القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وثالثاً : إنّ صاحب الملكة يعلم أنّ في المسائل التي يبتلى بها فيها تكاليف شرعيّة ، وباعتبار هذا العلم الإجمالي إمّا أن يحتاط أو يجتهد فعلاً أو يرجع إلى الغير ، إلّا أنّه قيل لم يثبت حجّية قوله بالنسبة إليه للشكّ في ذلك ، والشكّ في الحجّية مسواغ لعدم الحجّتية ولعدم الاعتبار ، فقول الغير لا دليل على منجّزيته ومعذّريته بالنسبة إلى هذا المجتهد. وأُجيب أنّه ربما يحتمل أنّ في تلك المسائل المبتلى بها لا تكليف غير ما وقف عليه المجتهد الفعلي الآخر ، فيحصل عنده علم إجمالي ، وحينئذٍ ما علم وعرف تكليفه فإنّه يعمل به ، وما لم يبيّن فلا علم بها ، فينحلّ العلم الإجمالي إلى ما فيه التكليف المعلوم ، وما ليس فيه ، وفي الشقّ الثاني عليه الفحص وعند عدم الدليل ، يرجع إلى أصالة البراءة. وإذا التفت غير الأعلم إلى دليل يدلّ على التكليف فإنّه لا يرجع إلى الأعلم.

وربما يناقش الوجه الثالث بقولنا : إنّ ما يدلّ على ذلك هو أدلّة وجوب التعلّم فإنّ الجهل لا يكون عذراً كما ورد في الروايات ، ففي أمالي الشيخ قوله (عليه‌السلام) : (أفلا تعلّمت حتّى تعمل).

فالجهل ابتداء ليس معذّراً في الأحكام والمسائل التي يبتلى بها ، فصاحب الملكة لو لم يكن لنا دليل على جواز رجوعه إلى الغير ، فإنّه يلزمه الاجتهاد باعتبار هذه الأخبار ، لا باعتبار العلم الإجمالي حتّى يقال بانحلاله ، ولكن قد ظهر أنّ العامي يرجع إلى المجتهد للروايات التي مرّت ، ولرجوع الجاهل إلى العالم ، وإنّ قول المجتهد بالنسبة إليه يكون من العلم ، وكذلك قوله لذات الملكة ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، كما يدلّ عليه بعض الروايات كإرجاع بعض من يتمكّن من فهم الحكم

١٠١

إلى يونس بن عبد الرحمن ، وإنّ معنى بقوله يؤخذ وأنّه ثقة ، لا بمعنى أخذ روايته وحسب ، بل بمعنى الأخذ بما يجتهد ، ففي رواية ابن المغيرة كما في الوسائل :

وبالإسناد عن الحجّال عن يونس بن يعقوب قال : كنّا عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال : أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري؟ (١)

فإنّ الخبر الشريف يدلّ على الرجوع والاستراحة إلى ابن المغيرة ليس من باب أنّهم يروون عنه ، بل من جهة ما يفهمه ابن المغيرة من الروايات.

نعم لا يخفى أنّ الاجتهاد آن ذاك كان قليل المئونة لوجود جلّ الأخبار على الأحكام الشرعيّة ، ويدلّ على المطلوب أيضاً رواية (ما يمنعك عن محمّد بن مسلم فإنّه سمع كثيراً) فإنّ من سمع كثيراً سيكون فهمه وعلمه كثيراً أيضاً ، وحينئذٍ يُسأل منه ويرجع إليه ، فلا شبهة في رجوع العالم إلى الأعلم ، ولا يلزم عليه تحصيل العلم والاجتهاد فعلاً وإن كان متمكّناً من ذلك بتملّكه الملكة ، فيجوز لصاحب الملكة أن يجتهد فعلاً أو يحتاط أو يقلّد المجتهد الفعلي.

نعم ظاهر صاحب العروة المحقّق اليزدي (قدس‌سره) أنّ المكلّف إمّا أن يكون مجتهداً أو محتاطاً أو مقلّداً ، أي مجتهداً فعليّاً ، فإنّه لم يذكر العامي.

ثمّ لنا روايات تمنع عن الأخذ من الناس وهي على قسمين : فتارة تمنع الشيعة من الرجوع إلى العامّة ، وأُخرى تمنعهم عن أخذ ما عندهم من القياس وما شابه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٥ ، باب ١١ ، الحديث ٢٤.

١٠٢

ففي الكافي :

جعلت فداك فقّهنا في الدين أي لم نكن من المحدّثين والرواة فقط بل من أهل الفقه والفهم في الدين وأعفانا الله عن الناس حتّى أنّ الجماعة منّا في مجلس يسأل فنجيب .. فربما ورد علينا الشيء لم يأتنا عنك وعن آبائك شيء ، فننظر إلى ما يشابه ذلك منكم ، فنأخذ منه ، فقال (عليه‌السلام) : هيهات هيهات ، ثمّ قال : لعن الله أبا حنيفة كان يقول : قال علي ، وقلت (١).

