القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ويكون الواجب كلّ واحد من الأمرين ، لكنّه لو أتى بأحدهما سقط الآخر عن الوجوب كالتخيير بين خصال الكفّارة.

وعند سيّدنا الأُستاذ أنّ المكلّف مخيّر بين أحد الأُمور الثلاثة ، بمعنى أنّ الواجب عند العقل أحد هذه الثلاثة على سبيل منع الخلوّ في اصطلاح المناطقة ، فالجمع بين عدلين في هذا التخيير كالجمع بين الاجتهاد والاحتياط لا يستلزم لغويّة أحدهما كما كان يستلزم ذلك في ذينك المعنيين من التخيير ، فالمراد من هذا التخيير أنّ العقل يحكم بانحصار طريق الإطاعة في العمل بأحد هذه الطرق الثلاثة لكلّ مكلّف مؤمن يعلم أنّه ليس بمُهْمَل من جانب الله في أفعاله ، وأنّ امتثال تلك الأحكام الواقعيّة على كلّ مكلّف أو احتمالها يلزم الخروج عن عهدتها بأحد الأُمور الثلاثة.

فقول المصنّف : يجب على كلّ مكلّف .. أنّ المكلّف في مقام الأمن من العقاب وفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به ذمّته إجمالاً واحتمالاً لا يخلو غالباً عن واحد من الأُمور الثلاثة ، لا أنّه يجب على كلّ واحد من المكلّفين التخيير العقلي أو الشرعي بأحد الأُمور الثلاثة.

فمتعلّق الوجوب العقلي فيما نحن فيه أحد الإبدال الثلاثة على سبيل التخيير بمعناه اللغوي دون المصطلح عند الفقهاء والأُصوليين ، فإنّه لا جامع بين الأبدال الثلاثة فلا تخيير عقلي ، ولا تخيير شرعي لعدم كون الوجوب شرعيّاً.

ورفع الجميع غير جائز ، للزوم خلوّ المكلّف من التكاليف وهو خلاف الوجدان ، فيكون الوجوب العقلي التخييري بين الأبدال على سبيل منع الخلوّ ، دون

٤١

منع الجمع فإنّه يمكن الجمع بين الاجتهاد والاحتياط أو التقليد والاحتياط.

والحصر في الأُمور الثلاثة حصر استقرائي ، فإنّ الطرق العقلائيّة لتحصيل العلم بالإطاعة منحصر فيها (١).

هل التخيير بين الأبدال الثلاثة عرضي أم طولي؟

التخيير بين أُمور ، إمّا أن يكون عرضيّاً أي كلّ واحد في عرض الآخر فللمكلّف أن يختار أيّها شاء ابتداءً ، أو طوليّاً ، كلّ واحد في طول الآخر ، فمع تمكّن الأوّل لا يختار الثاني المتأخّر.

فيا ترى هل الإبدال الثلاثة فيما نحن فيه على نحو الطولية أو العرضية؟ والكلام حول ذلك يقع تارةً باعتبار كلّ واحد من الثلاثة ، فأيّهما المقدّم وأيّهما المؤخّر لو كان طولياً؟ وأُخرى يقع في تقدّم الاجتهاد أو التقليد على العمل بالاحتياط أو بالعكس ، وثالثة يقع في تقدّم الاجتهاد على التقليد.

ومن الواضح أنّ الأُمور الثلاثة معاً ليست في عرض واحد مورداً للتخيير لكلّ مكلّف ، فمن البديهي أنّ العامي الفاقد لملكة الاجتهاد لا يمكنه الاجتهاد ، كما أنّ العارف بالمسألة اجتهاداً لا معنى له أن يرجع إلى غيره وافقه أو خالفه. نعم من كان له ملكة الاجتهاد ولم يستفرغ وسعه ، فلم يكن مجتهداً فعلاً ، فهل يجوز له التقليد؟ اختلف الأعلام في ذلك كما سيأتي تفصيله.

__________________

(١) السيّد الصدر ؛ الاجتهاد والتقليد : ٢٤٦.

٤٢

أمّا الاحتياط فهو في عرضها ، فيجوز لكلّ من المجتهد أو المقلّد أن يحتاط ، وبالعكس إلّا أنّ العامي يحتاط ، وهو الاحتياط في خصوص الفتاوى بعد معرفة موارد الاحتياط ، والمجتهد يحتاط فيها وفي غيرها.

