القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

إلى طبيب حاذق فبعد أخذ الوصفة الطبيّة لو مات الطبيب ، فإنّهم يعملون بوصفته ، فلا يفرّقون بين الطبيب الحيّ والميّت بعد الرجوع إليه.

ولا يقال : إنّ السيرة العقلائيّة إنّما تنفع لو أمضاها الشارع ، ولمّا يثبت ذلك كما كان في التقليد الابتدائي.

فإنّه يقال : إنّه لم يكن في الابتدائي معهوداً في الشريعة فلا يمكن استكشاف رضا الشارع به ، بخلاف البقاء على آراء أهل الخبرة بعد موتهم فإنّه لم يردع الشارع عنه ، ولمّا كان منهم بل هو رئيسهم فيكشف حينئذٍ رضاه بذلك ، بل مقتضى الإطلاق كما مرّ في الوجه الأوّل إمضاء ما هم عليه من جواز البقاء على تقليد الميّت ، بل وجوبه في بعض الموارد ، كما لو كان الميّت أعلم من الحيّ.

الثالث سيرة المتشرّعة :

والتي تعني سيرة المؤمنين في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) على أمر شرعي ، فإنّه لم يسمع منهم أنّهم عند رجوعهم إلى أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) بأمر منهم أنّهم لم يأخذوا بقولهم بعد موتهم ، فلو كان لبان ، لا سيّما والمسألة كثيرة الابتلاء ، ومن القضايا التي توفّرت الدواعي لنشرها وانتشارها ، إلّا أنّه قيل في ردّها أنّ غاية ما فيها دلالتها على أخذ قول الأصحاب بعد موتهم ، وفي حياتهم وإن كان الرجوع إليهم بحسب الظاهر كما مرّ باعتبار الفتوى والنظر لا باعتبار الرواية والراوي ، إلّا أنّ الاطمئنان بقولهم باعتبار كاشفيّة الواقع وذلك إمّا لنقلهم الفتوى بنصّ الرواية كما ينقل ذلك عن الشيخ الصدوق في المقنع ، أو باعتبار نقل الرواية بالمعنى مع اطمئنان السامع بعدم وجود المعارض له وعدم صدوره للتقيّة ، أو باعتبار إفادته القطع للسامع ففي

٢٨١

مثل هذه الموارد الثلاثة ربما تثبت بالسيرة المتشرّعة ، بخلاف ما نحن فيه من فتاوى الأصحاب بعد عصر الأئمة (عليهم‌السلام) ، فلم تثبت فيها سيرة المتشرّعة ، فتأمّل.

الرابع العقل :

فإنّه لو كان العدول من الميّت إلى الحيّ جائزاً أو واجباً للزم توارد تقليدين على قضيّة واحدة ، فيكون مثل توارد العلّتين على معلول واحد ، فكما لا يصحّ هذا في العقليّات كذلك لا يصحّ ذلك في الشرعيّات ، فلا يصحّ أن تكون الواقعة في الواقع ذات حكمين مختلفين باعتبار التقليدين ، فلا بدّ من البقاء على تقليد الميّت لوحدة القضيّة.

وأُجيب :

أوّلاً : إنّما يتمّ الإشكال في الوحدة الشخصيّة. والحال المراد من الوحدة في القضايا المبتلى بها الوحدة النوعيّة التي لها مصاديق شخصيّة مختلفة.

وثانياً : إنّما يتمّ الإشكال بناءً على القول بالتصويب ، والحال نحن من المخطئة كما مرّ ، فإنّ فتوى المجتهد كسائر الأمارات ربما تصيب الواقع وربما تخطئ ، والباب باب المعذّرية والمنجّزية ، فلا مانع من تحمّل الواقعة للتقليدين المختلفين.

الخامس العسر والحرج :

فإنّه لو كان العدول جائزاً أو واجباً ، فإنّه يلزم العسر والحرج على المقلّدين العوام ، فإنّ التقليد كان يلزمه معرفة فتوى المجتهد الذي قلّده أوّلاً ، لتكون المطابقة المصحّحة للعمل ، وتعلّم الفتاوى على غالب الناس ليس من الأمر السهل ، ثمّ بعد موته لو أراد أن يتعلّم فتاوى الثاني فإنّه يقع في عسر وحرج فكيف بالثالث

٢٨٢

والرابع ، كما إنّ اختلاف الميّت والحيّ ربما يوجب قضاء ما فات فيلزمه العسر أيضاً.

