القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وعن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا.

فلو كان حال ولد الزنا هكذا ، ولم يرضَ الشارع بإمامته في الجماعة ولم تقبل شهادته ، فكيف يرضى بزعامته للمذهب وللمسلمين ورجوعهم إليه في أُمورهم الدنيوية والدينية؟! ويظهر من السيّد علم الهدى في (الانتصار) أنّ الوجه في عدم قبول شهادته عدم عدالته وقال : ونحن قاطعون على خبث باطنه وقبح سريرته ، ولا تقبل شهادته لأنّه عندنا غير عدل ولا مرضي ، فعلى هذا الوجه يجب أن يقع الاعتماد) انتهى كلامه.

والذي يستفاد من مذاق الشارع المقدّس من خلال النصوص الشرعية أنّ المرجعية خلافة إلهية في زمن الغيبة الكبرى تنوب الإمامة الحقّة والنبوّة الصادقة ، فلا بدّ لمرجع التقليد أن يكون كاملاً بعقله ودينه وإيمانه وعدالته ، بعيداً عن كلّ ما يشينه من المنقصة الذاتية ، وممّا يوجب تنفّر الناس منه وكون الرجل ولد الزنا منقصة ذاتية تسقطه عن الأنظار ، وإن بلغ ما بلغ من العلم والورع ، فإذا ورد في وصف الفقهاء أنّهم أُمناء الله وخلفاء رسوله في الأرض ، وأنّهم ورثة الأنبياء ، ووسائط بين الخالق والخلق ، فإنّه مع هذه الأوصاف يستبعد جدّاً أن يفوّض مثل هذا المقام الشامخ والعظيم بعد النبوّة والإمامة التي يشترط فيها العصمة إلى ابن الزنا؟! أو الفاسق والكافر؟!

ثمّ لا يخفى إنّ عدم الرجوع في التقليد إلى ولد الزنا لا باعتبار المنقصة فيه ،

٤٤١

بل ربما يكون عند الله عظيماً ، إنّما ذلك باعتبار أنّ تصدّيه للمرجعيّة وزعامته للمسلمين ممّا يوجب وهن الشريعة المقدّسة ومهانة مقام المرجعيّة. وهذا المعنى لا يختصّ بولد الزنا ، بل كلّ ما يوجب الوهن فإنّه يشترط عدمه.

الشرط الحادي عشر أن لا يكون مقبلاً على الدنيا :

ورد في عبارة السيّد اليزدي كون مرجع التقليد غير مقبل على الدنيا وطالباً لها ، ومكبّاً عليها ومجدّاً في تحصيلها ، ثمّ أردف هذه الأوصاف ما جاء في الخبر الشريف : (من كان من الفقهاء ..).

وظاهر قوله إنّ هذا شرط آخر غير شرط العدالة الذي ذكره من قبل ، فلو كان المراد نفس العدالة المذكورة لما فصل بينهما.

والظاهر أنّ دليل اعتبار هذا الشرط ما ورد في الخبر الشريف في الاحتجاج عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) وقد ذكر الخبر تكراراً ، كما ذكرناه وما جاء من المناقشات السندية والدلالية حوله ، فمن الأعلام من أراد توثيق السند كما يظهر من الشيخ الحرّ العاملي في وسائله في الخاتمة ، قائلاً :

نروي تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه‌السلام) بالإسناد عن الشيخ أبي جعفر الطوسي عن المفيد عن الصدوق عن محمّد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار قال الصدوق والطبرسي وكانا من الشيعة الإمامية عن أبويهما عن الإمام (عليه‌السلام) وهذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض العلماء الرجال ، لأنّ ذاك يروي عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام)

٤٤٢

وهذا عن أبي محمّد (عليه‌السلام) ، وذاك يرويه سهل الديباجي عن أبيه وهما غير مذكورين في سند هذا التفسير أصلاً ، وذاك فيه أحاديث من المناكير وهذا خالٍ من ذلك ، وقد اعتمد عليه رئيس المحدّثين ابن بابويه فنقل عنه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وفي سائر كتبه وكذلك الطبرسي وغيرهما من علمائنا (١).

