القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

(المسألة الثانية عشرة في العروة)

قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٢ : يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط ، ويجب الفحص عنه.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ٩):

في قوله : (يجب تقليد الأعلم) ، قال : لا يخلو عن شوب الإشكال ، والوجوه التي أُقيمت على لزومه من بناء العقلاء وأصالة التعيين والمقبولة وكلام عليّ (عليه‌السلام) في كتابه إلى الأشتر ، وأقربيّة قوله إلى الواقع وغيرها ، كلّها مدخولة ، وعلى فرض تسليم الاشتراط تشخيصه في كلّ المسائل من عوائص الدهر ومشكلاته ، ثمّ ما يذكره من الفروع الآتية مبنيّ على اشتراط الأعلميّة.

وفي قوله : (ويجب الفحص عنه) ، قال : هناك صور شتّى مختلفة الحكم بناءً على اشتراط الأعلميّة ، فإطلاق الحكم بالوجوب لا يخلو

٣٠١

عن إشكال.

__________________

أقول : اعتبار الأعلميّة في مرجع التقليد إمّا بمعنى انحصارها في شخص واحد في كلّ زمان ، أو اعتبارها عند التعارض في الفتوى بين الفقهاء ، والأوّل من فروع الإمامة فتكون الأعلميّة من مقوّمات الحجّية في الفتوى فيجب اتباعه حتّى على المجتهد غير الأعلم ، وهذا لم يكن المقصود من الأعلم في العبارة ، ولا في مقام التقليد ، وأمّا اعتبار الأعلميّة عند التعارض فهو المقصود للقول بالتخطأ في رأي المجتهد ، وأنّه من الأمارة الكاشفة عن الواقع ، ولهذا عند فقد الأعلم يرجع إلى غيره ، فلكلّ منهما كاشفيّة وطريقيّة ، إلّا أنّه حجّية المفضول شأنيّة ، وحجّية الفاضل فعليّة ، ولكلٍّ منهما كاشفيّة ذاتيّة ، فليس هما كالأصل والأمارة عند التعارض ، بل وزانهما وزان الخبرين المتعارضين.

ثمّ اختلف الأعلام في لزوم تقليد الأعلم وعدمه على أقوال :

فحكي عن الإرشاد والمعارج والنهاية والتهذيب والدروس والقواعد والذكرى والجعفريّة وجامع المقاصد وتمهيد القواعد والمعالم والزبدة القول بوجوب تقليد الأعلم.

وفي رسالة تقليد الشيخ الأعظم : المشهور على تعيّن العمل بقول الأعلم ، بل لم يحك الخلاف فيه عن معروف. وفي كلام المحقّق الثاني التصريح بدعوى الإجماع عليه ، وظاهر الذريعة : كونه من مسلّمات الشيعة ، وعن الشهيد الثاني أنّه لم يعلم فيه خلافاً.

٣٠٢

وعن بعض المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين التخيير بين الفاضل والمفضول ، كما حكي استظهاره من صاحب الفصول ، وذهب إليه سيّدنا الأُستاذ النجفي المرعشي (قدس‌سره).

وهناك من ذهب إلى التفصيل : كمن أوجب تقليد الأعلم عند العلم بمخالفة فتواه لفتوى غيره تفصيلاً أو إجمالاً في المسائل المبتلى بها. ومن احتاط وجوباً تقليد الأعلم مطلقاً مع الإمكان وأوجب الفحص عنه. ومنهم من أوجب الرجوع إليه لو لم يكن قول غيره موافقاً للاحتياط.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه المسألة تبحث تارةً باعتبار عقل العامي المرتكز أي العقل الفطري ، وأُخرى باعتبار نظر المجتهد والفقيه بحسب ما يستنبطه من الأدلّة الشرعيّة.

وباعتبار عقل العامي كما يدعوه إلى أصل التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، فإنّه يدعوه إلى تقليد الأعلم لا سيّما عند المعارضة والاختلاف بينهم ، فإنّه بحسب فطرته يرى أنّ رأي الأعلم أقرب للواقع ، فلا طريق له للمؤمّن من العقاب بعد علمه الإجمالي بالتكاليف وعدم وجوب الاحتياط عليه إلّا تقليد الأعلم ، للاشتغال ودوران الأمر بين التعيين والتخيير ، ويصحّ منه تقليد غير الأعلم لو رجع إلى الأعلم ، وكانت فتواه جواز تقليد غير الأعلم ، فتدبّر.

