القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ويرد عليه ما ورد في المعاني السابقة ، فما ذكره من باب تعريف الشيء بلوازمه كما هو الظاهر ، فيكون المراد من الأعلم من كان أشدّ ملكةً للاستنباط من غيره ، فإذا كان المراد من الأشدّية بمعنى أكثر علماً بالفروع والمسائل فهو المعنى الأوّل ، وإن كان بمعنى أجود استنباطاً فهو المعنى الثاني ، وإن كان بمعنى أكثر انكشافاً أو أقوى مبنى أو أشدّ اقتداراً ، فهو المعاني الأُخرى القابلة للنقاش.

ثمّ السيّد الأُستاذ يرى الاختلاف في هذه الأوصاف الثلاثة للمجتهد كونه عارفاً بالقواعد والمدارك ، وكونه مطلعاً على الأخبار والمسائل ، وكونه فهيماً للأخبار فإنّ الوصف الأوّل أقوى تأثيراً لتحقّق ملكة الاجتهاد وأمّا الوصفان الآخران فلهما تأثير أقوى في تحقّق فعليّة الأعلميّة.

فيقول : وإذا تعارضت الأوصاف بأن يفرض هناك مجتهدون ثلاثة كلّ واحد منهم قوي في أحد هذه الأوصاف. فمن هو الأعلم منهم؟ ولعلّ المقدّم يدور بين الموصوف بأحد الوصفين الأخيرين (١).

ولكن الظاهر أنّ الأوصاف هذه إنّما هي من لوازم الأعلميّة لا نفسها ، فعند اجتماعها تتحقّق الأعلميّة.

فالأولى أن يقال : لمّا كان لزوم تقليد الأعلم احتياطاً كما ذهبنا إليه باعتبار بناء العقلاء ومن باب حكم العقل باعتبار قاعدة الاشتغال ، وأنّه لم ترد كلمة الأعلم وتقليده في آية أو رواية خاصّة ، فلم يكن بتعبّد شرعي حتّى يعرف

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد ؛ السيّد رضا الصدر : ٣٠٢.

٣٤١

معناها ، والمتفاهم من لفظتها باعتبار هيئة التفضيل ، وظهورها في شيء وعدم ظهوره ، فكان الأولى أن يعرف معناها بما هو المتفاهم العرفي وما هو موضوع الحكم عند العقل والعقلاء ، فإنّ الأعلم في الفقه كالأعلم في سائر العلوم.

ومعنى الأعلم حينئذٍ هو أن يكون أعرف بالكبريات وأدقّ في استنباط الأحكام منها ، وأكثر إحاطة وأجود استنباطاً ، ثمّ أحسن سليقة في تطبيق تلك الكبريات على صغرياتها.

والخلاصة : مجرّد الأقوائيّة وشدّة المعرفة بالكبريات لا ينفع ما لم ينضمّ إليه حسن السليقة في تطبيق الكبريات على الصغريات ، فيكون أعلم بالأُصول والفقه. فالطبيب الأعلم ليس من كان أعلم بقواعد وكليات الطبّ ، وأعرف بطرق معالجة الأمراض ، ما لم ينضمّ إليه حسن التطبيق بين تلك الكليات وبين المصاديق.

(فالاجتهاد إنّما هو تخصّص في تشخيص الوظيفة الفعلية في كلّ مسألة ، والأعلم هو الذي صار واجداً لهذه الملكة على النحو الأكمل) (١).

وأمّا المقام الثاني : أي تعيين الأعلم والمرجع فيه.

فربما يقال : إنّ الشهادة إنّما تكون على المحسوسات لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشيراً إلى الشمس (على مثل هذا فاشهد) وما نحن فيه لم يكن منها فكيف يشهد بذلك؟

وأُجيب : إنّ ممّا لم يكن من المحسوسات ربما يعرف من آثاره ، وباعتبار ذلك

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد ؛ السيّد رضا الصدر : ٣٠١.

٣٤٢

يشهد به ، كالسخاء والشجاعة والعدالة من الملكات النفسانية ، فكذلك فيما نحن فيه ، فلمّا كان الاجتهاد ملكة نفسانية ، فيعرف ذلك من خلال الآثار والأمارات الواضحة الدالّة على ذلك. فإذا قايس تلك الملكة بعد معرفتها بالآخرين ، فإنّه يعرف من هو الأعلم منهم ، إلّا أنّ إثبات ذلك دونه خرط القتاد ، فإنّه من الصعب المستصعب ، فلا يحصل معرفة الأعلم إلّا بعد جهد جهيد وإتعاب النفس والدقّة الشديدة ، وعدم الحبّ والبغض ، وتخلية النفس من الأهواء والرغبات.