وقال العلّامة النوري في خاتمة المستدرك (إنّ شيخنا الصدوق أكثر من النقل عن التفسير في أغلب كتبه كالفقيه والأمالي والعلل وغيرها واعتمد على ما فيه كما لا يخفى على من راجع مؤلفاته ، وتبعه على ذلك أساطين المذهب وسدنة الأخبار ، فعدّ منهم الشيخ الطبرسي في الاحتجاج ، والقطب الراوندي في الخرائج ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والمحقّق الكركي في إجازته لصفيّ الدين الحلّي ، والشهيد الثاني في المنية ، والمجلسي الأوّل في شرح المشيخة ، وابنه العلّامة المجلسي في البحار ، والأُستاذ الأكبر في التعليقة ، والمحدّث البحراني والشيخ سليمان في الفوائد النجفيّة ، والشيخ الحرّ العاملي والمحدّث الجزائري والشيخ سليمان الحلّي تلميذ الشهيد الثاني والشيخ عبد العلي الحويزي في نور الثقلين إلى غير ذلك من الأعلام (٢).

وقد مرّ مناقشة سيّدنا الخوئي (قدس‌سره) في سند التفسير كما يظهر من جماعة تضعيفه ، كالعلّامة في الخلاصة قائلاً : محمّد بن القاسم أو أبو القاسم المفسّر الأسترآبادي روى عنه ، أبو جعفر بن بابويه ضعيف كذّاب ، روى عنه تفسيراً

__________________

(١) الدرّ النضيد ١ : ٤٥٤ ، عن الوسائل ٢٠ : ٥٩.

(٢) المصدر : ٤٥٥ ، عن مستدرك الوسائل ٣ : ٦٦١.

٤٤٣

يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما يعرف بيوسف بن محمّد بن زياد ، والآخر بعليّ ابن محمّد بن سيّار ، عن أبويهما عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام) ، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير) (٢).

والشيخ النوري في مستدركة يرى أنّ هذا التضعيف من العلّامة لم يسبقه سوى ابن الغضائري ، كما لم يلحقه أيضاً سوى المحقّق الداماد. وعن نقد الرجال إنّ ما ذكره العلّامة في الخلاصة أخذ بعينه عن ابن الغضائري ، كما أنّ ما عن السيّد الداماد لم يزد على ما في الخلاصة شيئاً.

والعلّامة الطهراني وافق شيخه في اعتبار التفسير ، وأجاب عن المناقشات الواردة لتضعيف التفسير ، كما ضعّف كتاب الضعفاء المنسوب إلى ابن الغضائري. فتدبّر وتأمّل في مقولات القوم لينكشف لك الأمر ، والمختار أنّ النفس لتطمئنّ بهذا المقطع من الحديث الطويل (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم).

وشيخنا الأعظم عند ذكره الروايات الدالّة على حجّية الخبر الواحد بعد أن أورد العبارة المذكورة ، قال : (إذا هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق).

وربما يجبر ضعف السند علوّ المتن والمضمون ، وكذلك اعتماد جملة من الأعلام عليه كما استدلّ الماتن على الشرط الحادي عشر بهذا الخبر. فتأمّل.

__________________

(٢) الدرّ النضيد ١ : ٤٥٥ ، عن خلاصة الرجال : ٢٥٦.

٤٤٤

ثمّ قد وقع نقاش بين الأعلام من المعلّقين على العروة ، بأنّ ما ذكره السيّد إنّما هو تفسير العدالة ، فلا يستفاد من الخبر أكثر من اشتراط العدالة ، وذهب جمع إلى أنّه شرط آخر زيادة في العدالة. وقيل : إنّما يدلّ الخبر على اعتبار الوثوق في النقل والتحرّز من الكذب ، كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري قائلاً : إنّ ظاهر الخبر وإن كان اعتبار العدالة بل ما فوقها ، ولكن المستفاد من مجموعة أنّ المناط في التصديق هو التحرّز من الكذب فافهم (١).

كما أنّ السيّد الحكيم (قدس‌سره) في مستمسكه بعد الإشكال على دلالته ، وأنّه لا يدلّ على أكثر من اعتبار الأمانة والوثوق قال : (كما يظهر من ملاحظة مجموع الفقرات وإن كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة) (٢).

