القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وكان عنده مرضياً وجيهاً (١).

وظاهر السؤال هو معرفة الحكم وليس الحديث وروايته فيدلّ على جواز الإفتاء والتقليد.

وعن يونس بن يعقوب كنّا عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال (عليه‌السلام) : أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة البصري (٢).

وكيفيّة الاستدلال : أنّ المفزع ومن يستريح إليه إنّما هو في القضايا الدينية ، وهذا يعني صحّة الإفتاء وجواز التقليد.

وعن عليّ بن المسيّب قلت للرضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال (عليه‌السلام) : من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا.

قال ابن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه.

وظاهر الخبر أنّ الإمام (عليه‌السلام) أرجع ابن المسيّب إلى ابن آدم في معرفة

__________________

(١) رجال الكشّي : الرقم ٢٩١.

(٢) جامع أخبار الشيعة ١ ، باب ٥ ، حديث ٥١.

١٦١

الأحكام ، وليس نقل الحديث.

عن عبد العزيز بن المهتدي وكان وكيل الرضا (عليه‌السلام) وخاصّته ، سألت الرضا (عليه‌السلام) فقلت : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال (عليه‌السلام) : خذ عن يونس بن عبد الرحمن.

وظاهر أنّ أخذ معالم الدين لا يعني نقل الحديث وروايته ، بل ما يعمّ ذلك فيشمل الإفتاء والحكم ومن ثمّ جواز التقليد والرجوع إلى مثل يونس الفقيه.

عن أبي علي بن راشد عن أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) قلت : جعلت فداك ، قد اختلف أصحابنا فأُصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال (عليه‌السلام) : عليك بعليّ بن حديد. قلت : فآخذ بقوله؟ فقال : نعم. فلقيت عليّ بن حديد فقلت له : تصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال : لا (١).

وهذا صريح في الإفتاء والرجوع إلى الفتوى وتقليد الفقيه.

عن أبي محمّد العسكري (عليه‌السلام) في فضل بن شاذان : أغبط أهل خراسان بمكان فضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم.

فالخبر يدلّ على جلالة ومكانة الفضل ، إلّا أنّه يعمّ إرجاع أهل خراسان

__________________

(١) قاموس الرجال ٦ : ٤٤١.

١٦٢

إليه.

النحو الأوّل الطائفة الرابعة :

لقد عرفنا فيما مرّ أنّه كيف الأئمة (عليهم‌السلام) أرجعوا الناس إلى العلماء الفقهاء بنحوٍ عامّ بتعيّن المصاديق الذي يستفاد منه الحكم العامّ. وأمّا الطائفة الرابعة فتدلّ على أنّ الأئمة أمروا بعض أصحابهم بأن يتصدّوا للإفتاء ، ولازمه رجوع الناس إليهم وجواز تقليدهم ، وأنّ أعمالهم تطابق فتوى أبان بن تغلب وأمثاله ، فالإفتاء مقدّمة العمل والنتيجة مطابقة الواقع أو ما ينزّل منزلته.

فمن الأخبار :

قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لأبان بن تغلب : اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.

فالإفتاء يلازمه العمل ، لا أنّ المقصود إظهار الفتوى أو إظهار الحقّ حتّى يقال بعدم دلالته على جواز الأخذ والاتباع ، ومن ثمّ لزوم المطابقة بين عمل العامي وفتوى المجتهد.

عن معاذ بن مسلم النحوي ، عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) ، قال لي أبو عبد الله : بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت : نعم ، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج : إنّي أقعد في المسجد فيجيئني الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ، ويجيئني الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأُخبره بما جاء عنكم ، ويجيئني الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو. فأقول : جاء عن فلان

١٦٣

كذا وجاء عن فلان كذا ، فأدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال (عليه‌السلام) لي : اصنع كذا فإنّي كذا أصنع.

هذا الخبر وإن كان يدلّ على التقيّة وحكاية قول الأئمة (عليهم‌السلام) ، إلّا أنّه يظهر أيضاً من قوله (فيسألني عن الشيء) أي عن حكم الشيء وهذا يعمّ الاستفتاء.