وأمّا نظر المجتهد فلما علم اختلاف الأعلام في تقليد الأعلم وعدمه ، لا بدّ من عرض الأقوال والأدلّة ثمّ بيان المختار ، كما هو الديدن ، إلّا أنّه من باب المقدّمة يؤسس أصلاً يرجع إليه عند عدم تماميّة الأدلّة والأقوال.

٣٠٣

فنقول : لمّا كان المختار في أماريّة قول المجتهد هو الطريقيّة كما هو المشهور فتأسيس الأصل عليه تارةً يكون بنحو ينتج عدم لزوم تقليد الأعلم ، وأُخرى لزومه عقلاً.

بيان ذلك :

فيما لا يوجب تقليد الأعلم ، بأنّه لو كان مجتهدان متساويان في العلم ولا ثالث لهما ، فإنّ العقل يحكم بعد وجوب الاحتياط أو عدم جوازه فيتخيّر العامي بينهما ، وبعد الأخذ لو صار الآخر أعلم فيشكّ في بقاء التخيير فيستصحب ، وبعدم الفصل يتمّ في غير المفروض ، واستصحاب التخيير حاكم على دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وأُجيب بعدم وحدة الموضوع في القضيّتين ، ولا ينفع الاستصحاب الكلّي القسم الثالث لعدم الحكم الشرعي أو موضوعاً له في المقام ، فإنّ الجمع بين الحكم أمر انتزاعي اختراعي ، كما إنّه معارض باستصحاب آخر فيما لو انحصر أوّلاً التقليد في واحد لكونه أعلم ، فوصل الآخر إلى مرتبته فيستصحب تقليد الأعلم ويتمّ في غيره بالقول بعدم الفصل ، بل لا معنى للتمسّك بعدم الفصل في المسألة العقليّة ، فلا يتمّ هذا الأصل.

وأمّا فيما يوجب تقليد الأعلم ، فبعد العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة ولا بدّ من الخروج عن عهدتها تفصيلاً أو إجمالاً ، ولا يلزم الاحتياط ، بل ربما يقال بعدم جوازه للزوم اختلال النظام والعسر والحرج ، فيرجع الجاهل إلى العالم ، وعند دوران الأمر في الأعلم بين التعيين والتخيير ، فإنّ العقل الحاكم بالبراءة اليقينيّة

٣٠٤

للاشتغال اليقيني يحكم بالتعيين ، فالقدر المتيقّن من الخروج عن حرمة العمل بالظنّ هو العمل بفتوى الأعلم وأمّا فتوى غيره فمشكوك فيه.

كما لا بدّ للمكلّف بعد اشتغال ذمّته بالتكاليف أن يأتي بما يصلح للاحتجاج به ، ويدور أمره بين حجّية الأعلم وغيره ، والاحتجاج بالأوّل معلوم دون الثاني فهو مشكوك فيه ولهذا يقدّم الأوّل فيلزم تقليد الأعلم باعتبار هذا الأصل ، ولمثل هذا لو لم تتمّ أدلّة الطرفين نقول بالاحتياط الوجوبي في تقليد الأعلم كما هو المختار.

وأمّا أدلّة القائلين بجواز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم :

فإنّه يستدلّ على جواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الفاضل بوجوه :

الأوّل الآيات الكريمة :

كقوله تعالى :

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

فأهل الذكر يختلفون في العلم والفهم ، والمسؤول إمّا جميعهم ، أو واحد المعيّن منهم أو غير المعيّن ، والأوّل مقطوع البطلان ، والآخران غير مراد ، فيلزم أن يكون المراد السؤال عمّن شاؤوا من أهل العلم ، فإطلاق الآية يعمّ المفضول مع وجود الفاضل.

وأُجيب باختصاصها ببني إسرائيل أو الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) ، أو موردها النبوّة دون الفتاوى ، وأنّها تدلّ على الرجوع من دون ملاحظة اختلافهم في الفضيلة كما هو المفروض مع تعارض الأفضل مع الفاضل ، فلا إطلاق فيها حتّى تشمل المخالفة في الفتوى والفضيلة.