فهذه الرواية وأمثالها إنّما هي في ردّ القياس وبطلانه ، وإلّا فإنّ الاستظهار من أقوال الأئمة (عليهم‌السلام) واستنباط الحكم منها ، فلا مانع فيه.

فما قاله صاحب العروة أنّ المكلّف إمّا أن يكون مجتهداً فإنّه ناظر إلى الاجتهاد الفعلي لأنّه عدل الاحتياط والتقليد ، وهذه الأعدال الثلاثة الاجتهاد والاحتياط والتقليد إنّما هو بحسب نظر المجتهد ، فإنّه يرى من أدلّة وجوب التعلّم للمسائل الشرعيّة التي يبتلى بها المكلّف يستفاد الاجتهاد والتقليد ، ولا مانع من الاحتياط. ولمثل هذا يقال : لا يجوز للعامي أن يقلّد في جواز التقليد ، فإنّه يلزمه الدور والمصادرة بالمطلوب ، إلّا أنّه يجاب أنّه يكفي في تقليده ما يكفي في أُصول دينه ، فيكفي أن يقال إنّه من الصِّغر علمنا من آبائنا أنّه من لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً ، فعليه أن يقلّد ، وبهذا المقدار من العلم يخرج من الدور ، فيكفي في جواز التقليد حينئذٍ.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٦ ، الحديث ٦.

١٠٣

الاجتهاد المطلق والمتجزّئ

من الأعلام كصاحب الكفاية المحقّق الخراساني (قدس‌سره) قسّم الاجتهاد إلى قسمين : المطلق والمتجزّي.

وحدّ الأوّل : يطلق على من كان له ملكة الاجتهاد في كلّ واقعة يتعرّض لها ، فيمكنه أن يشخّص الوظيفة الشرعيّة في الواقعة من خلال الأدلّة التفصيليّة والمدارك والمسانيد ، سواء كانت الوظيفة عبارة عن الحكم الواقعي أو الحكم الظاهري. فلا مانع في أنّ يعيّن المجتهد الحكم الظاهري ، بل ربما لا يعيّن الحكم الشرعي ، بل يعيّن الحكم العقلي ، لما يملك من القدرة على استنباط الحكم الواقعي ، فالقصور لا يكون من جهة الملكة ، بل من جهة عدم الدليل على الحكم الواقعي ، فيقول بالحكم الظاهري لفقد الدليل أو إجماله أو تعارضه ، فاجتهاده يكون مطلقاً.

وتعريف الثاني : بأنّه توجد لديه المدارك والأدلّة إلّا أنّه لا يمكنه أن يستنبط الحكم منها ، أو لم يذهب وراءها.

ولا إشكال بأن يعمل باجتهاده لو كان فعليّاً ، إذ المفروض أنّه حصل على الحجّة وعرف الحكم الواقعي ، فتكون الحجّة منجّزة ومعذّرة في حقّه.

شبهة وجوابها :

ترد هنا شبهة وهي أنّ هذا المجتهد لو كان انسدادياً وكان مقلّداً ، فإنّه يبقى

١٠٤

على تقليده ولا يصحّ منه الاجتهاد.

بيان ذلك : المجتهد الانسدادي الذي يقول بانسداد باب العلم والعلمي في الغيبة الكبرى وينكر الظنّ المعتبر شرعاً ، ويبقى عنده الظنّ المطلق حجّة وهو إمّا على الحكومة أو الكشف.

والأوّل : يعني أنّه لا اعتبار للظنّ ، فلو كان في الموافقة القطعيّة محذورٌ فإنّه يراعى التكليف المحتمل في المظنونات بظنّ مطلق بحكم العقل ، وأمّا الموهومات فيرجع فيها إلى الأُصول النافية ، فعند الانسداد يحكم العقل أنّه لا يصحّ من الشارع أن يطالب بأكثر من الموافقة الظنّية في معظم الأحكام لئلّا يلزم العسر والحرج ، فيلزم التبعيض في الاحتياط ، هذا بناءً على الحكومة عند تماميّة مقدّمات الانسداد كما في علم الأُصول.

والثاني : أنّه عند عدم تماميّة المقدّمات يكشف أنّ الشارع اعتبر مطلق الظنون إلّا ما خرج بالدليل كالظنّ القياسي ، فبناء على الكشف اعتبر الشارع الظنّ المطلق النوعي والشخصي.

فلو كان المجتهد انسدادياً فإنّه يلزمه البقاء على التقليد ، كما لا يرجع إليه العامي لوجهين مذكورين في كفاية الآخوند :

الأوّل : بناء على الحكومة كما أنّ العامي جاهل بالحكم الواقعي في معظم الوقائع كذلك المجتهد الانسدادي ، فإنّه لا يدري الحكم الواقعي فأدلّة جواز التقليد لا تعمّ هذا المورد ومثل هذا المجتهد الذي لا يدري الحكم الواقعي.