النحو الثاني الطائفة الأُولى :

يستفاد من هذه الطائفة أنّ الأئمة أرجعوا الناس إلى من يحمل صفات الإفتاء عند سؤالهم عن معرفة المفتي.

مثل ما رواه الكشّي (١).

عن أحمد بن حاتم بن ماهويه ، قال : كتبت إليه يعني أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضاً بذلك. فكتب (عليه‌السلام) إليهما : فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله.

وظاهر المسنّ أي كثير السنّ الذي قضى أكثر عمره في محبّة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وكلّ كثير القدم في ولاية الأئمة (عليهم‌السلام) هو المتفقّه الفاهم لدينه بالنظر ، فيدلّ على الإفتاء والتقليد.

النحو الثاني الطائفة الثانية :

يستفاد من هذه الطائفة بيان وظيفة الإمامية في عصر الغيبة الكبرى

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥.

١٦٤

في المسائل الجديدة والقضايا المستحدثة التي يجهل حكمها بسبب حدوثها وعدم وقوعها في عصر الحضور مثل التوقيع المبارك.

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم».

والرجوع إلى الرواة إنّما هو لمعرفة حكم الواقعة ، فيدلّ على الإفتاء والاستفتاء ، فالفقيه حجّة الإمام والإمام حجّة الله.

النحو الثاني الطائفة الثالثة :

وهي تدلّ على إرجاع الناس إلى الفقهاء وأنّهم يستخلفون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

حكي عن التفسير المنسوب إلى أبي محمّد العسكري (عليه‌السلام) قوله : وأمّا من كان من العلماء (الفقهاء) صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه.

قال الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في فرائده : هذا الخبر الشريف لائح عنه آثار الصدق وهذه المقولة من مثل هذا العملاق في العلم والتقوى ، ممّا يوجب الاعتماد على الخبر ، ولا يلتفت إلى ما أُورد عليه بضعف السند ، فتأمّل.

وفي أمالي الصدوق بسنده عن عيسى بن عبد الله العلوي ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن عليّ (عليه‌السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : اللهمّ ارحم خلفائي ثلاثاً ـ ، قيل : يا رسول الله ، من خلفاؤك؟ قال : الذين يبلّغون حديثي وسنّتي ثمّ يعلّمونها

١٦٥

أُمّتي (١).

على أنّ تبليغ السنّة وتعليمها تارة يكون بالحكاية ، وأُخرى بالإفتاء كما هو ظاهر العموم.

وفي عيون أخبار الرضا (عليه‌السلام) :

عن عبد السلام بن صالح الهروي ، قال : سمعت الرضا (عليه‌السلام) يقول : رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت : وكيف يحيي أمركم؟ قال (عليه‌السلام) : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس (٢).

على أنّ من التعليم الإفتاء ولازمه جواز التقليد لئلّا يلزم اللغويّة.

النحو الثاني الطائفة الرابعة :

ما يستدلّ بالسنّة على جواز التقليد تارة يكون بالمنطوق كما ذكرنا ، وأُخرى بالمفهوم ، كما يستفاد من هذه الطائفة ، فإنّ الإفتاء على نحوين تارة عن علم وهدى وأُخرى دونهما ، والثاني باطل فيلزم صحّة الأوّل.

ومن هذا الباب الروايات التي تنهى عن الإفتاء بالقياس وبغير علم.

قال أمير المؤمنين (قدس‌سره) : من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس.

__________________

(١) أمالي الصدوق : ١٠٦.

(٢) عيون أخبار الرضا : ١٧١.

١٦٦

كما ورد في تحريم الفتوى بغير العلم بالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.

عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك.

والذي يظهر من هذا الخبر وأمثاله أنّ شرط جواز الإفتاء هو أن يكون عن علم واجتهاد ، ولو بقرينة الحكمة ، فتجوز الفتوى عن علم ويلازمه عرفاً جواز العمل به فثبت المطلوب ، إلّا أنّه قيل إنّ المفهوم المذكور من سنخ مفهوم القيد فالأولى الاستدلال بالنصوص الدالّة بالمنطوق على جواز الفتوى عن علم.