فيمكن معرفة الأعلم في الخارج ، إلّا أنّه وقع نزاع أنّه هل يختصّ ذلك بأهل الخبرة والاستنباط أي من كان مجتهداً كما يهذب إليه الماتن ، أو يعمّ غيره كما ذهب إليه البعض.

والظاهر أنّه يمكن لغير المجتهد إن كان من أهل العلم أو قريب للاجتهاد أن يعرف ذلك ، كما يعرف المجتهد كما يظهر من المسألة الآتية (مسألة ٢٠) إلّا أنّه لا يحصل إلّا مع تحمّل الصعاب والعناء الشاقّ ، فإنّه من الصعب أن يحصل للمجتهد فكيف بغيره؟! والله المستعان.

وإنّما تحصل المعرفة بحضور دروس المراجع ، وقراءة أبحاثهم الفقهيّة والأُصوليّة ، أو مطالعة تقريراتهم أو النظر الدقيق في آرائهم ورسائلهم العمليّة وما شابه ذلك ، فتدبّر.

آراء الأعلام :

في قوله : (المراد من الأعلم) ، قال الشيخ الجواهري : بل المراد بالأعلم هو الأوصل ، ولعلّ بعض هذه الأُمور لها

٣٤٣

مدخليّة في الأوصليّة.

وفي قوله : (لنظائرها) ،

قال السيّد الفيروزآبادي : مع تميّز المناط المنقّح المقطوع بحيث لا يشتبه بالقياس ، وعدم كون كثرة الاطلاع منشأً لفقد جهة أُخرى لقلّة المجال واشتغال الوقت بذكرها فيحرم عن التعمّق في الفروع والتدقيق.

وفي قوله : (أجود استنباطاً) ،

قال السيّد الخوانساري : هذا التفسير للأعلم أولى.

وفي قوله : (والاستنباط) ،

قال السيّد الفيروزآبادي : ويمكن أن يكون المرجع العارف بالقواعد قريباً من الاجتهاد وإن لم تكن له ملكة الاستنباط.

٣٤٤

(المسألة الثامنة عشرة في العروة)

قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٨ ـ الأحوط عدم تقليد المفضول ، حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ١٣):

في قوله : (الأحوط) ، قال : لزومه محلّ إشكال ، سيّما بعد المصير إلى ثبوت الحجّية لصرف الوجود من الفتوى.

__________________

أقول : لمّا كان التقليد بمعنى المطابقة لمن كان قوله مع الحجّة الفعليّة كما ذهبنا إليه ، أو بمعنى صحّة الاستناد في مقام العمل أو الالتزام أو نفس العمل.

فاعلم أنّ تقليد الأعلم إنّما يلزم كما مرّ تفصيل ذلك في المسألة ١٢ إذا كانت فتواه مخالفة لفتوى غيره ، مع العلم بالمخالفة ، أو حتّى مع مجرّد احتمال المخالفة كما قيل. كما لم يكن قول الغير موافقاً للاحتياط ، وهذا يتمّ بمقتضى حكم العقل

٣٤٥

وبناء العقلاء.

وحينئذٍ يجوز تقليد غير الأعلم إذا وافق قوله قول الأعلم ، فيجوز الاستناد إلى فتواه أو تطبيق العمل على رأيه ، أو كفاية المطابقة مع رأيه ، فإنّ تقليد المفضول يكون بعينه تقليداً للأفضل ، فلو علم بأعلميّة أحد المجتهدين تفصيلاً أو إجمالاً وشكّ في اختلافهما في الفتوى ، فإنّه لا يجب تقليد الأعلم منهما ، لشمول إطلاق ما دلّ على الحجّية لفتوى المفضول ، فيتخيّر أيّهما شاء. فكيف لا يجوز تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل؟

ويكفينا السيرة القطعية على الرجوع إلى غير الأعلم في صورة عدم العلم بالمخالفة فضلاً عمّا إذا علم بالموافقة ، فيكفي المطابقة أو الاستناد إلى واحد منهما وإن كان فتوى غير الأعلم ، فمع اتفاق الآراء فالجميع حجّة ، والعمل المطابق لواحد منها مطابق للجميع ، فلا وجه إلى الاحتياط الوجوبي في عدم تقليد المفضول كما في عبارة الماتن (إلّا إطلاق قولهم : لا يجوز تقليد المفضول ، إلّا أنّه غير تامّ ، ولو تمّ فليس معقداً لإجماع واجب العمل) (١).

