القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

السيّد عادل العلوي

القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد - ج ١

المؤلف:

السيّد عادل العلوي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6121-61-6

الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الحيوانات ، فإنّ كلا الموردين يكونان من الفطريات ، فإنّ غريزة الشكر من غرائز الإنسان بل الحيوان ، فإنّما يحرّك الكلب ذنبه عند ما يلقمه صاحبه بلقمة ليشكره.

نعم إذا قيل : فطريات الإنسان تختلف عن سائر الحيوانات ، فهذا ادّعاء يحتاج إلى دليل. كما أنّه يكون نزاع مبنائي ولفظي ، أو يقال : المراد منها تلك القضايا التي قياساتها معها (١) ، فيكون من الاصطلاح ولا مشاحّة في الاصطلاحات ، ولا ينطبق على ما نحن فيه.

فتلخّص ممّا مرّ ، أنّا نعلم إجمالاً بأنّا مكلّفون بتكاليف شرعيّة ووظائف دينيّة من العبادات وفي المعاملات ، والأثر المطلوب منها إنّما يتحقّق لو وقعت صحيحة ، والصحّة كما هو معلوم في محلّه من الفقه وأُصوله حكم شرعي وضعي ينتزع من مطابقة ما وقع في الخارج من أفعال المكلّفين لما جعل في الشرع المقدّس ، وتحصيل العلم بهذه المطابقة بين الخارج وما في الشرع لا يكون فعلاً إلّا بالاجتهاد أو التقليد أو بالاحتياط ، وهذا هو المقصود من وجوب أحد الأُمور الثلاثة.

ثمّ وجوب أحد الإبدال الثلاثة ليس بشرعي ، إنّما هو بوجوب عقلي ، بمعنى أنّ العقل حاكم به ، والملاك في هذا الوجوب إمّا دفع الضرر المحتمل وهو مناط الوجوب الفطري ، وشكر المنعم وهو مناط الوجوب العقلي كما قيل ، وقد مرّ تفصيل

__________________

(١) عند أرباب صناعة الميزان وفي علم المنطق المراد من الفطري هو القضية التي يحكم بها العقل بواسطة لا يخلو الذهن عنها في حين من الأحيان ، وتسمّى بقضايا قياساتها معها كالعلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، والوجوب المبحوث في هذا المقام ليس من هذا القبيل.

٢١

ذلك ومناقشتهما.

ويبدو لي أنّ وجوب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط عقلي من باب وجوب إطاعة الله تعالى وأنّه أهلاً لذلك ، ومن باب تحقّق المصالح الذاتيّة الملزمة في أوامر الله وطاعته ، والمفاسد الملزمة الذاتية في نواهيه وترك طاعته.

فالعقل بعد الالتفات إلى ثبوت التكاليف والتشريع من قبل الله سبحانه ، وأنّ الناس لم يتركوا سدى ولم يهملوا كالحيوانات ، وأنّ هناك وعداً ووعيداً للمطيع وللعاصي ، فإنّه يدرك استحقاق العقاب لمن خالف تلك التشريعات والتكاليف الإلهية ، ويحتمل الضرر في تركها أيضاً.

فلنا حينئذٍ علم إجمالي بالأحكام الشرعية ، وانحلاله إنّما يكون إلى علم تفصيلي بعدد من التكاليف ، وإلى شكّ بدوي في وجود تكاليف اخرى بالاجتهاد أو بالتقليد في الأحكام غير الضرورية ، وإذا انتفى الاجتهاد أو التقليد فالعقل حاكم ، بلزوم العمل بالاحتياط حينئذٍ.

وبمثل هذا نقول : يجب عقلاً على كلّ مكلّف ملتفت في عباداته ومعاملاته إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.