النحو الثاني الطائفة الخامسة :

تدلّ على أنّ الأئمة (عليهم‌السلام) بيّنوا الأُصول في الأحكام ، وأمّا التفريعات فذلك على شيعتهم الكرام ، فمن اجتمع فيه شرائط الإفتاء فهو القدر المتيقّن في المقام ، كما يدلّ على التقيّد النصوص الأُخرى.

ورد عن الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما‌السلام) ما مضمونه : (إنّما علينا أن نلقي إليكم الأُصول وعليكم أن تفرّعوا) (١) ، (علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع) (٢) ، ومن الأُصول الاستصحاب والبراءة وقاعدة لا ضرر وما شابه.

ولازم ذلك متابعة الفروع ، كما كان يجب متابعة الأُصول ، فيدلّ على التقليد والاجتهاد.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤١ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥١.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤١ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٢.

١٦٧

بل يذهب أبو جمهور الأحسائي في كتابه (كاشفيّة الحال عن أحوال الاستدلال) في الفصل الثالث في بحث أدلّة العقل إلى أنّ الاجتهاد واجب مع حضور الإمام (عليه‌السلام) عملاً بمضمون النصّ المروي بطريق صحيح عن زرارة وأبي بصير عن الصادقين (عليهم‌السلام) : (علينا أن نلقي الأُصول وعليكم أن تفرّعوا) فلفظة (على) إنّما تستعمل للوجوب لظهور صيغة الأمر في الوجوب كما هو مقرّر في الأُصول ، فأوجبا علينا التفريع على أُصولهم.

وجرى على هذه السيرة الاتباع بل وقدماء الأصحاب أيضاً كابن الجنيد وابن أبي عقيل والصدوق والشيخ المفيد ثمّ وصلت النوبة إلى الشيخ الطوسي ليدخل الميدان من أوسع أبوابه وليكتب النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى ، بلا ذكر للروايات ، وليفرّع ما شاء له أن يفرّع في المبسوط ، ثمّ يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لمن يأتي بعده.

ومن ذلك الحين أخذت الأبحاث الاستدلالية مسلكها الذي شاء لها أن تسلكه ضمن الحدود التي رسمها المذهب ، وتشكّلت الجامعات الكبرى التي تعتبر مفاخر يفتخر بها في دنيا العلم في بغداد والنجف الأشرف والحلّة والشام وأصفهان وقم والأحساء والقطيف والأماكن الإسلامية الأُخرى وكتبت الموسوعات الاستدلالية الضخمة التي تمثّل تراثاً عزيزاً يعكس العقلية الفذّة التي وصلت إليها العبقرية الشيعية (١).

__________________

(١) كاشفية الحال عن أحوال الاستدلال (مؤسسة أُمّ القرى) : ٢١.

١٦٨

النحو الثاني الطائفة السادسة :

يستدلّ بها أنّ كلّ شيء حكمه في القرآن والسنّة ، فلا بدّ من اجتهاد فيهما واستخراج حكم كلّ شيء منهما.

منها : ما رواه بصائر الدرجات بسنده عن سعيد الأعرج قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون : يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة نقول فيه برأينا؟

فقال (عليه‌السلام) : كذبوا ليس شيء إلّا وقد جاء في الكتاب وجاءت فيه السنّة (١).

ورواه الشيخ المفيد (٢) بهذا السند مثله.

النحو الثاني الطائفة السابعة :

النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم ، وتعليمه وتعلّمه والانتفاع به والرجوع للعلماء في القضاء وأخذ الأحكام منهم ونحو ذلك الدالّة على جواز الاعتماد على العلماء في معرفة الأحكام والعمل عليها ، ولكن يرد عليه أنّه لا يستفاد حجّية قول المفتي منها ، فإنّها ربما وردت تبعاً لسيرة العقلاء الدالّة برجوع الجاهل إلى العالم.