وأُجيب : إنّه بعد معرفة فتاوى الفقيه الميّت لا يصعب معرفة فتاوى الفقيه الثاني لقلّة الاختلاف بينهما كما في موارد الاحتياطات ، وأمّا القضاء فهو من القليل أيضاً ، كما يمكن أن لا يقضى تمسّكاً بحديث لا تعاد الصلاة مثلاً ، أو أنّه يقضى ما لم يستلزم العسر والحرج ، فإنّهما من الشخصي ويقدّران بقدرهما.

السادس الاستصحاب :

عند عدم تماميّة الدليل الاجتهادي في المقام ، فإنّه يرجع إلى الفقاهتي والأصل الحاكم هو الاستصحاب ، وقد قرّر بنحوين :

الأوّل : كانت فتوى الفقيه حجّة حال حياته ، وبعد موته يشكّ في ذلك فيستصحب.

الثاني : كان يجوز التقليد منه حال حياته وكذلك بعد موته استصحاباً.

والفرق بين التقريرين أنّ الأوّل يعمّ التقليد الابتدائي دون الثاني.

وأُشكل على التقريرين بإشكالات ثلاثة ، بأنّ الحجّية لم تكن حكماً شرعيّاً ، وأنّ الحياة مقوّم وأنّ الاستصحاب معارض بآخر.

توضيح ذلك :

أوّلاً : إنّ الاستصحاب إنّما يؤخذ به لو كان مفاده حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والحجّية في الفتوى أمر انتزاعي غير قابل للجعل ، بل إنّما هي من الحكم المجعول في مورده ، وإنّه بحكم العقل.

٢٨٣

وبعبارة اخرى : ما يؤخذ في موضوعات الأحكام يتصوّر على أنحاء ثلاثة :

١ ـ أن يكون لمجرّد الإشارة إلى ما هو الموضوع واقعاً من دون دخل في الحكم لا في مقام الحدوث ولا في مرحلة البقاء ، كقولك اعمل بما في القانون. ولا مجال للاستصحاب حينئذٍ.

٢ ـ ما له دخل في مقام الحدوث ويشكّ في دخالته في مرحلة البقاء كتغيّر الماء بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة ، ولا فرق أن يكون ذلك بالوصف كقولنا الماء المتغيّر لونه أو طعمه أو رائحته بالنجاسة نجس ، أو بالشرط كأن يقال : إذا تغيّر الماء فهو نجس ، فالتغيّر من حالات الموضوع لا من مقوّماته فهو من الواسطة في الثبوت لا في العروض ، فعند الشكّ بزوال التغيّر بنفسه أو بعلاج يستصحب النجاسة.

٣ ـ أن يكون له دخل في الحكم حدوثاً وبقاءً ، فيكون مقوّماً للموضوع ، كقولنا قلّد المجتهد العادل ، فالعدالة من مقوّمات الموضوع في وجوب التقليد ، فلا مجال للاستصحاب بانتفاء الموضوع ، فقيل اشتراط الحياة في المجتهد من هذا النحو بالنسبة إلى حجّية الفتوى ، فلا مجال للاستصحاب حينئذٍ.

وقيل : الظاهر أنّه من قبيل الثالث فلا يجري فيه الاستصحاب ، أو أن يقال عند الشكّ في كونه من الثالث ، فلا مجال للاستصحاب لارتفاع الموضوع على تقدير الشكّ في بقائه على تقدير آخر.

وقد يقرّر عدم الاستصحاب بأنّ موضوع الحجّة هو الرأي ، وقد علمنا بزواله عند موته ويكون كمن تبدّل رأيه أو نسيه أو أُصيب بالجنون ، فلا يرجع إليه.

٢٨٤

هذا ما يقال في مقام الإشكال على الاستصحاب ، إلّا أنّه أُجيب (١) بأنّ الحجّية حكم وضعي مجعول وليس انتزاعيّاً ، كالفوقيّة من الفوق ، بل كلّ مقنّن نافذ الرأي ما يجعله يكون حكماً سواء أكان تكليفيّاً أو غيره كالوضعي ، سواء أكان أصليّاً كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة أو تبعيّاً ، كما لو كان مجعولاً بتبع التكليف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ.

