القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

أحدهما أورع.

وفي قوله : (فيختار الأورع) ، قال المحقّق آقا ضياء : في وجوبه نظر لأنّ المناط حكم العقل في باب رجوع الجاهل إلى العالم ليس إلّا لأقربيّته إلى الواقع ، وفي هذه الجهة لا يكون لجهة الورع والعدالة دخل البتّة ، غاية الأمر حيث كان حكم العقل تعليقيّاً ، لا بدّ من الرفع عنه بمقدار ما ثبت من قبل الشرع اتّباعه ، وليس هو إلّا اعتبار طبيعة العدالة في المفتي ليس إلّا ، ومن هذه الجهة نلتزم بأنّ الأعلم العادل مقدّم على الأعدل العالم ، وإلّا فليس في البين إطلاق يستكشف منه هذه الجهة كما لا يخفى.

وقال الشيخ آل ياسين : على الأحوط وإن كان لا يجب.

وقال الشيخ الجواهري : لا يجب اختيار الأورع ، نعم هو أحوط.

وقال الإمام الخميني والسيّد الفيروزآبادي والسيّد الگلپايگاني : على الأحوط الأولى.

وقال السيّد الخوانساري والسيّد الشيرازي والشيخ النائيني : على الأحوط.

٣٢١

(المسألة الرابعة عشرة في العروة)

قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٤ : إذا لم تكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم وإن أمكن الاحتياط.

جاء في الغاية القصوى (١ : ١٠):

في قوله : (من غير الأعلم) مع رعاية الأعلم فالأعلم بناءً على الاشتراط ، ثمّ ما ذكره (قدس‌سره) يتمّ إذا لم يكن مدرك غير الأعلم ، ومستنده في الفتوى مخدوشاً عند الأعلم ، وإلّا فالأحوط الرجوع إلى الاحتياط.

وفي قوله : (وإن أمكن) ، قال : بناءً على ما تقدّم الطريقين عليه أو عرضيّة الطرق الثلاثة ، وأمّا لو قيل بتقدّمه على التقليد في صورة عدم لزوم المحاذير المذكورة سابقاً كما عن بعض فيشكل الرجوع إلى الأعلم فكيف إلى غيره. (١)

٣٢٢

أقول : لا يخفى أنّ عدم الفتوى للأعلم في الحكم الواقعي وقوله بالاحتياط يكون لأحد أُمور أربعة حسب التصوّر الأوّلي.

١ ـ لعدم استفراغ الوسع في استنباط الحكم فيقول بالاحتياط.

٢ ـ لعدم الفحص والمراجعة التامّة في مدارك ومسانيد المسألة فيشير إلى هذا المعنى بقوله مثلاً : إنّ المسألة تحتاج إلى التأمّل ، أو مزيد التأمّل ، أو غير خالٍ عن الإشكال ، أو لا يخلو عن النظر وما شابه ذلك ، فتكون الشبهة له بدويّة فيحكم بالاحتياط.

٣ ـ أن يخدش بمدارك المسألة عند غيره ، فيخطأ الآخر في فتواه.

٤ ـ أن يكون له فتوى بالحكم الظاهري ، كأن يفتي بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي وتعارض الأدلّة.

في الأوّلين يجوز الرجوع إلى غير الأعلم مع مراعاة الأعلم فالأعلم ، فإنّ قوله حجّة من غير معارض له ، فإنّ تقليد الأعلم إنّما يجب لو كان له فتوى ، وإلّا فلا ، فمراجعة المقلّد إليه يكون بمنزلة مراجعة الجاهل إلى مثله ، ولا فرق في ذلك بين أن يتمكّن العامي من الاحتياط أو غيره ، لعدم وجوب الاحتياط عليه ، بل الواجب رجوعه إلى العالم مطلقاً حتّى لو تمكّن من الاحتياط.