بقي شيء :

بقي هنا شيء لا بدّ من الإشارة إليه كما عند بعض الأعلام من أساتذتنا الكرام ، وذلك أنّه لماذا لا يجب بوجوب شرعي أحد الإبدال الثلاثة؟

فنقول في جواب ذلك :

٢٢

أقسام الواجب

اعلم أنّ للواجب الشرعي أقساماً ، فإنّه ينقسم باعتبار المكلّف إلى العيني والكفائي ، وباعتبار المكلّف به إلى التعيّني والتخييري ، وباعتبار الوقت إلى الموسّع والمضيّق ، وباعتبار المطلوبيّة بالذات وعدمها إلى النفسي والغيري ، وباعتبار تعلّق الخطاب به بالأصالة وعدمه إلى الأصلي والتبعي ، وباعتبار مقدّماته إلى المطلق والمشروط والمسمّى بالمقيّد ، وغير ذلك من الأقسام (١) ، ثمّ الوجوب من الأحكام التكليفية الخمسة ، وهو عبارة عن نفس الحكم ، والواجب فعل تعلّق به الحكم ، أو الوجوب عبارة عن الإرادة المؤكّدة في نفس المولى وتتعلّق بالفعل المراد ، أو الوجوب أمر انتزاعي ينتزعه العرف من طلب لفظي أو غير لفظي مؤكّد ، أي إتيان الفعل مع المنع من الترك ، وينقسم الوجوب كالواجب إلى أقسام.

فما نحن فيه لو فرض كون الوجوب شرعيّاً فلا بدّ من حجّة شرعيّة على ذلك ، ولمّا لم نجد في لسان الشرع دليلاً عليه ، فعدم الدليل دليل العدم.

__________________

(١) القوانين للميرزا القمّي (قدس‌سره) : ٩٩.

٢٣

نعم هناك من يذهب إلى بعض الوجوه في المقام إلّا أنّها قابلة للنقاش.

فقيل : إنّما تدلّ على هذا الوجوب النصوص الواردة لبيان وجوب تعلّم الأحكام ، وجوابه إنّها لا تشمل وجوب الاحتياط ، فإنّه طريق إلى إطاعة التكاليف لا معرفتها ، فالعمل به غير واقع في طريق تعلّم الحكم.

وقيل : يدلّ عليه شرعاً إجماع الفقهاء ، فإنّه من الأدلّة التفصيليّة ، وجوابه إنّما يكون ذلك لو كان تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه‌السلام) ، والحال في ما نحن فيه من الإجماع المدركي ، وربما يكون المدرك هو حكم العقل كما علم ذلك ، فحكم الفقهاء بهذا الوجوب غير كاشف عن تحقّق إجماع عليه ، فإنّه من قبيل اللازم الأعمّ للشيء.

ثمّ الوجوب الشرعي فيما نحن فيه إمّا أن يكون نفسياً أو غيريّاً أو إرشاديّاً ، ولمّا لم يكن سبيل إلى أحد من هذا الوجوبات الثلاثة ، فإنّه لا وجوب شرعاً في المقام.

بيان ذلك : من أقسام الواجب كما مرّ هو الواجب النفسي ويقابله الغيري والمقدّمي وهو عبارة عمّا فيه المصلحة التامّة ، وتحقّقه لا يتعلّق بشيء آخر ، فمورد التكليف مطلوب بنفسه ووجوبه يكون نفسياً كوجوب الصلاة والصوم.

والاجتهاد وكذلك التقليد ليس مطلوباً في نفسه ، فلم يكونا كالصلاة والصوم ، وعلى فرض تسليم تعلّق الوجوب النفسي بهما ، لكن تعلّقه بالعمل بالاحتياط غير معقول. فإنّ الاحتياط طريق لتحصيل العلم بإتيان الواجب النفسي أو بترك المحرّم النفسي وسلوك الطريق يصدق عليه عنوان المقدّمية فهو غير صالح لأن يكون متعلّقاً للوجوب النفسي ، كما أنّ الاحتياط عمل خارجي

٢٤

ولا يكون أمارة على حكم لفعل خارجي ، كما أنّ الاحتياط لا يوصف ، فإنّه يكون في صورة خطأ الحجّية ، وتطرّق الخطأ في الاحتياط غير ممكن.

وأمّا الوجوب الغيري المقدّمي فلا يصحّ ذلك في المقام ، فإنّ كلّ واحد من الأبدال الثلاثة ليس بمقدّمة وجوديّة لواجب نفسي ، كما أنّ مقدّمة الواجب واجب مطلقاً غير ثابت.

