القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

قال الشيخ الأعظم شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) : يعتبر في المجتهد أُمور : البلوغ والعقل والإيمان ولا إشكال في اعتبار الثلاثة.

فقوله : لا إشكال ، يستفاد منه الإجماع والتسالم. كما أشار إلى ذلك المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) بعد ذكر شرائط المفتي ومنها البلوغ قال : ولو لا التسالم على الكلّ من الكلّ لأمكن المناقشة في الكلّ.

هذا ومثل هذه العبائر لا تدلّ على الإجماع التعبّدي الكاشف عن قول المعصوم (عليه‌السلام) ، بل ربما يكون من الإجماع المدركي المعتمد على الوجوه المذكورة في المقام ، وهذا يعني إنّا نرجع إليها فإن قلنا بها فندخل ضمن المتّفقين والمجمعين ، وإلّا فلا ، فتدبّر فإنّ الإجماع كما ترى قابل للنقاش في أصله وكيفيّته وحجّيته.

الثاني : من البعيد ان يرضى الشارع بتصدّي الصبي للمرجعية العظمى ، فإنّه ربما لا يرضى لمن كان في أوّل بلوغه ، بل ربما يحبّذ في من يرجع إليه أن يكون شيخاً كما يستفاد ذلك من قوله (عليه‌السلام) (اصمدا في دينكما على كلّ مسنٍّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا) (١).

وأُجيب عنه : إنّه مجرّد استبعاد ، ولم يكن ذلك دليلاً يعتمد عليه ، وليس أمر الفتوى من حيث المنصب بأعظم من النبوّة والإمامة.

فاستبعاد أن يكون المقلّد للمسلمين صبيّاً مراهقاً إذا كان واحداً لسائر الشرائط ممّا لا وقع له ، كيف؟ ومن الأنبياء كعيسى ويحيى والأوصياء كالإمام

__________________

(١) الوسائل : باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

٤٠١

الجواد والإمام الهادي (عليهما‌السلام) وصاحب الزمان (عليه‌السلام) من بلغ مرتبة النبوّة أو الإمامة فلا تكون منافية للمرجعية أبداً ، ولم نستفد من مذاق الشارع أنّ تصدّي غير البالغ للإفتاء والمرجعيّة أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدّسة (١).

ولكن قياس المرجع بالنبيّ والوصيّ قياس مع الفارق لوجود العصمة فيهما واشتراط العدالة في المرجع ، وبين البابين بون شاسع. فمن لم يكن عادلاً موثّقاً غير معرّض للاتهام والخطأ والزلل كيف يفوّض إليه أمر المسلمين زعامتهم ويكون على عاتقه مسؤولية أعمالهم وأفعالهم؟

الثالث : كون الصبيّ محجوراً في تصرّف أمواله ، فكيف يكون حافظاً لأموال القصّر مجهول المالك في الأُمور الحسبية ، فإنّ محجوريّته تنافي المرجعية للفتوى.

وأُجيب عنه : إنّ المراد هو حجّية فتواه ولا ينافي ذلك محجوريّته في أمواله ، ففرق بين باب المرجعية في الفتوى ، والمرجعية في حفظ الأموال وصرفها في مواردها. فإنّه قياس مع الفارق.

الرابع : ما ورد في عمد الصبي بأنّه خطأ ، فليزم تخطئة أعماله وفتواه.

وأُجيب عنه : أخبار عمد الصبي خطأ أجنبيّ عمّا نحن فيه ، فإنّها ناظرة إلى أنّ ديته على عاقلته لا أنّه في نفس الأمر والواقع خطأ ، وإلّا يلزم في تكلّمه عمداً في صلاته بناءً على مشروعية صلاته أن لا تبطل صلاته ، وأنّى لكم بذلك.

__________________

(١) التنقيح ١ : ٢١٥.

٤٠٢

كما أنّه لا إطلاق في تلك الأخبار حتّى تعمّ آراءه وفتاواه ، بل ناظرة إلى أفعاله وتروكه.

الخامس : ما ورد في رفع قلم التكليف عنه حتّى يحتلم ، ومن كان كذلك كيف يتصدّى أمر المرجعية ويصحّ تقليده.

وأُجيب عنه : إنّ الظاهر من الرفع ، رفع قلم المؤاخذة في أفعاله وتروكه ، ولا يقتضي ذلك الحكم ببطلان أقواله وآرائه.