الثاني : إنّما يقول العقل بالظنّ بعد تماميّة مقدّمات الانسداد ، كما كان ذلك

١٠٥

للمجتهد والحال لا تتمّ المقدّمات عند العامي ، فكيف يرجع إلى من تمّت عنده؟

هذا بالنسبة إلى من يقول بالانسداد بناء على الحكومة ، وكذلك لا يرجع العامي إلى المجتهد الانسدادي القائل بالكشف ، فإنّ المجتهد الانسدادي الكشفي عند اعتبار الشارع الأمارة فيما لم يعلم بالواقع إنّما تعتبره في حقّ من تمّ عنده مقدّمات الانسداد وهي غير تامّة في حقّ العامي ، فإنّ من مقدّماته أن لا يكون لحكم الواقعة طريق خاصّ ، والعامي له طريق خاصّ وهو فتوى المجتهد.

هذا ويرد على المحقّق الخراساني النقض بالانفتاحي ، فإذا كان الانسدادي غير عالم بالحكم الواقعي فكذلك الانفتاحي ، وأدلّة التقليد تدلّ على رجوع الجاهل إلى العالم ، والحال يلزم ما نحن فيه رجوع الجاهل إلى الجاهل في الانفتاحي ، فإنّه على مبناه لا يوجب خبر الثقة العلم بالواقع وإن اعتبره الشارع بمعنى جعل الحجّية فيه أي المنجّزية والمعذّرية ، فالانفتاحي أيضاً في معظم الوقائع لا يدري الحكم الواقعي ، وهذا الإشكال إنّما يرد بناءً على مبنى الآخوند المحقّق الخراساني (قدس‌سره) في جعل الأمارة ، لا على مبنى الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) القائل في جعل الأمارة بمعنى جعل مدلولها بأن يكون حكماً واقعياً وأنّها بمنزلة العلم.

ثمّ أجاب الآخوند عن الإشكال بأنّ المجتهد الانفتاحي إنّما يرجع إليه العامي في تقليده في أمرين :

الأوّل : كبرى ، وهو خبر الثقة منجّز ومعذّر ، وهذا يعمّ الجميع ، فإنّه طريق خاصّ إليهم واعتباره عامّ ، وليس مثل الانسداد على الكشف بأنّ الظنّ معتبر لمن تمّ في حقّه المقدّمات.

١٠٦

الثاني : صغرىً ، وهو أنّ حرمة هذا الخمر قام عليه الخبر ، فالمجتهد الانفتاحي يعلم بذلك ، والعامي جاهل به ، فيرجع إليه. فيرجع إليه في الكبرى والصغرى ، وإن كان عبارة الكفاية توهم الرجوع إليه في الصغرى ، وبهذا يخرج الانسدادي فلا فائدة في الرجوع إليه.

ولكن يرد عليه أنّ الانفتاحي ربما يتمسّك بالعقليات فيما لم يكن له أمارة أو أصل شرعي كالحكم بوجوب الاحتياط لدفع الضرر المحتمل ، فكيف يرجع الجاهل إليه؟ وليس من الرجوع إلى الأمارة ولا الأصل؟

إلّا أنّه يجاب : أنّ العامي لو حكم عقله بما حكم به عقل المجتهد ، فإنّه يعمل بما استقربه عقله ، ولو خالف عقل المجتهد ، فكذلك يعمل بعقله ولا ضير في ذلك.

ونقول في جواب المحقّق الخراساني القائل بعدم رجوع العامي إلى المجتهد الانسدادي بناء على الحكومة أو الكشف ، أنّ الشارع قد اعتبر الأمارة علماً مطلقاً سواء بنصّ خاصّ أو بناء على مقدّمات الانسداد ، والعلم يكون للمجتهد نفسه علماً وجدانياً ، فإنّه قاطع بذلك إجمالاً ، وقطعه على نفسه حجّة ، فحجّية العلم الوجداني للمجتهد نفسه كما في الانفتاحي ، وإنّما يرجع إليه العامي لأدلّة جواز التقليد على أنّ علم المجتهد يكون علماً لمقلّده أيضاً ، وحينئذٍ لا فرق بين الانسدادي والانفتاحي في رجوع العامي إليهما ، فإنّ علم المجتهد من مقدّمات الانسدادي كما في الانسدادي يكون علماً للعامي ، فكيف لا يرجع إليه؟

وقيل : إنّ الإشكال الذي أورده المحقّق الخراساني لا يصحّ على إطلاقه ، فإنّ المجتهد الانفتاحي الذي يرجع إلى الدليل العقلي أو الشرعي في نفي التكليف ،