وأمّا الوجوب الإرشادي (١) : بمعنى الإرشاد إلى المصالح والمفاسد في الأحكام ، أي الإيجاب بداعي الوصول إلى ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد وتلك الملاكات هي المرشد إليها بهذا الوجوب الإرشادي وشرطه المقوّم له أن لا يتطرّق الخطأ في الإرشاد ، وعدم تطرّق الخطأ في الأُمور الثلاثة غير ممكن عادةً ، فإنّه كثيراً ما يقع الخطأ فيهما ، فلا يمكن أن يحفظ بهما جميع الملاكات ، فلا يصحّ الوجوب الإرشادي في المقام حينئذٍ (٢).

__________________

(١) الأمر الإرشادي يقابله الأمر المولوي ، والثاني عبارة عن طلب حقيقي لما فيه من المصلحة يترتّب على إتيانها الثواب وتركها العقاب كالأمر بإقامة الصلاة. والإرشاد أمر وطلب ظاهري يخبر ويرشد إلى المصالح والملاكات الشرعيّة أو الإخبار عن المفاسد في النواهي المولويّة ، فكلّ واجب فيه أمران : أوّلي ومولوي حقيقي يترتّب عليه الثواب والعقاب وأمر ظاهري ثانوي إرشادي إلى الأمر الأوّلي ، وقيل : الإرشادي إنّما هو إرشاد إلى حكم العقل كما في قوله (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فالأوّل : (أطيعوا الله) إرشادي ، والثاني : (أطيعوا الرسول) مولوي شرعي ، فالأوّل : ما يحكم به العقل مستقلا ، والثاني : ما يحكم به الشرع.

(٢) الاجتهاد والتقليد ؛ لسيّدنا الأُستاذ السيّد رضا الصدر (قدس‌سره) : ٢٤١.

٢٥

التكليف لغةً واصطلاحاً

التكليف لغةً :

بمعنى ما فيه المشقّة والكلفة والتعب.

وفي المفردات : الكلَف الإيلاع بالشيء ، يقال : كلف فلان بكذا أو أكلفته به جعلته كَلِفاً. الكلف في الوجه سمّي لتصوّر كلفةٍ به ، وتكلّف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كلف مع مشقّة تناله في تعاطيه ، وصارت الكلفة في التعارف اسماً للمشقّة ، والتكلّف اسم لما يفعل بمشقّةٍ أو تصنّع أو تشبّع ، ولذلك صار التكلّف على ضربين : محمود وهو ما يتحرّاه الإنسان ليتوصّل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه ، ويصير كلفاً به ومحبّاً له ، وبهذا النظر يستعمل التكليف في تكلّف العبادات. والثاني : مذموم وهو ما يتحرّاه الإنسان مراءاةً أي رياءً وإيّاه عنى بقوله تعالى (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، وقول النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وأنا وأتقياء أُمّتي براء من التكلّف) ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، أي ما يعدّونه مشقّة فهو سعة في المآل نحو قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

٢٦

حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ) ، وقوله (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(١).

ومن الكلفة المذمومة ما جاء في الخبر الشريف : (شرّ الإخوان من تكلّف له).

والتكليف اصطلاحاً :

يعني الأحكام التكليفية الشرعية التي من ورائها الملاكات الملزمة في الواقع من المصالح والمفاسد الملزمتين أي الواجبات والمحرّمات ويلحقها بتأمّل وتجوّز المستحبّات والمكروهات والمباحات ، فتنقسم التكاليف حينئذٍ إلى خمسة : الواجب والحرام والمستحبّ والمكروه والمباح.

ثمّ التكليف من المعاني الإضافيّة التي يتوقّف تعقّلها على معانٍ اخرى ، فالتكليف رابط بين المكلِّف اسم فاعل وهو الله سبحانه والمكلَّف اسم مفعول وهو العبد وما كُلّف به من المأمورات به والمنهيات عنه ، كالصلاة المأمور به ، والزنا المنهيّ عنه.

ثمّ المكلّف أي الذي وضع عليه قلم التكليف الشرعي ودخل في خطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ) هو العاقل البالغ أي الإنسان الكامل والعقل والبلوغ يعتبران في جميع التكاليف ، فهما من الشرائط العامة في كلّ تكليف من العبادات والمعاملات ، فلا بدّ أن يبحث عنهما ولو إجمالاً.