وخلاصة الكلام : إن تمّ الإجماع التعبّدي على اعتبار البلوغ فهو ، وإلّا فإنّ الوجوه الأُخرى كلّها قابلة للخدشة والنقاش ، كما إنّ السيرة العقلائية وبنائهم على عدم الفرق بين البالغ وغيره في رجوعهم إلى الخبير في علم وصنعة. فيلزم القول بعدم اشتراط البلوغ ، إلّا أنّه مع ادّعاء تسالم الأصحاب وذهاب المشهور إليه وعظمة مسؤولية المرجعية وأنّه يفهم من مذاق الشارع أن لا تفوّض إلى الصبيّ فإنّه معرّض للاتهام. فالأحوط وجوباً اعتباره.

ثمّ اعتبار بلوغ المجتهد أو مرجع التقليد إنّما هو باعتبار زمان العمل بفتياه ، أمّا إذا استنبط الأحكام قبل البلوغ ولم يعدل عنها بعد البلوغ ، فإنّه يجوز الرجوع إليه.

قال شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) : الظاهر أنّ الاجتهاد في حال الصغر أو عدم الإيمان وكذا الإفتاء حالهما لا يضرّ إذا كان في زمان العمل بالغاً مؤمناً) (١).

__________________

(١) رسالة التقليد : ٥٩.

٤٠٣

الشرط الثاني العقل :

يشترط العقل في المجتهد ومرجع التقليد ، ويدلّ عليه بناء العقلاء ، فإنّه لا يوثق بقول المجنون ولا نعتمد عليه ، كما أنّ المرتكز عند المتشرّعة هو عدم تسليم أُمور الشيعة والتشيّع بيد مجنون ، فإنّه ممّا يوجب وهن المذهب.

كما يدلّ على اعتباره جميع الأدلّة من الآيات والروايات وحكم العقل ، فإنّ عنوان الفقيه والعارف بالأحكام والناظر في الحلال والحرام والعالم وغيرها من العناوين لا تنطبق على من كان مجنوناً ولا عقل له ، وإنّما يرجع الجاهل إلى العالم بشرط أن يكون عاقلاً. كما عرفت من شيخنا الأعظم تسالم الأصحاب على اعتباره ، وأنّه ممّا لا خلاف فيه.

وقيل : تسالم الفقهاء والأصحاب لا يدلّ على إثبات هذه الشروط من الناحية العلمية والصناعية ، بل التسالم في مقام الفتوى ناشئ من إيثار جانب الاحتياط والأخذ بالقدر المتيقّن ، وليس لأنّ الدليل دلّ على اشتراطها في مرجع التقليد.

ومهما يكن الأمر فإنّ الكلام يقع في مقامين :

الأوّل كما يشترط في حجّية فتواه العقل حدوثاً عند تقليده ، فهل يشترط بقاءً كذلك ، أي يشترط في حجّية فتاواه بقائه على العقل والدراية؟

الثاني هل يجوز تقليد المجنون الأدواري حين إفاقته؟

أمّا المقام الأوّل : فهل وزان العقل وزان الحياة؟ فلو قلّده حينما كان عاقلاً

٤٠٤

فطرأ عليه الجنون ، فهل يجوز له البقاء كما لو قلّده حيّاً فمات؟

ربما يتوهّم أنّ الملاك والمقام واحد فكما يجوز البقاء على تقليد الميّت فيما لو قلّده حيّاً ، فكذلك لو قلّده عاقلاً فجنّ فيجوز البقاء.

ولكن الحقّ خلاف ذلك ، فإنّ المتسالم عليه والذي يعرف من مذاق الشارع المقدّس أن لا يسلّم زمام أُمور الشيعة وزعامة المسلمين بيد مجنون كما في البلوغ بناءً على اشتراط العقل في المجتهد الذي يرجع إليه في الفتيا ، لا مطلق المجتهد. ولا يقاس الجنون بالموت ، فإنّ الموت لا يعدّ نقصاً بل يعدّ كمالاً لتجرّد النفس عن المادّة ، بخلاف الجنون. ولمثل هذا يطرأ الموت على الأنبياء والأوصياء دون الجنون.

وأمّا المقام الثاني : وهو تقليد المجنون الأدواري الذي يعقل تارة ويجنّ اخرى ، فهل يجوز تقليده حين تعقّله وإفاقته؟ في المسألة وجهان :

من عدم المحذور في الرجوع إليه حين إقامته لشمول إطلاقات الأدلّة وبناء العقلاء وحكم العقل. كما ذهب سيّدنا الحكيم (قدس‌سره) إلى أنّه لا مانع عند العقلاء من الرجوع إلى الأدواري حال إفاقته ، ونقل حكاية القول بذلك عن بعض متأخّري المتأخّرين وهما صاحب (المفاتيح) و (الإشارات) ، وقال : (لا بأس به إن لم ينعقد إجماع على خلافه لعموم الأدلّة أيضاً) (١).