وفي الأخيرين لا يصحّ رجوع العامي إلى غير الأعلم ، لأنّه في الثالث يرى عدم تماميّة أدلّة الغير فيلزم العامي حينئذٍ الاحتياط في العمل ، وفي الرابع له حكم ظاهري ولا يلزم في تقليد الأعلم أن يكون في الحكم الواقعي ، ففتواه بالحكم الظاهري يمنع عن حجّية فتوى الغير.

٣٢٣

آراء الأعلام :

في قوله : (من غير الأعلم) ،

قال الشيخ آقا ضياء : مع مراعاة الأعلم فالأعلم ، لأنّه المتيقّن بالإضافة عند التنزيل من الأعلم بقول مطلق.

وقال السيّد البروجردي : مع رعاية الأعلم منهم فالأعلم.

وقال الشيخ الجواهري : لكن الأعلم فالأعلم.

وقال السيّد الخميني : مع رعاية الأعلم منهم على الأحوط.

وقال السيّد الخوانساري : إذا كان عدم إفتاء الأعلم من جهة عدم المراجعة بمدرك المسألة ، وأمّا إذا كان عدم الإفتاء من جهة الخدشة والإشكال في المدرك وعدم تماميّة المدرك عنده في المسألة فلا وجه للرجوع إلى غير الأعلم ، لأنّ مدرك فتواه في المسألة مخدوش في نظر الأعلم ، فالمتعيّن حينئذٍ الاحتياط.

وقال السيّد الشيرازي : مع رعاية الأعلم فالأعلم على النحو الذي مرّ في مسألة (١٢) عند قوله : ويجب الفحص عنه.

٣٢٤

(المسألة الخامسة عشرة في العروة)

قال المحقّق اليزدي قدس‌سره الشريف :

مسألة ١٥ : إذا قلّد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميّت فمات ذلك المجتهد ، لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة ، بل يجب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء وعدمه.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ١١):

في قوله : (في هذه المسألة) ، قال : مع الاتكال على فتوى ذلك الميّت والاستناد إليه من دون مدخليّة الحيّ أصلاً.

وفي قوله : (بل يجب) ، قال : الصور المتصوّرة هنا كثيرة تبلغ التسع ، بل تربو عليها باعتبار كون فتوى الميّت حرمة البقاء أو جوازه أو وجوبه ، وكذا الحيّ المرجوع إليه ، وحكم تلك الصور غير خافية على المتدرّب.

٣٢٥

أقول : ظاهر المسألة أنّ العامي لو قلّد مجتهداً فمات ، فقلّد آخراً فمات ، فيقلّد ثالثاً ، فإذا كان الثاني يقول بجواز البقاء على تقليد الميّت ، فبقي على الأوّل ، فعند موت الثاني هل يبقى على الأوّل ، أو يرجع إلى حيّ ثالث. يقول السيّد بوجوب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء وعدمه أي يرجع إلى المجتهد الثالث.

كما إنّ ظاهر العبارة يحتمل أن يقلّد الثاني في خصوص المسائل الفرعيّة ، ومنها مسألة البقاء ، كما يحتمل خصوص البقاء ، ولمّا كان التقليد عند المصنّف هو الالتزام فيحتمل أن يكون المراد ما هو الأعمّ.

ثمّ الوجوب هنا كما في أصل التقليد وتقليد الأعلم إنّما هو الوجوب الفطري الارتكازي ، فما يدركه عقل العامي في باب التقليد هو تحصيل المؤمّن من العقاب بعد العلم الإجمالي بأنّه مكلّف بتكاليف شرعيّة. والمؤمّن للعقاب في المقام يكون بتقليد الحيّ الأعلم للقطع بحجّية فتواه ، فيقدّم في دوران الأمر بين التعيين والتخيير للاشتغال العقلي قول الأعلم كما ذهبنا إليه ، فيسقط فتوى الميّت عن الحجّية بموته ، كما لا يعتمد على تقليده بتقليده ، للزومه الدور.

فالعقل الفطري الارتكازي كما يقوده إلى أصل التقليد ، ثمّ تقليد الأعلم ، كذلك يقوده بعد موت الأعلم إلى تقليد الحيّ للأعلم.