__________________

(١) بصائر الدرجات ٢ : ٢٢١ ، كما جاء في المستدرك ١٧ : ٢٥٨ ، تحقيق مؤسسة آل البيت.

(٢) الاختصاص : ٢٧٢.

١٦٩

النحو الثاني الطائفة الثامنة :

النصوص الواردة في تعليم الأئمة أصحابهم وتلامذتهم بالرجوع في مقام الاستنباط إلى القرآن الكريم كما في قوله (عليه‌السلام) : (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله) (١). وقوله (عليه‌السلام) : (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) (٢).

دفع شبهة

بعد إثبات جواز التقليد ، فلو أفتى المفتي فإنّه يكون من العلم الذي يتبع ، ولا فرق في ذلك بين الإنذار وغيره ، فإنّه لو كان الفقيه المجتهد في مقام بيان الأحكام الوضعيّة أو الاستحباب والكراهة فكذلك على العامي في مقام العمل أن يقلّده ، فإنّ الغرض العمل ومطابقة قول المفتي.

فلو قيل فرضاً إنّه وجد عاميّ يحتمل الردع عن الحكم العقلي الفطري أو السيرة العقلائية لشبهة حصلت له من خلال اختلاف العلماء مثلاً كمخالفة الأخباريين للأُصوليين ، فينسدّ عليه باب العلم عند الشكّ والشبهة ، فقيل يلزمه الاحتياط في الحوادث الواقعة التي أفتى بها علماء عصره ، ولا يلزمه ذلك فيما لو تكن لهم الفتوى ، كما لا يعتني باحتمال التكليف ، لأنّه وإن كان له علم إجمالي

__________________

(١) الوسائل ١ : باب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٢) الوسائل ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

١٧٠

أنّه سيبتلى في طول حياته بمسائل ، إلّا أنّ هذا العلم الإجمالي الكبير ينحلّ إلى إجمالي صغير ، وذلك أنّ معظم المسائل قد أتعب الفقهاء أنفسهم في استنباطها ، وجلّها مطابقة للواقع ، فينحلّ العلم الإجمالي ، فيعمل بالاحتياط في التكاليف الاحتمالية لتنجّز العلم الإجمالي ، ولا يحتاط فيما لم يكن من التكاليف الاحتمالية لعدم تنجّز العلم بعد انحلاله ، فإنّه إنّما يتنجّز فيما لو أفتى أحد المجتهدين بالتكاليف ، أمّا مع نفي التكاليف من قبلهم ، فلا يجب عليه الاحتياط ، فيلزم فيما لو كان الاختلاف فعليه الاحتياط ومع اتّفاقهم لنفي التكليف فلا احتياط حينئذٍ.

وربما يقال ما ورد من انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير ليس في كلّ مورد ، بل فيما لم يكن الكبير منجّزاً ، كما في الشبهة الموضوعية لو قيل بالاستصحاب ، فمن أنكر فعليه أن يعمل بقاعدة الطهارة وإنّما ينحلّ لأنّ الأصل النافي عند تساقطه بالعلم الإجمالي يرجع لو خرج العلم من الشبهة المحصورة كخروج أحد الطرفين من الشبهة فينحلّ إلى الفرد المتيقّن والفرد المشكوك الذي يجري فيه الأصل النافي ويبقى بلا معارض ، ولكن لو كان الأصل غير نافٍ ، ويحتمل التكليف المثبت فلا انحلال فيه ، إذ يكفي احتمال التكليف في تنجّزه ، فالعامي الذي يحتمل التكليف عليه أن يراعي ذلك ، إلّا أن يدّعي العلم بعد الفتوى للمجتهدين في الواقعة ، فلا تكليف ، أو يكون مجتهداً في البراءة ، فلا يراعى التكليف المحتمل بالاحتياط.