والحجّية الشرعيّة من الأحكام الوضعيّة دون الحجّية التكوينية التي هي بحكم العقل ، فلا يخلط بين الحجّيتين ، ففي التكوينيات انتزاعية غير قابلة للجعل لا أصلاً ولا تبعاً ، فإنّ المجعول ذات السبب كالنار ، لا السببيّة بين النار والحرارة ، فهي من لوازم الذات ، وأمّا في الشرعيات فهي اعتباريّة ، قابلة للجعل ، كقول الطالق : هي طالق.

ففتوى المجتهد الحيّ كانت حجّة شرعيّة حال حياته ، وبعد موته يستصحب ذلك ، فيتمّ المطلوب.

وإن نوقش في ذلك فيصحّ استصحاب الحكم الشرعي في مورد الحجّية الذي انتزعت منه ، وهو إمّا وجوب العمل أو جواز العمل على طبق فتوى هذا الفقيه في زمن حياته ، فيستصحب ذلك بعد موته.

وأمّا الإشكال الثاني فتوضيحه : أنّ الحجّية في التقليد متقوّم بالحياة ، وبعد الموت يرتفع الموضوع ، أو لا أقلّ من الشكّ فيه ، فلا مجال للاستصحاب حينئذٍ

__________________

(١) أجاب بذلك السيّد الإمام (قدس‌سره) كما حكاه الدرّ النضيد.

٢٨٥

لاشتراط وجود الموضوع ووحدته في القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة.

وأُجيب : إنّ الظاهر أخذ الحياة في المجتهد من حالات الموضوع لا مقوّماته ، فهو كالتغيير في الماء المحكوم بالنجاسة ، وليس من باب تبدّل الرأي وإصابة الجنون ، فإنّ أصابه الجنون وفقد العدالة يعدّ نقصاً ، بخلاف الموت فإنّه انتقال من عالم إلى آخر ومن المادّة إلى المعنى ، فهو كمال للفقيه لتجرّده كما مرّ ، فلا إشكال في الاستصحاب من هذه الجهة.

وأمّا الإشكال الثالث :

فأُشكل على الاستصحاب أيضاً بعدم جريانه في الأحكام الكلّية ، إلّا في استصحاب عدم النسخ ، وإنّما لا يجري في الكلّية لأنّه معارض باستصحاب آخر ، فإنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلّي في غير عدم النسخ معارض دائماً باستصحاب عدم الجعل.

توضيح ذلك : أنّ الشكّ في بقاء الحجّية إنّما يكون من جهة سعة المجهول وضيقه ، فلازم الاستصحاب في المقام سعة نطاق حجّية الفقيه فتعمّ حتّى بعد موته ، إلّا أنّه معارض باستصحاب عدم جعل الحجّية على رأيه وفتواه في هذا الحال ، ونتيجة الاستصحاب الثاني ضيق دائرة الحجّية ، كالاستصحاب في الماء المتغيّر بعد زواله بنفسه أو بعلاج ، فإنّه يدلّ على التوسعة إلّا أنّه معارض بعدم جعل النجاسة لهذا الموضوع في هذا الحال.

وأُجيب هذا الإشكال بأنّه من الاستصحاب السببي والمسبّبي ، ومع جريانه في السبب لا مجال للمسبّب كالثوب المغسول بالماء المشكوك نجاسته وطهارته ،

٢٨٦

فاستصحاب طهارة الماء يرفع الشكّ في نجاسة الثوب المغسول به ، فيقال استصحاب عدم الجعل محكوم باستصحاب الحكم الفعلي من جعل الحجّية في الفتوى حال حياته ، فإذا جرى الأصل في المجعول واستصحبنا الحجّية إلى ما بعد الموت ، فلا يبقى الشكّ في الجعل أصلاً ، لحكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

إلّا أنّه أشكل على هذا الجواب بأنّه إنّما يتمّ لو كان المسبّب من الآثار الشرعيّة للسبب كالثوب المغسول بالماء المشكوك ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الحجّية والسببيّة والمسببيّة من الأُمور العقليّة ، لأنّها من الانتزاعيات.

إلّا أنّه أشكل على هذا الإشكال أنّ الحجّية في المقام من الأُمور المجعولة شرعاً كما مرّ ، فاستصحاب الحجّية يلزمه رفع الشكّ في عدم جعل الحجّية ، فتأمّل.