ولا يخفى كما سيأتي أنّ الاحتياط حسن ما لم يستلزم اختلال النظام فيكون مبغوضاً ، أو يستلزم العسر والحرج فيكون مرفوعاً شرعاً ، وكذا ما لم يستلزم الوسوسة. وحينئذٍ مثل هذا الاحتياط يكون مصيباً للواقع ولا يتطرّق إليه الخطأ في العمل فإنّه به يصل المكلّف إلى الحكم الواقعي والمصالح الملزمة أو المفاسد الملزمة ، وبعبارةٍ اخرى لا يوجبان الاجتهاد والتقليد القطع بالامتثال للأمر الواقعي وإنّما يوجبان الظنّ به بخلاف الاحتياط.

ومن هذا المنطلق ربما يقال بتقدّم الاحتياط عليهما لتطرّق الخطأ فيهما دونه ، وجوابه : لا دليل لنا على وجوب الوصول إلى التكاليف الواقعيّة ، ولو كان لوجب الاحتياط في كثير من الأُمور الشرعية ، والثابت خلافه ، ولو كان لبان. كما أنّ دليل حجّية الأمارات مطلق يعمّ صورة تمكّن المجتهد من الاحتياط ، كما أنّ دليل حجّية الأمارة بالعلم التعبّدي نزّلها منزلة العلم الوجداني بالواقع لدى الشارع فلا حاجة إلى الاحتياط حينئذٍ كما يدلّ عليه سيرة العقلاء ، كما أنّ سيرة المتشرّعة المتّصلة بزمن المعصومين (عليهم‌السلام) كاشفة على عدم تقدّم الاحتياط عندهم على الاجتهاد والتقليد ، كما أنّ إطلاق أدلّة التقليد حاكم بعدم تقدّم الاحتياط عليه.

وأمّا تقدّم الاجتهاد على الاحتياط أو التقليد ، فربما يتوهّم تقديم ذلك من باب تقديم العلم التفصيلي على العلم الإجمالي.

٤٣

فإنّ الاحتياط في العبادات وغيرها تارة لم يستلزم منه تكرار جملة العمل فهو حسن ويحرز به الواقع ، كتعدّد غسل الثوب النجس بالبول ، فيكرّر حتّى يحصل العلم بالطهارة ما لم يستلزم العسر والحرج والوسوسة واختلال النظم كما ذكرنا ، وأُخرى يستلزم منه تكرار جملة العمل كتكرار الصلاة مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، فلو قلنا من المحتمل اعتبار قصد الوجه أو التمييز أو الجزم بالنيّة في المأمور به في العمل ، فحينئذٍ مع التكرار تنتفي هذه الأُمور ، ومن ثمّ يقال بتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي ، فكيف يحرز الواقع بالاحتياط في عرض الاجتهاد والتقليد بقول مطلق.

وجوابه : أنّ اعتبار هذه الأُمور مبنويّة ، كما أنّها غير معتبرة في المعاملات والتوصّليات ، فيكون النزاع مبنوي حينئذٍ (١) ، كما أنّه لم يثبت تقدّم الامتثال

__________________

(١) جاء في (الاجتهاد والتقليد : ٢٥٠) لسيّدنا الصدر (قدس‌سره) : علّق السيّد الشاهرودي على كلمة الاحتياط في العروة بقوله بعد أن اجتهد أو قلّد في مسألة عدم اعتبار الجزم بالنيّة ، وإلّا لا يتمكّن من الاحتياط أصلاً إلّا بالتشريع المحرّم.

فأجابه الأُستاذ قائلاً : إنّ كثيراً من موارد الاحتياط غير محتاج إلى الجزم بالنيّة أمّا في المعاملات ، فقد لا يكون الترديد في النيّة حال الاحتياط مضرّاً ، كما لو أدّى المثل والقيمة معاً ، حال الشكّ في ضمان أيّهما. وكما لو احتاط ولم يتصرّف في العوض ولا في المعوّض عند فوات بعض ما يحتمل اشتراطه في العقد ، وقد يكون الجزم بالنيّة ، موجوداً في المعاملة بسبب الاحتياط. كما لو أجرى العقد حال وجود جميع ما شكّ في اشتراطه فيه ، أضف على ذلك ، أنّ الترديد في النيّة ، غير مضرّ بالاحتياط ، في ترك

٤٤

التفصيلي على الامتثال الإجمالي مطلقاً ، ثمّ لو سلّم ذلك فغايته عدم تحقّق الاحتياط في العبادات مطلقاً أو فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل ، وربما يكون الاحتياط في المعاملات ، كما أنّ القول بجوازه إنّما هو بعد إمكانه وحُسنه ، ونقطع بحسنه فيما أمكن إحراز المأمور به بجميع محتملاته ، وهذا أمر فطري غير قابل للنقاش.