والسيّد الخوئي في تقريراته يذهب : إلى أنّ المستفاد منه اعتبار العدالة من جهة الأمن عن الخيانة والكذب لا من جهة التعبّد ، وإن حصل الوثوق به فإنّه (عليه‌السلام) بعد أن ذكر أوصاف الفقيه الذي للعوام أن يقلّدوه قال : (وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب العامة فلا تقبلوا منهم شيئاً ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ..) الحديث فإنّه علّل (عليه‌السلام) عدم القبول

__________________

(١) المصدر : ٤٥٨ ، عن فرائد الأُصول ، مبحث حجّية الظنّ : ٨٠.

(٢) المستمسك ١ : ٤٦.

٤٤٥

من الفسقة بالتحريف إمّا لجهلهم أو لتعمّد الكذب ومحلّ الكلام هو بعد الفراغ عن الوثوق به) (١).

ويرد عليهم أنّ ظهور قوله (عليه‌السلام) (من كان من الفقهاء ..) هو اعتبار العدالة بل أمر زائد على ذلك ربما تشبه العصمة الأفعالية التي تتلو العصمة الذاتية. والظواهر حجّة. كما ربما يكون لكلّ فقرة مراده وحكمه الخاصّ ، فلا يلاحظ مجموع الفقرات ، كما لا تنافي بين أن يستفاد من هذه الفقرة الشريفة العدالة أو ما فوقها ، ومن الفقرات الأُخرى الوثوق والتحرّز من الكذب ، فتأمّل.

هذا وظاهر الخبر الشريف الذي يستدلّ به في كثير من الموارد كأصل التقليد واعتبار الإيمان في مرجع التقليد وعدالته وغير ذلك. أنّه يشترط في مرجع التقليد (زيادة على العدالة التي تذكر في موارد كثيرة كإمامة الجماعة وشهادة الشاهد) أن يتّصف المرجع بهذه الأوصاف : صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه ، أو بعبارة اخرى أن لا يكون مكبّاً على الدنيا ومقبلاً عليها إلى آخر ما ذكره الماتن السيّد اليزدي (قدس‌سره) ، فيشترط المرتبة العالية من العدالة في مرجع التقليد.

إلّا أنّه يظهر من كلمات جماعة من الأعلام أنّ الصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة عن العدالة ، لا شرطاً زائداً عليها.

فقد جاء في التنقيح : (إنّه لا مساغ للأخذ بظاهرها وإطلاقها حيث أنّ لازمه

__________________

(١) دروس في فقه الشيعة ١ : ١٢٣.

٤٤٦

عدم جواز الرجوع إلى من ارتكب أمراً مباحاً شرعياً لهواه إذ لا يصدق معه أنّه مخالف لهواه ، لأنّه لم يكن مخالفاً لهواه حتّى في المباحات ، ومن المتّصف بذلك؟! غير المعصومين (عليهم‌السلام) ، فإنّه أمر لا يحتمل أن يتّصف به غيرهم ، أو لو وجد فهو في غاية الشذوذ ، ومن ذلك ما قد ينسب إلى بعض العلماء من أنّه لم يرتكب مباحاً طيلة حياته ، وإنّما كان يأتي به مقدّمة لأمر واجب أو مستحبّ ، إلّا أنّه ملحق بالعدم لندرته ، وعلى الجملة إن أُريد بالرواية ظاهرها وإطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مرّ ، وإن أُريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة أُخرى عن العدالة ، وليس أمراً زائداً عليها ، وقد ورد : إنّ أورع الناس من يتورّع عن محارم الله ، ومع التأمّل في الرواية يظهر أنّ المتعيّن هو الأخير ، فلا يشترط في المقلَّد زائداً على العدالة شيء آخر) (١).

وفي تعليق العلّامة الفقيه الأصفهاني : إنّ الإقبال على الدنيا وطلبها إن كان على الوجه المحرّم فهو يوجب الفسق المنافي للعدالة ، فيغني عنه اعتبارها ، وإلّا فليس بنفسه مانعاً عن جواز التقليد ، والصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة أُخرى عن صفة العدالة (٢).

ويقول السيّد البروجردي (قدس‌سره) : إنّ المعتبر من عدم كونه مقبلاً للدنيا هو المقدار الذي يعتبر في العدالة ، والخبر لا يدلّ على أزيد من ذلك أيضاً.