«والظاهر أنّ فتوى السيّد اليزدي (قدس‌سره) تبتني على ما ذهب إليه في معنى التقليد من أنّه الالتزام ، وما يمكن أن يكون وجهاً للقول بالاحتياط هو الشكّ في إطلاق وجوب تقليد الأعلم ، وفي شموله لصورة الموافقة في الفتوى. فإنّه على فرض الإطلاق تكون فتوى المفضول ساقطة عن الحجّية ، وعلى فرض الشكّ تكون

__________________

(١) المستمسك ١ : ٣٧.

٣٤٦

مشكوك الحجّية ، فيتمّ المعلوم.

فقيل في الجواب : إنّه على فرض تماميّة هذا الوجه إنّما يصلح لأن يكون وجهاً للاختبار لا للاحتياط والتحقيق شاهد على القول بالجواز. حتّى بناءً على أخذ الالتزام في مفهوم التقليد ، وبناءً على وجوب تقليد الأعلم ، لأنّ المستند للوجوب إن كان هو الإجماع فإنّه دليل لبّي ، والقدر المتيقّن منه صورة المخالفة بين الأعلم وغيره ، وإن كان النصوص فالإرجاع إلى الأفقه مختصّ بصورة العلم التفصيلي بالمخالفة ، وإن كان حكم العقل بالتعيين عند الدوران بين التعيّن والتخيير فإنّه مختصّ بصورة المخالفة أيضاً ، وإن كان بناء العقلاء فعندهم سيّان عند الموافقة ، فإنّ الملاك هو الوثوق ويتمّ في موافقتهما في الفتوى ، فعدم جواز تقليد المفضول مع موافقته للأفضل موقوف على نصّ خاصّ ، وعدم الدليل دليل العدم ، فلا وجه للاحتياط (١).

آراء الأعلام :

في قوله : (تقليد المفضول) ،

قال السيّد الشيرازي : لا يجب هذا الاحتياط وإن كان حسناً.

وقال الشيخ الجواهري : مع العلم بالموافقة يجوز تقليده قطعاً.

وقال الشيخ كاشف الغطاء : الأقوى الجواز ، لأنّ التقليد لا موضوعيّة له.

__________________

(١) اقتباس من الاجتهاد والتقليد : ٣٠٤.

٣٤٧

وفي قوله : (فتوى الأفضل) ،

قال السيّد الأصفهاني : وإن كان الأقوى الجواز في هذه الصورة.

وقال السيّد الحكيم : الظاهر الجواز حينئذٍ.

وقال السيّد الخميني : والأقوى هو الجواز مع الموافقة.

وقال السيّد الخوانساري : لا مانع من تقليده في المسألة المتوافق عليها ، وتظهر الثمرة في صورة ثبوت الأعلم إن قلنا بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت.

وقال السيّد الگلپايگاني : وإن كان الأقوى الجواز في هذه المسألة ، بل ومع الجهل بالمخالفة كما مرّ.

وقال السيّد الفيروزآبادي : الظاهر جواز تقليده هنا.

وقال السيّد الخوئي : لا بأس بتركه في هذا الفرض.

وقال الشيخ النائيني : الأقوى جواز تقليد المفضول في هذه الصورة ، بل الظاهر أنّه بعينه تقليد الأفضل ، ولا يخرج بقصد الغير عن كونه تقليداً له.

٣٤٨

المسألة العاشرة في المنهاج

و

(التاسعة عشرة في العروة)

قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٩ لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم ، كما إنّه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ١٣):

في قوله : (لا يجوز) ، قال : لعدم كونه طريقاً وذلك واضح ، بعد فرض عدم صدق العالم والفقيه وأهل الذكر والناظر في حلالهم وحرامهم وغيرها من العناوين عليه.

وفي قوله : (كما أنّه يجب) ، قال : لو لم يأخذ بالاحتياط.