وأمّا تقديم الاجتهاد على التقليد ، فإنّ الاجتهاد واجب كفائي كما عليه الأدلّة كما سنذكر بأنّ المتبادر من آية النفر (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(١) هو ذلك ، كما تدلّ عليه سيرة العقلاء فإنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم بين تمكّنه من العلم أو غيره ، كما إنّ إطلاقات أدلّة التقليد تعمّ لصورة تمكّن المستفتي من الاجتهاد ، كما ادّعى على ذلك سيرة المتشرّعة ، فتأمّل.

وخلاصة القول : أنّه لا ينبغي الإشكال في جواز العمل بالاحتياط في الجملة وأنّه في عرض الاجتهاد والتقليد في الخروج عن عهدة التكاليف الثابتة والمعلومة في الشريعة المقدّسة ، ولا فرق في ذلك بين المجتهد والعالم بموازين الاحتياط اجتهاداً

__________________

ما يشكّ في كونه محرّماً ، وفي فعل ما يشكّ في كونه واجباً ، في الواجبات التوصّلية. وأمّا الحال في التعبّديات ، فقد يكون الجزم بالنيّة عند الاحتياط موجوداً ، كما في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، إذ يأتي المحتاط بالأكثر في صورة عدم احتمال كون المشكوك فيه مضرّاً ، ومن المعلوم أنّه يكفي للمحتاط في الاجتهاد في هذه المسألة ، إحراز حكم عقله ، بعدم اعتبار الجزم في النيّة ، فإذا حصل له الوثوق بذلك وبكفاية الإتيان الرجائي ، فلا يكون مؤاخذاً.

(١) التوبة : ١٢٢.

٤٥

وبين العامي العارف بها تقليداً.

ومن طريف ما يقال في المقام عن الآية العظمى كاشف الغطاء (قدس‌سره) : إنّ للناس بطريق الاحتياط وطريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى والأحكام ، ويسهل الخطب على من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد.

وأخيراً العقل هو الحاكم في المقام ، بأنّ التعرّض للأحكام الشرعيّة إنّما يكون بأحد الأُمور الثلاثة على سبيل منع الخلوّ ، فإمّا أن يأتي بها حسب اجتهاده واستفراغ وسعه بمعرفتها عن أدلّتها التفصيليّة ، أو يستند على قول من يكون قوله حجّة ، بأنّه هذا ما أفتى به المفتي وكلّ ما أفتى به المفتي هو حكم الله في حقّي بحسب العقل الارتكازي والفطري ، أو يحتاط ويأتي بجميع ما يحتمل دخالته فيه أو يترك جميع ما احتمل زجره وحرمته ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

ثمّ مورد التخيير بين الأُمور الثلاثة إنّما هو في غير اليقينيات والضروريات كما سيذكر ذلك المصنّف في المسألة السادسة ، فإنّه مع العلم الوجداني لا مجال للاجتهاد والتقليد بل ولا الاحتياط ، فإنّ الاجتهاد عبارة عن التعبّد بالأمارة أو الأصل عند الشكّ بالواقع والجهل به ، فإنّه مع حصول العلم الوجداني بالواقع لا معنى للتعبّد بالأمارات التي أخذ الشكّ فيها مورداً ولا بالأُصول العمليّة التي أُخذ الشكّ فيها موضوعاً ، فمع العلم لا مورد للأمارة ولا موضع للأصل ، كما يأتي تفصيل ذلك.

٤٦

العبادات لغةً واصطلاحاً

العبادة لغةً : بمعنى التمهيد والتذليل ومنه (عبّد الطريق) أي مهّده و (عبّد البعير) أي ذلّله. ويقال طريق معبّد ، أي مذلّل بالوطء ، وبعير معبّد مذلّل بالقطران ، وعبّدت فلاناً أي ذلّلته وإذا اتّخذته عبداً قال تعالى (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

واصطلاحاً : العبودية إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها لأنّها غاية التذلّل ولا يستحقّها إلّا من له غاية الإفضال ، وهو الله تعالى ، ولهذا قال (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) والعبادة ضربان : عبادة بالتسخير وهو كما ذكرناه في السجود ، وعبادة بالاختيار وهي لذوي النطق ، وهي المأمور بها في نحو قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) و (اعْبُدُوا اللهَ) ، والعبد يقال على أربعة أضرب :

الأوّل : عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصحّ بيعه وابتياعه و (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ).