__________________

(١) مفردات الراغب الأصفهاني : ٤٥٦.

٢٧

العقل لغةً واصطلاحاً

العقل لغةً :

بمعنى الضبط والحبس والحصانة ، ومنه العقال ، وعقال البعير الحبل الذي يشدّ به قوائمه للبرك والنياخة. عقل عقلاً البعير : ثنى وظيفه مع ذراعه فشدّهما معاً بحبل هو العقال. وبمعنى الإمساك والدرك والخصم والفهم.

وأمّا اصطلاحاً :

فقد وقع في تعريفه وبيان مفهومه اختلاف بين الأعلام ، ففي كلّ علم ربما له تعريف خاصّ ، إلّا أنّه يرجع إلى المعنى اللغوي مع مئونة معنى جديد ليكون مصطلحاً جديداً ، فمفهومه عند علماء المنطق يختلف عمّا عليه علماء الأُصول ، وما في الأخلاق غير ما في الفلسفة وهكذا باقي العلوم والفنون (١).

__________________

(١) لقد ذكرت تفصيل ذلك في (العقل والعقلاء).

٢٨

والعقل إجمالاً بمعنى القوّة الدرّاكة والنفس الناطقة ، وإنّه نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواسّ ، وقد سمّي العقل عقلاً لأنّه يعقل صاحبه عن التورّط في المهالك أي يحبسه. وإنّها تختلف في مدركاتها كمّاً وكيفاً ، ومن ثمّ يكون التفاوت والاختلاف في العقول.

ومن الوجدانيات أنّه (خلق الناس متفاوتين) ، قال سبحانه وتعالى (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(١) ، (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)(٢) ، فمثل هذه الآيات الكريمة تشير إلى اختلاف الناس في عقولهم وسلوكهم وأرزاقهم وغير ذلك ، حتّى في ألوانهم وأجسادهم وألسنتهم كلّ ذلك لحكمة ربانية وأنّه من العدل الإلهي كما هو ثابت في محلّه فالناس في عقولهم وإدراكاتهم مختلفون ، وينقسمون ابتداءً بالتقسيم الثنائي إلى عاقل وغيره وهو المجنون ، ثمّ العقلاء على طوائف ومراتب أهمّها :

١ ـ السفهاء : وهم من لا قدرة لهم على تمييز ما يصلح حالهم ، ويربح تجارتهم ، ويعظم أمرهم وما شابه. ففيهم خفّة عقل ونفس.

٢ ـ الحمقى : أُولئك الذين لهم قدرة التشخيص إلّا أنّهم يجهلون الأُمور الجارية بالعادة ، فتشخيصهم الخير من الشرّ يكون بعد صدور الفعل منهم ، فالأحمق قلبه وراء لسانه.

__________________

(١) نوح : ١٤.

(٢) البقرة : ٢٥٣.

٢٩

٣ ـ العقلاء : اولي الفكر والمعرفة يعرفون ما فيه الخير أوّلاً ، ثمّ هل يعدّ ذلك بصالحهم ثانياً ، فما يصدر منهم محاط بفكرين وأمرين.

٤ ـ الأولياء : هم ساسة الخلق ، وأركان البلاد ، وصفوة الله في أرضه ، وأُمنائه وخلفائه ومظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

فالعقل جوهرة قدسية ربانية ، أفاض الله بها على الإنسان ليكرّمه على جميع مخلوقاته ، فإنّه بالعقل امتاز الإنسان عن العجماوات وتشرّف على الكائنات.

وقد بحث العلماء عنه كثيراً ، وقسّموه إلى تقسيمات عديدة. وذكروا أنّ له تجلّيات ومقامات ومراتب تتعلّق بفيض الله وصنعه. منها : أنّه أوّل ما خلق الله من الروحانيين هو العقل وكان على يمين العرش ، وأنّه خلق من نور الله جلّ جلاله.

