خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

ومكانه المعروف بالسهم إلى قرب النيرب خارج دمشق في سفح قاسيون فعمر المأمون هذا الدير وبنى القبة التي فوق الجبل وهي المعروفة الآن بقبة النصر ولم يعثر على أثر لهذا الدير العظيم. وكان هذا الدير لقربه من دمشق ولجمال موقعه مقصد الملوك والراغبين في النزهة والشراب. قال ابن بطريق : إن كنائس الغوطة ودير مران كان المسلمون ينزلونها ويسكنون فيها. وقد نزل يزيد بن معاوية دير مران ومات فيه الوليد واجتاز به الرشيد والمأمون وقد أكثر الشعراء من ذكره حتى نسب ليزيد قوله وقد أصاب المسلمين سباء بأرض الروم :

وما أبالي بما لاقت جموعهم

بالغذقدونة من حمى ومن موم

إذا اتكأت على الأنماط مرتفقا

بدير مران عندي أم كلثوم (١)

ومن جملة ما قيل في هذا الدير قول أبي بكر الصنوبري وهو :

أمرّ بدير مران فأحيا

وأجعل بيت لهوي بيت لهيا

ويبرد غلتي بردى فسقيا

لأيام على بردى ورعيا

ولي في باب جيرون ظباء

أعاطيها الهوى ظبيا فظبيا

ونعم الدار داريا ففيها

حلالي العيش حتى صار أريا

سقت دنيا دمشق ليصطفيها

وليس يريد غير دمشق دنيا

تفيض جداول البلور فيها

خلال حدائق ينبتن وشيا

مظللة فواكهها بأبهى ال

مناظر في نواظرها وأهيا

__________________

(١) الموم : البرسام ، وأم كلثوم هي زوجة يزيد بنت عبد الله بن كريز والغذقدونة ويروى الخذقدونة وهو الثغر الذي فيه المصيصة وطرسوس وأذنة وعين زربة.

وروى البكري هذه الأبيات في دير سمعان باختلاف قليل قائلا إن معاوية كان وجه ابنه يزيد لغزو الروم فأقام يزيد بدير سمعان ووجه الجيوش ، وتلك غزوة الطوانة فأصابهم الوباء فقال يزيد بن معاوية :

أهون علي بما لاقت جموعهم

يوم الطوانة من حمى ومن موم

إذا اتكأت على الأنماط مرتفقا

بدير سمعان عندي أم كلثوم

فبلغ شعره معاوية فكتب إليه : أقسم بالله لتلحقن بهم حتى يصيبك ما أصابهم ، فألحقه بهم. والاختلاف في رواية هذين البيتين وإنشادهما مع تبدل يسير تارة في دير سمعان وأخرى في دير مران يوقع الشك في نسبتهما ليزيد وحامل على أن القصة مفتعلة.

٤١

فمن تفاحة لم تعد خدا

ومن رمانة لم تخط ثديا

وله فيه :

متى الأرحل محطوطة

وعير الشوق مربوطة

بأعلى دير مران

فداريا إلى الغوطة

فشطي بردى في جن

ب بسط الروض مبسوطة

رباع تهبط الأنها

ر منها خير مهبوطة

وروض أحسنت تكتي

به المزن وتنقيطه

وقال فيه الحسين بن الضحاك :

يا دير مرّان لا عرّيت من سكن

قد هجت لي حزنا يا دير مرانا

حثّ المدام فإن الكأس مترعة

مما يهيج دواعي الشوق أحيانا

وقال الببغا أبو الفرج عبد الواحد :

ويوم كأن الدهر سامحني به

فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر

جرت فيه أفراس الصبا بارتياضنا

إلى دير مران المعظم والعمر

بحيث هواء الغوطتين معطر ال

نسيم بأنفاس الرياحين والزهر

فمن روضة بالحسن ترفد روضة

ومن نهر بالغيض يجري إلى نهر

وفي الهيكل المعمور منه انتزعتها

وصحبي حلالا بعد توفية المهر

ونزهت عن غير الدنانير قدرها

فما زلت منها أشرب التبر بالتبر

وقال عون الدين الحلبي الكاتب المتوفى سنة (٦٥٦) وهو مما يستأنس به من أن هذا الدير كان عامرا إلى أواسط القرن السابع وفيه ذكر ديرين آخرين وهما دير متى ودير حنينا والأول ليس له ذكر في ديرة الشام بل هو من أديار الموصل ولما كانت القصيدة في التشوف إلى الشام استلزم ذلك أن يكون دير متى من جملة أديارها التي ضاع اسمها ورسمها قال :