٣٠٥

وكقوله تعالى في آية النفر :

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).

فيدلّ على وجوب التحذّر العملي عند إنذار المنذر مطلقاً أعمّ من أن يكون أعلم منه.

وأُجيب : بأنّ الظاهر منها هو التحذّر النفساني الحاصل بالمواعظ والنصائح دون نقل الفتاوى والإفتاء. ويظهر ممّا ذكر ضعف الاستدلال بآيتي الكتمان والشهادة أيضاً كما هو مذكور في المطوّلات.

الثاني الروايات الشريفة :

كمقبولة عمر بن حنظلة ، رواها المشايخ الثلاثة والشاهد في قوله : (من كان منكم فمن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً). فدلّت على نفوذ حكم الحاكم ، ولازمه نفوذ فتواه ، كما إطلاقها يشمل اعتبار الحكم في الشبهات الحكميّة ، ولا خصوصيّة في باب القضاء ، ومقتضى الإطلاق شموله لمفضول أيضاً.

وأُورد عليه : بضعف السند لعدم ورود مدح وقدح في عمر بن حنظلة.

وأُجيب كما مرّ بالتفصيل بشواهد تدلّ على مدح الرجل وقبول روايته إن لم تكن مصحّحة كما عند البعض من المعاصرين ، فلا غبار عليها من حيث السند ، نعم ربما يقع النقاش في دلالتها ، فإنّها تدلّ على نفوذ حكم الحاكم ونفوذ فتواه ، وتعميمه إلى فتوى الفقيه مشكل ، وليس المورد من باب إلغاء الخصوصيّة لاحتمالها باعتبار دخالة خصوصيّة معتدّة بها عرفاً كقول الخصومة والنزاع في

٣٠٦

ما نحن فيه ولم تكن ذلك في الفقيه والفتوى والإفتاء ، وكذلك عدم الأولويّة في الإفتاء فلا يتمسّك بالمقبولة في مسألة أصل التقليد وكذلك الأعلميّة ، فافهم.

ومنها : التوقيع المبارك (أمّا الحوادث الواقعة) والحوادث بمناسبة الحكم والموضوع هي المرتبطة بالدين وهي تعمّ الرواية وما يفهم منها ، فتعمّ الفتوى ، ومقتضى الإطلاق عموم المراجعة فيعمّ المفضول مع وجود الفاضل.

وأُجيب بضعف السند لإسحاق بن يعقوب ، ولكنّ الظاهر أنّه أخ محمّد بن يعقوب الكليني ، ويظهر من سلام الإمام (عليه‌السلام) إيّاه في آخر التوقيع جلالته كما جاء في التوقيع في إكمال الدين للصدوق والغيبة للشيخ الطوسي والاحتجاج للطبرسي ، فنقبل السند إلّا أنّه وقع نقاش في الدلالة ، بأنّ المقصود باب القضاء دون الإفتاء ، ويدفع بالأصل ، والتعميم للمفضول عند المخالفة مشكل ، فإنّها تدلّ على أصل الرجوع ، فلا إطلاق.

ومنها : ما ورد في تفسير العسكري (عليه‌السلام) (وأمّا من كان من الفقهاء ..) ، فإطلاقها يقتضي الرجوع مطلقاً وحملها على الاتفاق في الفتوى حمل على الفرد النادر.

وأُجيب : بضعف السند واختصاصها بمسألة النبوّة وتقليد اليهود ، فراجع.

وهناك روايات اخرى كلّها قابلة للنقاش سنداً ودلالة ، فلا نطيل.

الثالث لزوم العسر والحرج في تشخيص مفهوم الأعلم ومصداقه ، وتحصيل فتواه.

وأُجيب : عدم لزوم الحرج في بيان المراحل الثلاثة لمعرفة المفهوم وتطبيقه

٣٠٧

على المصداق ، الشياع أو البيّنة أو العلم الوجداني ، كما يتيسّر جميع فتواه في رسالته العمليّة.

الرابع سيرة المتشرّعة في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) إلى يومنا هذا ولو بالاستصحاب القهقرائي ، فإنّهم يرجعون إلى الفقيه من دون الفحص عن الأعلم.