__________________

أقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : عدم جواز تقليد غير المجتهد مطلقاً.

الثاني : وجوب التقليد على غير المجتهد إذا لم يكن محتاطاً.

٣٤٩

أمّا المقام الأوّل : فنقول : لقد مرّ الكلام بالتفصيل في معنى المجتهد وإنّه الواجد والحامل لملكة الاستنباط بالفعل بإرجاع الفروع إلى الأُصول ، أو استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة ، أو كما جاء في لسان الروايات الشريفة بأنّه يجمع بعض الصفات الخاصّة مثلاً :

١ ـ الراوي للأحاديث الشريفة.

٢ ـ والعارف بالأحكام الدينيّة.

٣ ـ والناظر في الحلال والحرام.

أي يكون من أهل النظر والاستدلال والاستنباط ، فمن لم يكن كذلك فإنّه غير مجتهد اصطلاحاً ، وإن كان من أهل العلم ورجال الدين وأصحاب الفضيلة. لصحّة سلب العناوين الواردة في النصوص عنه ، كالفقيه وأهل الذكر والعالم وما شابه ذلك ، فلا يصحّ تقليده.

وأمّا المقام الثاني : فالعمدة في التقليد أنّه من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، فمن لم يصدق عليه العناوين والصفات الواردة ، فإنّه بحكم الجاهل وإن كان من أهل العلم ، فما دام لم يعمل بالاحتياط فعليه أن يقلّد ، لأنّ المكلّف لو لم يكن مجتهداً بالفعل ولم يلتزم بالاحتياط ، فإنّه يجب عليه عقلاً كما مرّ في المسألة الاولى ، أن يقلّد من كان واجداً لشرائط التقليد. فيشمله الإطلاقات المجوّزة للرجوع إلى الغير ، أي المجتهد الجامع للشرائط. فمن لم يكن من الفقهاء فهو من العوام وإن كان من أهل العلم.

فمن وجد ملكة الاستنباط واستنبط بالفعل لا يجوز له الرجوع إلى الغير ، فإنّه

٣٥٠

من رجوع العالم إلى الجاهل.

وإذا توقّف في مسألة ، فإن كان يرى تزيف دليل الآخر وإن كان جازماً ، فلا يجوز الرجوع إليه ، فإنّه من الرجوع إلى الجاهل بنظره ، وإذا احتمل أنّه استند إلى وجه لم يطلع إليه ، فقيل بجواز الرجوع وقيل بالعدم كما عند السيّد الخوئي (قدس‌سره) (١) لانصراف الإطلاقات المشرعة للتقليد عن مثل هذا الشخص الذي يصدق عليه حقيقة أنّه من أهل الذكر والفقيه وغيرها من العناوين. وكذا من لم يجتهد بالفعل وهو متمكّن من الاستنباط ، لانصراف الإطلاقات أيضاً عمّن يتمكّن من الوصول إلى الواقع بنفسه.

وظاهر آية السؤال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إنّه على نحو الانحصار إنّما يشرع السؤال لمن لم يعرف الأحكام ، أو تكون الآية مجملة فلا يستدلّ بها على مطلق الرجوع إلى الغير ، ومقتضى الأصل عدم حجّية قول الغير.

وربما يقال فيما نحن فيه بالاستصحاب ، أي استصحاب جواز الرجوع إلى الغير قبل الوصول إلى مرتبة الاجتهاد الفعلي ، فيعمّ من كان مجتهداً ، إلّا أنّه لم يستنبط الأحكام بالفعل.

ويرد عليه : أنّه من أركان الاستصحاب إحراز الموضوع ووحدته بين القضيّتين المشكوكة والمتيقّنة ، وهنا لم يحرز الموضوع ، فإنّه يحتمل أن يكون المراد من جواز الرجوع إلى الغير لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد ، لا مطلق من لا يعلم بالحكم

__________________

(١) دروس في فقه الشيعة (تقريرات) ١ : ١١٢.

٣٥١

بالفعل وإن كان مجتهداً.

ويتفرّع على ما ذكرنا أنّه من كان مجتهداً متجزّياً في مسألة أو مسألتين مثلاً ، فإنّه لا يجوز تقليده أيضاً ، ما لم يستنبط جملةً معتدّاً بها من الأحكام ، لعدم صدق العناوين الواردة كالعارف بالحلال والحرام والناظر فيهما والفقيه وما شابه ذلك عليه.