هذا هو العقل الجوهري الأوّل ، وأمّا في الإنسان حيث أنّه مركّب من روح وعقل وجسد ، فإنّ العقل فيه باصطلاح المتكلّمين : عبارة عن مجموع علوم ضرورية ، إذا خلقها الله تعالى في الإنسان صحّ من الله تكليف الإنسان ، وهي بجملتها عشرة علوم :

أوّلها : علم الإنسان بنفسه ، وبكثير من أحواله التي يجد الإنسان كون نفسه على أحواله.

وثانيها : علمه بانتفاء ما لا يدركه من الأشياء المدركة.

وثالثها : علمه بسلامة الأحوال.

٣٠

ورابعها : علمه بأنّه لو كان لأدركه.

وخامسها : علمه بأنّ الذات لا يخلو من أن يكون على صفة أو لا يكون عليها.

وسادسها : علمه بالأُمور الاختيارية ، كالعلم بأنّ الزجاج ينكسر بالحديد.

وسابعها : علمه بتعلّق الفعل بالفاعل على سبيل الجملة.

وثامنها : علمه بمقاصد المخاطبين بعد الوقوف على المواصفة.

وتاسعها : علمه بالأُمور الجليّة التي جرت عليه مع قرب العهد بها.

وعاشرها : علمه بقبح كثير من المقبحات ، وحسن كثير من المحسّنات ، ووجوب كثير من الواجبات (١).

أدلّة اشتراط العقل في التكليف :

هذا ويدلّ على اشتراط العقل في التكاليف الشرعيّة الأخبار الشريفة والإجماعات والشهرة ، فلم نجد في ذلك مخالفاً من الأصحاب بل من فقهاء الإسلام وأهل القبلة.

ومن الأخبار ما ورد في الوسائل والمستدرك والوافي والبحار ، في كتاب

__________________

(١) الحدود والحقائق ؛ القاضي أشرف الدين صاعد البريدي الآبي : ٢٣.

وقد ذكرت تفصيل الآراء والأقوال والآيات والروايات حول العقل والعقلاء في كتاب (ما هو العقل ومن هم العقلاء؟) ، فراجع.

٣١

الصوم ومقدّمات العبادات والبيع والحجر والوصايا والنكاح والطلاق والعتق والحدود وغيرها ، فمنها صحيحة :

١ ـ محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثني عدّة من أصحابنا منهم محمّد بن يحيى العطّار عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له : أقبل فأقبل ، ثمّ قال أدبر فأدبر ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا فيمن أُحبّ ، أمّا إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب. ورواه البرقي في المحاسن عن الحسن بن محبوب ، ورواه الصدوق في المجالس عن محمّد بن موسى بن المتوكّل عن عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن محبوب مثله (١).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٧ ، باب ٣ اشتراط العقل في تعلّق التكليف ، وفي الباب ٩ روايات ، الحديث ١.

وجاءت ترجمة محمّد بن يعقوب الكليني صاحب الكافي في تنقيح المقال برقم ١١٥٤٠ وأنّه ثقة الإسلام وله ثلاث عدد والعدّة هم عليّ بن إبراهيم ومحمّد بن يحيى وعلي بن موسى بن جعفر وداود بن كورة وأحمد بن إدريس عن أحمد بن محمّد بن عيسى بكتبه. ومحمّد بن يحيى العطّار الأشعري القمي برقم ١١٥٠١ وأنّه ثقة ، وأحمد ابن محمّد بن عيسى الأشعري القمي برقم ٥٠٧ وأنّه ثقة ، والحسن بن محبوب السرّاد برقم ٢٧١٠ وأنّه ثقة ، والعلاء بن رزين القلّاء مولى ثقيف الكوفي وأنّه ثقة ، ومحمّد بن مسلم برقم ١١٣٧١ وأنّه ثقة من أصحاب الإجماع.

٣٢

٢ ـ وعن محمّد بن الحسن عن سهل بن زياد (١) عن أبي نجران عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : لمّا خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثمّ قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزّتي ما خلقت خلقاً أحسن منك ، إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أُثيب وإيّاك أُعاقب. ورواه البرقي في المحاسن عن السندي بن محمّد عن العلاء بن رزين مثله.

وروايات أُخرى في المقام لم نتعرّض لها طلباً للاختصار ، فراجع.