١٠٧

ربما يكون أعلم من المجتهد الآخر الانفتاحي القائل بالطريق إلى التكليف ، وثبوته في الواقعة ، فإنّ فتوى المجتهد الثاني لا ينفع حينئذٍ ، إذ كلّ طريق شرعي ابتلي بمعارض من جنسه أو من رتبته كمعارضة الخبر الثقة مع الإجماع المنقول بناءً على حجّيته ، فإنّه حسب السيرة العقلائية يؤخذ بمن يكون قوله أكثر وأقوى خِبرةً ، كما في تقويم الشيء ، ولمّا كان الاجتهاد من الرجوع إلى أهل الخبرة لكون المجتهد من أهل الحدس ، فلو كان أحد المجتهدين أقوى خبرة ، فإنّه يقدّم قوله ، وبهذا الاعتبار يقال في تشخيص الأعلم يرجع إلى أهل الخبرة ، وعند الاختلاف يقدّم من كان أقوى خبرة ، حتّى مع قلّتهم ، وهذه السيرة من السير الممضاة ولم يردعها الشارع المقدّس. وإذا كان علمهما في رتبة واحدة ، فإمّا أن يعلم باختلاف فتاويهما أو لا يعلم ، فإن كان الثاني ، فإنّه يجوز الرجوع إلى أحدهما ، فإنّ أدلّة التقليد تجوّز له الرجوع إليه ، كما تشمله إطلاق الروايات ، وإذا كان الأوّل ، فقيل يلزم التعارض بين قوليهما فيتساقطان ، فيأخذ بالاحتياط بين القولين.

هذا ولكن لا يتمّ هذا الجواب فإنّ فيه اعتراف بأنّ التقليد على الانسدادي لا يضرّ ، إذا كان المجتهد الانسدادي أعلم وأكثر خبرة بالنسبة إلى المعاصرين حتّى ولو كان انفتاحياً ، فإنّه يجوز له الرجوع إلى الأعلم الانسدادي ، فكيف بالعامي لا يرجع إليه ، بل كيف يرجع العامي إلى الانفتاحي؟ والانسدادي الأعلم يرى عدم صحّة طريقه ، وإن كان ما وصل إليه حجّة ، حجّة لنفسه.

وإذا قيل في الانسدادي إنّما قوله بناء على الكشف حجّة على العامي لو تمّت المقدّمات له ، والحال لم تكن تامّة للعامي ، فجوابه إذا كانت تامّة

١٠٨

للمجتهد فهي تامّة للعامي أيضاً ، إلّا أنّه للمجتهد على التفصيل وللعامي على نحو الإجمال.

والإفتاء لو كان عن علم فإنّه لا يلحقه وزر ، ولا وزر من عمل بالفتوى ، ومن أفتى بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ، كما ورد في الأخبار. فيجوز للعامي تقليد الانسدادي الأعلم حينئذٍ ، فتأمّل.

ثمّ يقال لمن استنبط حكماً أن يعمل به وجاز له الإفتاء به للناس أيضاً لا سيّما إذا حصل على الملكة المطلقة ، وعليه أن يقلّد فيما لم يستنبط ، ولا يلزم التركيب بين الاجتهاد والتقليد بل من التفصيل في الأبواب الفقهيّة ، ثمّ لو أفتى المجتهد المتجزّئ بما علم ، فهل يجوز للعامي تقليده فيه أو يجب عليه تقليد المجتهد المطلق؟ يظهر من الأدلّة جواز ذلك لا سيّما إذا كان أعلم من غيره في تلك المسألة التي استنبطها ، وإذا ساوى الآخرين فالظاهر كما عليه المشهور تقليد المجتهد المطلق كما هو الأحوط الواجب ، فتدبّر.

هل يجوز للمجتهد القضاء؟

المجتهد إنّما يرجع إليه العامي في تقليده ، كما عليه الأدلّة والفطرة ، فيا ترى هل للمجتهد منصب القضاء شرعاً؟ أي إنّه منصوب من قبل الشارع لهذا المقام ، فحكمه حكم الشارع؟

جاء في الوسائل : عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن

١٠٩

الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر ابن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقّا ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وما أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله ، الحديث (١).

ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسن بن شمّون ، عن محمّد بن عيسى (٢) ، وبإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب ، عن محمّد بن عيسى ، نحوه (٣).

يظهر من هذا الخبر الشريف المعروف بمقبولة عمر بن حنظلة ، وعند البعض باعتبار سنده الآخر من المصحّحة ، أنّ من اجتمعت فيه هذه الأوصاف الثلاث وهو

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ ، الباب ١١ ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٢١٨ ،

(٣) التهذيب ٦ : ٣٠١.

١١٠

المجتهد المطلق الفعلي كما هو الظاهر ، وهي : رواية الحديث والنظر في الحلال والحرام والمعرفة بالأقضية وبموازين القضاء عندهم عليهم صلوات الله أبد الآبدين. ولا فرق فيمن صدق عليه الأوصاف بين أن يكون مجتهداً انفتاحياً أو انسدادياً ، فإنّ الانسدادي عارف بالأحكام أيضاً ، إذ ليس للأئمة (عليهم‌السلام) أحكام غير الأحكام التي عرفها المجتهد الانسدادي ، وإن اختلف في وجه الحجّية لثبوت هذه الأحكام ، فإنّ حصول المعرفة بها عنده غير ما عند الانفتاحي ، إلّا أنّ اختلاف أسباب حصول العلم لا يوجب سلب صفة العلم كما هو واضح.