كما ذهب سيّدنا الخوئي إلى ذلك أيضاً فقال : وأمّا المجنون الأدواري فالظاهر أنّه لا محذور في الرجوع إليه حال إفاقته لشمول الإطلاقات والسيرة له) (٢).

__________________

(١) المستمسك ١ : ٤٢.

(٢) دروس في فقه الشيعة ١ : ١٢٠.

٤٠٥

ومن كون طروّ الجنون ولو في زمان دون زمان يوجب النقص فيه ، فيوجب سقوطه وانحطاطه عند الناس فكيف يرجع إليه ، ويسلّم زعامة المسلمين بيده. وهو المختار.

فالأحوط وجوباً عدم تقليد المجنون مطلقاً سواء كان إطباقياً أو أدوارياً.

فيعتبر في الفقيه المرجع للتقليد دوام العقل واستقراره ، أي ابتداءً واستدامة ، حدوثاً وبقاءً ، فإذا عرض له الجنون الأدواري فضلاً عن الإطباقي فإنّه تزال أهليّته للتقليد ابتداءً واستدامة.

وكمال الإنسان إنّما هو بعقله وبلوغه ، ولهذا يعدّ البلوغ والعقل من الشرائط العامّة في التكاليف الشرعيّة.

كما إنّ الفقيه نائب الحجّة ، وإنّه (حجّتي عليكم) ولا يصلح للاحتجاج قول من يعرض له الجنون فضلاً عن المجنون.

وإرجاع الأئمة (عليهم‌السلام) إلى بعض الأصحاب في أخذ معالم الدين باعتبار الوثوق بقولهم وركون النفس إليهم ، وذلك لمن كان عاقلاً مستقرّاً عقله ، وليس المجنون ومن يعرض له الجنون.

الشرط الثالث الإيمان :

يطلق الإيمان ويراد منه تارة معناه الأعمّ ، وهو من كان موحّداً وآمن بالله سبحانه وتعالى ويقابله الكافر والمشرك ، فيعمّ أهل الكتاب. وتارة يراد منه المعنى العام وهو المسلم ويقابله الكافر الكتابي كاليهود والنصارى ، وأُخرى يطلق ويراد

٤٠٦

منه المعنى الخاصّ ، وهو يقابل المخالف للمذهب الاثني عشري مطلقاً ، فيراد منه خصوص الشيعي الاثني عشري ، وأُخرى يطلق ويراد منه المعنى الأخصّ ، وهو المؤمن الكامل الذي ورد صفاته في الروايات الشريفة كما جاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام).

هذا ما يستفاد من النصوص الشريفة ولسان الروايات في خصوص كلمتي الإيمان والمؤمن (١).

والبحث عن الإيمان إنّما هو باعتبار أُصول عقائد المجتهد ، وهذا النزاع جارٍ عند أبناء العامّة أيضاً بأنّه يشترط تطابق التمذهب بين الأُصول العقائدية والفروع العملية ، فلا يصحّ عند أهل السنّة (الأشاعرة) أتباع المعتزلي أو الإمامي في فتاواهما ، وإن كانت على طبق أُصول أهل السنّة وطريقتهم في الاستنباط (٢).

والمقصود في لسان الفقهاء من المؤمن ومن اشتراط الإيمان فيه في بعض المسائل كما في الزكاة والاجتهاد هو المعنى الثالث : أي الشيعي الإمامي الاثني عشري.

فيشترط الإيمان في المجتهد ومرجع التقليد ، وإن كان بناء العقلاء وحكم العقل على خلاف ذلك ، فإنّهم يرجعون إلى أهل الخبرة وإلى العالم مطلقاً في أُمورهم وحياتهم الاجتماعية من دون ملاحظة دينهم ومذهبهم وعقائدهم الخاصّة.

__________________

(١) ذكرت تفصيل ذلك في كتاب (زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار) ، وهو مطبوع في المجلّد الثاني من موسوعتنا (رسالات إسلامية) ، فراجع.

(٢) الاجتهاد والتقليد ؛ العلّامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين : ٢٦٧.

٤٠٧

أمّا الوجوه المذكورة لاشتراط الإيمان في المجتهد فهي كما يلي :

الأوّل القرآن الكريم :

ففي آيات شريفة نهى الله سبحانه عن اتباع الظالم والركون إليه واتباع الضالّ والمضلّ ، والمنحرف وصاحب الأهواء الباطلة مطلقاً حتّى ولو كان ذا رحم ، فكيف يرجع إلى فاسد المذهب في الفتيا ، وتُقلّد الأعمال في عنقه ، ويُستند إليه في أُمور الدين والدنيا؟

قال سبحانه وتعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(١).