ولا منافاة بين هذه المسألة والمسألة التاسعة من جواز البقاء على تقليد الميّت ، فإنّه من المطلق والمقيّد ، فيجوز البقاء إلّا في البقاء ، كما أنّ هنا باعتبار العقل الارتكازي للعامي ، وهناك باعتبار نظر المجتهد وفتواه في البقاء ، فلو رجع إلى الحيّ الأعلم ، وأفتى بالجواز ، لجاز البقاء على تقليد الميّت.

٣٢٦

ثمّ فتوى الميّت في مسألة البقاء لا تخلو من ثلاث حالات ، إمّا جواز البقاء أو وجوبه أو حرمته ، وكذلك فتوى الحيّ ، فتكون الصور من ضرب ثلاث في ثلاثة تسعة. وهي كما يلي إجمالاً :

١ ـ فإذا أفتى الحيّ بحرمة البقاء ، لم يجز له البقاء على تقليد الميّت مطلقاً سواء قال بالجواز أو الوجوب أو الحرمة.

٢ ـ وإذا قال بجواز البقاء أو وجوبه والميّت يقول بحرمة البقاء فهذا ما يذكره السيّد اليزدي في مسألة (٢٦) ، وحاصلها لزوم متابعة الحيّ والعمل بفتواه ، فيجوز البقاء أو يجب في غير مسألة البقاء ، لسقوطها عن الحجّية بموته ، ولا مانع من ذلك.

٣ ـ وإن أفتى بالجواز كالحيّ فلا إشكال في جواز البقاء مطلقاً.

وربما يقال بعدم الجواز في مسألة الجواز لأمرين :

الأوّل : لزوم اللغويّة وتحصيل الحاصل حينئذٍ.

الثاني : استلزام ذلك أخذ الحكم في موضوع نفسه وهو محال.

وأُجيب عن الأوّل باختلاف الموضوع لكثرة الأقوال في معنى التقليد من الالتزام والعمل والمطابقة وغيرها.

وعن الثاني بترتّب الأحكام على الموضوعات وإن لم يعمل به في المسائل ، فإذا ثبت حجّة فتواه ثبتت أحكام موضوعات المسائل ، فلم يلزم أخذ الحكم في موضوع نفسه.

٤ ـ وإذا كان فتوى الحيّ والميّت بجواز البقاء ، فإنّه يجوز البقاء على رأي الميّت في سائر المسائل مستنداً بفتوى الحيّ القائل بجواز البقاء ، وكذلك لو قالا

٣٢٧

بوجوب البقاء.

٥ ـ وإذا أفتى الحيّ بوجوب البقاء والميّت بجواز البقاء ، فقد ذهب الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) إلى أنّ فتوى الحيّ لا تشمل مسألة جواز البقاء ، للزوم التناقض حينئذٍ ، فإنّه يلزم كون فتوى الميّت حجّة تعيّنيّة باعتبار فتوى الحيّ ، وحجّة تخييريّة باعتبار فتوى الميّت ، فالحيّ يفتي بعدم جواز الرجوع ويعيّن تقليد الميّت ، والميّت يفتي بجواز الرجوع ، وهذان متناقضان.

وأُجيب : إنّما يلزم ذلك لو كان موضوع الجواز عند الميّت متّحداً مع ما هو الموضوع لمسألة الوجوب عند الحيّ ، وعلى تقدير الاختلاف كانت دائرة موضوع الوجوب عند الحيّ أوسع منها عند الميّت ، فلا يلزم المحذور المتوهّم لو كان فتوى الميّت بجواز البقاء بمجرّد الالتزام ، وإن لم يعمل ، وفتوى الحيّ بوجوب البقاء مع العمل ، فحجّة تعينيّة في خصوص المسائل التي عمل بها ، وأمّا فيما لم يعمل بها فليس فيها إلّا فتوى الميّت بجواز البقاء ، وهي حجّة تخييريّة ، فلا يلزم اجتماع حجّتين تعيّنيّة وتخييريّة حتّى يلزم التناقض.