وأُجيب : إنّها ثابتة في الجملة ، فهي أخصّ من المدّعى ، فإنّها ثابتة مع عدم العلم بالاختلاف في الفتوى ، وأمّا مع العلم بالاختلاف فادّعاء السيرة من الصعب الصعاب.

الخامس لو وجب الرجوع إلى الأعلم للزم عدم صحّة الرجوع إلى أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) مع حضورهم.

وأُجيب : بأنّه لا يقاس بهم ، ولا اعتبار لقول الأصحاب مع العلم باختلاف مع قول الأئمة (عليهم‌السلام) ، فحجّية فتواهم إنّما هي في طول قول المعصوم (عليه‌السلام) لا في عرضه حتّى تقع المزاحمة.

هذا وممّا ذكرنا ظهر ضعف ما يستدلّ على جواز تقليد غير الأعلم مع العلم بالمخالفة.

أدلّة وجوب تقليد الأعلم

وقد يستدلّ على وجوب تقليد الأعلم كما مرّ تفصيله ونشير إلى ذلك إجمالاً تعميماً للفائدة بوجوه :

٣٠٨

الأوّل بناء العقلاء ، بناءً على إمضائه شرعاً ولو بعدم الردع ، إلّا أنّه يرد عليه أنّه لا يدلّ على تقليد الأعلم مطلقاً ، بل عند اختلافهما ، وأن يكون فتوى غير الأعلم مخالفاً للاحتياط ، وإلّا فيرجع إليه إن كان موافقاً للاحتياط ، وفي صورة توافقهما في الفتيا يرجع إلى أيّهما شاء كما هو المتعارف من رجوع الناس إلى بيوت الفقهاء العظام والمراجع الكرام رحم الله الماضين وحفظ الباقين.

الثاني الإجماع ، كما حكي عن المحقّق الثاني وصاحب المعالم وعن السيّد المرتضى أنّه من مسلّمات الشيعة وإن كان في هذه النسبة تأمّل إلّا أنّه خالف الإجماع جماعة من الأصحاب ، كما يحتمل قويّاً أنّه من الإجماع المدركي فلا يتعبّد به ، لعدم كاشفيّته لقول المعصوم (عليه‌السلام).

الثالث الروايات الشريفة ، منها : كذيل مقبولة عمر بن حنظلة عند اختلاف الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم‌السلام) بأنّه يؤخذ بأعدلهما وأفقههما وأصدقهما وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، وظاهر شمولها للشبهات الحكميّة كذلك ، ومن ثمّ يتمّ نفوذ فتوى الحاكم أيضاً ، وبعد إلغاء الخصوصيّة باعتبار ورودها في باب الميراث والدين يستفاد أنّ فتوى الأعلم بما هو فتواه يقدّم على غيره.

لكن نوقش في السند والدلالة كما مرّ تفصيل ذلك ، بأنّ الجمع كان بالواو ولا بأو ، فلا بدّ من اجتماع الأُمور الأربعة ، كما يستفاد نفوذ حكم الأعلم ولا يعني عدم نفوذ حكم الغير ، ولا ملازمة في البين ، كما يصعب إلغاء الخصوصيّة بين باب القضاء الذي هو لرفع الخصومات والمنازعات توسعة على الناس ، وبين باب

٣٠٩

الإفتاء. فلا وحدة ملاك بينهما ، ثمّ بناءً على تماميّة إلغاء الخصوصيّة فإنّما يؤخذ بالأفقه في البلد الواحد كما كان في الحَكمين ، والحال فما يؤخذ في الفتوى باعتبار الأفقه والأعلم في كلّ البلاد الإسلاميّة ، وهذا فرق آخر بين البابين ، فتأمّل.

ومنها : عن شيخنا الصدوق عليه الرحمة بإسناده عن داود بن الحصين عن مولانا الإمام الصادق (عليه‌السلام) في رجلين اتفقا على عدلين بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، فاختلفا على قول أيّهما يمضي الحكم ، قال (عليه‌السلام) : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر.

وكذلك ما رواه الشيخ بإسناده.

ويرد عليهما ما ورد على المقبولة سنداً ودلالة.