__________________

(١) التنقيح ١ : ٢٣٦.

(٢) الدرّ النضيد ١ : ٤٦١.

٤٤٧

أقول : ما يظهر من الخبر الشريف هو المرتبة العالية من العدالة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع ، وأمّا المراد من قوله (عليه‌السلام) : مخالفاً لهواه ليس المباحات حتّى يقال باختصاصه بالمعصومين (عليهم‌السلام) ، بل الناس دون أهل العلم بدرجة ، فإذا كان العلماء لا سيّما الفقهاء يأتون بالمستحبّات فضلاً عن الواجبات ، فإنّ الناس سيأتون بالواجبات ، وإذا كان أهل العلم يتجنّبون المكروهات فضلاً عن المحرّمات ، فإنّ الناس يتركون المحرّمات كما أشار إلى هذا المعنى الجليل الثابت بالوجدان الشهيد الثاني في منيته وحينئذٍ ربما المقصود من قوله (عليه‌السلام) مخالفاً لهواه أنّه لا يرتكب المكروهات ، وهذه غير العدالة التي تعني إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، التي يشترط في إمام الجماعة.

ولمّا كانت المرجعية بمنزلة الإمامة والنبوّة ، وأنّها زعامة دينية ودنيوية ، يعلم من مذاق الشارع المقدّس أنّ عدالة المرجع فوق عدالة الناس ، وما ورد أنّ أورع الناس من اجتنب المحارم ، فهو بالقياس إلى الناس ، أمّا الأورعية في المجتهد ومرجع التقليد فإنّها مرتبة عالية من الورع فوق اجتناب المحرّمات ودون اجتناب المباحات ، فاجتناب المحارم لعامّة الناس واجتناب المباحات للمعصومين ، واجتناب المكروهات لمراجع التقليد ، فإنّهم الواسطة بين الناس والإمام المعصوم (عليه‌السلام). فهم في التقوى دون الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) وفوق الناس. وهذه المرتبة من العدالة والتقوى تناسب مقام المرجعية والفتوى.

قال العلّامة الاصطهباناتي (قدس‌سره) في تعليقته على العروة : إنّ مراد الماتن بملاحظة ما يأتي في مطاوي كلماته من تقديم العدل الأورع على العدل الورع هو

٤٤٨

الورع والزهد ولو بمثل هذه المرتبة ، وإن كان هذا الإقبال وذلك الطلب على وجه محلّل لا محرّم ، فلا يكون راجعاً إلى اشتراط العدالة حتّى يكون اشتراطها مغنياً عن اشتراطه ، ويظهر ذلك من الخبر الشريف بالتأمّل الصادق ، لا العدالة كما يرشد إليه ما في بعض الأخبار الأُخر مثل قوله (عليه‌السلام) : إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم ، ونحوه (١).

ثمّ يظهر من الخبر وغيره اشتراط العدالة وما فوقها في المقلّد حدوثاً وبقاءً ، بعد أن كان الاعتبار والاشتراط بتعبّد من الشارع خلافاً لبناء العقلاء وإطلاق الأدلّة اللفظيّة كما ذكرنا. وحينئذٍ كلّ ما يشين بالمرجع من المنقصة الدينية لا يرضاه الشارع المقدّس ، كالفسق والكفر لعظمة مقام المرجعية وزعامة المسلمين ، كما إنّ التقليد عبارة عن المطابقة أو الاستناد في العمل ، فلازمه بقاء الصفات المذكورة في الخبر وغيرها. فتدبّر.

شروط المجتهد الأُخرى :

هذا وقال السيّد الأُستاذ (قدس‌سره) في الغاية القصوى كما مرّ : ثمّ إنّ هناك أُموراً أُخر قيل باعتبارها فيه في المجتهد ومرجع التقليد ـ :

١ ـ كعدم كونه كثير التبدّل في الرأي.

٢ ـ وعدم كونه حسن الظنّ بعلمه معجباً بنفسه في العلميّات بحيث يصدّه ذلك

__________________

(١) الدرّ النضيد ١ : ٤٦٢.

٤٤٩

عن البحث والتنقيب والغور والدقّة وإعمال النظر في مستند الحكم.

٣ ـ وعدم كونه بليداً غير متفطّن بمعاضل المسائل.