الثاني : عبد بالإيجاد ، وذلك ليس إلّا لله ، وإيّاه قصد بقوله (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

٤٧

والثالث : عبد بالعبادة والخدمة ، والناس في هذا ضربان : عبد الله مخلصاً ، وهو المقصود بقوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) ـ (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) ، (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) ، وعبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها ، كما في الخبر (تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار) وعلى هذا النحو يصحّ أن يقال ليس كلّ إنسان عبداً لله ، فإنّ العبد على هذا بمعنى العابد ، لكن العبد أبلغ من العابد ، والناس كلّهم عباد الله ، بل الأشياء كلّها كذلك ، لكن بعضها بالتسخير وبالعبادة التكوينيّة. وبعضها بالاختيار (والعبادة التشريعيّة) ، وجمع العبد الذي هو مسترق عبيد ، وجمع العبد الذي هو العابد عباد ، فالعبيد إذا أُضيف إلى الله أعمّ من العباد ، ولهذا قال (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فنبّه أنّه لا يظلم من يختصّ بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين تسمّوا بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك (١).

والعبادات جمع العبادة ، والأوامر التعبّدية التي يقابلها الأوامر التوصّليّة ، وما يشترط فيها قصد القربة لله سبحانه ، فلولاه لما صحّت العبادة ، بخلاف التوصّليات كما في المعاملات ، وإن كان دخيلاً في كماله.

ومن المباحث الأخلاقية وفي السير والسلوك ، كما ورد في الأحاديث الشريفة ونهج البلاغة ، أنّ الناس في عبادتهم لله سبحانه طوائف ثلاث : فمنهم من عبد الله سبحانه حبّا وشكراً وأنّه أهل للعبادة ، وهذه عبادة الأحرار ، ومنهم من عبد الله خوفاً من ناره فهذه عبادة العبيد ، ومنهم من عبد الله طمعاً بجنّته ، فهذه عبادة التجار ، والحديث في هذا الباب ذو شجون.

__________________

(١) مفردات الراغب : ٣٣٠.

٤٨

المعاملات لغةً واصطلاحاً

المعاملة لغةً : من المفاعلة تتوقّف على طرفين في العمل ، والعمل كلّ فعل يكون من الحيوان بقصد ، فهو أخصّ من الفعل ، لأنّ الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد ، وقد ينسب إلى الجمادات ، والعمل قلّما ينسب إلى ذلك ، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلّا في قولهم : البقر العوامل ، والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيّئة (١).

وعامل معاملة وعامله : سامه بعمل.

واصطلاحاً : المعاملات يعني الأحكام الشرعيّة بأمر الدنيا باعتبار بقاء الشخص ، كالبيع والشراء ونحوهما.

وهي لا تفتقر إلى قصد القربة ، وإن كان دخيلاً في كمالها ، لأنّ أوامرها توصّلية كما هو واضح.

__________________

(١) مفردات الراغب : ٣٦٠.

٤٩

ثمّ يرد على قول المصنّف (يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً) باعتبار العبادات والمعاملات أنّ متعلّق الوجوب العقلي هو كلّ فعل أو ترك لا يعلم حكمه الشرعي عند الابتلاء به. وخرجت الضروريات الدينية عن ذلك إذ لا يحتاج العلم بها إلى اجتهاد أو تقليد ، فلما ذا خصّه بالعبادات والمعاملات؟

وأُجيب أوّلاً : أنّ المراد هو الحكم بالصحّة وهي تختصّ بالعبادات والمعاملات.

وثانياً : سيرة المتشرّعة في غير العبادات والمعاملات على خلاف ذلك ، فإنّ المقلّد منهم لا يتقيّد بالتقليد في غير العبادات والمعاملات من المستحبّات والمكروهات والمباحات ، كما أنّ المجتهد غير مقيّد بذلك ، والمقلّد في هذه الأحكام الثلاثة المندوب والمكروه والمباح يعمل بقول كلّ من يدّعي العلم ، ومن ثمّ لا بأس بدعوى اتّصال هذه السيرة إلى زمان حضور الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) ، وممّا ذكر يظهر حال الاحتياط فإنّه لا يجري إلّا في الواجبات والمحرّمات.

وثالثاً : من المرسوم عند الفقهاء عند تقسيم الفقه إلى أقسام ، تارة يقسّم إلى العبادات كالصلاة والصوم وإلى المعاملات ويراد بها المعنى الأعمّ لا خصوص ما توقّف على الطرفين من الإيجاب والقبول كما في المضاربة والمشاركة والبيع وما شابه ذلك فتعمّ حينئذٍ السياسات والعاديات. وتارة يقسّم الفقه إلى العبادات والمعاملات والسياسات ، فيراد من المعاملات حينئذٍ المعنى الأخصّ أي ما يتقوّم بالطرفين الموجب والقابل.