ومنها : ما جاء في عهد مالك الأشتر لأمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) : (ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم .. إلى أن قال : وأفقههم في الشبهات وآخذهم بالحجج) ، فأمره (عليه‌السلام) أن يأخذ قول الأفقه سواء في القضاء أو الإفتاء.

ونوقش في الدلالة : إنّه من شرط الكمال لا من شروط صحّة القضاء لعدم إمكان ذلك عادة ، كما إنّه يستفاد منه الأعلميّة الإضافيّة بالنسبة إلى رعيّة الوالي المعين له ، وهو غير الأعلمية المطلقة في الفتوى التي نبحث عنها. كما إنّ التعدّي من باب القضاء إلى باب الإفتاء دونه خرط القتاد ، كما يظهر أنّ ذلك من باب النائب الخاصّ فإنّه يتّصف بمثل هذه الصفات دون المنصوب العامّ ، إلّا أن يقال بوحدة الملاك وتنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّة ، ثمّ الأفضليّة غير مساوقة للأعلميّة لصدقها

٣١٠

على مطلق المزيّة ولو من جهة الأعدليّة وما شابه ذلك.

ومنها : ما عن شيخنا المفيد (قدس‌سره) بسنده عنه (عليه‌السلام) : (إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها ، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة) ، فإنّه يدلّ على عدم جواز الإفتاء مع وجود الأعلم ، فلا يجوز إليه الرجوع حينئذٍ ، فيلزم تقليد الأعلم.

ونوقش بضعف السند للإرسال ، كما إنّ المراد الرئاسة المنافسة للخلافة الحقّة التي لا تصلح إلّا لأهلها ، وإلّا فالرئاسة من دون الخلافة لا يشترط فيها الأعلميّة ، كما أنّ الظاهر من الحكم فيه هو الإشارة إلى موضوع أخلاقي وتربوي ، لا أن يستفاد منه الحكم الفقهي ، فتأمّل.

وهنا روايات اخرى يرد عليها سنداً ودلالة لم نتعرّض لها طلباً للاختصار.

الرابع حكم العقل ، بأنّ رأي الأعلم أقرب للواقع ، وكلّما كان كذلك فيجب اتّباعه ، وأُورد عليه في الصغرى بعدم الدوام فيها لموافقة غير الأعلم مع فتوى الميّت الأعلم منهما ، أو الحيّ غير الواجد لشرائط التقليد ، كما يرد النقاش في الكبرى بأنّ حكم العقل تارة يكون قطعياً فيؤوّل النقل معه ، وأُخرى في مقام الامتثال ، ويجوز للشارع أن يجعل بدلاً منه ، كما في الأمارات الشرعيّة ، ومع إمكان التعبّد بما يخالف رأي الأعلم فإنّه لا تتمّ الكبرى.

ثمّ للمحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) توجيه آخر لحكم العقل : بأنّ فتوى الأعلم مقدّم على غيره باعتبار أنّه أكثر إحاطة على المدارك الفقهيّة والأُصوليّة ، فيكون أكثر حجّية ، فهو بالنسبة إلى المفضول كنسبة العالم إلى الجاهل.

٣١١

وأُجيب : إنّ ذلك عبارة أُخرى عن الأقربيّة للواقع ويرد عليه ما ورد عليها ، كما أنّ الاختلاف في الأذواق الفقهيّة لا في أصل الاستنباط وكيفيّته.

وخلاصة الكلام : إنّ تقليد الأعلم إنّما يجب احتياطاً في بعض الصور ، وكذلك لزوم الفحص العقلي عنه إنّما يكون في بعض الصور لا مطلقاً وهو المختار ، كما يظهر من عبارة المصنّف المحقّق السيّد اليزدي (قدس‌سره) ومتّعنا الله سبحانه بأنفاسه القدسيّة.

آراء الأعلام :

في قوله : (تقليد الأعلم) ،

قال الحائري : إذا علم الاختلاف في الفتوى.

وقال الفيروزآبادي : يحتاج إلى تفصيل وبيان من حيث المعنى المراد في المقام وموارد الاستثناء.

وفي قوله : (على الأحوط) ،

قال الأصفهاني : على الأقوى.

وقال آل ياسين : وإن كان الأقوى جواز تقليد المفضول مطلقاً لا سيّما مع عدم العلم بمخالفته لفتوى الأفضل فضلاً عن صورة الموافقة ، وعليه فيسقط الكلام في الفروع الآتية المتعلّقة بتقليد الأعلم.