ثمّ لا مانع من اجتماعهما إذا كانا من جهتين كما هو المفروض ، فتعيّنيّة من جهة الحيّ وتخييرية من جهة فتوى الميّت ويشترط في التناقض الوحدات الثمانية كما في علم المنطق ولم يتحقّق هذا المعنى في المقام فهما نظير فتوى غير الأعلم ، فتقليد الأعلم وتقليد الأعلم لغير الأعلم.

وإذا أفتى الحيّ بالجواز والميّت بالوجوب ، فمعناه أنّ المكلّف مخيّر حدوثاً وبقاءً بين البقاء على تقليد الميّت والعدول عنه ، ولا تأثير لفتوى الميّت بوجوب

٣٢٨

البقاء لسقوطه عن الحجّية الفعليّة بموته ، فالمقلّد مخيّر بين العدول عن الميّت إلى الحيّ والبقاء على آرائه ، وإذا رجع إلى مسألة البقاء ، فلا يجب عليه ذلك في بقيّة المسائل الفرعيّة ، فله أن يعدل إلى الحيّ ويعرض عن البقاء.

آراء الأعلام :

في قوله : (في هذه المسألة) ،

قال السيّد الخوانساري : إذا كان متّكلاً في البقاء إلى الميّت من دون الاتّكال إلى الحيّ ، ومع الاتّكال يجوز حتّى في هذه المسألة.

وفي قوله : (إلى الحيّ الأعلم) ،

قال السيّد الخميني : على الأحوط.

٣٢٩

(المسألة السادسة عشرة في العروة)

قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٦ : عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل وإن كان مطابقاً للواقع ، وأمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلاً حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً ، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.

جاء في الغاية القصوى (١ : ١١):

في قوله : (الملتفت) ، قال : الملتفت إلى امتثال الأحكام حتّى حين العمل ، ولو كان تاركاً للتعلّم تهاوناً.

وفي قوله : (باطل) ، قال : إذا لم يطابق الواقع ولا فتوى من يجوز تقليده ولم يتمشّ منه قصد القربة كما في فرض المتن ، وإلّا فالأقوى الصحّة خصوصاً في المعاملات والتوصّليات التي يترتّب عليها أثر

٣٣٠

عمليّ ، نعم لا مؤمّن له ظاهراً ما لم تنكشف المطابقة كما أشرنا إليه.

وفي قوله : (وحصل منه) ، قال : تمشّي القربة من المقصّر الملتفت لا ريب في إمكانه فكيف بالقاصر والمقصّر الغير الملتفت ، نعم الذي لا يتحقّق من الملتفت هو الجزم بالنيّة ، ولا دليل على لزومه في صحّة الأُمور العباديّة ، والتحقيق موكول إلى محلّه.

وفي قوله : (غافلاً) ، قال : حين العمل الذي أتى به جازماً به ولو كان ملتفتاً إلى الأحكام قبل العمل وغفل حينه.

وفي قوله : (مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده) ، قال : المعيار مطابقة عمله للواقع والطريق إليه فتوى المجتهد الذي يجوز تقليده سواء أكان من قلّده أم غيره.

__________________

أقول : لقد مرّ في المسألة السابعة عند المحقّق اليزدي أنّ عمل العامي من دون تقليد ولا احتياط باطل ، والبطلان إنّما هو باعتبار حكم العقل ، فليس البطلان رأساً حتّى لو انكشف العمل مطابقاً للواقع ، بل بمعنى عدم جواز الاكتفاء بعمله ما لم ينكشف مطابقته للواقع أو ما بحكم الواقع كالأمارات ، وهذا بحكم العقل لقاعدة الاشتغال. وما أفاده المحقّق السيّد (قدس‌سره) هنا إنّما هو لبيان حكم أقسام الجهل بالحكم بلحاظ المطابقة مع الواقع أو ما بحكمه وعدم المطابقة.

