بالنسبة إلى البعض ، والقدر الذي هو شرط من جميع العلوم المذكورة هو الذي يندفع به الضرورة ، وإن كان لا يحصل إلّا بعد الاطلاع على الجميع من كلّ واحد واحد منها ، لكن اطلاع في الجملة من دون حاجة إلى المبالغة والإكثار ، وصرف العمر الكثير في تحصيل المهارة التامة الشديدة كما لا يخفى. انتهى كلامه رفع الله مقامه.

أقول : ما ذكره من القوّة القدسيّة وتضمّنها أُموراً ، إنّما ترجع إلى حدّ الاعتدال في مقام الاستنباط ، كما هو شرط لكمال الاجتهاد ، وإنّه من أخلاقيات المجتهد ، فهو بالأخلاق أشبه من شرائط الاجتهاد ، ومثل معرفة القبلة إنّما هو باعتبار أنّها من الفروعات الفقهيّة ، وربما تتوقّف على معرفة الهيئة ولكن هذا لا يعني أنّها من شرائط الاجتهاد ، وإلّا للزم أن يلمّ المجتهد بكلّ العلوم كالاقتصاد والسياسة والكيمياء والفيزياء وغير ذلك ، فإنّ للجميع دخل بنحو من الأنحاء في الفروعات الفقهيّة ، كما أنّ هذه النصائح القيّمة تعمّ طلّاب العلوم ، ولا تختصّ بالمجتهدين ، فكيف تكون من شرائط الاجتهاد ، فتدبّر ، فإنّ المصنّف أشار إلى ذلك في خاتمة كلامه

٨٥

بقوله : وأيضاً لا بدّ من صرف مدّة من العمر في تهذيب الأخلاق لما عرفت من اشتراط القوّة القدسيّة ، ولأنّ العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء سيّما الفقه ، والنور لا يقذف في قلب رديء مع أنّه لو قذف ، فنعوذ بالله من العالم الرديء ، فإنّه شرّ الناس بعد فرعون وشدّاد وفلان وفلان وأنّه من الضالّين عن سبيل الله وقطّاعي الطريق إليه تعالى ، وصرف العمر فيما ذكر من العلوم يمنع عن التهذيب ، بل ربما يورث القساوة كما ورد الحديث في معرفة النحو (من تنحّى سلب منه الخشوع) ، ونشاهد في غيرها مع أنّ تهذيب الأخلاق من أوجب الأشياء كما لا يخفى والله الهادي إلى طريقه ، ولا يحصل الهداية إلّا بالإرشاد وتوفيقه (١).

التخطئة والتصويب في الاجتهاد

القضايا التي يعيشها الإنسان إمّا أن تكون عقلية محكومة بحكم العقل ، أو شرعية في نطاق الشرع المقدّس. والعقل إنّما هو حجّة الله الباطنية لدرك وفهم الواقعيات والأُمور الحقيقية التي لا تتغيّر ، فإنّ حكم العقل غير قابل للتخصيص ، وأمّا الشرعيات وهي مورد البحث فهي اعتبارية مؤطّرة بإطار الحجّة الظاهريّة من

__________________

(١) ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد : ٢٢٢ ، هذا وقد ذكرت مجموعة من أخلاق طالب العلم وخصائص القائد الإسلامي والمبلّغ الرسالي في موسوعة رسالات إسلامية ، المجلّد الثالث ، فراجع.

٨٦

الوحي المقدّس ومن كان في خطّه ووراثته.

وحينئذٍ هل الوقائع والحوادث تختلف أحكامها باعتبار فتاوى المجتهدين عند اختلافهم؟ كما عليه القائلون بالتصويب من أبناء العامّة ، بأنّ الحكم الواقعي تابع لرأي المجتهد ، وأنّه يختلف باختلافه.