وقال البروجردي والجواهري والحكيم والنائيني : بل الأقوى.

وقال الخوئي : بل وجوبه مع العلم بالمخالفة ولو إجمالاً فيما تعمّ به البلوى هو الأظهر.

٣١٢

وقال الشيرازي : في كونه أحوط مطلقاً ، حتّى فيما إذا تخالفا في الفتوى ولم تكن فتوى الأعلم موافقة للاحتياط ، بالإضافة إلى فتوى غيره نظر بل منع.

وقال الگلپايگاني : مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم تفصيلاً أو إجمالاً في المسائل المبتلى بها.

وفي قوله : (يجب الفحص عنه) ،

قال الشيرازي : إذا علم بوجوده ومخالفته مع غيره فيما هو محلّ الابتلاء وعدم موافقة فتوى غيره للاحتياط بالإضافة إليه.

وقال الفيروزآبادي : في بعض الموارد.

٣١٣

(المسألة التاسعة في المنهاج)

قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):

٩ ـ وإذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما ، والأقرب الأخذ بأحوط القولين إذا كان أحدهما كذلك ، وإن كان صاحبه غير أورع (١).

(المسألة الثالثة عشرة في العروة)

قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):

مسألة ١٣ : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما ، إلّا إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع.

وجاء في الغاية القصوى (١ : ١٠):

في قوله : (يتخيّر) ، قال : حيث لا يعلم مخالفتهما في الفتوى ،

__________________

(١) منهاج المؤمنين : ٦.

٣١٤

وإلّا فالأقرب الأخذ بأحوط القولين إن كان أحدهما كذلك وإن كان صاحبه غير أورع وإلّا فالتخيير كما أفاد.

وفي قوله : (فيختار) ، قال : على الأحوط الأولى.

وفي قوله : (الأورع) ، قال : في مقام العمل بالتجنّب عن المشتبهات أو الأخذ بالاحتياط في الخلافيّات لا في مقام الاستنباط بأن يكون منفقاً وسعه باذلاً جهده في البحث والتنقيب عن مستند الأحكام ، فإنّه لعلّه آئل إلى الأعلميّة المفروض عدمها في صورة التساوي.

__________________

أقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : ما حكم ما لو كان المجتهدان متساويين في الفضيلة أي العلميّة؟

الثاني : ما حكم ما لو كان أحدهما يمتاز بالأورعيّة؟

أمّا المقام الأوّل :

فالمكلّف الملتفت إمّا أن يعلم توافقهما في الفتوى ، أو يعلم تخالفهما فيها بالإجمال أو التفصيل أو يحتمل التخالف ، فإنّ المسألة ذات صور :

الاولى : لو علم بتوافقهما في الفتوى مع تساويهما في الفضيلة ، فالظاهر جواز تقليد أيّهما شاء ، كما يجوز تقليدهما معاً.

الثانية : مع احتمال تخالفهما في الفتوى كذلك يكون الأمر فإنّه إذا جاز تقليد

٣١٥

غير الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة مع الأعلم فبالأولويّة يجوز تقليد أيّهما شاء ، كما يشمل إطلاق أدلّة حجّية الفتوى لكلّ من المجتهدين المتساويين.

الثالثة : وهي موضع الخلاف وذلك فيما عُلم باختلافهما في الفتوى بعلم تفصيلي أو إجمالي ، فقد ذهب المشهور إلى التخيير ، وذهب بعض إلى الأخذ بأحوط القولين ، وذهب آخر إلى الأخذ بما هو أحوط.

ثمّ من الأعلام من ألحق هذه المسألة اختلاف الفتويين بمسألة اختلاف الخبرين. وفي بحث التعادل والترجيح من علم أُصول الفقه ذهب جمع إلى التساقط بينهما باعتبار الأصل الأوّلي من حكم العقل وبناء العقلاء ، فالمفروض عدم كاشفيّتهما معاً بالفعل للواقع للتكاذب بينهما باعتبار تعارضهما ، فالواقع ليس إلّا واحد منهما ، ولمّا لم يكن أحدهما مرجّح على الآخر ، وتقديم أحدهما على الآخر من دون مرجّح يلزمه الترجيح بلا مرجّح وهو ممنوع فيلزم تساقطهما عن الاعتبار ، فالأصل الأوّلي في الخبرين المتعارضين هو التساقط وعدم حجّيتهما.