ثمّ القضاء والحكم على صورتين :

الاولى : عبارة عن فصل الخصومة بين المتنازعين ، وهو يتصوّر في فرضين : فتارةً رفع الخصومة لا في كبرى الموضوع ، بل يكون النزاع في صغرياته كادّعاء أحدهما وجود دَين والآخر ينكره ، فالحاكم يحكم بالبيّنة والايمان ، وأُخرى في الكبرى كاختلافهما في الفتوى. كادّعاء المرأة إرثها من الأرض بناءً على فتوى مقلّدها ، والأولاد ينكرون ذلك بناءً على فتوى مجتهد آخر يمنعها من إرث الأرض.

فمقتضى الأدلّة في جواز القضاء للفقيه الجامع للشرائط عند الرجوع إليه أن يحكم بفتواه ، فإنّه من المجتهدين وإن كان بنظر الخصمين ليس أعلم ، فإنّ فتوى مقلّدي الخصمين ساقطان عن الاعتبار ، لنفوذ حكم القاضي ، للأدلّة الدالّة على ذلك ، فإنّ قضاءه لا يردّ بعد ما كان بحسب الموازين الشرعيّة ، فالقضاء تارةً لرفع الخصومة كما مرّ.

١١١

والثاني : فيما لو حكم المجتهد ابتداءً من دون وجود الخصومة والمنازعة كحكمه بيوم العيد وإن لم يرجع إليه أحد ، وذلك فيما كان الفعل في نفسه مباحاً ، فيحكم من أجل مصلحة عامّة الناس ، أو لمصلحة شخص مثلاً فهو من الحكم الابتدائي ، وليس من مصاديق الفتوى ، بل باعتبار منصبه ، وهي الحكومة فيحكم ، وهذا القسم من الحكم المسمّى بالحكم الابتدائي ، وقيل إنّه ليس من القضاء ، قد وقع الاختلاف في نفوذه ، حتّى فيما لو كان أعلم ، فمن قال بنفوذه فدليلهم مقبولة عمر بن حنظلة في قوله (عليه‌السلام) : (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله) فإنّ معنى حكم بحكمنا ، أي يحكم بحسب الموازين الشرعيّة. ومن لا يقول بنفوذ حكم الحاكم ، إمّا باعتبار مناقشة سند المقبولة ، أو عدم دلالتها على ذلك ، فإنّ صدر الحديث في المتخاصمين ، فإذا حكم بحكمنا إشارة إلى القاضي بينهما ، وكذا قول الإمام (عليه‌السلام) : (ينظران أي المتنازعين من كان منكم ممّن قد روى حديثنا). بل قد ناقش بعض بأنّ المقبولة لا تدلّ على أنّ الفقيه له منصب القضاء ، وإنّما تدلّ عند المراجعة إليه ، فإنّه يتمكّن من ذلك لرفع الخصومة والنزاع.

كما إنّ جعل منصب القضاء لمن كان بيده السلطان ، وهذه قرينة عامّة ، فإنّ الأئمة (عليهم‌السلام) لم يكن بيدهم الحكم والسلطنة الظاهرية ، كما إنّ الرواة لم يكن لهم ذلك ، فليس في المقبولة ما يدلّ على المنصب الخاصّ.

وأمّا ما يقال بأنّ الانسدادي لا يدخل في عبارة (من عرف أحكامنا) فقضاءه غير نافذ ، فأُجيب بأنّه من باب عدم القول بالفصل ، كما أنّ الانسدادي

١١٢

الكشفي يدخل في المفهوم وكذلك على نحو الحكومة ، فهو كالانفتاحي يعرف الأحكام ، إلّا أنّ المقصود ليس عدم معرفة الأحكام كلّها أو هناك أحكام ضروريّة يعرفها الانسدادي على نحو الحكومة.

ونقول : إنّ العنوان الوارد في الروايات (رجل عرف حديثنا وعرف أحكامنا) بناءً على أنّ الأمارة علم أو بمنزلة العلم كما يدلّ عليه سيرة العقلاء ، فإنّه يصدق في مورد الأمارات ، فإنّ المجتهد يعرف ذلك حتّى عند المتخاصمين المختلفين في مقلّديهما ، فإنّ حكم الحاكم نافذ في حقّهما ، فإنّه من مصاديق (من عرف أحكامنا) نعم على مسلك الآخوند في الأمارة بناءً على المنجّزية والمعذّرية ، فإنّ المجتهد الانفتاحي يصدق عليه أنّه (من عرف) ولكن لو كان النزاع بين الخصمين في الحكم الكلّي ، فقضاءه ليس من العلم ، فإنّ الشارع لم ينزل الأمارة منزلة العلم ، فلا يدخل تحت عنوان (من عرف أحكامنا) في معظم الفقه ، أو لا أقلّ هذه الواقعة لم يعلمها فلم يدخل تحت العنوان ، وإذا كان المقصود مجرّد أن يعرف المنجّزية والمعذّرية فإنّ المجتهد الانسدادي على الحكومة أيضاً يكون عارفاً بهذا المقدار ، فكيف يقال بعدم نفوذ حكمه.