آراء الأعلام :

في قوله : (يجب على غير المجتهد التقليد) ،

قال السيّد الگلپايگاني : أو الاحتياط.

٣٥٢

المسألة الحادية عشر في المنهاج

قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره)

١١ ـ ويعرف اجتهاد المجتهد : بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة ، وبشهادة عدلين من أهل الخبرة إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد ، وبالشياع المفيد للعلم ، ولكن للتأمّل في كفاية الشياع لإثبات هذه الشؤون مجالاً متّسعاً.

(المسألة العشرون في العروة)

وقال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ٢٠ ـ يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني ، كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة ، وعلم باجتهاد شخص ، وكذا يعرف بشهادة عدلين ، إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد ، وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم ، وكذا الأعلميّة

٣٥٣

تعرف بالعلم ، أو البيّنة غير المعارضة ، أو الشياع المفيد للعلم.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ١٤):

في قوله : (شهادة عدلين) ، قال : بناءً على حجّية البيّنة في مطلق الموضوعات ، وفي النفس منها شيء ، وفي ثبوته بأخبار العدل الواحد أو بقول الثقة الغير العادل مجال للتأمّل ، إلّا أن يستفاد المناط الاطمئناني من حجّيتهما في بعض الموارد المنصوصة ، وهو كما ترى.

وفي قوله : (أهل الخبرة) ، قال : التقييد به صحيح في كلّ موضوع يحتاج إلى إعمال الفكر والنظر في الموضوعات.

وفي قوله : (بالشياع المفيد) ، قال : في جعله قسيماً للأوّل نوع تساهل من قلمه الشريف السيّال ، والخطب سهل بعد وضوح المراد ، ثمّ الأقوى كفاية الوثوق الحاصل بالشياع ، ولكن للتأمّل في كفاية الشياع لإثبات هذه الشؤون مجالاً متسعاً ورحباً فسيحاً ما ترى من مناشئه في هذا العصر.

وفي قوله : (المفيد للعلم) ، قال : يتوجّه إليه جميع ما أشرنا إليه في ثبوت الاجتهاد به حرفاً بحرف.

__________________

أقول : يظهر من عبارة السيّد اليزدي (قدس‌سره) أنّ معرفة وتشخيص اجتهاد المجتهد وكذلك أعلميّته إنّما يثبت بواحد من ثلاث طرق ، وهذه الطرق تجري في كلّ الموضوعات الخارجيّة التي لها آثار شرعيّة ، فإنّها تعرف بالحجّة العقلائيّة كالعلم

٣٥٤

الوجداني ، أو بالحجّة الشرعيّة كالبيّنة التي في اصطلاح المتشرّعة عبارة عن شهادة عدلين.

ولا يخفى أنّ الحجّية عند الشرع أخصّ ممّا عند العقلاء ، فكلّ حجّة شرعيّة حجّة عقلائيّة أيضاً ، ولا عكس.

١ ـ العلم الوجداني ، كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة ورجال العلم وإن لم يكن مجتهداً.

٢ ـ البيّنة إذا كانت من أهل الخبرة أيضاً ، ولم تكن معارضة ببيّنة اخرى تنفي الاجتهاد أو الأعلميّة.

٣ ـ الشياع المفيد للعلم ، وإن لم يبلغ حدّ التواتر.

وهذا الثالث أحد أسباب حصول العلم الوجداني ، فعدّه قسيماً له من باب التسامح.

ثمّ المراد من العلم الوجداني هو القطع واليقين والجزم بالمعلوم ، ويلحق به الظنّ المتاخم للعلم والذي يسمّى بالعلم الاطمئناني أو العلم العادي.

١ ـ العلم الوجداني :

لقد ثبت في علم أُصول الفقه أنّ قطع القاطع حجّة ، وإنّ حجّيته ذاتيّة فهي ليست بجعل جاعل ، لا نفياً ولا إثباتاً ، وإنّ القاطع يرى الواقع ونفس الأمر بلا احتمال خلاف فيه ، وبحكم العقل والعقلاء يكون القطع حينئذٍ منجّزاً من قبل المولى للتكليف ، ومعذّراً من قبل العبد عند المخالفة للواقع ، كما يصحّ الاحتجاج به ،

٣٥٥

فالقاطع بزعمه يرى الواقع على ما هو عليه ، فيصحّ للمولى أن يحتجّ به فيكون منجّزاً وكذلك يصحّ للعبد الاحتجاج به فيكون معذّراً ، فالقاطع بزعمه يرى الواقع ، وبهذا يحتجّ عليه كما يحتجّ به من دون جعل تشريعي.