والجاهل بالحكم إمّا أن يكون قاصراً في ذلك كأن يكون في البلاد النائية التي لم يصل إليه الحكم أو يكون مقصّراً كمن كان متمكّناً من معرفة الحكم إلّا أنّه

٣٣١

لم يسأل تهاوناً وما شابه ذلك ، ثمّ المقصّر إمّا أن يكون ملتفتاً حين العمل أو يكون غافلاً عند ذلك ، والعمل إمّا أن يطابق الواقع أو فتوى من يجب عليه تقليده حين العمل أو حين الرجوع وهو ما بحكم الواقع ، أو لا يطابق. فالمسألة ذات صور.

ثمّ الجاهل القاصر لا يتحقّق في حقّه العقاب فيما إذا لم يطابق عمله الواقع ، وكذلك من استند إلى حجّة شرعيّة ولم يطابق الواقع ، وأمّا المقصّر فمن أجل تهاونه يعاقب إذا لم يطابق عمله للواقع بل قيل حتّى مع المطابقة للتجرّي إذا كان ملتفتاً حين العمل ، لاحتمال الصحّة والفساد وعدم مبالاته.

والجاهل بقسميه إذا طابق عمله الواقع فإنّه يصحّ في العبادات كالصلاة في وقتها أو خارجه ، والعبادات بالمعنى الأخصّ كالنكاح أو الأعمّ كغسل الثوب المتنجّس بالبول من دون تعدّد بالماء الكثير ، فإنّه لا يبطل العمل عند المطابقة ، لأنّ الاجتهاد والتقليد ليسا من شرط الصحّة في العمل سواء كان توصّليّاً أو معامليّاً أو عباديّاً ، بل لأجل كونهما طريقاً لامتثال الأحكام الواقعيّة ، وفي التوصّليّات الأمر واضح لعدم قصد القربة ، وكذلك العباديات ، إلّا أنّه يشترط فيها استناد الفعل إلى الله سبحانه ويصدق هذا مع قصد الرجاء في الجاهل المقصّر الملتفت ، وإن كان لا يمكنه الجزم بالنيّة إلّا بالتشريع المحرّم إلّا أنّه ليس بشرط عندنا ، لعدم دليل معتبر على ذلك كما مرّ تفصيله بل يكفي مجرّد الإضافة إلى الله عزوجل ولو بقصد الرجاء.

وإن قيل : إنّ هذا يتنافى مع ما حكاه الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) من ذهاب المشهور أو الإجماع إلى بطلان العمل في مثل هذه الصورة ، كما حكى عن السيّد

٣٣٢

الرضي وقرّره السيّد المرتضى (قدس‌سرهما) في مسألة الجاهل بحكم القصر ببطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها. فأُجيب إنّ هذا من الإجماع المنقول ، كما إنّه لم يحرز أنّه من التعبّدي ، ويحتمل أن يكون معقد الإجماع أنّ مراد المجمعين البطلان العقلي بمعنى عدم الاكتفاء بالعمل رأساً ما لم يطابق الواقع أو الحجّة معتبرة.

وربما يحكى عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس‌سره) في رسائله عدم صحّة العمل في المقام ، وذلك أوّلاً فيما أفاده في الشبهة الوجوبيّة بأنّه من قصد الاقتصار على أحد المحتملات مع البناء على عدم الإتيان لسائر المحتملات ، فإنّه يدلّ على أنّ الباعث للعمل ليس أمر المولى.

وثانياً : كما ذكره في خاتمة الأُصول في مسألة العمل قبل الفحص من عدم تحقّق نيّة القربة ، فإنّ الشاكّ في المأتيّ به كيف يتقرّب به؟

وأُجيب : إنّ الاكتفاء ببعض المحتملات ربما لضعف الإيمان في مقام الامتثال ، فإنّ من له إيمان راسخ يأتي بتمام المحتملات ، فعدم إتيان جميع المحتملات ليس لعدم إرادة الامتثال ، فربما يكون الإنسان خائفاً من المخالفة القطعيّة دون المخالفة الاحتماليّة ، ومن ثمّ يأتي ببعض المحتملات دون الجميع.