وإنّما يجتهد العامي في أصالة البراءة بناءً على أنّه لا فرق في التمسّك بحديث الرفع بين الشبهات الموضوعية والحكميّة ، وأنّه لا مخصّص للثاني. وإذا قيل بالتخصيص لإخبار وجوب التعلّم ، فيجاب أنّ ذلك للقادر وهذا العامي فعلاً يعجز

١٧١

عن معرفة التكليف تفصيلاً بحسب الأمارات ، فحينئذٍ في أطراف العلم الإجمالي الكبير ينقلب الأصل المثبت إلى النافي ، ويكون بلا معارض فلا يجب عليه الاحتياط ، كما كان يجب في أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة. ومع حصوله على فتوى المجتهدين ، يجوز له أن يختار أحدهم بشرط أن لا يختار هذا تارة وأُخرى تلك ، فإنّه يلزم العلم الإجمالي بالمخالفة القطعيّة.

هذا وبعد تماميّة أدلّة جواز التقليد ، وبحكم العقل على المكلّف أن يتمثّل التكاليف بالوجدان أو يكون له أمارة شرعيّة على ذلك اجتهاداً أو تقليداً ، والامتثال الوجداني الذي هو الاحتياط لا فرق فيه بين العبادات وغيرها ، وسواء أوجب التكرار أم لم يوجب ذلك ، ولا بدّ من استناد الاحتياط إلى فتوى المجتهد.

ثمّ ظهر ممّا سبق أنّ الشارع المقدّس لمّا أمر بالأخذ من مثل يونس بن عبد الرحمن فإنّه الثقة ، فإنّ أمره إنّما كان طريقياً ، أي قول يونس حجّة ومعتبر لمن تبعه ، فيكون حينئذٍ للتابع علماً ، وبهذا يستدلّ كما سيأتي إنّه لا تقليد في الضروريات الدينية والمسلّمات الفقهيّة ، فإنّه لم يكن الجهل بها حتّى يعلم بالمتابعة ، فالتقليد كما في العروة الوثقى إنّما هو في غير القطعيات اليقينيات والضروريات من المسائل الدينية الفرعيّة والتكاليف الشرعيّة ، فمع العلم لا معنى للتعبّد بالأمارة بما لا يخفى.

وحينئذٍ لو علم العامي أنّه لا يجب عليه الاستهلال ، ولكن لا يدري هل يستحبّ له ذلك أو يباح له؟ فإذا أراد أن يأتي بقصد القربة ، فعليه أن يقلّد في ذلك حتّى لا يلزم التشريع المحرّم ، وإدخال ما ليس من الدين في الدين ، فتأمّل.

١٧٢

حرمة التقليد في أُصول الدين

لقد أثبتنا في علم الأُصول أنّ الأمارات الشرعيّة تنزّل منزلة العلم ، والعلم مرآة الواقع ، فالخطاب الوارد في التنزيل يتوجّه إلى المرآتية ، هذا إنّما يتمّ في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

وأمّا العقائد فالمطلوب فيها هو اطمئنان النفس وعقد القلب ، فلا ينفع فيها فتوى المجتهد المبتنية على الأمارات ، بل يشترط في العقائد تحصيل العلم ليطمئنّ القلب ، ولو كان هذا العلم بمقدار استدلال العجوز والأعرابي بأنّ البعرة تدلّ على البعير ، فإنّ مثله يتيقّن بوجود الصانع والخالق ممّا يألفه ويعيش معه ، من دلالة البعرة على البعير.

فلا يجوز التقليد في أُصول الدين لمثل هذا السبب ، والروايات الدالّة على جوازه ، لا تعمّ الأُصول كما لا يخفى ، وهذا ما ذهب إليه المشهور أيضاً فقال بتحريم التقليد في أُصول الدين.

وقيل بجوازه ، وقيل بوجوبه وتحريم النظر والاجتهاد.

وإنّما يقال بالجواز بناء على أنّ الاعتقاد بأُصول الدين من أفعال القلب والجوانح ، فالتقليد فيها بمعنى عقد القلب بها ، بعد عقد العلم ، وهو عقد الموضوع بالمحمول ، ثمّ عقده بالقلب ويسمّى بالعقيدة والإيمان القلبي ، فالتقليد فيها يحصل من قول الغير ، فيكون بمعناه العرفي أي اتباع الغير.