٥٠

فالمراد من المعاملة عند تصنيف أبواب الفقه إلى (خمسين ونيّف باباً) إلى العبادات والمعاملات كما في عبارة المحقّق اليزدي (قدس‌سره) غير المراد بها عند تثليث أبوابها إلى العبادات والمعاملات والسياسات ، أو تربيع أبوابها ، فالمعاملة الواقعة في متن العروة الوثقى تعمّ حينئذٍ جميع أفعال المكلّف وتروكه التي لا تتوقّف على قصد القربة الذي كان في العبادات ، فيشمل ما كان يتقوّم بإنشاء الطرفين في العقود وهي المعاملة بالمعنى الأخصّ ، أو بإنشاء طرف واحد في الإيقاعات كالطلاق والعتق وهي المعاملة بالمعنى الأخصّ على وجه ، أو سياسياتها وعادياتها.

فما يذكره الأعلام من التعاليق على المتن ، لو كان باعتبار القيد الاحترازي ، فهو خلاف المعنى المصطلح ، ولو كان باعتبار القيد التوضيحي فلا يكون حينئذٍ من التعليق المصطلح ، بل يكون شرحاً على المتن ، فتدبّر.

وسنذكر لك بعض تعاليق الأعلام في آخر كلّ مسألة إن شاء الله تعالى.

٥١

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً

الاجتهاد لغةً : مصدر اجتهد ، واصلة الثلاثي إمّا أن يكون مأخوذاً من الجُهد (بالضمّ) بمعنى الطاقة ، ومنه : أفرغ جهده أي طاقته ، أو مأخوذاً من الجَهد (بالفتح) بمعنى المشقّة ، ومنه : أصاب جهداً أي مشقّة ، أو الطاقة ، فمعنى الاجتهاد بذل الطاقة والوسع ، أو طلب المشقّة وتحمّلها ، والمعنيان متلازمان أو مترادفان لأنّ بذل الطاقة والوسع لازمه ، أو يرادفه المشقّة.

قال ابن الأثير : الاجتهاد بذل الوسع في طلب الأمر ، وهو افتعال من الجهد والطاقة. وقال : الجهد بالضمّ الوسع والطاقة وبالفتح المشقّة. وفي أقرب الموارد : الاجتهاد بذل الوسع في تحصيل أمر مستلزم للكلفة.

نقول : اجتهد في حمل الحجر ، ولا نقول : اجتهد في حمل الخردلة. وقال العلائلي : الاجتهاد مصدر بمعنى بذل غاية الوسع وأقصاه في نيل المقصود ، ولا يستعمل إلّا في ما فيه كلفة ومشقّة.

وفي لسان العرب : الجهد بالضمّ في الحجاز وبالفتح في غيرهم : الوسع

٥٢

والطاقة ، وقيل : المضموم الطاقة والمفتوح المشقّة ، وقال : اجتهد في الأمر : بذل وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته.

ويظهر من مجموع ما ذكر في أُمّهات معاجم اللغة وعند أئمة اللغة ، أنّ الاجتهاد لغةً بمعنى الوسع والطاقة سواء كان بالفتح أو بالضمّ ، ويرى سيّدنا الأُستاذ السيّد الصدر أنّه لم يقل أحد منهم أنّ الاجتهاد من الجهد الذي بمعنى المشقّة كما أنّ كلّ من فسّر منهم الاجتهاد فسّره ببذل الوسع في طلب أمر ولم يفسّره بتحمّل المشقّة ، وبهذا يتهجّم على العلّامتين الخراساني والعراقي ، بأنّه ظهر الفساد فيما ذكراه في الكفاية والمقالات من المعنى اللغوي للاجتهاد :

فقال المحقّق الخراساني : الاجتهاد لغة : تحمّل المشقّة ، وقال المحقّق العراقي : الاجتهاد مأخوذ من الجهد بمعنى المشقّة.

والظاهر أنّ المعنيين مترادفان أو متلازمان ، فإنّ لازم استفراغ وبذل الوسع والطاقة هو تحمّل المشقّة والكلفة كما هو الواضح ، فيكون تعريف الاجتهاد لغة بمعنى تحمّل المشقّة من التعريف باللازم أو المرادف ، فتأمّل.

فإنّ السيّد (قدس‌سره) في جواب سميح عاطف ينتهي إلى ما يقوله العلمين ، فهو من الكرّ بعد الفرّ ، فإنّ سميح عاطف يرى : أنّ المراد من الاجتهاد اجتهاد بالرأي كما في رواية معاذ فقال الأُستاذ : إنّ صحّة إطلاق الاجتهاد على استخراج الحكم بالرأي بحسب اللغة محلّ تأمّل من جهة كونه أمراً سهلاً ، فإنّ المعتبر في مفهوم الاجتهاد كون المطلوب فيه ذا كلفة ، فلا يقال : (اجتهد في حمل الخردلة) (١).