ثمّ ما ذكره الشيخ لم يكن لدليل معتبر ، إلّا من باب الاستصحاب وهو ليس بدليل ، فربما يكون احتمال المأتيّ به كالعلم به.

فعمل الجاهل مطلقاً إذا طابق الواقع فإنّه يكون صحيحاً ، فإطلاق الماتن (قدس‌سره) لا يتمّ ، إلّا أن يقال كان مراده بطلان خصوص الأعمال العباديّة من المقصّر الملتفت لعدم تمشّي قصد القربة منه ، إلّا أنّه ذهبنا إلى تماميّة ذلك ولو بقصد الرجاء

٣٣٣

رجاء المطلوبيّة ببعض المحتملات وعند المطابقة يسقط الأمر حينئذٍ ، وهذا لا ينافي حكم العقل الأوّلى بأنّ عمل الجاهل ابتداءً محكوم بالبطلان في مرحلة الظاهر ، ما لم ينكشف مطابقته للواقع ، فإنّ الحكم العقلي باعتبار الاشتغال وعدم الاكتفاء بذلك في مرحلة الظاهر ، ويرتفع عند المطابقة للواقع أو ما بحكم الواقع ، فتدبّر.

هذا فيما لو اتّفق المطابقة للواقع ، وهو إنّما يتحقّق في مثل الضروريّات واليقينيّات الدينيّة ، فحينئذٍ لا بدّ في غيرها أن يرجع إلى المجتهد الذي يجب عليه تقليده ، فإن كان عمله مطابقاً لفتواه صحّ العمل. إلّا أنّه وقع نزاع على أنّ المطابقة حين العمل وفي ظرفه ، أو حين الرجوع إلى المجتهد ، أو غير ذلك ، ومجرّد أن يكون مطابقاً مطلقاً.

ففي الأوّل مع المطابقة يصحّ عمله ، وكذلك عند تعدّد الفقهاء واتّفاقهم في الفتوى ، وإن خالف قولهم ، فلا بدّ من القول بالفساد وإعادة العمل أو القضاء ، وإذا كان مخالفاً لأحدهما أو أحدهم ففي المسألة وجوه :

فقيل : الملاك هو حين العمل فيجزي ذلك ، ولكن إنّما يتمّ هذا بناءً على القول بالسببيّة في الأمارات ، أمّا على الطريقيّة كما هو المشهور والمختار ، فإنّه تسقط حجّية قول المجتهد الأوّل بموته ، فالمتعيّن عليه تقليده في ظرف الرجوع ، فأعمال العامي حين العمل غير مستند إلى الحجّة ، وحجّيته حين العمل أشبه بتقليد الميّت ابتداءً ، فتأمّل.

ثمّ المجتهد عند الرجوع وفي ظرفه وإن لم يكن فتواه حجّة حين العمل ، إلّا أنّه

٣٣٤

فعلاً قوله حجّة ، ومفاد حجّيته حكم كلّي لا يختصّ بزمان دون زمان ، بل يعمّ جميع الأزمنة الثلاثة.

وبما ذكرنا يظهر سائر الأقوال في المسألة.

آراء الأعلام :

في قوله : (باطل) ،

قال السيّد الحكيم : قد عرفت المراد منه ، وأنّه إذا كان صحيحاً بنظر المجتهد الذي يقلّده بعد ذلك كان مجزياً.

وقال السيّد الخميني : إذا كان عباديا لعدم موافقته للواقع مع اعتبار قصد التقرّب فيه.

وقال السيّد الفيروزآبادي : إلّا مع تحقّق قصد القربة.

وقال الشيخ كاشف الغطاء : في العبادات مع عدم حصول قصد القربة ، وأمّا إذا حصل أو كان غير عبادة فلا بطلان.

وقال الشيخ النائيني : على ما تقدّم من التفصيل.

وفي قوله : (مطابقاً للواقع) ،

قال السيّد الأصفهاني : إذا كان عبادة.

وقال الشيخ الجواهري : الأظهر الصحّة كما مرّ.