٤ ـ وعدم كونه معوجّ السليقة.

٥ ـ وعدم كونه متسرّعاً إلى الفتوى.

٦ ـ وعدم كونه لجوجاً عنوداً.

٧ ـ وعدم كونه مفرطاً مكثاراً في الاحتياطات.

إلى غير ذلك كما سنذكر.

أقول : يتّضح من مجموع الشرائط أنّها على نحوين تارةً بلغة الإيجاب وأُخرى بلغة السلب ، فتارةً يشترط في المجتهد البلوغ والعقل والرجولة وما شابه ذلك ولازمها الجانب السلبي أيضاً بأن لا يكون صبيّاً ومجنوناً وامرأة ، وأُخرى عدم كونه كثير التبدّل في الرأي وعدم كونه حسن الظنّ بعلمه وغير ذلك ممّا ذكر ، والأعدام إنّما تكون شروطاً بنوع من التسامح وبرجوعها إلى الجانب الإيجابي كما هو واضح.

وهذه الشرائط معظمها تبتنى على الاستحسانات العقليّة التي لا يتعبّد بها ، أو قياساً بين باب القضاء والإفتاء وكلّها قابلة للنقاش ، فمن الشرائط :

١ ـ أن لا يكون كثير التبدّل في الرأي ، ربما لوقوعه في مخالفة الواقع ولانصراف الأدلّة عن مثل هذا المجتهد ، ويرد عليه أنّه بعد اعتبار ملكة الاجتهاد واستفراغ الوسع في الاستنباط لا يتمّ ذلك مع كثرة التبدّل في الفتوى والرأي.

٢ ـ أن لا يكون حسن الظنّ بآرائه معجباً بنفسه مستبدّاً برأيه ، إلّا أنّه إن كان

٤٥٠

الإعجاب ممّا يمنع من البحث والتنقيب واستفراغ الوسع فهو يدخل في عنوان الاجتهاد ، وإن كان لعدم التورّع فهو يدخل في شرط العدالة.

٣ ـ عدم كونه بليداً ، فلا بدّ في المرجع من الحذاقة والذكاء يردّ بها الفروع إلى الأُصول ، ولكن بعد اعتبار ملكة الاجتهاد لا وجه لهذا الشرط.

٤ ـ أن لا يكون معوجّ السليقة في الاستنباط وتطبيق الكبريات على الصغريات ، فإنّ الاعوجاج آفة الحواسّ الباطنية كما للحواس الظاهرية آفات. ويعرف ذلك بعرض ما يستنبطه على أفهام المراجع والفقهاء وما عندهم ، وربما يدلّ عليه انصراف الأدلّة وعدم ثبوت بناء العقلاء بالرجوع إليه.

وفيه أنّ الاعوجاج له مراتب طوليّة وعرضيّة ، فلو خرج به عن طور الاجتهاد وملكته فلا يبعد دعوى الانصراف وعدم ثبوت بناء العقلاء ، وإلّا فلا ، وعند الشكّ في أصل الحجّية ، فإنّ الأصل عدمها.

٥ ـ وأن لا يكون متسرّعاً إلى الفتوى ، لعلّه لانصراف الأدلّة عن مثل هذا المجتهد ووقوعه في مخالفة الواقع ، ولكن إن كان التسرّع لقوّة ذكائه ، فهذا ممّا يوجب الرجوع إليه ، وإن كان لعدم تورّعه فيدخل تحت عنوان العدالة.

٦ ـ وعدم كونه لجوجاً عنوداً ، فإنّ اللجاجة تمنع من معرفة الحقّ ورؤيته ، وإنّها من الشيطان ، وفيه أنّ مثل هذه الأُمور الأخلاقية إن كانت محرّمة ، فإنّها ترجع إلى شرط العدالة.

٧ ـ أن لا يكون مفرطاً في الاحتياط ، وإلّا لم ترَ له فقهاً لا لنفسه ولا لغيره ، ويرده إن كان ذلك للورع والتقوى فهو ممدوح ، وإن كان لقلّة الباع فهو داخل في

٤٥١

ملكة الاجتهاد وليس شرطاً في المجتهد.