ثمّ صاحب العروة السيّد اليزدي (قدس‌سره) ، يرى أنّه من ليس من أهل القضاء أو الإفتاء فإنّه يحرم عليه القضاء والإفتاء ، كما يأتينا تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

ويبدو لنا أنّ هذا على إطلاقه لا يتمّ ، فإنّما يحرم ذلك لو كان يلزمه الحرام كالإغراء بالجهل فإنّه يحرم عليه الإفتاء ، وأمّا القضاء فمن لم يكن بيده موازين

١١٣

القضاء ، ولا يمكنه أن يشخّص بين المدّعى والمنكر مثلاً ، فمقتضى الأدلّة حرمة القضاء عليه كما في صحيحة سليمان بن خالد (١) : وعن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمّد بن عيسى عن أبي عبد الله المؤمن عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : اتّقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ. ورواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد.

ويخرج من الصحيحة المجتهد الجامع للشرائط لمقبولة عمر بن حنظلة ، فإنّه ممّن عرف الأحكام وروى الأحاديث ونظر في الحلال والحرام. نعم ورد في الخبر الشريف في أقسام القضاة منهم (رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار) (٢) ، ولكن هذا في القضاء الذي له آثار ، وكان القضاء من قبل نفسه ومن دون علم ، أمّا لو كان الحكم مذكوراً في الرسالة العمليّة لمجتهد مثلاً والقاضي يحكم بذلك ، فإنّه ليس من القضاء ، بل من قبيل نقل الفتوى وما في الرسالة ، وهو جائز ، حتّى لو كان يقضي بين الخصمين على طبقه ونحوه ما دام مأذون من قبل الإمام (عليه‌السلام) أو الفقيه الجامع للشرائط ، فهذا من مصاديق الحكم تطبيقاً لما في الفتوى. نعم لو قال : حكمت بكذا ، أو قضيت بكذا ، فهذا من الحكومة التي لا يجوز إلّا للإمام المعصوم (عليه‌السلام) أو الفقيه الجامع ، وأمّا غيرهما فيحرم عليه ذلك.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٧ ، باب ٣ صفات القاضي ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٢ ، باب ٤ صفات القاضي ، الحديث ٦.

١١٤

حكم قضاء المجتهد المتجزّي وإفتاؤه

من الواضح أنّ الناس يختلفون في استعداداتهم وقابليّاتهم وطاقاتهم ، كما أنّ المسائل تختلف بحسب المقدّمات ، فإنّ منها ما هي عقليّة لا تحتاج إلى النقل ، وبهذا الاعتبار ولوجوه اخرى يمكن التجزّي في الاجتهاد ، فإنّه ربما يجتهد الإنسان في بعض المسائل لمعرفته بمقدّماتها العقليّة ، ومباني الفقه تختلف في المسائل والفروعات ، فيمكن أن يكون المجتهد مقتدراً في بعض المسائل دون البعض الآخر ، فتختلف القدرة في مراتبها ومصاديقها ، فيمكن التجزّي حينئذٍ والمقصود من الإمكان هو الإمكان الوقوعي ، وقيل : إنّ الاجتهاد المطلق لا محالة مسبوق بالاجتهاد المتجزّي ، فإنّ المجتهد شيئاً فشيئاً يصل إلى المراتب العليا ، ولا نقول بلزوم المطلق للتجزّي أوّلاً ، بل من الغالب سبق التجزّي للمطلق ، ولا يلزم في غيره الطفرة حينئذٍ ، فإنّ التقدّم تقدّم عادي لا عقلي. فيمكن التجزّي في الاجتهاد ، فإنّ من حضر علم الأُصول وأتقنها عند أُستاذ الفنّ فإنّه يسهل عليه الاجتهاد في المسائل الجزئيّة سهلة المئونة ، كأن تكون لها رواية واحدة مثلاً.

ثمّ العامي من باب رجوع الجاهل إلى العالم يجوز له الرجوع في المسائل التي اجتهد فيها المجتهد المتجزّي فيما لم يعلم الاختلاف إجمالاً وتفصيلاً مع الأعلم ، وهذا من مدلول الروايات الشريفة ، فإرجاع الأئمة (عليهم‌السلام) إلى بعض الأصحاب بما لهم كتاب في الفقه ككتاب الصلاة أو كتاب الحجّ من هذا الباب.