يا سائقا يقطع البيداء معتسفا

بضامر لم يكن في سيره واني

إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا

تعدل بلغت المنى عن دير مرّان

واقصد علالي قلاليه تلاق بها

ما تشتهي النفس من حور وولدان

من كل بيضاء هيفاء القوام إذا

ماست فيا خجلة المران والبان

وكل أسمر قد دان الجمال له

وكمل الحسن فيه فرط إحسان

٤٢

ورب صدغ بدا في الخد مرسله

في فترة فتنت من سحر أجفان

فليت ريقته وردي ووجنته

وردي ومن صدغه أنسي وريحاني

وعج على دير متى ثم حيّ به ال

ربان بالطرس فالربان رباني

فهمت منه إشارات فهمت بها

وصنت منشورها في طي كتمان

واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال

لمذات ما بين قسيس ومطران

واستجل راحاتها تحي النفوس إذا

دارت براح شماميس ورهبان

«دير المغان» بحمص في خربة بني السمط تحت تلهم ، وهو دير عظيم الشأن عندهم كبير القدر فيه رهبان كثيرة وترابه يختم عليه للعقارب ويهدى إلى البلاد قاطبة وتتنافس النصارى في موضع مقبرته (ياقوت).

«دير ميماس» نقلت من ياقوت : بين دمشق وحمص على نهر يقال له ميماس وإليه نسب ، وهو في موضع نزه ، وبه شاهد على زعمهم من حواريي عيسى عليه‌السلام زعم رهبانه أنه يشفي المرضى. وكان البطين الشاعر قد مرض فجاءوا به إليه يستشفي فيه فقيل : إن أهله غفلوا عنه فبال قدام قبر الشاهد واتفق أن مات عقيب ذلك فشاع بين أهل حمص أن الشاهد قتله وقصدوا الدير ليهدموه وقالوا : نصراني يقتل مسلما لا نرضى أو تسلموا لنا عظام الشاهد حتى نحرقها ، فرشا النصارى أمير حمص حتى رفع عنهم العامة فقال شاعر يذكر ذلك :

يا رحمتا لبطين الشعر إن لعبت

به شياطينه في دير ميماس

وافاه وهو عليل يرتجي فرجا

فردّه ذاك في ظلمات أرماس

وقيل شاهد هذا الدير أتلفه

حقا مقالة وسواس وخناس

أأعظم باليات ذات مقدرة

على مضرة ذي بطش وذي باس

لكنهم أهل حمص لا عقول لهم

بهائم غير معدودين في الناس

وحكي أن أبا نواس لما دخل حمص مارا بها دعاه فتى من أدبائها إلى دير ميماس ودعا معه أشجع السلمي فجلسوا يشربون وأبو نواس ينشدهم له ولغيره فقال أشجع :

بحت وجه الصباح بالكاس

ولم تعقني مقالة الناس

ونحن عند المدام أربعة

أكرم صحب وخير جلاس

ندير حمصية معتقة

على نسيم النسرين والآس

٤٣

ولم يزل مطربا ومنشدنا

أبو نواس في دير ميماس

«دير نجران» بأرض دمشق من نواحي حوران ببصرى وهو دير عظيم عجيب العمارة ولهذا الدير ينادى في البلاد من نذر نذرا لنجران المبارك والمنادي راكب فرس يطوف عامة نهاره في كل مدينة مناد ، وللسلطان على الدير قطيعة يأخذها من النذور التي تهدى إليه.

«دير النقيرة» في جبل قرب المعرة ولا نعرف عنه شيئا.

«دير هزقل» قال الخالدي هو بالشام وذكره دعبل بن علي حين هجا أبا عباد كاتب المأمون فقال :

فكأنه من دير هزقل مفلت

حنق يجر سلاسل الأقياد

قال ابن فضل الله : ولا أدري في قرب أي مدينة هو.

«دير يونس» ربما كان في جهات الرملة في فلسطين وقد قيلت فيه قصائد كثيرة وما ندري إن كان اختلط بدير في جهات الموصل على جانب دجلة الشرقي وموضعه يعرف بنينوى ، ونينوى هي مدينة يونس.