ومن الشرائط المذكورة في المفصّلات والمطوّلات :

٨ ـ أن لا يكون جريئاً في الفتوى ، كبعض الأطباء ، لوقوعه في مخالفة الواقع ، وفيه : إن كان ذلك من الحذاقة وقوّة الذكاء فهو ممّا يوجب تعيين الرجوع إليه ، وإلّا فيدخل تحت عنوان الاعوجاج ، أو شرط العدالة.

٩ ـ غلبة الذكر : فيكون حفظه متعارفاً لم يغلبه النسيان ، قياساً بالقاضي. كما قال المحقّق في المختصر : (لا بدّ وأن يكون القاضي ضابطاً فلو غلبه النسيان لم ينعقد له القضاء) ، وفي الرياض : عدم الخلاف فيه.

ويرد عليه : أنّ طروّ النسيان لو كان بنحو يسلبه العلم فله وجه ، وإلّا فلا ، لرجوعه إلى المدارك ، ثمّ لا دليل لنا على الملازمة بين باب الإفتاء وباب القضاء.

١٠ ـ أن لا يكون أعمى : قال المحقّق في الشرائع : (وفي انعقاد قضاء الأعمى تردّد وخلاف أظهره أنّه لا ينعقد لافتقاره إلى التمييز بين الخصومة ويعذر ذلك مع العمى إلّا فيما يعمل).

وفي الرياض : (مع اشتراط المعرفة بالكتابة يستلزم اشتراط البصر ، كما نبّه عليه في التنقيح المحقّق السبزواري قال : استدلالاً باللزوم على اللازم فتدبّر).

ولمّا كان يعتبر في الفتوى ما يعتبر في القضاء ، فيعتبر في المجتهد البصر.

وفيه لم يقم دليل على اعتبار الملازمة بين البابين مطلقاً ، كما لم يقم دليل معتبر على اعتبار البصر في المرجع ، فإنّ الملاك هو الاستنباط وربما إدارة شؤونه العامة

٤٥٢

والخاصة تكون بمعونة ذوي الأبصار.

١١ ـ الكتابة : قال المحقّق في الشرائع : (الأقرب أن يكون القاضي عالماً بالكتابة لما يضطرّه من الأُمور التي لا يتيسّر لغير النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بدون الكتابة) ، وفي المسالك نسبته إلى الشيخ وأكثر الأصحاب ، وادّعى عليه الإجماع. والوجه : عدم عصمة القاضي فيسهوه وينسى ، فيحتاج إلى الكتابة ويلحق المفتي به لوحدة الملاك بين البابين باعتبار أصل الحكم.

ولكن في الجواهر (١) أنّه (لا دليل على اعتبارها سوى الاعتبار المزبور الذي لا ينطبق على أُصولنا ، بل إطلاق دليل النصب في نائب الغيبة يقتضي عدمه ، على أنّه يمكن الاستغناء بوضع كاتب ، بل وغير الكتابة من طرق الضبط ، بل ربما لا يحتاج إليها).

ولو سلّم ذلك في القضاء للاعتبار أو الإجماع ، فإنّه لا دليل لنا على اعتبارها في مرجع التقليد ، وعدم الدليل دليل العدم ، ولو كان لبان.

ثمّ كثير من هذه الشرائط وما سبق كالبلوغ والعدالة والذكورة إنّما في المجتهد الذي يرجع إليه كما ذكرنا وإلّا لو كان بالنسبة إليه ، فلا يشترط فيه ذلك ، فإنّ اجتهاد كلّ واحد حجّة له وعليه. حتّى الصبيّ والفاسق وغير طاهر المولد والمرأة ، وفي رجوعهم إلى الغير إمّا أن يكون من رجوع العالم إلى العالم وهو لغو ، أو العالم إلى الجاهل وهو باطل.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤١ : ٢٠.

٤٥٣

آراء الأعلام :

في قوله : (والحرّية على قول) ،

قال السيّد البروجردي : ضعيف.

وفي قوله : (فلا يجوز تقليد المتجزّي) ،

قال السيّد الأصفهاني : لا يبعد جواز تقليده فيما اجتهد فيه مع فقد المجتهد المطلق.

وقال الشيخ آقا ضياء : ما لم يصدق عليه أنّه عالم بنوع الأحكام ، وإلّا فيمكن دعوى خروجه من معاقد الإجماعات كما هو الشأن في قضاوته أيضاً ، فيكون حال سائر المجتهدين كما لا يخفى.