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٢٦.

٥٣

وأمّا الاجتهاد المصطلح عند الفقهاء وعلماء الأُصول من الفريقين السنّة والشيعة ـ : فقد ذكروا في ذلك تعاريف عديدة ، ومنشأ الاختلاف بينها باعتبار الأصالة والمفهوم والمحتوى ، فالاجتهاد عند السنّة يعدّ أصلاً مستقلا تجاه الكتاب والسنّة ، وهو عبارة عن القياس وما يوجب الظنّ المطلق من الاستحسانات العقلية وسدّ الذرائع وما شابه ممّا يوجب الحكم على طبق ما يرونه من المصالح والمفاسد الظنّية ، ولله درّ من سدّ باب هذا الاجتهاد ، فلو كان مفتوحاً لجاز دخول كلّ شيء في الدين ، وما ورد عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) من النهي عن الاجتهاد ، فإنّ المقصود به مثل هذا الاجتهاد الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً ، بل لو قيس الدين لمحق (١).

__________________

(١) اعلم أنّ الاجتهاد في مصطلح فقهاء الإسلام وعلماء أُصول الفقه يطلق ويراد به أحد معنيين :

الأوّل : الاجتهاد بالمعنى الخاصّ : وهو المعنى المرادف للقياس أو نفس القياس وكذلك الاستحسان ، يقول الشافعي : «فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلت : هما اسمان بمعنى واحد» (الرسالة للشافعي : ٤٧٧) ، وعند مصطفى عبد الرزّاق أنّ القياس والاستنباط والاستحسان معاني مرادفة للاجتهاد فقال : «فالرأي الذي نتحدّث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعيّة وهو مرادنا بالاجتهاد والقياس ، وهو أيضاً مرادف للاستحسان والاستنباط» (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : ١٣٨) وهذا الاجتهاد هو المقصود عند السنّة وقد أنكره أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ض وفقهاء الشيعة غاية الإنكار ، فقال الإمام الصادق (عليه‌السلام) لأبي حنيفة القائل بالقياس : «اتّق الله ولا تقس الدين برأيك» (حلية الأولياء ٣ : ١٩٦) ، وكتب علماء الشيعة مصنّفات في ردّ هذا الاجتهاد كابن عبد الرحمن الزبيري وعليّ بن أحمد

٥٤

__________________

الكوفي والشيخ المفيد وغيرهم.

الثاني : الاجتهاد بالمعنى العامّ : وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال إلّا أنّه صار في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة أو استنباط الحكم من الأدلّة التفصيليّة أو إرجاع الفروع إلى الأُصول. ولهذا الاجتهاد تعاريف عديدة ومآلها إلى استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها الخاصّة ، والشيعة الإمامية تقول بهذا الاجتهاد وبفتح بابه في عصر الغيبة الكبرى ، قال المحقّق الحلّي المتوفّى سنة ٦٧٦ : «الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّة الشرع اجتهاداً لأنّه يبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر» ، وقال المحقّق الحلّي بعد أن فصل بين الاجتهادين : «على هذا يلزم أن يكون الإماميّة من أهل الاجتهاد؟ قلنا : الأمر كذلك لكن فيه إبهام من حيث أنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظريّة التي ليس أحدها القياس» (معارج الأُصول : ١١٧) فالشيعة رفضت الاجتهاد بالمعنى الأوّل وأقرّت وتبنّت المعنى الثاني.

وأبناء العامّة إنّما قالوا بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة باسم الاجتهاد لنقص نصوصهم اللفظيّة عن الحوادث والوقائع الجديدة ، فلم يكن عندهم من النصّ النبوي مثلاً ما يغطّي وقائع الحياة المعاصرة ، لأنّهم بعد وفاة الرسول الأعظم وقفوا على عدم استمرار الإمامة والخلافة الحقّة ، ولمثل هذا يقول عمر بن الخطّاب لأحد عمّاله : «فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أيّ الأمرين شئت ، وإن شئت أن تجتهد برأيك تتقدّم فتقدّم ، وإن

٥٥

وأمّا الاجتهاد عند الشيعة الإمامية

فهو يعني استفراغ الوسع واستقصاء طرق كشف الأحكام من الأدلّة التفصيلية من الكتاب والسنّة ، فهو استنباط الفروع من الأُصول الثابتة والمأثورة في الدين من الآيات الكريمة والروايات الشريفة المعتبرة ، وبني الاجتهاد عندهم على قاعدتين أساسيّتين الكتاب والسنّة التي تعني قول المعصوم (عليه‌السلام) وفعله وتقريره ، وأمّا الإجماع فهو حاكٍ عن السنّة كما مرّ وأمّا العقل فهو الحاكم في مقام امتثال الأحكام الشرعيّة وليس في مقام التشريع ، وقد يكون حكمه طريقاً إلى معرفة حكم الشرع ، فكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

عن الحاجبي والعلّامة الحلّي : أنّه استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بالحكم الشرعي.