١١٥

ولو احتمل العامي مخالفة آخر لمجتهده المتجزّي ، فإنّه يجوز له الرجوع أيضاً لإطلاق الروايات ولفتوى الأصحاب ، بأنّ العامي لو احتمل وجود الأعلم ومخالفته لمجتهده فإنّه يلزم عليه الفحص ، فإنّ الروايات الدالّة على الإرجاع تشمله ، نعم لو علم بالاختلاف فيلزمه التساقط بعد التعارض ، وتبقى السيرة العقلائيّة هي الحاكمة ، فإنّه فيما وقع الاختلاف بين أهل الخبرة ، فإنّه يرجع إلى أعلمهم حتّى ولو كان واحداً وأمامه مجموعة من الفقهاء ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة ، ومع تساوي المجتهدين أو تساوي الفقهاء في عصره ، فإنّه يأخذ بأحوط القولين أو الأقوال ، فإنّ أدلّة التقليد لا تعمّه ولا تشمله ، كما لا مجال للسيرة العقلائيّة ، فتأمّل فإنّ هذا المعنى قابل للنقاش.

وأمّا قضاءه فقيل بعدم نفوذه ، فإنّه لا يدخل في العناوين الواردة في الروايات فإنّ الظاهر منها فيما لو كان مطلقاً بالفعل ، وإلّا فمن كان مطلقاً ولمّا يستعمل ملكة الاجتهاد ، أو استنبط القليل ، أو كان متجزّياً ، فإنّه لا يثبت قضاؤه.

ما هو حكم تبدّل رأي المجتهد؟

من تفريعات موضوع تخطئة المجتهد فيما لو رجع عن فتواه وتبدّل رأيه بسبب من الأسباب كما لو كان معتمداً على أمارة فظهر له عدم حجّيتها ، أو عمل بمطلق أو بعموم فوجد له مقيّداً أو مخصّصاً له أو اعتمد على أصل فرأى الخلاف فيه ، أو أفتى

١١٦

بخبر فعثر على معارض ونحو ذلك فحينئذٍ ماذا يكون موقف المجتهد من نفسه وموقف مقلّديه؟

وهذا النزاع يجري بناءً على القول بتخطئة المجتهد ، وإلّا فعلى القول بالتصويب لا ثمرة للنزاع فيها كما هو واضح ، وعند تبدّل رأيه لا يصحّ منه العمل بالرأي السابق لانكشاف خطئه ، وللسيرة العقلائيّة ووجود الحجّة على فساد قوله الأوّل ، فعليه أن يعمل بالرأي الجديد أو العمل بالاحتياط.

ثمّ البحث في هذه المسألة يعمّ جميع العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات وغيرها ، فلا يختصّ بالواجبات كما في بحث الإجزاء ، إلّا أنّه لا يعمّ الموضوعات كما كان في الأجزاء ، فبينهما عموم من وجه.

هذا والعمدة في هذا البحث هو حكم الأعمال السابقة التي وقعت مطابقة للاجتهاد السابق ، ولا يخلو الأمر من حالين : إمّا أن لا يكون لها أثر إلى زمان كشف الخلاف فلا معنى للبحث حينئذٍ ، وإمّا ان يكون لفساد عمله أثر في زمان انكشاف الخلاف ، ويتصوّر هذا في موارد :

الأوّل : لو كان يقول في اجتهاده السابق بعدم اعتبار شيء في الصلاة وصلّاها كذلك ، ثمّ تبدّل رأيه وقال بالاعتبار ، ولا زال وقت الصلاة باقٍ فهل تجب عليه وعلى مقلّديه الإعادة؟

الثاني : كالأوّل إلّا أنّه فاته وقت الصلاة فهل يجب عليه القضاء؟

الثالث : لو كان يقول بطهارة مائع قد أصابه جسده أو ثوبه ، ثمّ قال بنجاسته ، فهل يجب تطهير محلّ الإصابة؟

١١٧

الرابع : لو كان يقول بعدم اعتبار شرط في عقد من العقود ثمّ أجراه فاقداً لذلك ، ثمّ قال باعتباره ، فهل يجب تجديد العقد السابق؟

ثمّ البحث في هذه الموارد تارةً يكون كبرويّاً وأُخرى صغروياً ، فتارة يقال : هل تبدّل رأي المجتهد يوجب نقض آثار الحكم المتبدّل؟ وأُخرى يبحث عن أثر وقوع التبدّل في كلّ واحد من الموارد.

أمّا الكبرى فالعقل يحكم بالانتقاض في الحكم المتوهّم ، كما ادّعى الإجماع على عدم لزوم الإعادة أو القضاء ، وإنّ الحكم بفساد المأتيّ به مستلزم للعسر والحرج المنفيين شرعاً ، وهذا لو تمّ فإنّه يعمّ الموارد كلّها.