وربما أشكل على استصحاب عدم جعل الحجّية بأنّه لا يترتّب عليه حكم فعلي ، فلا مجال لمعارضته مع استصحاب بقاء المجعول إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت ، وهو كما ترى.

وأُجيب : بأنّه لا يتمّ هذا الإشكال لترتّب الأثر ، فإنّ أثر كلّ شيء بحسبه ، فاستصحاب الجعل عند الشكّ في النسخ كما يجري ويلزمه التحرّك والانبعاث كذلك عدم الجعل لازمه الترخيص والإباحة حينئذٍ.

كما أنّ استصحاب عدم جعل الحجّية لفتوى الميّت من الآثار الشرعيّة ، فليس أثراً عقليّاً له حتّى يكون من الأصل المثبت ، فتدبّر.

فلا يبعد جريان استصحاب حجّية فتوى المجتهد بعد موته ، وإشكال عدم بقاء الموضوع أو معارضته باستصحاب عدم الجعل غير تامّ ، أضف إلى ذلك

٢٨٧

أنّ العمدة في الاستدلال في المقام هو الدليل الاجتهادي من إطلاق الأدلّة اللفظيّة وبناء العقلاء كما مرّ.

هذا وما ذكر من جواز البقاء على تقليد الميّت فيما علم بتوافقه مع الحيّ ، أو احتمل ذلك ، وأمّا إذا علم بالمخالفة بينهما ، فإنّه لا يستدل حينئذٍ بإطلاق الأدلّة لسقوطها عن الحجّية في هذا الحال لعدم إمكان شمولها لكلا المتعارضين للتكاذب كما هو واضح ولا لأحدهما لعدم المرجّح بينهما.

فعند الاختلاف والعلم به أو احتماله تكون المسألة ذات صور : فتارةً يعلم بأعلميّة الميّت فيجب البقاء عليه ، إذا لم تكن فتوى الحيّ مطابقة للاحتياط وإلّا يرجع إليه من باب الاحتياط لا التقليد ، وإنّما يرجع إلى الميّت عند كونه أعلم ، لبناء العقلاء وحكم العقل بالاشتغال من تقديم التعيين على التخيير في دوران الأمر بينهما. وكذا الكلام فيما إذا علم بأعلميّة الحيّ فإنّه يجب عليه الرجوع إليه للوجهين : بناء العقلاء وحكم العقل ، إلّا إذا كان فتوى الميّت مطابقاً للاحتياط فيجوز العمل بها احتياطاً.

وإن علم بتساويهما أو احتمل أعلميّة كلّ منهما من الآخر ، فالاحتياط مهما أمكن ، وإلّا فنقول بالتخيير العقلي كما في دوران الأمر بين المحذورين ، فتأمّل.

آراء الأعلام :

في قوله : (جواز البقاء) ،

قال آقا ضياء : وذلك ولو من جهة استصحاب وجوب تطبيق العمل على قوله ، أو

٢٨٨

استصحاب بقاء الأحكام الناشئة من قبل حجّية رأيه عليه تعييناً ولو من جهة احتمال بقاء حجّية رأيه السابق عليه فعلاً فيصير موجباً لليقين بالحدوث والشكّ في البقاء لاحتمال قيام حجّة أُخرى ، فلا ينتقض بالجنون والفسق المجمع على عدم قيام شيء في بقاء الحكم الظاهري. نعم ، لا يتمّ استصحاب نفس حجّية الرأي إذ يرد عليه إشكال عدم بقاء الموضوع في مثله. نعم ، الأحوط حينئذٍ هو الأخذ بأحد القولين.

وقال البروجردي : في المسائل التي عمل بها المقلّد.

وقال الجواهري : بل الأقوى عدم الجواز.

وقال الحكيم : بل وجوبه إذا كان الميّت أعلم ، ووجوب العدول إذا كان الحيّ أعلم ، أمّا مع التساوي فيتخيّر ، وإن كان العدول أولى وأحوط.

وقال الخوانساري : بل يتعيّن البقاء ، إلّا أن يكون الحيّ أعلم من الميّت ولم يكن قول الميّت مطابقاً للأعلم من الأموات.

وقال الخوئي : بل الأقوى وجوبه فيما تعيّن تقليد الميّت على تقدير حياته.