ولا يخفى أنّ القائل بالتصويب إنّما يقول به في الكبريات ، أمّا الصغريات وتشخيص الموضوعات الذي يتعهّده العامي فإنّه كالمخطئة يقول بالتخطأ أيضاً ، كالحيوان المذبوح فلو كان يدّعي أحدهما الذبح الشرعي ، والآخر ينكره ويراه من الميتة ، فأحدهما يصيب الواقع من فري الأوداج حسب الشرائط الشرعية فيرجع إلى الأمر الواقعي والآخر بخلافه ، ولا يجتمع النقيضان كما لا يرتفع ، ولا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي. فالاختلاف بين العامة والخاصة في الكبريات ، فعندهم الاعتبارات الشرعية بعدد آراء المجتهدين وأنظارهم ، وهي قابلة للتغيير دون العقليات والواقعيات. فمن المجتهدين من يرى حلّية ذبيحة الكتابي لو ذكر اسم الله ، ومنهم من يرى حرمة ذلك ، فمن يراه حلالاً فإنّه واقعاً يكون عنده حلالاً وكذلك الحرام ، ويرون إمكان التصويب ووقوعه.

وأمّا المخطئة من أصحابنا الإمامية فإنّهم يرون أنّ الحكم في الواقعة الكلّية على نحو واحد وعلى حدّ سواء ، فإنّ المسافر مثلاً إنّما يجب عليه الصلاة قصراً سواء علم بذلك أو لم يعلم ، فهناك أحكام يشترك فيها العالم والجاهل ، القادر والعاجز ، فإن وصل إليها المجتهد بعد استفراغ وسعه وما في طاقته وأصاب الواقع فله حسنتان ، للاستفراغ والإصابة ، وإن أخطأ الواقع فله حسنة

٨٧

واحدة لتعبه ونصبه واستفراغ وسعه. هذا عند الأُصوليين من الشيعة ، وأمّا الأخباريون فيرون فيما أصاب له حسنة واحدة ، وإن أخطأ فلا شيء عليه لا أنّه يثاب بحسنة ، فتأمّل.

والمحقّق الآخوند يذكر وجوهاً ثلاثة للتصويب ، واحد منها غير ممكن والآخران ممكنان عقلاً.

الأوّل : وهو من الممكن ، أنّ القائل بالتصويب يرى إمكان أن يعلم الله من الأزل ماذا سيستنبط المجتهد الأوّل مثلاً فوضع له ذلك الحكم ، والآخر الذي يخالفه في الفتوى أيضاً من الأزل أو من حين تشريع الأحكام جعل له حكماً واقعياً ، نظير القول بالتخيير في كفّارة إفطار شهر رمضان المبارك. فالواجب عند الله سبحانه أحد الثلاثة من الخصال ، وأنّه يعلم من الأزل بأنّ زيد سيختار العتق وعمرو يختار الصوم وخالد يختار الإطعام ، فأوجب لزيد من الأزل العتق وكذلك عمرو وخالد. ويمكن هذا التصويب لعدم المحذور المتصوّر في القسم الثاني.

الثاني : وهو التصويب المحال بأنّ الله سبحانه لم يجعل أيّ حكم في الواقعة في نفس الأمر والواقع لأيّ فرد قبل اجتهاد المجتهد ، وإنّما يجعل الحكم بعد الاجتهاد وفعليّته ، وهذا محال فإنّه لو لم يكن في الواقعة قبل الاجتهاد حكماً ، فعن أيّ شيء يبحث المجتهد ، وأيّ مدلول يكون لدليله ولا حكم في البين ، فإنّه يلزمه الخلف.

الثالث : يذكر المحقّق بكلمة (إلّا) بعد استحالة القسم الثاني ، وهو أن ينشئ الشارع الحكم بعد الاجتهاد ، وهذا إنّما يتمّ على مسلكه القائل بالإنشاء والحكم الإنشائي ، فإنّ منشأ الطلب الإنشائي الذي يبرز بألفاظ الإنشاء ربما يكون الطلب

٨٨

الحقيقي والشوق المؤكّد القائم بنفس الإنسان ، وفي الله سبحانه عند نزول الإرادة إلى النفس النبويّة والولويّة ، فيكون الحكم فعليّاً ، وهذا عندنا محال فكيف تتعلّق الإرادة بفعل الغير ، بل الإرادة إنّما تتعلّق بفعل المقدور وهو إرادة فعل نفسه ، وذلك في الانبعاث والطلب الحقيقي ، فالأحكام الشرعيّة في مقام الجعل طلب حقيقي ، فإنّه ليس من الصوري والإنشائي ، وفعليّتها ليس باعتبار النفس النبويّة بل باعتبار تحقّق الموضوع ، فما دام لم يكن الموضوع فالتكليف في مقام الإنشاء ، وعند تحقّقه يكون الحكم فعليّاً.