فلا يمكن لأحد أن يردع القاطع عن قطعه ، إلّا أن يهدم مقدّمات قطعه ، والنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات كما هو واضح ، كمن يقطع من طريق القياس ، فإنّه نبطل القياس فيبطل قطعه ، كما في قصّة أبان بن تغلب مع الإمام الصادق (عليه‌السلام) في مسألة قطع أصابع المرأة وقوله (عليه‌السلام) : (مهلاً يا أبان ، هذا حكم رسول الله ، يا أبان ، أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين) (١).

فنتصرّف في مقدّمات القطع ، أو كما قيل يتصرّف في المتعلّق لا في العلم (٢) ، فلا يحصل العلم بالحكم من طريق القياس مثلاً ، وبهذا أراد الأخباريون نفي العلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، على أنّ الشارع من حقّه أن يحدّد حجّية القطع بلحاظ حصوله من بعض المبادي ، وإن كان حجّية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل لا إثباتاً ولا نفياً ، فهذا باعتبار أصل الحجّية وذاتيّتها ، وتضييق الشارع وتحديده إنّما هو باعتبار متعلّقات القطع أو مقدّماته ، فما دام لم يثبت تحديد الشارع فلا ينبغي الإشكال في حجّية العلم الوجداني والقطع اليقيني في إثبات متعلّقه.

فلا إشكال في ثبوت الاجتهاد أو الأعلميّة بالعلم الوجداني مطلقاً من أيّ

__________________

(١) الوسائل : كتاب الدية ، باب ٤٤ من أبواب دية الأعضاء ، الحديث ١.

(٢) عن المحقّق النائيني (قدس‌سره).

٣٥٦

سبب كان سواء أكان بالاختبار لمن كان من أهل الخبرة ، أو بالشياع المفيد للعلم أو بغيرهما.

نعم ، يبقى الكلام في الشهرة دون الشياع فمن الأعلام (١) من منع عن حجّيتها في المقام ، وإن حصل منها العلم ، وأنّها مثل القياس ، وإنّ الذي حصل من الشهرات في طول حياته كانت مخالفة للواقع ، ربّ مشهور لا أصل له ، إلّا أنّه هذا لا يعني عدم حجّية الشهرة مطلقاً أو نفيها مطلقاً ، بل إذا كان لها مبادي صحيحة وكافية تفيد العلم ، فإنّها تلحق حكماً بالشياع.

كما يلحق بالعلم الوجداني الظنّ الاطمئناني ، فإنّه من العلم العادي والحجّة العقلائيّة ، ولم يردع الشارع عنها.

وربما ما جاء في موثّقة مسعدة بن صدقة (٢) إشارة إلى ذلك في قوله (عليه‌السلام) : (.. الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة) ، بناءً على أنّ الاستبانة أعمّ من العلم الوجداني والعلم العادي الذي هو متداول به عادة عند الناس ، لندرة العلم الوجداني عندهم. وألحق بعضهم العلم التعبّدي بالعلم العادي أيضاً ، بناءً على أنّه لولا اعتبار ذلك ، للزم العسر والحرج المنفيّان شرعاً ، فتأمّل.

هذا ويظهر من عبارة السيّد (قدس‌سره) أنّ معرفة اجتهاد المجتهد وأعلميّته مختصّ بالعلم الوجداني ، والحال المتعارف إنّما هو الوثوق والاطمئنان فيشمل العلم العادي

__________________

(١) صاحب معالم الزلفى : ٣٥.

(٢) الوسائل : باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٣٥٧

أيضاً ، إلّا أنّ ظاهر العبارة نفي ذلك.