١٧٣

والتقليد في كلّ شيء إنّما يكون من سنخه ، ففي العقائد يكون من مقولة أوصاف النفس.

فيستدلّ على الجواز بأنّ النبيّ الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقبل إسلام كلّ من أقرّ بالشهادتين ولا يكلّفه بالاستدلال والنظر في البراهين والحجج (١) ، بل كان يأمرهم بتعلّم الفروع والأحكام الإسلامية.

هذا ولكن عدم السؤال لا يدلّ على جواز التقليد في أُصول الدين ، وإذا كان المراد من التقليد معناه العرفي من اتباع الغير فهذا خارج عمّا نحن فيه ، فالمقصود اتباع المجتهد في الفتوى المبتنية على الأمارات الظنية المنزلة منزلة العلم.

كما تمسّك القائل بالجواز بإطلاق قوله تعالى :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

فإطلاقه متناول لصورة إسلامهم من دون نظر ودليل ، ولكن يمنعه الانصراف ، فلا تتمّ مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق ، واستدلّ أيضاً بسيرة المسلمين على عدم مطالبة الدليل ممّن كان مسلماً على إسلامه ، إلّا أنّه يجاب أنّ السيرة جرت بعد ما جرت أيضاً على أنّ الأُصول لا بدّ من إثباتها بالنظر والدليل ، ولا يكفي فيه التقليد.

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٢٣٠.

١٧٤

تقليد الأعلم

من المسائل الخلافية منذ العصور المتقدّمة مسألة تقليد الأعلم ، فهل يجب على العامي تقليد الأعلم فيما تمكّن من الرجوع إليه ، أو أنّه مخيّر بين الأعلم وغيره؟ والمراد من تقليد الأعلم هو تقديم قوله على غيره عند التعارض ، لا بمعنى انحصار الحجّية في كلّ عصر بشخص واحد وهو الأعلم حتّى تكون الأعلميّة من مقوّمات الحجّية لعدم نهوض الأدلّة النقليّة والعقلية على ذلك. فالمراد من الأعلمية المرجّحية عند المعارضة ، وإلّا كيف يرجع إلى غير الأعلم في احتياطات الأعلم ، وكيف يقلّد غير الأعلم نفسه.

فلرأي كلّ منهما الكاشفية والحجّية ، إلّا أنّ للأعلم فعليّة وللعالم شأنية عند المعارضة ، فهما كالخبرين المتعارضين وتقديم من معه المرجّحات الداخلية والخارجية ، فلكلّ منهما كاشفية ذاتية إلّا أنّ الأعلم فعليّة والعالم شأنية. وليس شأنهما شأن الأمارة والأصل ، فإنّ الأصل دليل من لا دليل له ، فلا كاشفيّة في الأصل عند وجود الدليل أصلاً ، لا ناقصاً ولا شأناً ، فتدبّر.

قال السيّد المرتضى علم الهدى (قدس‌سره) : وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع أو أدين فقد اختلفوا فمنهم من جعله مخيّراً ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدّم في العلم والدين ، وهو أولى ، لأنّ الثقة منها أقرب وأوكد والأُصول بذلك كلّها شاهدة ..

١٧٥

ويذهب السيّد الحكيم (قدس‌سره) (١) : أنّ المشهور بين أصحابنا هو الأوّل ، وعن ظاهر السيّد من الذريعة كونه من المسلّمات عند الشيعة.

ولكن للنظر فيما ينسبه إليه مجال كما يعلم من عبارة الذريعة المذكورة آنفاً. كما إنّ القول بالتخيير حكي عن جماعة ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني ، ومال إليه صاحب الفصول وقوّاه بعض الأعلام كما هو مختار سيّدنا رضا الصدر. كما ذهب سيّدنا الأُستاذ المرعشي النجفي (قدس‌سرهما) على عدم لزوم تقليد الأعلم ، فالمسألة ذات أقوال عديدة كما يعلم من التعليقات على العروة الوثقى. فذهب المشهور إلى وجوب تقليد الأعلم ، كما حكي ذلك عن جملة من مصنّفات الأصحاب كالمعارج والإرشاد والنهاية والتهذيب والدروس والقواعد والذكرى والجعفريّة وجامع المقاصد وتمهيد القواعد والمعالم والزبدة وغيرها.