إلّا أنّه يمكن التعبّد بأحدهما ، فإن كان دليل على الأخذ بأحدهما لا على التعيّن بالتخيير الابتدائي فإنّه يؤخذ به ، وقد ورد في الأخبار العلاجيّة ، أنّه بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك القول.

فقيل : باب اختلاف الفتويين باب اختلاف الخبرين ، إمّا لكون الفتوى بالدقّة من الخبر أو خلاصة الخبر ، أو بإلغاء خصوصيّة الخبريّة ، أو لإحراز المناط القطعي أنّهما من باب واحد.

وأُجيب : لم يتمّ ذلك بالدليل ، ويبقى الشكّ في الإلحاق ، كما أنّ العرف لا يفهم

٣١٦

كونهما الخبر والفتوى من باب واحد ، كما بينهما فرق واضح ولا مجال لإحراز المناط القطعي إلّا بشقّ الأنفس.

وربما يستدلّ على التخيير حتّى مع العلم باختلافهما وتعارضهما بإطلاق الأدلّة الدالّة على حجّية فتوى المجتهد ، إلّا أنّه يردّه أنّ الإطلاق لا يعمّ المتعارضين ولا أحدهما المعيّن للزوم الترجيح بلا مرجّح والجمع بين الضدّين أو النقيضين.

وقد يستدلّ على التخيير ببناء العقلاء وسيرة المتشرّعة بعدم توقّفهم بأخذ فتوى أحد المجتهدين المتساويين ، إلّا أنّه يدفعه بعدم تحقّق ذلك فإنّهم يحتاطون في اختلاف الأطباء مع تساويهم في الطبّ ، ولم تثبت السيرة المتشرّعة ، كما لم يثبت اتّصالها بزمن المعصوم (عليه‌السلام) ، فربما نشأت من فتوى المفتين.

ولا يستدلّ بالإجماع لحدوث المسألة ولم يتعرّض لها القدماء في عبائرهم ، ويحتمل أن يكون مدركيّاً ، وأنّه من المنقول بخبر الواحد والأصل عدم حجّيته.

والمختار أنّه يتخيّر بين المجتهدين المتساويين إذا لم يعلم مخالفتهما في الفتوى فيما هو محلّ الابتلاء ، وإن علم بالمخالفة فالأحوط الأخذ بأحوط القولين مع التمكّن ، وإلّا تخيّر في مطابقة العمل على إحدى الفتويين.

المقام الثاني :

أمّا المقام الثاني في تساوي المجتهدين في الفضيلة مع كون أحدهما أورع من الآخر ، فالكلام فيه تارة من جهة معنى الأورع ، وأُخرى من جهة حكم المسألة.

فقيل : المراد من الأورع هو الأتقى ومن كان أكثر ورعاً لزهده وتقدّسه

٣١٧

واجتنابه عن المشتبهات فهو الأورع في مقام العمل.

وقيل : المراد منه في مقام الاستنباط إمّا بمعنى أنّ فحص أحدهما عن الدليل في استنباطه أكثر من المقدار المعتبر في الفحص عنه فيبذل جهده في الإحاطة بمدارك الأحكام ومسانيدها ، وإمّا بمعنى عدم الإفتاء في المسائل الخلافية واحتياطه فيها دون الآخر.

ثمّ حكى عن النهاية والتهذيب والذكرى والدروس والجعفرية والمقاصد العلية والمسالك وغيرها ترجيح الأورع من المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، واستظهر الشيخ الأنصاري الشهرة على ذلك ، وحكى عن المحقّق الثاني الإجماع عليه.

قال الشهيد الثاني : إذا اجتمع اثنان فأكثر ممّن يجوز استفتاؤهم فإن اتّفقوا في الفتوى أخذ بها ، وإن اختلفوا وجب عليه الرجوع إلى الأعلم الأتقى ، فإن اختلفوا في الموضعين رجع إلى أعلم الورعين وأورع العالمين ، فإن تعارض الأعلم والأورع قلّد الأعلم ، فإن جهل الحال أو تساووا في الوصف تخيّر وإن بعد الفرض ، وربما قيل بالتخيير مطلقاً لاشتراك الجميع في الأهليّة وهو قول أكثر العامّة ، ولا نعلم به قائلاً منّا ، بل المنصوص عندنا هو الأوّل (١).