وقال النائيني : بل الأقوى عدم جوازه مطلقاً.

وفي قوله : (على تقليد الميّت) ، قال الشيرازي : فيما عمل به من المسائل.

وقال كاشف الغطاء : في خصوص المسائل التي عمل بها ، وإن كان الأولى العدول فيها إلى الحيّ أيضاً.

٢٨٩

وفي قوله : (تقليد الميّت ابتداءً) ،

قال الحائري : إذا أخذ الفتوى من الميّت في زمان حياته ولم يعمل به حتّى مات ، فلا يبعد كون العمل بتلك الفتوى داخلاً في تقليد الميّت ابتداءً ، فالأحوط في هذه الصورة الرجوع إلى الحيّ. نعم ، لو عمل ببعض فتاواه بانياً على الرجوع إليه في كلّ مسألة يحتاج إليها فالأقوى جواز البقاء مطلقاً.

٢٩٠

(المسألتان العاشرة والحادية عشرة في العروة)

قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٠ : إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ فلا يجوز له العدول إلى الميّت.

مسألة ١١ : لا يجوز العدول عن الحيّ إلى الحيّ إلّا إذا كان الثاني اعلم.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ٩):

في قوله : (لا يجوز العدول) : على الأحوط.

وفي قوله : في مسألة ١١ : (لا يجوز العدول) ، قال : الأقوى جوازه مطلقاً.

وفي قوله : (إذا كان الثاني اعلم) : وذلك على مبنى الماتن حيث لا يكون قول المعدول عنه مطابقاً لقول من كان من الأموات أعلم من المعدول إليه.

٢٩١

أقول : من الأولى أن تذكر المسألة الحادية عشر أوّلاً ، وقد اختلف الأعلام في العدول من الحيّ إلى الحيّ على أقوال :

فذهب صاحب النهاية والمحقّق الثاني والشهيد الثاني والمحقّق الأصفهاني إلى الجواز مطلقاً.

وفي التهذيب وشرحه والذكرى والمحقّق القمّي والشيخ الأنصاري في رسالة التقليد ، فيما لو عمل برأي الأوّل عدم الجواز.

وحكي عن المحقّق الحائري التفصيل بين العدول في الواقعة الشخصيّة فعدم الجواز دون الوقائع المستقبليّة إن قلنا : التقليد هو العمل وإلّا الجواز لو كان الالتزام.

وقيل بأحوط القولين إن كانا متساويين ، أو كان الثاني اعلم ، إلى غير ذلك من الأقوال.

واستدلّ القائل بجواز العدول بوجهين :

الأوّل إطلاق الأدلّة :

فإنّ الأدلّة مطلقة ولم تقيّد بعدم العدول أو الاستمرار في التقليد الأوّل أو ما شابه ذلك ، ولكن لا يتمّ هذا على إطلاقه ، لأنّ المجتهدين إمّا متساويان في فضيلة العلم والفقه ، أو مختلفان ، ثمّ إمّا متّفقان في الفتوى أو مختلفان ، فمع إحراز اتّفاقهما أو عدم إحراز مخالفتهما في الفتوى ، وبناءً على عدم وجوب تقليد الأعلم لعدم العلم بالمخالفة ، فلا مانع حينئذٍ من تقليدهما عملاً بالإطلاقات ، وأمّا مع العلم بالمخالفة وأعلميّة من قلّد ، فلا يجوز العدول عنه ، لعدم حجّية قوله ، كما يجب العدول إلى

٢٩٢

الأعلم ، ومع تساويهما فالإطلاق لا يشملهما لتعارضهما ثمّ التساقط ، وإلّا يلزم ترجيح بلا مرجّح ، ولكن مقتضى ما ورد في الأخبار العلاجيّة هو التخيير بين الأمارتين عند عدم المرجّحات الداخليّة والخارجيّة.

وعن الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) : ثبوت الإجماع على التخيير بين الفتويين المتعارضين.

وربما تدلّ سيرة المتشرّعة على ذلك ، ففي عصر الأئمة (عليهم‌السلام) كان الأصحاب مخيّرين في الرجوع إلى أصحاب الأئمة في أخذ الحديث والفتوى. بعد اجتماع شرائط الأخذ.

ويدّعي السيّد الإمام الخميني (قدس‌سره) تسالم الأصحاب على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين وعدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين.