__________________

(١) يقال الأمر في سهل بن زياد سهل ، فهناك من لم يقبل روايته منفرداً ، وجاء في تنقيح المقال برقم (٥٣٩٦) سهل بن زياد الآدمي الرازي أبو سعيد وأنّه حسن إلّا أنّه في ج ٢ ص ٧٥ يذكر أقوال علماء الرجال فيه وأنّه ضعيف اتّهم بالكذب والغلوّ ، وأُخرج من قم إلى الريّ ، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل ، وعند ابن الغضائري ضعيف جدّاً فاسد الرأي والدين ، وأنّه أحمق ، إلّا أنّ المصنّف يذكر حجّة القائلين بضعفه ويناقشها ، ثمّ يذكر وجوهاً تدلّ على مدحه وحسنه ، فراجع فإنّه وثّقه الشيخ وضعّفه النجاشي.

٣٣

البلوغ لغةً واصطلاحاً

البلوغ لغةً :

بمعنى الوصول إلى منتهى الشيء المطلوب ، وفي المفردات : البلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأُمور المقدّرة ، وربما يعبّر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه ، فمن الانتهاء : بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة ، وقوله عزوجل (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) ، (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ، (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ)(١).

والبلوغ اصطلاحاً :

بمعنى الكمال الطبيعي في الإنسان ، أي بلوغ الإنسان الحُلُم والوصول إلى حدّ النكاح وتوليد المثل ، فإنّ الناقص لا يولّد ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، فإذا بلغ النكاح

__________________

(١) مفردات الراغب : ٥٨.

٣٤

وتوليد المثل ، فإنّه يكشف عن كماله الجسدي. فتوليد المثل بسبب تكوّن المني وتحريك الشهوة والنزوع إلى المقاربة الجنسية ، وإنزال الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب ، الذي هو مبدأ خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربانية فيه ، بل وفي غيره لبقاء النوع.

وبهذا يكون معنى البلوغ هو الكمال الطبيعي للإنسان ، يبقى به النوع الإنساني ، ويقوى معه العقل. وهو حالة انتقال الأطفال من عالم الصباوة والطفولة إلى حدّ الكمال والرجولة. ومثل هذا الكمال من أجل بقاء النوع سارٍ في الحيوانات كلّها ، بل في النباتات أيضاً ، عند ما تكون قابلة للّقاح وتوليد المثل وإثمار الثمرة.

فالملاك في البلوغ هو حصول ذلك الكمال الطبيعي التكويني ، فمن حصل على ذلك ، صار موضوعاً ومحلّا للتكاليف الشرعية المجعولة على البالغ العاقل أي الكامل.

فالتكاليف الشرعية مشروطة ببلوغ الإنسان ونضجه التكويني الفسيولوجي ، ومن أجل العلم بهذا الكمال الطبيعي جعل الشارع المقدّس علائم لتشخيص البلوغ ومرحلة الانتقال ، دفعاً للالتباس والاشتباه في تشخيص بعض المصاديق في الخارج عند العرف.

والمستفاد من الأخبار الشريفة أنّها عبارة : عن إنبات الشعر الخشن على العانة التي هي حول الآلة الذكورية والأُنوثية أو فوقهما ، والاحتلام وهو خروج المني من الموضع المعتاد مطلقاً ذكراً كان أو أُنثى. وإكمال خمس عشرة سنة هلالية للمذكّر ، وإكمال تسع سنين للأُنثى ، وأمّا حكم الخنثى فسيعلم إن شاء الله تعالى.

٣٥

فنقول : لقد خلق الله سبحانه الإنسان مركّباً من روح وجسد ، فهو ذو بُعدين : معنوي ومادي ، فروحه من عالم المعنى من الروح الإلهية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(١).

وبهذا يكون في الإنسان نزعة معنوية وروحية ومثالية إلهية ، وجسده من عالم العناصر الماديّة من التراب والماء وغيرهما ، وبهذا يكون له نزعة مادية وطبيعية عنصرية.