وقال السيّد الخوانساري : أمّا في التوصّليات فالظاهر عدم الإشكال فيها ، وأمّا العبادات فالظاهر تحقّق قصد القربة فيها رجاءً.

٣٣٥

وقال السيّد الخوئي : الظاهر هو الصحّة في هذا الفرض.

وقال السيّد الشيرازي : إذا كان عبادة ولم يتمشّ منه قصد القربة.

وقال السيّد الگلپايگاني : إن كان عباديّاً ولم تتمشّ منه القربة.

وفي قوله : (مطابقاً لفتوى المجتهد) ، قال السيّد الشيرازي : أو للواقع.

وفي قوله : (كان صحيحاً) ، قال السيّد البروجردي : مناط صحّة عمل الجاهل قاصراً كان أو مقصّراً ، عبادةً كان العمل أو غيرها ، هو وقوعه مطابقاً للواقع أو لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل ، نعم يكفي في إحراز الواقع فتوى من يجب عليه تقليده فعلاً.

وقال السيّد الخوانساري : مع الاتّكال ، وعدم الاتّكال مشكل.

وقال السيّد الخوئي : العبرة في الصحّة بمطابقة العمل للواقع ، والطريق إليها هو فتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً.

وقال السيّد الگلپايگاني : المناط في صحّة العمل مطابقته للواقع ، وفتوى المجتهد الذي يجب تقليده فعلاً طريق إليه.

وفي قوله : (والأحوط) ،

قال السيّد الشيرازي : كفاية أحد الأمرين لا تخلو عن قوّة.

وقال الشيخ الحائري : يكفي الحكم بصحّة العمل وعدم لزوم الإعادة ، أو القضاء ممّن يقلّده فعلاً.

وقال السيّد الخوانساري : الظاهر عدم لزوم رعاية هذا الاحتياط.

٣٣٦

(المسألة السابعة عشرة في العروة)

قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٧ ـ المراد بالأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة ، وأكثر اطلاعاً لنظائرها ، وللأخبار ، وأجود فهماً للأخبار ، والحاصل أن يكون أجود استنباطاً ، والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ١٣):

في قوله : (المراد بالأعلم) ، قال : من كان أجود استنباطاً للوظيفة الفعليّة للمكلّف ، وأحذق في تفريع الفروع على الأُصول المتلقّاة ، وتطبيق الأدلّة والمبادي الكبروية عليها ، وإليه يؤول ما أفاده بقوله : والحاصل.

وفي قوله : (وأكثر اطلاعاً) ، قال : الموجب لجودة استنباطه.

وفي قوله : (وأجود فهماً) ، قال : هو من مهام الأُمور في مقام

٣٣٧

الاستنباط واختلاف المراجعين إلى الكتاب والسنّة في فقههما ممّا ليس بقابل للإنكار ، وبالجملة من أهمّ ما لا محيص للمستنبط عنه الوقوف على معاريض الأصلين الأصيلين المذكورين ومداليلهما الخفيّة ، كي لا يتسرّع إلى الحكم بفقدان الدليل والالتجاء إلى الوظائف المقرّرة لفاقد الحجّة ، ثبّت الله أقدام الأفهام في تلك المزالق.

__________________

أقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : معنى الأعلم.

والثاني : كيفية تعيينه وتشخيصه.

أمّا الأوّل : فربما يتصوّر للأعلم معانٍ متعدّدة باعتبار هيئة (أفعل) الدالّة على التفضيل.

الأوّل : يراد به من يكون عنده المعلومات أكثر من غيره ، فلو عرف أحدهما مسائل العبادات ، وزاد الآخر عليه بمسائل المعاملات ، فإنّه يكون أعلم منه ، فالأعلم من كان أكثر إحاطة بالفروع والمسائل.

والظاهر أنّ هذا المعنى يقرب من مفهوم الأعلم لهيئة (أفعل) الدالّ على التفضيل ، إلّا أنّه ليس المراد عند من يقول بوجوب تقليد الأعلم.