فأشكل عليه أنّ ما نحن فيه لا يلحق بالقضاء الذي يشترط فيه العلم الوجداني للقاضي ، ولا يكتفى بالاطمئنان الوثوقي ، وذلك لأدلّة القضاء وللحصر في تقسيم القضاة إلى أربعة ، فواحد منهم يقضي بالحقّ وهو يعلم ، فإنّه من أهل الجنّة ، وأمّا الباقي فهم في النار ، وما نحن فيه ليس من الدعاوي والقضاء حتّى يقال بالعلم الوجداني ، بل يكفي الوثوق ، فتدبّر.

٢ ـ البيّنة :

الطريق الثاني لإثبات اجتهاد المجتهد أو أعلميّته هو البيّنة أعني شهادة عدلين من أهل الخبرة ، فإنّها من الأمارات الظنّية الخاصّة المعتبرة شرعاً ، وقد ثبت عند الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) كما في فرائده بالأدلّة الأربعة أنّ الأصل الأوّلي في مطلق الظنّ هو عدم حجّيته إلّا ما خرج بالدليل ، ويسمّى بالظنّ الخاصّ ، ويقابله الظنّ المطلق ، فكان عند القدماء حجّية مطلق الظنّ ، إلّا ما خرج بالدليل كالقياس ، إلّا أنّ الشيخ ومن تبعه وهو الحقّ ، عدم حجّية مطلق الظنّ إلّا ما خرج بالدليل ، كظواهر الكتاب وخبر الثقة ، ومنها البيّنة.

ثمّ لا إشكال في حجّية البيّنة في باب القضاء ورفع الخصومات ، وأمّا في غيره فربما يناقش ذلك على أنّه لم يثبت للفظة البيّنة حقيقة شرعيّة أو متشرّعة بمعنى شهادة عدلين ، بل ما جاء في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة إنّما استعملت بمعناه اللغوي والعرفي ، أي بمعنى الوضوح وما به البيان وما يثبت به الشيء ، وهذا

٣٥٨

يستدعي البحث عنها لغةً واصطلاحاً.

البيّنة لغةً :

البيّنة صفة مشبّهة من بان يبين بياناً وتبياناً ، ويعني الوضوح والظهور وما به البيان والاستبانة ، فإن كان موضوعها مذكّراً فإنّه يقال : هو بيّن ، وإن كان مؤنّثاً فيقال : هي بيّنة ، وما نحن فيه لمّا كان الموضوع هو الحجّة فيقال : إنّها بيّنة ، أي حجّة واضحة وظاهرة لا خفاء فيها ، فتوجب اليقين والاطمئنان وتكون بحكم البرهان. وتأتي لازماً ومتعدّياً.

البيّنة اصطلاحاً :

لقد وردت كلمة البينة في القرآن في ما يزيد عن خمسة عشر موضعاً ، وهي بمعنى الواضح والظاهر الذي يفيد العلم واليقين ، كما في معجزتي موسى الكليم (عليه‌السلام) في قوله تعالى :

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(١).

وفي قوله تعالى :

(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ)(٢).

__________________

(١) الأعراف : ١٠٥.

(٢) القصص : ٣٢.

٣٥٩

وأمّا في الروايات الشريفة فقد وردت كلمة (البيّنة) وأُريد منها ما زاد عن قول الواحد أو شهادة عدلين ، فعند الشارع قولهما حجّة وأمارة معتبرة ، فهي بيّنة واضحة. فتنصرف كلمة البيّنة في لسان الشرع إلى شهادة العدلين من باب انصراف المفهوم الكلّي إلى بعض مصاديقه ، فنذهب إلى المعنى المصطلح بالتبادر والانصراف وما هو المتفاهم عند الفقهاء.

ويدلّ على ذلك ما ورد في جملة من الأخبار.

ففي صحيحة هشام بن الحكم عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، قال : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان (١).

وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يحكم بين الناس بالبيّنات والايمان في الدعاوي.

وفي صحيح جميل وهشام قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه.

إلى غير ذلك من روايات الباب ، والمتبادر منها كما عند الفقهاء أنّ المراد من البيّنة شهادة عدلين ، لا مطلق الحجّة الواضحة كما قيل ، فإنّه لو كان ذلك لما كان فرقاً بين المدّعى والمنكر ، فإنّ لكلّ منهما حجّة ، كما إنّ في قول الإمام الصادق (عليه‌السلام) في موثّقة مسعدة بن صدقة : (الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة) ، فلو كان المقصود من البيّنة مطلق الحجّة الواضحة للزم أن يكون

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء ، باب ٢ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ١.

٣٦٠