فصاحب المذهب الفاسد ظالم لنفسه ، فلا يركن إليه بأخذ الفتوى والرأي منه ، فإنّه ممّا يوجب النار ، وفرق بين أخذ الفتوى فإنّه من مصاديق الركون إليه ، وبين أخذ الخبر منه ، فإنّه يكفي أن يكون من الثقات حتّى ولو كان فاسد المذهب.

وقال سبحانه (ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(٢).

فأيّ ضلال أعظم من فساد المذهب ، وأيّ اعتماد وعضد أعظم من مرجعيّة الفتوى وتقليد الأُمور؟ فمن الواضح لا يرجع إلى غير الشيعي الإمامي الاثني عشري في الفتاوى والتقليد.

وقال سبحانه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٣).

بناءً على أنّ المرجعيّة ممّا يصدق عليه عنوان الخلافة الإلهية والعهد الإلهي في

__________________

(١) هود ١١ : ١١٣.

(٢) الكهف : ٥١.

(٣) البقرة : ١٢٤.

٤٠٨

زمن الغيبة الكبرى امتداداً للإمامة المعصومة التي هي امتداد خطّ النبوّة التي هي خلاصة التوحيد. فرجوع الأُمّة الإسلامية إلى شخص فيما يتعلّق بمعاشهم ومعادهم خلافة إلهية ، كما احتمله صاحب الجواهر (قدس‌سره) ، فلا ينالها من كان ظالماً ، وأيّ ظلم أبشع من فساد المذهب؟ فلا ينال مرجعية مذهب الحقّ من كان فاسد المذهب.

وقال سبحانه وتعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(١).

وجه الاستدلال : إنّ غير المؤمن فاسق فلا يجوز قبول قوله ، كما ذهب إليه المتأخّرون كالشهيد الأوّل والعلّامة بالنسبة إلى عدم قبول روايات أبناء العامة ومن كان فاسد المذهب ، كأبان بن عثمان الأحمر والنوفلي والسكوني على أنّه لا فسق أعظم من عدم الإيمان بالولاية ، ونوقش الاستدلال بأنّ من كان عادلاً في مذهبه لا يعدّ فاسقاً داخلاً في عموم الآية أوّلاً ، وثانياً : إنّ الآية دلّت على التبيّن في قول الفاسق من جهة صدقه وكذبه ، وإن حكم عليه بفسقه لكونه مخالفاً ، ولا تدلّ على اشتراط الإيمان في جواز تقليده لو أفتى عند الشيعة من طرقهم وأُصولهم الخاصّة ، فتأمّل.

الوجه الثاني الأخبار الشريفة :

فقد وردت روايات كثيرة يستفاد من ظاهر مجموعها اشتراط الإيمان في القاضي ومرجع التقليد ، وباعتبار العلم والتواتر الإجمالي بأنّ واحدة منها لا أقلّ قد صدرت من المعصوم (عليه‌السلام) فلا يناقش السند فيها حينئذٍ ، وربما كان بعضها صحيحاً أو بعضها حسنة ومعتبرة.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٤٠٩

فمن الروايات :

ما جاء في الاحتجاج والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) أنّه قال : إنّ من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة (١).

__________________

(١) الوسائل : باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

وسيّدنا الخوئي (قدس‌سره) قد ناقش في السند والدلالة : بأنّ التفسير المنسوب لم يثبت بطريق قابل للاعتماد عليه ، فإنّ في طريقه جملة من المجاهيل كمحمّد بن القاسم الأسترآبادي ويوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار. هذا إن أُريد من التفسير المنسوب هو الذي ذكره الصدوق (قدس‌سره) بإسناده عن محمّد بن القاسم الأسترآبادي وأنّه مجلّد واحد كما هو الملاحظ من التفسير الذي بأيدينا ، وأمّا إذا أُريد من التفسير ما ذكره محمّد بن عليّ بن شهرآشوب على ما حكاه في المستدرك فالسند إليه صحيح ، فإنّه ذكر أنّ للحسن بن خالد البرقي وهو أخو محمّد بن خالد كتب منها التفسير من إملاء الإمام العسكري (عليه‌السلام) وهو مائة وعشرون مجلّداً ، والحسن ممّن وثّقه النجاشي ، كما للمشايخ الثلاثة إليه طرق صحيحة. إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا التفسير غير التفسير الأوّل ، وما وصل إلينا يتطابق لما نقله الصدوق.