وإنّه بروحه وجسده في سير تكاملي ، كما أنّ فلسفة خلقته وسرّ حياته (٢) هو الوصول إلى كماله المنشود المودع في ذاته من خلافته لله سبحانه في أرضه وخلقه ، واتّصافه بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيكون مظهراً لها ، ويتخلّق بأخلاق الله جلّ جلاله حتّى تتجلّى فيه الأسماء والصفات كما في الإنسان الكامل الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها ، وهم الأنبياء والأوصياء (عليهم‌السلام) ، ثمّ ورثتهم الأمثل فالأمثل من العلماء الصالحين والناس المؤمنين.

ثمّ السير التكاملي والكمال الممكن في الممكن لذاته ، إنّما هو من الكلّي المشكّك ، له مراتب طولية وعرضية ، عمودية وأُفقيّة ، وبداية كمال الإنسان الذي يتوجّه إليه الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية والوظائف الدينية ، ويكون مكلّفاً شرعاً باعتبار روحه هو العقل ، وباعتبار جسده هو البلوغ.

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

(٢) لقد ذكرت تفصيل ذلك في (سرّ الخليقة وفلسفة الحياة) مطبوع ، فراجع.

٣٦

فكمال المكلّف في المصطلح الفقهي المستفاد من الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، وأنّه من الشرائط العامّة في كلّ تكليف : أن يكون المكلّف عاقلاً بالغاً ، وأنّه قد رفع قلم التكليف عن المجنون حتّى يفيق ، وعن الصبيّ حتّى يبلغ كما ورد في الأخبار الشريفة وهذا يستدعي أن نبحث عن العقل أوّلاً ثمّ ندخل في البلوغ ومسائله ثانياً ، والله المستعان.

ولا يخفى أنّ اشتراط التكليف بالعقل والبلوغ ممّا نفي عنه الخلاف ، بل دلّ عليه الإجماع المستفيض ، بل المتواتر ، بل اتّفق عليه فقهاء الإسلام وأهل القبلة.

ويبدو لي أنّه كاد أن يكون مثل الضروريات الدينية ، فأصل الاشتراط ثابت عند كلّ المذاهب الإسلامية ، إنّما الاختلاف في الكمّ والكيفيّة كما سيتّضح ذلك إن شاء الله تعالى.

وقال الشهيدان في اللمعة وروضتها في كتاب الصوم في (المسألة الخامسة عشر : البلوغ الذي يجب معه العبادة : الاحتلام) وهو خروج المني من قبله مطلقاً في اليقظة أو المنام بجماع أو غيره في الذكر والأُنثى ومن فرجيه في الخنثى (أو الإنبات) للشعر الخشن على العانة مطلقاً بلغ السنّ المعيّن أم لا ، كان ذكراً أم أُنثى أم خنثى ـ (أو بلوغ) أي إكمال (خمس عشرة سنة) هلالية (في الذكر) والخنثى (و) إكمال (تسع في الأُنثى) على المشهور (وقال) الشيخ (في المبسوط وتبعه ابن حمزة : بلوغها) أي المرأة (بعشر ، وقال ابن إدريس : الإجماع) واقع (على التسع) ولا يعتدّ بخلافها لشذوذه والعلم بنسبهما فمخالفتهما للإجماع غير ضائرة ، فإنّ المخالف لو لم يكن معلوم النسب والشخصية ، فيحتمل أنّه الإمام (عليه‌السلام) فخالف

٣٧

لئلّا تجتمع الأُمّة على ضلال وتقدّم الإجماع على هذين العلمين وتأخّر هذا الإجماع المحصّل عنهما ، وأمّا الحيض والحمل للمرأة فدليلان على سبقه أي سبق البلوغ ، فلولا وصولها إلى سنّ البلوغ لما حاضت ، وما لم تحض لا تحبل غالباً وفي إلحاق اخضرار الشارب وإنبات اللحية بالعانة قول قوي ، ويعلم السنّ بالبيّنة والشياع ، لا بدعواه والإنبات يعلم بهما وبالاختبار ، فإنّه جائز مع الاضطرار إن جعلنا محلّ الإنبات من العورة ، أو بدون الاضطرار على المشهور بأنّه ليس من العورة ، بل العورة خصوص الآلة ، ثمّ يثبت الاحتلام بالبيّنة وبالشياع وبقوله أيضاً ، وفي قبول قول الأبوين أو الأب في السنّ (إكمال خمسة عشر سنة هلالية) وجه (١).