إلّا أنّه يشكل على الإجماع بأنّ المسألة لم تكن في كتب القدماء ، وربما يكون من الإجماع المدركي كما لو كان مدركه لزوم العسر ، فلا تعبّد فيه ، كما أنّ المتيقّن من الإجماع باعتبار أنّه من الدليل اللبّي هو فيما لو كان الخلل من ناحية غير الأركان.

وأمّا العسر والحرج فالإشكال فيهما أنّه وإن كانا منفيّين في الشرع المقدّس ، لكنّهما يقدّران بقدرهما ، فلو كان يلزم من أحدهما ترتيب آثار الفساد فإنّه يلزم نفيهما ، وإلّا فلا.

ويمكن أن يقال بترتّب آثار الصحّة على جميع ما وقع فاسداً بحسب الاجتهاد الثاني لما ورد في حديث الرفع النبويّ في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (رفع عن أُمّتي تسعة ، وعدّ منها : ما لا يعلمون).

وما جاء في الكافي بسنده عن عبد الأعلى بن أعين : (سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) : من لم يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال (عليه‌السلام) : لا).

١١٨

وكيفيّة الاستدلال بهما أنّ الذي لا يعلمه ولا يعرفه فإنّه مرفوع عنه ، والمقصود من الرفع في حديث الرفع كما هو ثابت في محلّه من علم أُصول الفقه إمّا أن يكون المرفوع هو معظم الآثار أو المؤاخذة أو الرفع الواقعي بمعنى ما كان شرطاً فعند عدم العلم به لا يكون شرطاً.

فإن قيل رفع المجهول إنّما يصدق فيما لم يكن العلم ومعه يرتفع الرفع ، فإنّه يقال : عدم العلم لم يجعل في النصوص قيداً للرفع ، بل جعل ما لا يعلم وصفاً عنوانياً للمجهول ، فهو مرفوع بلا قيد إلّا في الأعمال المتجدّدة فإنّها غير مرفوعة لخروجها عن عنوان ما لا يعلمون ودخول في (ما يعلم) فتأمّل.

وأمّا البحث باعتبار الصغريات والعناصر الخاصّة والحكم الجزئي فإنّه يقال : لا تعاد الصلاة في وقتها لحديث (لا تعاد الصلاة إلّا من خمس) فهذا المورد ليس من الخمسة ، فلا تعاد حاكمة بعدم لزوم الإعادة إن كانت الصلاة فاقدة لغير الجزء الركن والشرط الركني ، فيقيّد به إطلاق حديث الرفع.

ثمّ الظاهر من كلمة (لا تعاد) ليس الإعادة المصطلحة بل بمعنى استيناف العمل وهذا أعمّ من الأداء والقضاء.

وإن قيل : (لا تعاد) يختصّ باستيناف العمل في الوقت ، فيجاب أنّ وجوب القضاء مترتّب على الفوت وهو غير ثابت.

وقيل : القضاء مترتّب على الفوت المساوق لذهاب شيء من المكلّف مع ترتّب حصوله منه لكونه فرضاً فعليّاً أو ذا ملاك لزومي ، فهو عنوان ثبوتي ، فلا ينتزع من عدم الفعل في الوقت لأنّ المفاهيم الثبوتيّة يستحيل انتزاعها من العدم

١١٩

والعدمي ، فاستصحاب عدمه في الوقت المضروب يلازم الفوت لا أنّه عينه ، فيكون الأصل مثبتاً بالنسبة إليه.

وأُجيب أنّ الفوت ليس بعنوان ثبوتي محض ، بل هو عنوان مركّب من النفي والثبوت ، مع صحّة انتزاع بعض العناوين الثبوتيّة عرفاً من العدم فإنّ الجاهل منتزع من لا عالم.

وأمّا المورد الثالث : فربما يقال بجريان قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية فيها ، فلا شيء عليه. وقيل بعدم دليل خاصّ يثبت لانتقاض الحكم بالطهارة أو لبقائه.

وأمّا المورد الرابع : فقد قيل إنّ الأحكام الوضعيّة من حيث أنّها أُمور اعتبارية فحقيقتها نفس اعتبارها فلا كشف خلاف فيها. وأُجيب هذا إنّما يتمّ كبروياً ، والكلام في الصغرى فهل الشارع حكم بترتّب الأثر على العقد الفاقد للشرط عند الجهل باعتبار الشرط أم لا؟ (١)

وخلاصة الكلام : عند تبدّل رأي المجتهد هل يقال بالإجزاء بالنسبة إلى الأعمال الواقعة على الرأي الأوّل؟

يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : هل الإجزاء أو عدمه على القاعدة؟

الثاني : بعد ثبوت عدم الإجزاء على القاعدة هل الاجتهاد يكشف وجداناً أنّ الأعمال السابقة مخالفة للواقع ، والدليل في الاجتهاد الثاني إنّما هو بالنسبة إلى

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٦٤.

١٢٠