ثمّ الرواية وردت في مذمّة اليهود لتقليد علمائهم مع علمهم بأنّهم يكذبون ومن أهل الفسق والفجور ، فإذا كان عوام الشيعة يفعلون كذلك فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد الأعمى لفسقة علمائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه .. فللعوام أن يقلّدوه ، ولا يكون هذا لكلّ فقهاء الشيعة ، فمنهم من هو مقبل على دنياه فلا يقلّد ، وهذا غير اشتراط (الإيمان أو) العدالة.

٤١٠

والاستدلال بها واضح لمكان (بعض فقهاء الشيعة) فإن كان البعض من الشيعة ينال ذلك فما بالك بغيرهم من أصحاب الأهواء والمذاهب الفاسدة.

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة ، وفيها : ينظران من كان منكم ممّن روى حديثنا) (١) ، وقد مرّ الكلام في سندها ودلالتها.

وكذلك رواية أبي خديجة (٢) ، وفيها : (ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم) (٣).

وقريب منهما روايته الأُخرى.

ووجه الاستدلال باعتبار كلمة (منكم) فإنّها بظاهرها تدلّ على أنّه من الشيعة الاثني عشريّة.

ولا يقال إنّ المقبولة وغيرها وردت في باب القضاء ، وهو غير باب الإفتاء ، فالدليل لا يطابق المدّعى ، ومن آداب المناظرة مطابقة الدليل للدعوى ، ولا ملازمة بين البابين ، لعدم وحدة الملاك.

__________________

(١) الوسائل : باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٢) جاء في هامش التنقيح ١ : ٢٢٤ أنّ أبا خديجة سالم بن مكرم الجمّال ممّن وثّقه النجاشي وضعّفه الشيخ في موضع ووثّقه في موضع آخر ، وقد وقع في أسانيد كامل الزيارات ، فتضعيف الشيخ غير مضرّ بحاله لتعارض القولين لو كانا في زمان واحد ، وكذا لو كان تضعيفه قبل توثيقه للعدول عن التضعيف ، ولمّا لم يعلم تأريخهما اندرج في الشبهات المصداقية للتضعيف فلا يعتمد عليه. فيقدّم قول النجاشي.

(٣) المصدر ، الحديث ١.

٤١١

فإنّه يجاب : ربما في بعض الموارد يقال بالفرق فيما قام الدليل على ذلك ، وإلّا فاعتبار الإيمان في خصوص القضاء دون الإفتاء جموداً على المورد ممّا لا وجه له ، كما هو الظاهر ، فتأمّل.

ومنها : ما جاء في مكاتبة أبي الحسن الثالث (الإمام الكاظم (عليه‌السلام)) لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه فارس وهو متّهم بالغلوّ والكذب كما أنّ ابن ماهويه مجهول الحال ، وفي السند ضعاف بعد ما سألاه عمّن نأخذ معالم الدين ، فكتب (عليه‌السلام) : (فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله).

فكلّ مسنّ في حبّ أهل البيت وكثير القدم في أمرهم (عليهم‌السلام) ، أي الولاية كما يدلّ على ذلك الأخبار الأُخرى الواردة فيها كلمة (الأمر) فيدلّ على التشيّع الكامل أي ولاية الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام) ، فإلى مثل هذا يرجع في أخذ معالم الدين ، ومنها الفتوى والعمل بها.

وربما يقال بانصراف الخبر إلى بيان أفضل الأفراد ، وما يشترط في الاجتهاد هو مجرّد الإيمان ، كما إنّ أخذ معالم الدين يعمّ نقل الروايات وفي الراوي يكفي الوثاقة دون اشتراط الإيمان ، فلا يتمّ الاستدلال بها.

وأُجيب عنه : بأنّها تدلّ إجمالاً على أخذ الفتوى ممّن هو ثابت القدم في أمر الولاية ، وحصول هذا المعنى في مرجع التقليد أولى من غيره.

كما إنّ ظاهر الرواية في أخذ معالم الدين أخذها من دون رويّة وتحمّل المشاقّ في جرح القائل ووثاقته ، كما كان في الراوي والرواية ، وبهذا ربما لم يكن المقصود

٤١٢

من الرجوع إليهم في الرواية ، فتأمّل.

ومنها : مكاتبة أبي الحسن الإمام الكاظم (عليه‌السلام) وهو في السجن لعليّ بن سويد السابي في رسالة قال : وأمّا ما ذكرت يا عليّ ممّن تأخذ معالم دينك؟ لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة (١).

والرواية من حيث السند ضعيفة لمحمّد بن إسماعيل الرازي وعليّ بن حبيب المدائني ولم يوثّقا في علم الرجال ، وكذلك عليّ بن سويد ضعيف في نفسه.