فإنّه يرد عليه : أنّ الملاحظ في صيغة العالم والأعلم إنّما هو باعتبار موضوع واحد ، فيقال : فلان في العبادات عالم والآخر أعلم منه في نفس العبادات ، فلو كان

٣٣٨

الآخر عالم بالمعاملات لا يقال أعلم منه في العبادات ، بل يتساويان في العبادات ، ويكون الآخر عالم بالمعاملات دون الأوّل ، فإنّه غير عالم.

الثاني : كما في عبارة الماتن ومال إليه بعض الأعلام أن يكون أجود استنباطاً للأحكام الشرعيّة الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة ، فيلزم أن يكون أعرف بتطبيق الكبريات على صغرياتها ، وأدقّ في استنباط الأحكام منها كما في الصناعات الأُخرى ، فإنّ الطبيب الأعلم من كان أعرف بتطبيق كبريات الطبّ على مصاديقها ، فلا دخل لكثرة العلم بالمسائل والفروعات كما في المعنى الأوّل.

ويرد عليه : أنّ تصوير الأعلم بهذا المعنى مشكل وتشخيصه أصعب فلا يقاس بالصناعات.

الثالث : الأعلم من كان أقرب وأكثر انكشافاً للواقع من غيره ، فالجازم بحكم مقدّم على المطمئن به ، والمطمئن به على الظانّ به ، فيكون الجازم أقوى وأشدّ علماً ، فالتفضيل باعتبار الشدّة والقوّة لا باعتبار العدد ولا الكيف ، كما كان في المعنيين المتقدّمين.

ويرد عليه : إنّ الاجتهاد لا يدور مدار الانكشاف وعدمه ، أو شدّة الانكشاف وضعفها ، بل المدار على قيام الحجّة وعدمه ، سواء انكشف بها الحكم الشرعي جزماً أو ظنّاً أو لم ينكشف.

ثمّ الأقربيّة للواقع يتمّ بأخذ جانب الاحتياط كما هو واضح ، وهذا لا يعدّ خبرة عند العقلاء.

الرابع : الأعلم من كان أقوى مبنى من غيره بحيث لا يزول بتشكيك

٣٣٩

المشكّك ، وغير الأعلم من يمكن التشكيك في مبناه وسرعان ما يأخذ منه ذلك.

ويرد عليه : أنّ المدار في باب الاجتهاد هو قيام الحجّة ، ولا يدور مدار قوّة المبنى وعدم زواله بالتشكيك ، فإنّ مجرّد قوّة المبنى مع عدم الإحاطة بأطراف وجهات المسألة ، لا تكفي في الأعلمية بالوظيفة الشرعية الفعلية.

الخامس : الأعلم من كان أشدّ اقتداراً في الكبريات والقواعد الأُصوليّة ، كما يقال فلان مرجع أقوى من فلان في علم أُصول الفقه فهو أعلم.

ويرد عليه : أنّ مجرّد ذلك لا يكفي ما لم ينضمّ إليه حسن التطبيق بين الكبريات والصغريات ، فربّ عالم بالأُصول لا يعرف كيف يطبّق الكبريات على صغرياتها ، أو يكون ضعيفاً في ذلك ، أو ليس له حسن السليقة في التطبيق.

السادس : أن يعرف الأعلم باللوازم كأن يكون واجداً لهذه الأُمور التي يذكرها الماتن في قوله :

١ ـ أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة.

٢ ـ أكثر اطلاعاً لنظائرها وأمثال المسألة.

٣ ـ وللأخبار في كلّ مسألة ، والظاهر هو الاطلاع على معانيها لا على ألفاظها.

٤ ـ وأجود فهماً للأخبار.

٥ ـ والجامع لهذه المعاني المقوّمة للأعلميّة (والحاصل أن يكون أجود استنباطاً) فالملاك في الأعلمية هو الأجوديّة في الاستنباط ، وذلك باعتبار تشخيص الوظيفة في المسائل للمكلّف.

٣٤٠