وقال الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالته (التقليد والاجتهاد) : المشهور على تعيّن العمل بقول الأعلم ، بل لم يحك الخلاف فيه من معروف (٢).

فقيل بوجوب تقليد الأعلم مطلقاً ، وقيل : عند العلم بمخالفة قوله للآخرين تفصيلاً أو إجمالاً ، وقيل بالاحتياط الوجوبي مع الإمكان ، كما أوجب الفحص ، وذهب بعض إلى الاحتياط اللزومي فيما علم بوجود الأعلم ومخالفته مع غيره في المسائل الابتلائية ، وعدم موافقة غيره للاحتياط ، وجمع ذهب إلى التخيير أو جواز

__________________

(١) المستمسك.

(٢) رسالة التقليد : ٧٦.

١٧٦

تقليد غير الأعلم مطلقاً.

وقبل بيان المختار نذكر أدلّة الأقوال ومناقشتها ولو إجمالاً ، ومن الله التوفيق.

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية يتعرّض لتقليد الأعلم ، ويقول فيما إذا علم اختلاف الأحياء ، فادخل العلم في الاختلاف ، ولم يقل إذا اختلف الأحياء ، ثمّ العلم مطلق سواء كان بالعلم التفصيلي أو الإجمالي.

فالعامي عند ما يرى اختلاف المجتهدين فما هو وظيفته بينه وبين الله سبحانه؟

يقول المحقّق الخراساني يأخذ بقول الأعلم ، لقطعه أنّ قوله معتبر بعد الفراغ من جواز التقليد ، فيحرز كفاية قول الأعلم ، وأمّا في غيره فيشكّ في الاعتبار فعلاً ، والشكّ فيه يساوق في عدم الاعتبار الفعلي وإن كان له الاعتبار الشأني فيلزم عدم المنجّزية والمعذّرية عند العمل بفتواه مع العلم بوجود الاختلاف ، فلا يعذر بمطابقة عمله للمجتهد غير الأعلم ، وإن كان يرى عدم وجوب تقليد الأعلم فلا يصحّ للعامي أن يعتمد على قوله للشكّ في اعتباره ، فيلزم الدور في اعتبار قوله بعدم وجوب تقليد الأعلم ، نعم يجوز للعامي أن يقلّد غير الأعلم لو اجتهد في هذه المسألة بأنّه لا يجب تقليد الأعلم ، أو يقلّد الأعلم الذي يقول بعدم وجوب تقليد الأعلم ، فلا يلزم الدور.

ثمّ التكلّم في موضوع تقليد الأعلم تارة باعتبار نظر العامي وأنّه ما هو وظيفته بالنسبة إلى الأعلم بما يستقلّ به عقله في وجوب الرجوع إلى الأعلم بلا تقليد في ذلك ، وأُخرى بنظر الفقيه باعتبار ما يستظهره المجتهد من الأدلّة النقليّة والعقليّة من حيث الإفتاء بجواز تقليد الأعلم وعدمه.

١٧٧

فالعامي لمّا علم إجمالاً بتنجّز التكاليف الشرعية عليه ، وأنّه لا طريق لامتثالها إلّا من طريق فتوى المجتهدين ، فإنّه يستقلّ عقله بتقليد الأعلم ، لدوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحجّية ، والعقل يستقلّ بتقديم محتمل التعيين وهو فتوى الأعلم.

توضيح ذلك : لماذا يقال بالتخيير بين الأعلم وغيره؟ وقد يحتمل الاعتبار في قول الأعلم كما يحتمل في العالم ، فلما ذا يلزم تعيين الأعلم والقول بالمضايقة في مقام التقليد؟

والجواب : أنّه لا يمكن القول بالحجّة في الجامع بينهما ، كما كان في خصال الكفّارة ، فإنّ معنى التخيير فيها أنّه بأيّها أخذ فقد أخذ بالمعتبر ، وهذا لا يجري في الأعلم وغيره ، للقطع بأنّ قول الأعلم هو المعتبر ، وغيره مشكوك فيه ، والمشكوك بمنزلة العدم ، فإنّ الشكّ من الجهل ، والجهل عدم العلم ، فيؤخذ بجانب الحجّة أي تقليد الأعلم.