والمحقّق الخراساني الآخوند عليه الرحمة يذهب إلى الحكم الإنشائي ، وهو المترتّب على الطلب الإنشائي ، والمجتهد إنّما يبحث عن الطريق إلى الحكم الإنشائي ليجعله في مقام الفعليّة ، فهذا من التصويب الممكن عنه ، وكذا فيما قاله العلّامة الحلّي (قدس‌سره) (وظنّية الطريق لا ينافي علميّة الحكم) إلّا أنّه خلاف الأدلّة والإجماع.

وشيخنا الأعظم الأنصاري في فرائده يرى وجود أخبار تدلّ على أنّ لنا أحكاماً يشترك فيها العالم والجاهل ، ويذكر رواية لم أجدها في كتب الأصحاب على أنّ المصيب له حسنتان والمخطئ له حسنة واحدة ، فلا بدّ من حكم في نفس الأمر وفي علم الله حتّى يلزم الخطأ.

وعندنا أنّ لنا أحكاماً مشتركة ولها مرحلتان : مرحلة الجعل يجعلها الشارع بمفاد القضيّة الحقيقيّة. كالمثال الآتي : لو كان الميّت مسلماً فيجب تغسيله ، فلا يكون نظر الشارع إلى الخارج عند جعل الحكم ، والمرحلة الفعليّة وذلك بمفاد القضيّة الخارجيّة ، فبعد وجود الميّت في الخارج وكونه مسلماً فيجب فعلاً تغسيله.

٨٩

وجعل الشارع إنّما هو حكم حقيقي بداعي العمل في الخارج ، فالحكم الحقيقي جعل الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة ليصل إلى العباد لعلّهم يعملون به عند فعليّته بعد تحقّق الموضوع ، فيقال : هذا سارق والسارق يجب قطع يده فهذا يجب قطع يده.

ثمّ لو قلنا في الأمارة بالطريقية ، فإنّ الأحكام الحقيقيّة لم يؤخذ فيها علم المكلّف وجهله. فمن كان الميّت أمامه فإنّ له الحكم الواقعي بوجوب تغسيله (غُسل الميّت) فمن لم يعلم ذلك الحكم ، فإن كان الجهل عن تقصير فلا يعذر في جهله ، وإن كان عن قصور فإنّه يعذر شرعاً ، فالأمارات تقوم على القضايا الحقيقيّة ، فلو كانت مطابقة للواقع فقد أصابت ، وإلّا فقد أخطأت ، وهذا معنى التخطأ في مقام الاستنباط.

هذا ولا يخفى أنّ مسالك الأعلام في جعل الأمارة مختلفة :

فمنهم من جعل مدلول الأمارة علم أو بمنزلة العلم وهو جعل الأحكام ، يذهب إلى هذا المسلك الشيخ الأنصاري ومن تبعه ، والآخوند الخراساني يقول وإن كان كذلك إلّا أنّ الأحكام ليست الأحكام الحقيقيّة بل الأمارة طريق إليها ، فالحكم الواقعي واحد سواء وصل المجتهد إليه أو لم يصل وهذا معنى التخطأ.

ومنهم ، وهو مسلك الآخوند (قدس‌سره) : جعل في مدلول الأمارة المنجزية والمعذرية ، فإنّ الأمارة منجزة ومعذرة عن الواقع فإن أصابت فمنجزة وإلّا فمعذّرة ، فالأحكام الواقعية على ما هي إلّا أنّها غير منجّزة عند عدم إصابة الأمارة ، بل غير فعليّة بناءً على مسلكه في الفعليّة أي إرادة المولى وشوقه المؤكّد للفعل في بعض الموارد.

٩٠

وهذا لا يتنافى مع ما يقوله في الأمارة بأنّ الأحكام الواقعيّة فعليّة ، وهنا يقول بأنّ الحكم الواقعي غير منجّز عند عدم إصابة الأمارة بل غير فعلي ، فقوله غير فعلي هنا باعتبار مقولة الشيخ ، وما قاله بالفعليّة هناك باعتبار الفعليّة المغيّاة ، فلا تهافت بين كلامه ، فتدبّر.