هذا ولكنّ التخيير إنّما هو في الابتداء وأوّل الأمر ، ولا دليل لنا على الاستمرار ، فبعد أخذ أحد الخبرين المتعارضين لا يصحّ الرجوع إلى الخبر الآخر حينئذٍ ، لخروج المتحيّر الذي هو ملاك التخيير عن التحيّر.

ثمّ الإجماع دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقّن فيه وهو التخيير الابتدائي دون الاستمراري ، فلا يصحّ العدول حينئذٍ ، لا سيّما على القول بأنّ التقليد هو الالتزام.

الثاني الاستصحاب :

عند عدم تماميّة الدليل الاجتهادي فإنّ الاستصحاب يدلّ على جواز العدول ، فقبل الأخذ بفتوى أحدهما كان يجوز الرجوع إلى أيّهما شاء ، فكذلك بعد

٢٩٣

الأخذ ، فإنّه يستصحب الجواز وبقاء الحجّية في فتوى الآخر.

وأُشكل عليه :

أوّلاً : بعدم اتحاد القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة لعدم اتّحاد الموضوع فيهما ، فإنّ التخيير الابتدائي إنّما كان لمن لم تقم له حجّة فعليّة ، فكان متحيّراً بين حجّتين شأنيّة ، وأمّا بعد الاختيار والخروج من التحيّر وفعليّة الحجّية ، فلا مجال للتخيير حينئذٍ ، فكيف يستصحب؟ فالمتيقّنة من لم يكن له حجّة فعليّة ، والمشكوكة من كان له ذلك ، فلا يجري الاستصحاب حينئذٍ ، لعدم إحراز الموضوع أو عدم وحدته.

ثمّ دليل التخيير كان لُبيّاً باعتبار الإجماع أو سيرة المتشرّعة أو تسالم الأصحاب ، فلا إطلاق في البين حين يقال ببقاء الموضوع فيه.

وثانياً : يلزمه تعارض استصحاب التخيير باستصحاب الحجّية الفعليّة للفتوى المختارة ، فلا يعقل بقاء حجّية التخيير مع الحجّية الفعليّة ، إلّا أنّ شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) يقول بحكومة الاستصحاب التخييري على الحجّية العقليّة من باب السببي والمسبّبي كالثوب المغسول ، وأُجيب بأنّ الملازمة بين بقاء الحجّية التخييريّة لفتوى المجتهد الثاني وعدم الحجّية للفعليّة التعيّنيّة لفتوى المجتهد الأوّل عقليّة ، باعتبار وجود أحد الضدّين ملازم لعدم الضدّ الآخر كالبياض والسواد للتضادّ بين الحجّتين التخييريّة الشأنيّة والفعليّة التعيّنيّة فليس عدم الحجّية الفعليّة من الآثار الشرعيّة ، وكذلك بقاء الحجّية التخييريّة حتّى يقال بالحكومة ، فإنّه يكون من الأصل المثبت.

فما قيل من الوجوه على جواز العدول مطلقاً غير تامّ.

٢٩٤

أدلّة القائلين بعدم الجواز

واستدلّ على عدم جواز العدول بوجوه :

الأوّل الإجماع :

حكى ذلك المحقّق القمّي في القوانين ، إلّا أنّه أُورد عليه بمخالفة جمع من الأصحاب كما مرّ كالعلّامة والمحقّق والشهيد الثانيين ، كما أنّ المسألة لم تكن معنونة عند القدماء حتّى يستكشف الاتفاق ، فإنّها حدثت في زمن المحقّق والعلّامة ، أضف إلى ذلك أنّه إجماع منقول بخبر الواحد فيدخل تحت الظنّ المطلق ولم يثبت حجّيته ، كما أنّه من الإجماع المدركي ، فلا ينفع ، لرجوعنا إلى الوجوه عند المجمعين ، فإمّا أن ندخل معهم أو نخالفهم.

الثاني العلم الإجمالي بالمخالفة القطعيّة :

فإنّ جواز العدول لازمه العلم الإجمالي بالمخالفة القطعيّة في بعض الموارد ، بل العلم التفصيلي في العملين المترتّبين أحدهما على الآخر كصلاة الظهر والعصر ، فمن كان يفتي بالقصر عند طيّ أربعة فراسخ من دون نيّة الرجوع فقلّد العامي في صلاة الظهر ، ثمّ قلّد آخر يقول في المسألة بصلاة تامّة ، فصلّى العصر تماماً ، فإنّه يعلم قطعاً ببطلان العصر ، وباعتبار عدم القول بالفصل يقال بعدم العدول مطلقاً.