هذا ما أمكن تلقفه عن الأديار في الإسلام وكان قبل الإسلام أديار مهمة ضاعت أخبارها ولا يستغرب ما قيل في هذه الأديار من الأشعار في سالف الأعصار. فقد كان المسلمون يختلفون إلى الديرة يجعلونها محال النزهة لأنها في أماكن نزهة على الغالب تخيّر بانوها مواقعها ، وبالنظر لتحريج الحكومات الإسلامية في الخمور وإباحة شربها وبيعها لأهل الذمة كان المولعون بالشراب من أهل الشأن وخلعاء الشعراء والأدباء يغشون الأديار فيجدون صدورا رحبة فيشربون ويطربون ولذلك خص الشعراء تلك الأديرة بأشعار لطيفة وقصائد ربما كان فيها شيء من المبالغة ومنها ما نبا عن طور الأدب اليوم ولكنه كان من المألوف في تلك العصور.

وفي ديار الشام اليوم ولا سيما في لبنان وبعض أنحاء فلسطين أديار عظيمة منها ما ورد ذكره في الجريدة التي كتبناها هنا ومنها ما هو من البناء الجديد وفيها المهم بنيانه وهندسته أشبه بقلاع منه بطرابيل وصوامع للمنقطعين للعبادة والتبتل وقد ظهر في يوم ٢٧ أيار ١٩٤٥ وقد قذفت فرنسا مدينة دمشق بحمم مدافعها أن معظم كنائس دمشق للاتين كان فيها ورشاشات وسلاح قاتلوا به السكان وعلى رأسهم الراهبات والرهبان!

٤٤

المساجد والجوامع

في أول الفتح :

المسجد (بكسر الجيم) البيت الذي يسجد فيه وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد. ويقال مسجد الجامع والمسجد الجامع أي مسجد اليوم جامع. فالمسجد قد يكون صغير المساحة والحجم ، والجامع مسجد عظيم يجمع المصلين أيام الجمع والأعياد. وأول المساجد التي بنيت في الشام على ما يظهر كانت في البلدان التي سبق فتحها غيرها من أمهات المدن مثل مؤتة والجرباء وأذرح وفحل وأجنادين وبصرى.

ولما كانت السذاجة في كل شيء قد غلبت على العرب لأول عهدهم بالإسلام كانت مصانعهم بحسب الحاجة ، وإذا كان من الواجب إذا اجتمع بضعة أفراد منهم أن يقيموا الصلاة جماعة لم تلبث المساجد أن كثرت في الشام في المدن والقرى. وكان الفاتحون يصالحون الأهلين إما على النصف من كنائسهم أو على بعضها أو يكتفون بواحدة أو بنصف واحدة كما اكتفوا بكنيسة مار يوحنا من أصل خمس عشرة كنيسة في دمشق وضاحيتها. وأعطى أبو عبيدة أهل بعلبك وأهل الرستن الأمان على كنائسهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد في الرستن. وصالح الفاتح أهل حمص على ربع كنيستهم للمسجد وظلت كذلك إلى القرن الرابع وبعض بيعتها المسجد الجامع وشطرها للنصارى وبيعتهم من أعظم بيع الشام. وترك الفاتحون لأهل اللاذقية كنيستهم وبنوا مسجدا جامعا لصلاتهم ثم وسعوه.

بقيت المساجد على حالة ابتدائية حتى تولى معاوية أمر الشام ، وكان بعيد

٤٥

النظر في العمران ، فسمت به همته إلى أن يخرج المساجد من دور التأسيس ويدخلها في مظهر مدني فيه الجلال والجمال. ولم يزل بعثمان حتى أذن له أن يبني المساجد ويكبر ما كان ابتني منها قبل خلافته. وهكذا بدأ التوسع في المساجد والجوامع عقيب استقرار الفتح ورسوخ أقدام بني أمية.

واختط سليمان بن عبد الملك لما ولي جند فلسطين مدينة الرملة واختط المسجد وبناه فولي الخلافة قبل استتمامه ثم بنى فيه بعد في خلافته ثم أتمه عمر بن عبد العزيز ونقص من الخطة وقال : أهل الرملة يكتفون بهذا المقدار الذي اقتصرت بهم عليه. ومعنى هذا أن جوامع القوم ومساجدهم كانت بحسب حاجة من ينزل في كل صقع من المسلمين والتوسع لم يبد إلا مع معاوية بن أبي سفيان وأخلافه.