ثمّ ما قاله من معقوليّة التصويب غير معقول ، فبناءً على قوله بماذا يظنّ المجتهد ، فإنّ الحكم الذي يصل إليه من خلال اجتهاده ، كيف يتعلّق به الظنّ والعلم وهما متنافيان؟ فإنّ الظنّ غير العلم؟

نعم المعقول منه لو كان الحكم جعل في حقّ العالمين دون الجاهل ، بناءً على دفع الدور كما ذكر في حجّية القطع ، فغرض الشارع ينبعث لمن يصل إليه الحكم الواقعي الحقيقي بالعلم ، فالمجتهد يفحص عن حكم العالمين ، وعند الظنّ به ، فإنّه يتولّد في حقّه حكم آخر حقيقي كما يكون حكماً شرعياً في حقّ المقلّدين.

ثمّ لازم المسالك في الأمارات أنّ في الواقع تكاليف قد جعلها الشارع على المكلّفين مع قطع النظر عن علمهم وجهلهم ، وتتنجّز في حقّهم عند وصولهم إليها ، ومع وجود الموضوع يكون الحكم فعليّاً ، فيراعى التكليف عند التنجّز ، ففي الأحكام الواقعيّة نقول بالتخطأ عند عدم الوصول إليها ، فلم يؤخذ علم المكلّف وجهله في التكليف في الخطابات الشرعيّة.

ثمّ المحقّق النائيني يقول بالتصويب في الأحكام الظاهريّة لم نتعرّض له طلباً للاختصار ، ولأنّ موضعه علم أُصول الفقه ، كما نتعرّض له في خارج الأُصول إن شاء الله تعالى ، ونقول إجمالاً أنّ الحكم الظاهري كالواقعي قابل للتخطأ والتصويب.

٩١

الاجتهاد واجب كفائي :

لا يخفى أنّ الإنسان مكلّف بالأحكام الشرعيّة والوظائف الدينية ، وليست معرفتها والعلم بها من الأُمور البديهيّة ، بل لا بدّ من بذل الوسع والطاقة وتحمّل المشاقّ والكلفة في تحصيل الحجّة عليها ، وإذا وصل الفقيه إلى الحكم بعد استفراغ الوسع ، فإنّه ما يستنبطه حجّة عليه وعلى من يرجع إليه ، ولا سبيل إلى الردع عن اتّباعه ، ويدلّ عليه سيرة المتشرّعة ، بل وردت النصوص كما مرّ في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) بالرجوع إلى أصحاب الفتيا وأهل النظر والمعرفة ، كأبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم وأمثالهم رضوان الله عليهم ، ولو لا جواز الاجتهاد في نفسه لما صحّ إرجاع الغير إليهم من قبل الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ، فالاجتهاد جائز في نفسه لا محالة خلافاً للأخباريين كما هو واضح.

إلّا أنّه وقع نزاع على كونه واجباً عينياً أو كفائياً؟

حكى عن بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب أنّه من الواجب العيني على كلّ مكلّف ذلك ، فيجب عليه الاستدلال في مقام الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّه يكتفي بمعرفة الإجماع الحاصل من كلمات العلماء عند الحاجة إلى الواقع أو النصوص الظاهرة ، أو أنّ الأصل في المنافع هو الإباحة ، وفي المضارّ هو الحرمة عند فقد النصّ.

وقيل يحرم التقليد ويجب على العامي الرجوع إلى عارف ثقة يذكر له مدارك

٩٢

المسألة من الكتاب والسنّة ، فإن عرفها فبها ، وإلّا ترجم له إن لم يعرف اللغة العربية ، ويوكّل فهمها إليه ، وإذا كانت الأدلّة متعارضة فيعلّمه كيف يجمع بينها بالجمع العرفي بحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد وهكذا ، أو أنّه يرجع إلى الأخبار العلاجية في المرجّحات الداخلية والخارجية ، كما يعرّفه بحال الرواة.