٢٩٥

وأُورد عليه بالنقض بموارد وجوب العدول كما لو كان الثاني أعلم أو طرأ النسيان على الأوّل ، أو عدل عن فتواه بعد العمل ، فمقتضى القاعدة الأوّلية بناءً على الطريقيّة عند العدول هو إعادة الأعمال التي أتى بها على طبق الفتوى الأُولى ، إلّا أن يقال بالإجماع على عدم الإعادة كما ادّعي ذلك ، وإلّا فلا بدّ من ملاحظة دليل كلّ مورد بالنسبة إلى الإجزاء وعدمه ، ففي الصلاة مثلاً يرجع إلى حديث لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة .. فإذا قيل باختصاصها بالنسيان فلا تشمل المورد فيلزمه الإعادة ، وإن قيل بعمومها للجاهل القصوري فلا يعيد حينئذٍ ، إلّا أن يقال : النقص في التمام في الركعتين الأخيرتين فهي من الموارد الخمسة ، فيعيد على كلّ حال عند العدول إلى الثاني.

الثالث العدول يلزمه التبعيض أو نقض الأعمال السابقة :

أشار إلى هذا الوجه المحقّق الأصفهاني بأنّ جواز العدول يستلزمه أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ ، ولا يمكن المساعدة على شيء منهما ، أمّا التبعيض في المسألة الكلّية ، أو نقض آثار الأعمال السابقة إذا قلّد المجتهد الثاني في المسألة الكلّية.

وأُجيب بأنّ مورد الفتوى هو المسألة الكلّية دون كلّ جزئيّ من جزئيّاته ، فلا يلزم فيه التبعيض ، نعم يلزم نقض الآثار المتقدّمة لمخالفتها لما هو الحجّة فعلاً على المكلّف ، والقاعدة الأوّلية تحكم بعدم الإجزاء ، إلّا إذا قام دليل على خلاف ذلك ، فهو شأن العدول الواجب.

٢٩٦

الرابع الاستصحاب :

فإنّ فتوى المجتهد الأوّل بأخذها والالتزام بها صارت حجّة فعليّة في حقّ العاميّ المكلّف ، فإن شكّ أنّ الأخذ والالتزام علّة لحجّية فتواه حدوثاً وبقاء حتّى يتعيّن البقاء ، أو حدوثاً فقط حتّى لا يتعيّن البقاء ، فمع الشكّ يستصحب حجّية فتواه الفعليّة فلا يجوز العدول إلى آخر فإنّه لا معنى لحكمين فعليين لشخص واحد.

وأُجيب بعدم تماميّة الاستصحاب بعدم بقاء الموضوع وعدم وحدته ، وبالمعارضة باستصحاب الحجّية التخييريّة الثابتة قبل الأخذ بفتوى أحدهما.

الخامس الاشتغال :

وهو العمدة في الوجوه التي يستدلّ على عدم جواز العدول ، وتقريبه على القول بالطريقيّة في الأمارة كما عند المشهور وهو المختار ، فإنّه بعد العلم الإجمالي بتنجّز الأحكام في الجملة ، ولا بدّ من تحصيل ما يؤمّن من العقاب بلزوم امتثالها أو ما جعله الشارع مبرءاً للذمّة تعبّداً ، والعمل بفتوى الأوّل مبرئ للذمّة مطلقاً سواء قلنا بالحجّية التخييريّة الشأنيّة ، أو الحجّية التعيّنية الفعليّة ، بخلاف العمل بفتوى الثاني ، فإنّه مشكوك فيه فيكون المقام من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بين مقطوع ومعلوم الحجّية وبين محتمل الحجّية ، والعقل من باب الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة يحكم بالأوّل.

وأمّا تقريبه على القول بالسببيّة والموضوعيّة في الأمارة ، فإنّه باعتبار أنّ الفتويين المتعارضين تدخلان في باب التزاحم ، والعقل يحكم أوّلاً بالجمع بينهما

٢٩٧

مهما أمكن ، وإلّا فيقدّم الأهمّ إن كان معلوماً أو محتملاً ، وإلّا فالتخيير بينهما ، وما نحن فيه فتوى المجتهد الأوّل محتمل الأهمية ولا يمكن الجمع فيقدّم.