__________________

شئت تتأخّر فتأخّر» (دائرة المعارف الإنصاف في بيان سبب الاختلاف) ٣ : ٢١٢).

وأمّا الإمامية الاثني عشرية فقد آمنوا باستمرار الرسالة المحمّدية والقيام بها حفظاً وتبليغاً من قبل خلفاء رسول الله الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام) ض الذين نصّ عليهم في مواطن عديدة فقاموا بتغطية المستجدّات الزمانية والمكانية بالنصوص المودعة عندهم من قبل جدّهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فكانت مدرسة أهل البيت غنيّة بالنصوص ، ووضع الأئمة (عليهم‌السلام) القواعد الفقهية والأُصوليّة التي مهّدت للغيبة الكبرى وإعطاء دور عظيم للفقهاء العدول ، وبهذه القواعد الأوّلية أرى المذهب الشيعي أُصوله المحمّدية ، ولا فرع إلّا وله مدخل في أُصولنا ومخرج على مذهبنا كما قاله الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، وبهذا يبقى المذهب الشيعي يتماشى مع كلّ عصر وفي كلّ مصر ، فهو مذهب حيّ يعتقد بإمامة إمام حيّ المهدي من آل محمّد (عليهم‌السلام) ض.

٥٦

وقيل : إنّه استنباط الحكم الشرعي عن أدلّته التفصيلية.

وقيل : عبارة عن العلم بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيلية ، أو أنّه تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.

وقيل : إنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّة قريبة من الفعل.

وهذا الاختلاف إنّما ينشأ في مثل هذه المواقف عند ما يكون المقصود منها التعاريف والحدود التامّة التي تبيّن تمام ذوات المعرّف بالفتح وذلك بالجنس القريب والفصل القريب أو الرسومات التامّة بالجنس والخاصّة ، ولما يلزم من الحدّ التامّ أن يكون جامعاً لأفراده ومانعاً من أغياره ، أي يكون مطرداً منعكساً ، وهذا المعنى لا يصدق في كثير من التعاريف في المصطلحات الخاصّة ، لهذا يقع الاختلاف والنزاع بين الأعلام من حيث النقض والإبرام ، وإذا قلنا أنّها من باب شرح الاسم والإشارة إلى المرتكزات الموجودة من قبل في وجود الإنسان ، التي حصل عليها من خلال طرق المعرفة كالعلم الحسّي والخيالي والوهمي والعقلي ، فإنّه يكون من التعريف اللفظي ، وبهذا نتخلّص من كثير هذه المناقشات حينئذٍ ، وشرح الاسم مثلما لو سُئل ما هو الغضنفر فيقال : أسد ، والمتكفّل لبيانه معاجم اللغة ، فتدبّر.

وبناءً على دأب القدماء أنّ هذه التعاريف من الحدود أو الرسوم التامّة فلا بدّ أن تكون جامعة ومانعة ، نرى وقوع نزاع في تعريف الاجتهاد عند الحاجبي والعلّامة بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

توضيح ذلك : أنّ مسلك الإماميّة هو عدم حجّية الظنّ مطلقاً من أيّ طريق

٥٧

حصل ، سواء كان باب العلم مفتوحاً أو نقول بانسداده ، لعدم حجّية الظنّ في نفسه فلا يعتمد عليه في شيء من الأحكام الشرعيّة ، بل ولا في موضوع من موضوعاته إلّا في موارد نادرة كالظنّ بالقبلة ، فالواجب هو تحصيل العلم بالحكم الواقعي أو بالحجّة الشرعيّة من الأمارات والأُصول المعتبرة ، فلا يكفي الخبر الواحد غير الجامع لشرائط الحجّيّة كصحّة الصدور وجهة الصدور والدلالة وغير ذلك ، فهل يحصل الاطمئنان على الحكم الشرعي بمجرّد قيام خبر واحد يفيد الظنّ المطلق ، فيحكم بصدوره عن المعصوم (عليه‌السلام) ويحصل القطع أنّ ظاهره هو المقصود ، ولم يصدر للتقيّة وغيرها؟ هيهات أنّى يكون ذلك.

ولمّا كان تعريف الحاجبي والعلّامة يواجه هذه المناقشة ، فقد كمّله الأعلام كالمحقّق الخراساني بتبديل الظنّ بالحكم بالحجّة عليه ، فالاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم.