ولا يخفى أنّ الكلام في المسارة تارةً باعتبار عقل العامي من غير تقليد في أورع المجتهدين وأُخرى باعتبار نظر الفقيه المجتهد بحسب ما يستنبطه من الأدلّة.

__________________

(١) الدرّ النضيد ١ : ٣٢٨ ، عن منية المريد : ٣٠٤.

٣١٨

فالأوّل ما يدركه عقل العامي ابتداءً هو الرجوع إلى الأورع بل إلى كلّ من له مزيّة وخصيصة مرجّحة ذاتاً أو عرضاً.

وأمّا الثاني فالمسألة ذات صور :

فتارةً يعلم المجتهد موافقة أحدهما للآخر في الفتوى ، فلا تكون الأورعيّة مرجّحة حينئذٍ وأُخرى لا يعلم مخالفته للآخر ، فكذلك لا ترجيح للأورعيّة لقيام السيرة على ذلك. وإن علم بالمخالفة فالمشهور تقديم الأورع ، واستدلّ بوجوه :

الأوّل : الإجماع ، وهو كما ترى من طرح المسألة عند المتأخّرين ، وأنّه ربما يكون من المدركي الذي لا حجّية فيه بنفسه ، كما أنّه من المنقول الذي هو من الظنّ المطلق الذي ليس بحجّة.

الثاني : الأخبار ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، قال (عليه‌السلام) : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما وأورعهما ، ولا يلتفت إلى الآخر.

ونحوها : رواية داود بن حصين ، قال (عليه‌السلام) : (ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفّذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر).

ومنها : المرسل المروي أنّه (لا يحلّ الفتيا إلّا لمن كان أتبع أهل زمانه برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)).

وأُجيب : أنّها وردت في القضاء ، وإلحاقه الإفتاء به دونه خرط القتاد ، لخصوصيّة القضاء باعتبار رفع الخصومة المطلوبة شرعاً كما مرّ سابقاً ، والمرجّح في القضاء لا يلزمه أن يكون مرجّحاً في باب الإفتاء والتقليد ، كما أنّ بعض الروايات ضعيفة السند ، كما أنّ مفروضها ترجيح الأورعيّة في أصل التقليد لا في مورد

٣١٩

التعارض.

الثالث : كون فتوى الأورع أقرب إلى الواقع من غيره. وقد مرّ جوابه.

الرابع : الأصل العقلي من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، ويقدّم الأوّل.

ففتوى الأورع مقطوعة الحجّية بخلاف غيره مع وجود الأورع فهو مشكوك الحجّية ، والشكّ في الحجّية يساوق عدمها ، فالأورعيّة مرجّحة لا محالة. تمسّك بهذا سيّدنا الحكيم (قدس‌سره).

وأُجيب : أنّه لا مدخليّة للأورعيّة في مقام العمل في زيادة المناط في حجّية الفتوى ، فلا يكاد تجري أصالة التعيين عند الدوران بينه وبين غيره ، إلّا فيما احتمل دخل الخصوصيّة المشكوكة في الكاشفيّة والحجّية ، لا في مطلق الخصوصيّة ، وإلّا يلزم الأخذ بفتوى الأسنّ أو الأكثر حفظاً وذاكرةً من الآخر أو كونه هاشمياً وهو كما ترى.

نعم لا يبعد القول بترجيح الأورعيّة في مقام الاستنباط ، فربما الأورعيّة لها دخل في قوّة الاستنباط.

فالمختار من الأولى ترجيح الأورع في مقام العمل على غيره ، وأمّا الأورع في مقام الاستنباط فالأحوط لزوماً تقديمه ، والله العالم بحقائق الأُمور.

آراء الأعلام :

في قوله : (يتخيّر بينهما) ، قال السيّد الخوئي : مع عدم العلم بالمخالفة ، وإلّا فيأخذ بأحوط القولين ، ولو فيما كان

٣٢٠