وأمّا الفقيه فنظره تابع لما يثبت عنده من الأدلّة ، وهذا يعني قبل بيان المختار لا بدّ من عرض أدلّة الطرفين ، وعند عدم تماميّتها لا بدّ من الرجوع إلى أصل أوّلي يتمسّك به عند الشكّ وعدم قيام الأدلّة.

فمن الأعلام كالمحقّق الخراساني في الكفاية يذهب إلى تقليد الأعلم بنظر الفقيه ، على أنّ الروايات الواردة في مشروعيّة التقليد لا تشمل هذه الصورة أي العلم باختلاف الأحياء فإنّ الإمام (عليه‌السلام) عند ما يرجع الناس إلى مثل يونس والحارث بن المغيرة ، بناءً على أنّ حكمهما حكم للجميع ، فإنّ قولهما إخبار عن

١٧٨

الحكم الشرعي وهو للجميع ، والإرجاع إليهما بمعنى أنّهما يفهمان كلام الإمام (عليه‌السلام) جيّداً ، وواضح أنّه من كان أفهم فإنّه يؤخذ بقوله.

غاية الأمر أنّ الروايات مطلقة ، فتشمل الاحتمال في المخالفة وغيرها ، إلّا أنّه مع العلم بالخلاف بينهما ، لا يصحّ الإرجاع إليهما معاً ، بل يرجع إلى الأعلم لإحراز حجّية قوله دون غيره. فهو مشكوك ويكون بمنزلة المعدوم. والأدلّة القائلة بجواز التقليد إنّما هي ناظرة إلى أصل التقليد لا مع الاختلاف والمعارضة في الفتاوى.

وجوب تقليد الأعلم

استدلّ المشهور على وجوب تقليد الأعلم بالسنّة والإجماع والسيرة العقلائيّة وحكم العقلاء ، بيان ذلك :

السنّة الشريفة :

أمّا السنّة : فمن الروايات الدالّة على لزوم تقليد الأعلم مقبولة عمر بن حنظلة المشهورة.

ومورد الاستدلال فيها قوله (عليه‌السلام) جواباً عن سؤال الراوي : قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، إلى أن قال : (فإن كان كلّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فأجاب (عليه‌السلام) : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى

١٧٩

ما حكم به الآخر (١).

ومثلها ما أجابه (عليه‌السلام) في خبر داود بن حصين جواباً عن سؤاله : فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ فقال (عليه‌السلام) : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه.

ومثلها خبر موسى بن أكيل ، فقال (عليه‌السلام) : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه.

ثمّ كيفيّة الاستدلال بالمقبولة بناءً على أنّ منشأ الاختلاف في الحكم كما يظهر من صدر الرواية إنّما هو الاختلاف في الأحاديث الواردة عنهم (عليهم‌السلام) ، وفي ذيلها دلالة على ذلك أيضاً بملاحظة المرجّحات الداخلية والخارجية بين الروايات المتعارضة ، وهذا يعني أنّ الشبهة من الشبهات الحكمية أو مطلقاً ، فلا بدّ من رفعها بمراجعة النصّ. كما إنّ الفتوى تلحق بالحكم لعدم القول بالفرق بينهما ، فيتمّ بالإجماع المركّب.

إلّا أنّه أشكل على المقبولة سنداً ودلالة :

فقد ذهب بعض الأعلام (٢) إلى ضعف السند ، بناءً على أنّ الأصحاب لم ينصّوا على توثيق ابن حنظلة كما لم ينصّوا بجرحه.

إلّا أنّ المشهور قال بوثاقته كما ذهب إليه المحقّق التستري في قاموس الرجال

__________________

(١) دروس في فقه الشيعة ١ : ٨٠.

(٢) الوسائل ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

١٨٠