وقال السيّد الحكيم : في إطلاقه نظر.

وقال السيّد الخميني : الظاهر جواز تقليده فيما اجتهد فيه.

وقال السيّد الگلپايگاني : لا مانع من تقليده فيما اجتهد ، بل الأحوط إن كان فيه أعلم أو لم يوجد المطلق ، نعم لا يحصل العلم بأعلميّته غالباً ، بل وصحّة اجتهاده في قبال المجتهد المطلق.

وفي قوله : (نعم يجوز البقاء) ،

قال السيّد الخوئي : بل يجب في بعض الصور كما تقدّم.

وفي قوله : (كما مرّ) ،

قال الشيخ النائيني : وقد مرّ عدم جوازه.

٤٥٤

وفي قوله : (وأن يكون أعلم) ،

قال السيّد الأصفهاني : ليست الأعلميّة شرطاً لجواز تقليد المجتهد ، بل الشرط أن لا يكون فتواه مخالفاً لفتوى من هو أفضل منه.

وقال السيّد الخميني : مع اختلاف فتواه فتوى المفضول.

وقال السيّد الگلپايگاني : ليست الأعلميّة شرطاً للتقليد نعم الأحوط الأخذ بقول الأعلم إذا خالف قوله قول غيره.

وفي قوله : (على الأحوط) ،

قال السيّد الحكيم : بل الأقوى.

وقال السيّد الخوئي : بل على الأظهر مع العلم بالمخالفة كما مرّ.

وقال الشيخ النائيني : قد مرّ أنّه الأقوى.

وفي قوله : (لا يكون مقبلاً على الدنيا) ،

قال الأصفهاني : الإقبال على الدنيا وطلبها إن كان على الوجه المحرّم فهو يوجب الفسق المنافي للعدالة فيغني عنه اعتبارها ، وإلّا فليس بنفسه مانعاً عن جواز التقليد ، والصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة أُخرى عن صفة العدالة.

وقال البروجردي : المعتبر من ذلك هو المقدار الذي يعتبر في العدالة ، والخبر لا يدلّ على أزيد من ذلك أيضاً.

وقال السيّد الخميني : على الأحوط.

وقال السيّد الخوئي : على نحو يضرّ بعدالته.

٤٥٥

وفي قوله : (وطالباً لها) ،

قال السيّد الفيروزآبادي : يستلزم سدّ الطريق في هذه الأعصار كما لا يخفى.

وفي قوله : (مجدّاً في تحصيلها) ،

قال السيّد الگلپايگاني : على نحوٍ محرّم ، والخبر لا يدلّ على أزيد من اعتبار العدالة.

وفي قوله : (ففي الخبر) ،

قال السيّد الحكيم : هذا الخبر ليس في التقليد في الفروع ولا يدلّ على أكثر من اعتبار الوثوق.

وقال السيّد الشيرازي : هذه الأوصاف عبارة أُخرى عن العدالة.

وبهذا يتمّ الجزء الأوّل والحمد لله أوّلاً وآخراً وكان بودّي أن أذكر آراء المذاهب الأربعة وغيرها من العامّة ، كما أتوسّع في نقل عبائر أعلامنا العظام على مرّ العصور من شيخ الطائفة وبداية عصر الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا ، كما فعلت إجمال ذلك في كتاب (القصاص على ضوء القرآن والسنّة في ثلاث مجلّدات) وإنّما أحجمت عن ذلك خوفاً من الإطالة ، واعتماداً على نباهة القارئ الكريم ومراجعته بنفسه لزيادة التحقيق والتدقيق ومن الله التسديد والتوفيق ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

٤٥٦

الفهرست

الإهداء......................................................................... ٧

المسألة الاولى في المنهاج

وجوب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط على المكلّف

(٩ ـ ٢٣٦)

(المسألة الاولى في العروة)........................................................ ١٠

الوجوب لغةً واصطلاحاً.......................................................... ١٤

الوجوب اصطلاحاً......................................................... ١٤

أقسام الواجب................................................................. ٢٣

التكليف لغةً واصطلاحاً......................................................... ٢٦