إلّا أنّ هذا المعنى واضح الردّ ، فإنّه يلزمه العسر والحرج ، بل يوجب اختلال النظام لصعوبة الاجتهاد ، لا سيّما في عصرنا هذا ، فدونه خرط القتاد ، كما أنّه يلزم القول بعينية الاجتهاد حرمة التقليد وعدم الاحتياط ، وهو خلاف السيرة المتشرّعة والنصوص الواردة ، كما لنا روايات مطلقة دالّة على جواز التقليد ، بل ويلزم القول بالعينية مخالفة آية النفر (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) بل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

فظهور الآية الشريفة يدلّ على كون الاجتهاد وتحصيل الحجّة على الأحكام الشرعيّة واجباً كفائياً ، كما يؤيّده الروايات الواردة في تفسير الآية (٢) ،

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الوسائل ١٨ : باب ٨ ١١ من أبواب صفات القاضي.

منها : عن الصدوق بسنده في العيون والعلل عن فضل بن شاذان عن الرضا (عليه‌السلام) في حديث إنّما أُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله عزوجل ، وطلب الزيادة والخروج من كلّ ما اقترف العبد ، إلى أن قال : مع ما فيه من المنفعة ونقل أخبار الأئمة (عليهم‌السلام) ض إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال الله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

٩٣

كما أنّ العقل يحكم بذلك ، فلولا وجود مجتهد عالم بالأحكام لما تحقّقت الإطاعة اللازمة.

فالاجتهاد واجب كفائي في الإسلام كردّ السلام ، فإنّه إذا أقامه البعض سقط الوجوب عن الباقين ، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع.

وذهب المشهور إلى وجوبه النفسي الكفائي كما حكي عن السيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والمحقّق في المعارج ، والعلّامة في بعض كتبه وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد وشرح المبادئ ، والشهيد الأوّل في الذكرى ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة ، وغيرهم رضوان الله عليهم.

ثمّ الاجتهاد تارة ينظر إليه باعتبار عمل الإنسان لنفسه ، وأُخرى بلحاظ

__________________

وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وليشهدوا منافع لهم.

ومنها : عن الكافي بسنده عن عليّ بن حمزة قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : تفقّهوا في الدين فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي إنّ الله يقول في كتابه (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

ومنها : ما رواه الصدوق في معاني الأخبار والعلل عن عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إنّ قوماً يروون أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : اختلاف أُمّتي رحمة ، فقال : صدقوا. فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ فقال : ليس حيث تذهب وذهبوا إنّما أراد قول الله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم في البلدان لا اختلافاً في دين الله ، إنّما الدين واحد.

٩٤

رجوع الغير إليه.

أمّا الأوّل : فإنّ الاجتهاد الذي هو عدل التقليد والاحتياط واجب عقلي ارتكازي كما مرّ في معنى الوجوب لغةً واصطلاحاً وهو تارة تخييري فيما لو تمكّن المكلّف من الاحتياط وفي الجملة ، كما كان في بلده مثلاً من يجوز تقليده والرجوع إليه ، وأُخرى تعييني وذلك فيما لم يتمكّن من الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين أو يوجب العسر والحرج أو اختلال النظام ، أو لا يكون من يجوز تقليده ولم نقل بجواز تقليد الميّت ابتداءً وهكذا حتّى ينحصر طريق الامتثال بالاجتهاد ، فيكون واجباً بحكم العقل من باب لزوم الإطاعة فيجب تعييناً.

ومن الأعلام من قال بوجوب الاجتهاد شرعاً ، من باب وجوب التعلّم واختلف فيه على أقوال ثلاث :

الأوّل : نسب إلى المشهور من وجوبه الطريقي ، فلا يلزم العقاب إلّا عند مخالفة الواقع.

الثاني : نسب إلى المحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وجماعة من المتأخّرين من وجوبه النفسي ، وأنّ العقاب يترتّب على نفس ترك التعلّم مطلقاً سواء صادف عمله الواقع أم لم يصادف.

الثالث : ما يظهر من المحقّق النائيني (قدس‌سره) من استحقاق العقاب على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع ، ويظهر الفرق بينه وبين الأوّلين فاستحقاق العقاب يكون على نفس ترك التعلّم عند مخالفة العمل للواقع ، أمّا الأوّل إنّما يلزم عند مخالفة الواقع والثاني على نفس ترك التعلّم إلّا أنّه مطلقاً.