فظاهر الخبر الشريف أنّ المخالف خائن ، ولا انفكاك بين مخالفته للحقّ وفساد مذهبه وبين الخيانة ، فكيف يؤتمن الخائن على المذهب الحقّ ويرجع إليه في الفتيا وتقليد الأُمور وزعامة الشيعة؟!

وذهب بعض الأعلام مناقشاً : بأنّ المدّعى هو اشتراط الإيمان في المجتهد ، وظاهر الخبر أنّ المانع من قبول قول المخالف هو عدم الإيمان لا مجرّد اعتقاد الخلاف ، فالحيثيّة تعليليّة لا تقييدية في قوله (شيعتنا) كما أنّ النهي الوارد في الخبر عن الأخذ عن غير الشيعة إنّما هو من جهة عدم الوثوق بهم ، لأنّهم خونة حيث خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ومنها الولاية العظمى فيكون مختصّاً بنقل الخبر ، وهذا

__________________

(١) الوسائل : باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

٤١٣

خارج عمّا نحن فيه (١).

وأُجيب : ربما ذيل الخبر باعتبار التعليل يدلّ على ذلك ، بأنّه لا يؤخذ منهم لعدم الأمانة في النقل ، إلّا أنّ صدره يدلّ بظهوره على مطلق أخذ معالم الدين ومنها الفتاوى ، فلا تؤخذ من غير الشيعة على نحو الحصر.

وإن قيل : إنّ أخذ معالم الدين كما يتحقّق بالرجوع إلى الفتوى ، كذلك يتحقّق بالرجوع إلى رواة الحديث ، ومن الظاهر أنّ حجّية الرواية لا تتوقّف على الإيمان في رواتها ، بل يكفي وثاقة الراوي كما قرّر في محلّه.

وأُجيب : إنّ الظاهر والمنصرف من الرجوع في معالم الدين هو الأخذ مطلقاً ، ولو من دون تحمّل الصعاب في جرح القائل ووثاقته ، وهذا بخلاف الخبر ونقله ، فإنّه يشترط فيه ممّا يوجب تحمّل المشاقّ من أجل معرفة الراوي ووثاقته ، ثمّ فرق بين الخبر والفتوى ، فإنّ ناقل الخبر ناقل لكلام المعصوم (عليه‌السلام) فيقبل منه لو كان من الثقات وإن كان مخالفاً ، بخلاف الفتوى فإنّه ينسب الحكم إلى نفسه بأنّه استفاد ذلك من الأدلّة التفصيليّة ، وحينئذٍ كيف يتبصّر في الفروع ولا يتبصّر في عقائده؟ والمرجعيّة الحقّة تتلو منصب الإمامة المعصومة ، فمن وهن المذهب الحقّ أن يسلّم مقاليد الأُمور وزعامة المؤمنين إلى من كان فاسد المذهب وباطل العقيدة.

هذا ويستفاد من مجموع الروايات المذكورة وغيرها أنّها صدرت على ما هو المتفاهم العرفي أنّ التشيّع واشتراط الإيمان في المرجع إنّما هو لما فيه من الخصوصيّة

__________________

(١) المستمسك ١ : ٤٢ ، والتنقيح ١ : ٢١٩ ، والدروس ١ : ١٢١.

٤١٤

الموضوعيّة ، لا أنّ غير الشيعي يحكم بغير ما صدر عن أهل البيت (عليهم‌السلام).

فما قيل : إنّ منصرف الرواية هم القضاة من العامّة الذين كانوا يعتمدون على القياس ونحوه من الحجج الظنّية في قبال فتوى المعصومين (عليهم‌السلام) وليس مثلهم محلّ الكلام (١) ، فإنّه غير تامّ.

الوجه الثالث الإجماع :

كما حكي ذلك عن السلف والخلف الصالح ، وذهب الشيخ إلى عدم الإشكال في اعتبار الإيمان كاعتبار البلوغ والعقل فاتّفق الكلّ على ذلك. إلّا أنّه ربما كما هو الظاهر أنّه من الإجماع المدركي فلا يعتمد عليه دليلاً ، إنّما يكون مؤيّداً ، فتأمّل ، كما أنّه لم تعنون هذه المسألة في كلام القدماء ليمكن دعوى الإجماع فيها وإنّما هي من تفريعات المتأخّرين. ثمّ ربما يرد النقاش في الوجوه الدالّة على اعتبار الإيمان في المرجع باعتبار الدليل الصناعي ، إلّا أنّه لا ينبغي الإشكال في اعتبار الإيمان كما يفهم ذلك من مذاق المتشرّعة المستلهم من الشارع المقدّس ، على مدى تأريخ الاجتهاد وطيلة القرون والأحقاب ، حتّى بلغ بهم الأمر إلى أن يعتزلوا عمّن انحرف في بعض معتقداته عن المذهب الحقّ ، فكيف بمن خالف المذهب ، ولمثل هذا يقال باشتراط الإيمان في المجتهد وفي مرجع التقليد حدوثاً وبقاءً.