التكليف لغةً............................................................. ٢٦

التكليف اصطلاحاً........................................................ ٢٧

٤٥٧

العقل لغةً واصطلاحاً............................................................ ٢٨

العقل لغةً................................................................ ٢٨

العقل اصطلاحاً........................................................... ٢٨

أدلّة اشتراط العقل في التكليف.............................................. ٣١

البلوغ لغةً واصطلاحاً............................................................ ٣٤

البلوغ لغةً................................................................ ٣٤

البلوغ اصطلاحاً........................................................... ٣٤

التخيير بين الامور الثلاثة........................................................ ٣٩

التخيير لغةً............................................................... ٣٩

التخيير اصطلاحاً......................................................... ٣٩

هل التخيير بين الابدال الثلاثة عرضي أم طولي؟............................... ٤٢

العبادات لغةً واصطلاحاً......................................................... ٤٧

العبادة لغةً............................................................... ٤٧

العبادة اصطلاحاً.......................................................... ٤٧

المعاملات لغةً واصطلاحاً........................................................ ٤٩

المعاملة لغةً............................................................... ٤٩

المعاملة اصطلاحاً.......................................................... ٤٩

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً......................................................... ٥٢

الاجتهاد لغةً............................................................. ٥٢

الاجتهاد اصطلاحاً........................................................ ٥٤

٤٥٨

السير التاريخي للاجتهاد واُصول الفقه............................................. ٦٢

ماذا تعرف عن الاخبارية................................................... ٦٩

مقدّمات الاجتهاد......................................................... ٧١

القوّة القدسيّة في الاجتهاد.................................................. ٨٢

التخطئة والتصويب في الاجتهاد............................................. ٨٦

الاجتهاد واجب كفائي..................................................... ٩٢

الاجتهاد الفعلي والاجتهاد الشأني........................................... ٩٦

عودٌ على بدء........................................................ ١٠٠

الاجتهاد المطلق والمتجزّي................................................. ١٠٤

شبهة وجوابها............................................................ ١٠٤

هل يجوز للمجتهد القضاء؟............................................... ١٠٩

حكم قضاء المجتهد المتجزّي وإفتاؤه......................................... ١١٥

ما هو حكم تبدّل رأي المجتهد؟............................................ ١١٦

حكم اختلاف المجتهدين في العبادات والمعاملات............................. ١٢٣

حكم تقليد المجتهد الثاني بعد فوت الأوّل واختلافهما......................... ١٢٥

كلمة موجزة في تأثير عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد...................... ١٢٧

فوائد................................................................... ١٣٦

الفائدة الاولى......................................................... ١٣٦

الفائدة الثانية......................................................... ١٣٨

الفائدة الثالثة......................................................... ١٣٩

٤٥٩

التقليد لغةً واصطلاحاً......................................................... ١٤١

التقليد لغةً.............................................................. ١٤١

التقليد اصطلاحاً........................................................ ١٤٢

زبدة الكلام............................................................. ١٤٥

المقام الاوّل ـ في معنى التقليد لغةً واصطلاحاً............................... ١٤٥

المقام الثاني ـ في الأدلّة الدالّة على تقليد المجتهد............................ ١٤٩

أدلّة جواز التقليد........................................................ ١٥٤

أوّلاً ـ في القرآن الكريم................................................. ١٥٤

ثانياً ـ في السنّة الشريفة................................................ ١٥٦

النحو الأوّل ـ الطائفة الاولى............................................ ١٥٧

النحو الاوّل ـ الطائفة الثانية............................................ ١٥٩

النحو الاوّل ـ الطائفة الثالثة............................................ ١٥٩

النحو الاوّل ـ الطائفة الرابعة............................................ ١٦٣

النحو الثاني ـ الطائفة الاُولى............................................. ١٦٤

النحو الثاني ـ الطائفة الثانية............................................. ١٦٤

النحو الثاني ـ الطائفة الثالثة............................................. ١٦٥

النحو الثاني ـ الطائفة الرابعة............................................ ١٦٦

النحو الثاني ـ الطائفة الخامسة........................................... ١٦٧

النحو الثاني ـ الطائفة السادسة.......................................... ١٦٩

النحو الثاني ـ الطائفة السابعة........................................... ١٦٩

النحو الثاني ـ الطائفة الثامنة............................................ ١٧٠

٤٦٠