وإنّما فعل المحقّق الخراساني ذلك ليدفع هجوم الأخباريين على الأُصوليين ، فإنّهم طعنوا عليهم بلحاظ أخذ الظنّ في تعريف الاجتهاد ، إلّا أنّ الإمامية إذا قالوا بحجّية الظنّ فيما إذا كان معتبراً شرعاً كخبر الثقة فحينئذٍ طعن الأخباريين سيكون على الاجتهاد لا على المجتهدين ، ولو أبدلنا كلمة الظنّ بقيام الحجّة على الحكم الشرعي لارتفع الإشكال ووقع التصالح بينهما ، وكان النزاع لفظياً وصغروياً ، والنزاع في الصغرى واقع بين الأخباريين أنفسهم كما يقع بين الأُصوليين ، فإنّ الأخباري لا ينكر جواز العمل بما قطع بحجّيته ، وبما هو الوظيفة الفعلية من قبل الشارع المقدّس ، كما لا ينكر أصل رجوع الجاهل إلى العالم.

٥٨

ثمّ الظاهر من الاجتهاد هو الاجتهاد الفعلي أي استفراغ الوسع على تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، إلّا أنّه قيل إنّما الاجتهاد يتقوّم بالملكة ، فالتعريف المزبور أعمّ من ذلك ، فعرّف الاجتهاد كما عند الشيخ البهائي (قدس‌سره) من أنّه (ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّة قريبة) (١).

وأورد السيّد الصدر (قدس‌سره) : أنّ هذا التعريف غير مبيّن لحقيقة الاجتهاد ، فإنّ الاجتهاد ليس نفس الملكة وإلّا لكانت إضافة الملكة إلى الاجتهاد بيانيّة ، والحال أنّ إضافة الملكة إلى الاجتهاد كإضافتها إلى صفات العدالة والسخاوة ونحوها ، مضافاً إلى أنّه لا يصدق على من حصلت له هذه الملكة العناوين الواردة في النصوص مثل قوله (عليه‌السلام) : (من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا) فإنّ الظاهر من الملكة أنّه أمر بالقوّة ولذلك قال الشيخ البهائي (يقتدر بها) وظاهر النصّ وغيره من العناوين المترتّبة على الفقيه كالراوي لحديثنا ونحو ذلك أمر بالفعل أي تدلّ على فعليّة الاستنباط.

فالتعريف المقبول : أنّ الاجتهاد استخراج الحكم من الحجّة ناشئاً عن الملكة (٢).

وقيل : الأوثق بالاعتبار والأسلم عن النقاش تعريف الاجتهاد بأنّه عبارة عن (تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي أو الحجّة على الوظيفة في مقام العمل ، وإن

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٢١.

(٢) المصدر نفسه.

٥٩

شئت قلت إنّه عبارة عن استنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة (١).

أقول : المراد من الظنّ في تعريف الاجتهاد هو الظنّ المعتبر أي الحجّة ، فلا إشكال حينئذٍ باعتبار الاجتهاد الفعلي ، أمّا الاجتهاد بمعنى الملكة فذلك موضوع آخر وتعريف آخر.

وبعبارة اخرى : إنّ المجتهد يعمل على طبق الحجّة ، ولكن تحصيل الملكة ممّا فيه النصب والتعب كتحصيل ملكة السياقة (السائق للسيارة في عصرنا) واستعمال الملكة أصعب ، فإنّه ربما يحصل عليها إلّا أنّها تزول أو تضعف عند عدم استعمالها ومزاولتها ، فهل يمكن غمض العين عن الاجتهاد الفعلي وتقليد الآخرين؟

والذي في الشريعة هو تعلّم الأحكام التي يبتلى به الإنسان أو يعلم بالابتلاء بها ولو إجمالاً ، فوجوب التعلّم وجوباً شرعياً كما تدلّ عليه الأخبار ، ومقتضى الوجوب تارة يكون بنحو التقليد وأُخرى بنحو الاجتهاد.

وما قيل في تعريف الاجتهاد بأنّه استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، ليخرج علم العامي فإنّه أيضاً من تحصيل الحجّة والدليل باعتبار (أنّ هذا ما أفتى به المفتي وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي فهذا حكم الله في حقّي) إلّا أنّه ليس فيه استفراغ الوسع.

ولكي يتمّ التعريف نقول : الاجتهاد الفعلي هو استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة التفصيليّة على الواقعة ، وحجّة العامي إنّما هي حجّة إجماليّة ، فأدلّة وجوب التعلّم

__________________

(١) الدرّ النضيد ١ : ٣٠.

٦٠