٩٥

الاجتهاد الفعلي والاجتهاد الشأني

هل يرجع المجتهد بالملكة إلى المجتهد الفعلي؟ أو عليه الاجتهاد الفعلي أو الاحتياط؟

لا يخفى أنّ المجتهد يعمل على ما ثبت عنده مطابقاً للحجّة الشرعيّة ، وقد اختلف المجتهد الانفتاحي القائل بانفتاح باب العلم والمجتهد الانسدادي في وجه الحجّية وهذا لا يضرّ في أصل صدق عنوان الاجتهاد.

ثمّ تحصيل ملكة الاجتهاد من الأمر الصعب ، والأصعب منه استعمال الملكة ، فربما تحصل للمجتهد الملكة ، إلّا أنّها تضعف وتزول لو لم يمارسها ويتمرّن عليها ، فحينئذٍ يكون لنا مجتهد فعلي يستعمل الملكة ، وآخر له مجرّد الملكة ، فهل يمكن غمض العين عن الاجتهاد الفعلي والرجوع إلى صاحب الملكة؟

وما جاء في الشريعة المقدّسة هو تعلّم الأحكام التي يبتلى بها ، أو يعلم أنّه يبتلي بها ولو إجمالاً ، ووجوب التعلّم وجوباً شرعيّاً كما تدلّ عليه الأخبار ، إلّا أنّه تارة مقتضاه بنحو التقليد ، وأُخرى بنحو الاجتهاد ، وما قيل في تعريف الاجتهاد أنّه استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة ، فمن أجل إخراج علم العامي فإنّه أيضاً من تحصيل الحجّة ، وهو دليل (هذا ما أفتى به المفتي وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ، فهذا حكم الله في حقّي) ولكن هذا ليس فيه استفراغ الوسع بل جارٍ في كلّ المسائل الشرعيّة.

٩٦

وإنّما يتمّ تعريف الاجتهاد الفعلي لو قلنا هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة التفصيليّة على الواقعة ، فيخرج علم العامي فإنّ حجّته إجماليّة.

فأدلّة وجوب التعلّم تعمّ التقليد والاجتهاد ، ويبقى الاحتياط فيمن لم يقصد الاجتهاد الفعلي ، فإنّه يتمثّل التكليف الواقعي أيضاً ، ولم يضرّ ذلك بنيّة التقرّب إلى الله سبحانه ، فيصحّ منه الاحتياط ، فيجب على كلّ مكلّف في الحوادث الواقعة الشرعيّة إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.

والكلام فيمن له ملكة الاجتهاد إلّا أنّه يترك الاجتهاد الفعلي ويكتفي بالتقليد فهل يجوز له ذلك؟

نقل عن رسالة شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري أنّه يذهب إلى عدم تماميّة التقليد له ، بل إمّا أن يجتهد فعلاً أو يحتاط ، وقال : المعروف عندنا العدم بل لم ينقل الجواز عن أحد منّا ، وإنّما حكي عن مخالفينا. وقيل : العامي الجاهل إنّما يرجع إلى أهل الخبرة في كلّ أمر ممّا يدلّ عليه سيرة العقلاء ، فيرجع إلى المجتهد الفعلي لما عنده من الحدس على الحكم الواقعي بعد استفراغ الوسع ، وفي السيرة العقلائيّة لا يرجع صاحب الحدس إلى حدس الآخرين.

وما يدّعى من الإجماع في هذا الباب فلا معنى له ، فإنّه ممّا حدث عند المتأخّرين ، كما ليس عليه المعظم ، فكيف يدّعى الإجماع؟

وأمّا السيرة العقلائيّة فلا تنفع فيما نحن فيه لضعفها ، نعم لنا السيرة المتشرّعة ، فإنّه من زمن الأئمة (عليهم‌السلام) كان الناس يرجعون في معالم دينهم إلى أصحاب الحدس وإلى الرواة الثقات والفقهاء الأعلام بإذن من الأئمة (عليهم‌السلام) ، كما من بينهم من كان

٩٧

مجتهداً ، فسيرة المتشرّعة تدلّ على جواز التقليد ورجوع العامي إلى العارف بالأحكام كما عليه مجموعة من الروايات (١).