وبهذا الوجه على التقريرين يقال بالاحتياط الوجوبي في عدم العدول من الحيّ إلى حيّ آخر عند تساويهما في الفضيلة ، ومع القول بتقليد الأعلم فإنّه يقال بوجوب العدول لو كان الثاني اعلم وعلم بذلك ، وإلّا فلا يجوز العدول فتوى ، أو من باب الاحتياط الوجوبي لوجود الخلاف كما هو المختار.

فرع :

لو أراد أن يعدل من الحيّ إلى الميّت بعد تقليده والعدول منه إلى الحيّ ، فالمسألة ذات صور :

بعد القول باشتراط الحياة في المجتهد كما سيأتي في شرائط المجتهد تفصيله فلا بدّ من المراجعة بعد موت المجتهد الأوّل إلى من كانت فتواه حجّة في حقّه من الأحياء ، وحينئذٍ إمّا أن يكون مساوياً له ، أو أعلم منه أو بالعكس. فإن كان الميّت أعلم واشترطنا الأعلميّة كما هو الأحوط فيجب البقاء عليه ، فيرجع إلى الميّت مرّةً أُخرى ، وإن كان الحيّ أعلم فيجب تقليده والبقاء عليه ولا يجوز العدول منه إلى الميّت مرّةً أُخرى ، وعند تساويهما ، فالأحوط عدم العدول أيضاً ، وحكمها حكم العدول من الحيّ إلى الحيّ.

وقيل بعدم جواز العدول من الحيّ إلى الميّت لوجهين :

الأوّل : كما في المستمسك للسيّد الحكيم (قدس‌سره) أنّه من التقليد الابتدائي الذي قام

٢٩٨

الإجماع على المنع عنه ، بناءً على الالتزام في التقليد ، وأمّا القول بالعمل ، ولم يعمل بفتوى الحيّ فإنّه يجوز له الرجوع فليس من الابتدائي.

وأُجيب بأنّه إنّما يتمّ لو لم يرجع إلى الأوّل من قبل أو لم يعمل بفتواه ، والمفروض فيمن قلّده من قبل بأيّ نحو من الأنحاء ، ولو بالمطابقة والعلم بها ، ثمّ رجع إلى الحيّ ، فلم يكن تقليده مرّة أُخرى ابتدائياً كما هو واضح.

الثاني : أنّ حجّية فتوى الميّت بعد العدول منه إلى الحيّ مشكوكة ، والأصل عدمها.

وأُجيب : إنّه مقتضى الأصل في المفروض هو استصحاب الحجّية ، إلّا أن يقال بالاشتغال ودوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فيقال بالاحتياط بعدم جواز العدول كما هو المختار.

آراء الأعلام :

في قوله : (لا يجوز له) ، قال آقا ضياء : إلّا إذا كان مساوياً أو أعلم ، وإلّا فلا بأس به بعد صدق الشكّ في بقاء أحكامه الظاهريّة.

وقال الخميني : على الأحوط.

وقال الخوانساري : تقدّم الكلام فيه.

وفي قوله : (إلى الميّت) ،

قال الحائري : على الأحوط.

٢٩٩

وقال كاشف الغطاء : حتّى لو كان الحيّ يرى جواز البقاء ، إذ العود يكون حينئذٍ كتقليد الميّت ابتداءً لمكان العدول.

وفي قوله : المسألة ١١ ـ (لا يجوز) ،

قال الشيرازي والگلپايگاني والحائري : على الأحوط.

وقال الفيروزآبادي : لا يبعد الجواز وإن كان أحوط.

وقال كاشف الغطاء : لا يبعد جواز العدول وكونه استمرارياً.

وفي قوله : (الثاني أعلم) ، قال آقا ضياء : أو مساوياً لكون التخيير استمرارياً.

وقال الجواهري : ولا يبعد الجواز في المساوي.

وقال الخميني : أو مساوياً.

وقال الخوانساري : لا وجه للرجوع إلى قول الأعلم مع مطابقة قول غير الأعلم مع الأعلم من الأموات.

٣٠٠