هذا وقد تعرّضنا في مباحثنا الفقهيّة الاستدلالية (درس خارج الفقه) إلى علائم البلوغ في الرجل والمرأة بشيء من التفصيل ، وقد تصدّى لضبطها وتنقيحها بأُسلوب جميل في رسالة منفردة فضيلة الحجّة والخطيب البارع الشيخ حسين الصباح العوامي دام موفّقاً ، ويكون ما كتبه تقريراً لأبحاثنا ، ومن تمام ما حرّرناه في شرح (منهاج المؤمنين) و (العروة الوثقى) ، فراجع.

__________________

(١) اللمعة ٢ : ١٤٤ ، طبعة جامعة النجف الأشرف ، بتصرّف وتوضيح.

٣٨

التخيير بين الأُمور الثلاثة

التخيير لغة : بمعنى اختيار أحد الأمرين أو الأُمور المتعدّدة والمختلفة ، إلّا أنّه الخِيْرَة والخِيَرَة من الشيء أو القوم : الأفضل ، والخيار الاسم من الاختيار ، يقال : أنت بالخيار ، أي اختر ما شئت.

واصطلاحاً : والذي يسمّى بأصالة التخيير ، فهو يكون عند إحراز أصل التكليف والترديد في المكلّف به ، فيكون الأصل الإلزامي قطعي إلّا أنّ تعلّقه بهذا أو ذاك مردّد ومشكوك فيه ، ولا يمكن الجمع بينهما من باب الاحتياط ، وترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح قبيح ، فالعقل يحكم حينئذٍ بالتخيير.

ومن أهمّ موارد التخيير :

١ ـ عند تعارض الأدلّة والأمارات ، فالقاعدة الأُصوليّة تقول بتساقط المتعارضين كالخبرين المتعارضين ، إلّا أنّه في كثير من الروايات ورد التخيير بينهما ، وذهب المشهور إلى القول بالتخيير ، لدلالة الروايات المستفيضة بل المتواترة كما عند الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) على ذلك ، وعند المحقّق الخراساني من جميع ما ذكر يستفاد

٣٩

حاكميّة إطلاقات التخيير ، ويسمّى بالتخيير الظاهري الشرعي يستعمله المجتهد الفقيه.

٢ ـ التخيير في المحذورين : كالترديد بين الوجوب والحرمة كصلاة الجمعة في زمن الغيبة الكبرى ، فلا يمكن الجمع بينهما ، فالعقل يحكم بالتخيير حينئذٍ ويسمّى بالتخيير العقلي الظاهري أو التكويني ، وهناك أقوال أُخرى في المسألة كما هو مذكور في محلّه كالقول بالإباحة الشرعيّة كما عند المحقّق الخراساني.

٣ ـ التخيير بين الحكمين المتزاحمين ، كنجاة غريقين لا يتمكّن الإنسان إلّا على أحدهما ، فمخيّر في نجاة أيّهما ، ويسمّى بالتخيير العقلي الواقعي ، وفي التخيير العقلي لا بدّ من وجود جامع بين الأطراف والأبدال.

هذا ومن تقسيمات الواجب والوجوب كما مرّ أنّه ينقسم إلى الواجب التخييري والواجب التعيّني.

والثاني كالصلاة الذي هو متعيّن شرعاً على كلّ مكلّف ، والأوّل فيما كان متعلّق التكليف متعدّداً والمكلّف في اختيار أيّهما شاء مخيّراً ، كمن أفطر في شهر رمضان متعمّداً ، فإنّه مخيّر بين الكفّارات الثلاثة إطعام ستّين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين أو عتق رقبة وهذا يسمّى بالتخيير الشرعي الواقعي.

وخلاصة القول : أنّه في صناعة علم أُصول الفقه قسّموا الواجب التخييري إلى تخيير عقلي : ويقصد به التخيير بين أفراد طبيعة واجبة كتخيير المكلّف بين أفراد الصلاة المكانيّة أو الزمانيّة ، ولا بدّ فيه من القدر الجامع بين الأفراد وهو العنوان الكلّي. وإلى تخيير شرعي : وهو ما إذا لم يكن بين عدلي التخيير جامع حقيقي

٤٠