منها :

الرواية الرابعة : وعن محمّد بن عبد الله الحميري ومحمّد بن يحيى جميعاً ، عن عبد الله ، عن جعفر الحميري ، عن أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : سألته وقلت : من أُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون.

قال : وسألت أبا محمّد (عليه‌السلام) عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان.

فقوله (عليه‌السلام) : (فعنّي يقول) ليس بمعنى أنّه يروي عنّا ، بل يدلّ على النظر والاجتهاد.

والرواية السابعة والعشرون وعنه محمّد بن قولويه عن سعد عن محمّد بن

__________________

(١) الوسائل ، كتاب القضاء ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة ، فيما رووه عن الأئمة (عليهم‌السلام) ض كما جاء في الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ، وفي الباب ٤٨ رواية.

٩٨

عيسى عن أحمد بن الوليد عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : من زكريا ابن آدم القمّي ، المأمون على الدين والدنيا ، قال عليّ بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم ، فسألته عمّا احتجت إليه.

فظاهر الخبر يدلّ بوضوح على النظر والاجتهاد الفعلي بقوله (معالم ديني) (عمّا احتجت إليه).

والحديث ٣٢ وعنه محمّد بن مسعود عن محمّد بن نصير عن محمّد بن عيسى عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا (عليه‌السلام) قال : قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : نعم (١).

راجع روايات الباب وغيره تجد فيه الكفاية. ويكفيك شاهداً حديث حمّاد الرازي قال : دخلت على عليّ بن محمّد (عليهما‌السلام) بسرّمن رأى فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها ، فلمّا ودّعته قال (عليه‌السلام) : إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فاسأل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني وأقرئه منّي السلام (٢).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٨ ، طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم‌السلام) ض.

(٢) الاجتهاد والتقليد : ٤٢ ، عن جامع أحاديث الشيعة ١ : ٥١.

٩٩

ثمّ ما يقال بعدم جواز رجوع من له ملكة الاجتهاد إلى الغير ، بل عليه الاجتهاد الفعلي أو الاحتياط فعمدة أدلّته ، أنّ هذا الشخص له علم إجمالي أنّه سيقع في مسائل يبتلى بها ، فلو أراد أن يفعل بقول الغير ، فإنّه يشكّ في حجّية قوله بالنسبة إليه ، والشكّ فيها مساوغ لإنكارها ، فلا يصحّ الرجوع حينئذٍ.

وأُجيب أنّ من له الملكة لو سأل عن تقليده للآخرين ، فإنّه سيجيب أنّه لم يكن له علم بتكاليف اخرى غير التكاليف التي عيّنها المجتهد الآخر ، أو أنّه يحتمل أنّ بعض التكاليف مطابقة للواقع ، فينحلّ العلم الإجمالي الكبير إلى الصغير ، فيأخذ بالقدر المتيقّن ويجري البراءة في الزائد المشكوك.

عودٌ على بدء :

وبعبارة اخرى : قيل لا يجوز رجوع المجتهد بالملكة إلى غيره ، فإنّ أدلّة مراجعة الجاهل إلى العالم وتعلّم المسائل المبتلى بها لا تعمّ هذا المجتهد ، فإنّما يرجع العامي إلى المجتهد باعتبار حدس العالم وحجّيته باعتبار السيرة العقلائيّة ، فمن كان له الحدس كيف يرجع إلى الآخرين ، فلا يرجع أهل الخبرة إليهم.

وأُجيب :

أوّلاً : جواز التقليد لا يبتني على هذه السيرة العقلائيّة ، كما أنّه ليس من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، وإنّ رجوع الجاهل إلى العالم من الأُمور الفطريّة.

وثانياً : كما قاله الشيخ الأعظم من جواز ذلك للإجماع إلّا أنّه غير تامّ ، فإنّ مثل هذه المسائل المستحدثة لم تعنون في كتب القدماء ، فلا معنى للإجماع عليه.

١٠٠