وما قاله بعض الأعلام : (بأنّه لو سلّم جميع ذلك وبنينا على شرطيّة الإيمان والإسلام في حجّية الفتوى بحسب الحدوث فلا ملازمة بينها وبين اعتبارهما

__________________

(١) المستمسك ١ : ٤٢.

٤١٥

في حجّيتها بقاءً أيضاً بحيث لو أخذ العامي فتوى المجتهد حال استقامته وإيمانه ثمّ انحرف عن الحقّ لم يجز له أن يبقى على تقليده ، لسقوط فتواه عن الاعتبار فإنّه يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على اعتبارهما في الحدوث) (١). غير تامّ باعتبار مذاق الشارع والمتشرّعة. وإن كان باعتبار إطلاق الأدلّة وبناء العقلاء وعدم دليل لفظي على شرطيّة الأيمان ممّا يوجب النقاش الصناعي المدرسي إن صحّ التعبير.

وممّا يدلّ على ما نذهب إليه وما هو المختار من اشتراط الإيمان على كلّ حال ، ما جاء في تقريره الآخر قائلاً : (لا ينبغي التردّد في اعتبار الإيمان في المقلَّد حدوثاً وبقاءً لارتكاز أذهان المتشرّعة الواصل إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا إيمان له بالأئمة الهداة ، ولا يحتمل أحد التديّن وأخذ الفتوى ممّن لا يتديّن بدين أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ويذهب يميناً وشمالاً إلى مذاهب باطلة) (٢).

وقال أيضاً بعد مناقشة الأدلّة الدالّة على اشتراط العدالة : إلّا أنّ مقتضى دقيق النظر اعتبار العقل والإيمان والعدالة في المقلّد بحسب الحدوث والبقاء ، والوجه في ذلك أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عقل له ، أو لا إيمان أو لا عدالة له ، بل لا يرضى بزعامة كلّ

__________________

(١) التنقيح ١ : ٢٢٠.

(٢) الدروس ١ : ٢٢.

٤١٦

من له منقصة مسقطة له عن المكانة والوقار ، لأنّ المرجعيّة في التقليد من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية ، وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين له ، وهل يحتمل أن يرجعهم إلى رجل يرقص في المقاهي والأسواق أو يضرب بالطنبور في المجامع والمعاهد ويرتكب ما يرتكبه من الأفعال المنكرة والقبائح ، أو من لا يتديّن بدين الأئمة الكرام ويذهب إلى مذاهب باطلة عند الشيعة المراجعين إليه؟!! فإنّ المستفاد من مذاق الشرع الأنور عدم رضى الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة ، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية. إذاً احتمال جواز الرجوع إلى غير العاقل ، أو غير العادل مقطوع العدم ، فالعقل والإيمان والعدالة معتبرة في المقلّد حدوثاً ، كما أنّها معتبرة فيه بحسب البقاء لعين ما قدّمناه في اعتبارها حدوثاً.

ولعلّ ما ذكرنا من الارتكاز المتشرّعي هو المراد ممّا وقع في كلام شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) من الإجماع على اعتبار الإيمان والعقل والعدالة في المقلّد إذ لا تحتمل قيام إجماع تعبّدي بينهم على اشتراط تلك الأُمور (١). انتهى كلامه رفع الله مقامه.

ونقول : يجري هذا الكلام والوجه نفسه في اشتراط البلوغ ، فكيف يذهب إلى أنّه من مذاق الشارع يفهم عدم اعتبار البلوغ؟ فتدبّر.

__________________

(١) التنقيح ١ : ٢٢٤.

٤١٧

الشرط الرابع العدالة :

يشترط في الفقيه المرجع أن يكون عادلاً ، ويدلّ على ذلك وجوه :

الوجه الأوّل القرآن الكريم :

في قوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(١).

وجه الاستدلال : أنّ الفاسق قد ظلم نفسه وجعله مرجعاً من أبرز مصاديق الركون إليه ، إلّا أنّه ربما يقال المقصود من الظالم خصوص من يظلم كالطغاة أو خصوص الكفر ، لا مطلق من يفعل المعصية فالانصراف يمنع الإطلاق.

وفي قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فإنّ مفهومه يدلّ على اشتراط العدالة ، إلّا أنّه نوقش بأنّها تدلّ على مجرّد الوثاقة لعدم حصول الندامة من اتباع قوله ، كما أنّها معارضة بما تدلّ على كفاية الوثاقة من دون اشتراط العدالة ، ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل التبيّن فيها على تحصيل الوثوق ، فغاية ما في الآية الشريفة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع هو طرح قول الفاسق وقبول قول العادل باعتبار الوثوق ، فلا يعتبر في الخبر إلّا الوثوق وأدلّة حجّية الخبر والفتوى واحدة.

الوجه الثاني الأخبار الشريفة :

منها : خبر الاحتجاج عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) كما مرّ ، فيستفاد منه العدالة بل المرتبة العالية منها ، إلّا أنّه نوقش في السند والدلالة ،

__________________

(١) هود : ١١٣.

٤١٨

كما مرّ. وإنّ اعتبار العدالة فيه لو تمّ فهو باعتبار الأمن من الكذب والخيانة لا تعبّداً ، كما أنّ التفسير نفسه يشتمل على أُمور مخالفة لمذهب الإمامية.

ومنها : التوقيع الشريف من الناحية المقدّسة بإرجاع الأُمّة في زمن الغيبة الكبرى إلى الفقيه الجامع للشرائط وأنّه حجّة الأئمة (عليهم‌السلام) على الناس ، فقال (عليه‌السلام) : (أنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله) (١).

ووجه الاستدلال واضح ، فإنّ الفاسق لا ينوب حجّة الله الأعظم الذي بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء ، وأنّ الحجّة من قبله لا يصلح أن يكون فاسقاً ، بل لا بدّ أن يحمل المرتبة العالية من العدالة والتقوى.

ومنها : ورد في الخصال عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : (قطع ظهري رجلان من الدنيا : رجل عليم اللسان فاسق ، ورجل جاهل القلب ناسك ، هذا يصدّ بلسانه عن فسقه ، وهذا بنسكه عن جهله ، فاتّقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبّدين) (٢).

وهذا ما يحدث في كثير من المجتمعات الإسلامية على مرّ العصور ، كما نرى في عصرنا الراهن من العلماء الفسقة من يغطّى على فسقه بحلاوة لسانه ولباقته حتّى يصوّر فسقه عبادة ، وأمّا الجاهل العابد ، فالويل منه فإنّه الطامة الكبرى ، فإنّه جاهل ولا يدري أنّه جاهل ، ويصرّ على جهله ، ويغطّى ذلك بظاهر العبادة ، وكثير

__________________

(١) الوسائل : باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) البحار ٢ : ١٠٦.

٤١٩

من أئمة الجماعات في مساجدهم يبتلون بمثل هذه النماذج إن هم إلّا كالخوارج يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وقد ضلّوا وأضلّوا ، وهذان العالم الفاسق والجاهل العابد من أخطر الناس على الدين ، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أيضاً (قصم ظهري اثنان عالم متهتّك وجاهل متنسّك) ووجه الاستدلال بالخبرين على ما نحن فيه واضح ، فإنّه يشترط في مطلق العالم العدالة ، فبطريق أولى في مرجع التقليد.

ومنها : ورد في مجالس المفيد عن محمّد قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : (لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله) (١).

وجه الدلالة واضح فلا تقبل الطاعة ممّن يأخذ معالمها وأحكامها ممّن عصى الله على نحو يدين بذلك كالتقليد له ، لا مجرّد الأخذ ، فتأمّل.

ويؤيّد هذا المعنى الروايات الكثيرة الواردة في مذمّة متابعة العالم الذي لا يعمل بعلمه وأنّه مقبل على الدنيا.

الوجه الثالث تنقيح المناط الاطمئناني :

ويعلم ذلك بالسبر والتقسيم حيث نكشف وحدة الملاك بين باب الشهادة في الطلاق وإمامة الجماعة ، وما نحن فيه ، فإنّه إذا كان يشترط في الشاهد العدالة وكذلك في إمام الجماعة كما هو ثابت في محلّه ، ففي مرجع التقليد بطريق أولى ، لما يحمل من المسئولية العظمى من زعامة المؤمنين. إلّا أنّه نوقش بأنّا لا نعرف حقيقة الملاكات الشرعيّة في الأحكام فلا يصحّ التعدّي من باب إلى باب ، فلكلّ باب ملاكه الخاصّ

__________________

(١) البحار ٢ : ١٢١.

٤٢٠