عرضنا في فصل المصانع لوصف المسجدين الجامعين في هذه الديار المسجد الأقصى وجامع دمشق. ونحن الآن نعرض لغيرهما من المساجد نذكر المهم منها في الحواضر على الأكثر ، ونقابل بين قديمها وحديثها ، وبديهي أن المساجد لقيت من المصائب السماوية والأرضية ما لقي غيرها من المصانع والعاديات. فإن الزلازل قد نسفت في الإسلام مدنا برمتها فقد تقطع الجبل الأقرع فمات أهل اللاذقية سنة (٢٤٢ ه‍) وخربت طرابلس منه وفي هذا الزلزال خرب معظم الساحل وزلزلة سنة (٤٦٠) خربت فلسطين وزلزال سنة (٥٥٢) خربت به أمهات المدن الشامية وهكذا يقال في معظم الزلازل التي وقعت بعد إلى القرن الماضي ومن أهمها زلزال سنة (١١٧٣) حتى إن من المدن ما لم يبق فيه جدار قائم ولا إنسان سائر. ومساجد الساحل أصيبت في الحروب الصليبية بما نسفها أو غير معالمها فأصبحت كنائس ثم لما عادت البلاد لسلطان المسلمين أعيدت بعض البيع أيضا مساجد.

ومن المتعذر أن نعرف ما قام في كل عصر ومصر في الشام من المساجد والجوامع. ومن القرى اليوم ما كان فيه بالأمس عشرة مساجد والعمران يكثر ويقل بحسب حاجة الناس. والغالب أن العناية ببناء المسجد كان لغرض شريف للغاية بادئ بدء يراد به وجه المولى وثواب الآخرة وخدمة الإسلام والمسلمين. فلما أوغل الناس في مضمار الحضارة كان من البانين من يجمعون

٤٦

بين الدين والدنيا إذا تعلقت هممهم أن ينشئوا لهم جوامع يقصدون بها تخليد ذكرهم ونيل الثواب والأجر. ثم أتت قرون وقد أخذ بعض الناس ولا سيما الحكام يعمرون المساجد ويقفون عليها حتى يحفظوا بحجتها بعض ثرواتهم لذراريهم ، وفي هذه العصور الأخيرة وقع التخليط وكثرت المنافسة في إقامة المساجد والجوامع ، حتى في الأماكن التي لا يحتاج فيها الناس إلى مساجد كثيرة إما لكثرتها أو لقلة المصلين في جوارها. وأشبهت دمشق القاهرة في عهد المماليك وبعدهم ، فكانوا يعمرون الجامع قرب أخيه على أشبار قليلة منه. وما حدثت البانين أنفسهم أن يشترك في إقامة مسجد جامع بضعة من أهل الخير أو عشرات منهم ، لأن المقصد الأول استحال في الآخر إلى إحراز شهرة وإذا عمر إنسان جامعا بالاشتراك مع غيره يضيع اسمه ، وغايته أن يقال بنى فلان مسجدا ، وهذا مسجد فلان ، أو أن ينتفع هو أو أولاده بمغل وقف الجامع.

وكان للملوك والأمراء في كثرة المساجد وقلتها يد طولى ومنها أن الملك أو الأمير أو غيره من طبقات الحكام والولاة إذا آنس منه قومه رغبة في الاستكثار من المساجد والقربات جاروه على أفكاره وتقربوا إليه بمثل هذه الأعمال الصالحة ، وربما تقاضاهم هو ذلك سرا حتى يستخرج بذلك أموالهم وتوزع في الرعية فلا تجمد الثروة في يد واحدة. قال ابن تغري بردي في حوادث سنة (٨٤٤) : لما كانت الملوك السالفة تهوى النزه والطرب عمرت في أيامهم بولاق وبركة الرطلي وغيرها من الأماكن ، وقدم إلى القاهرة كل أستاذ صاحب آلة من المطربين وأمثالهم من المغاني والملاهي إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق ، وسار في سلطنته على قدم هائل من العبادة ، والعفة عن المنكرات والفروج ، وأخذ في مقت من يتعاطى مسكرات من أمرائه وأرباب دولته ، فعند ذلك تاب أكثرهم وتصولح وتزهد ، وصار كل واحد يتقرب إلى خاطره بنوع من أنواع المعروف ، فمنهم من صار يكثر من الحج ، ومنهم من تاب وأقلع عما كان فيه ، ومنهم من بنى المساجد ، ولم يبق في دولته ممن استمر على ما كان عليه إلا جماعة يسيرة.

٤٧

مساجد حلب :

في حلب اليوم ١٦٩ جامعا و ١٨٢ مسجدا ومنها الجيد بنيانه ، وأعظمها المسجد الجامع مسجد زكريا في غربي القلعة. صالح المسلمون أهل حلب على موضع المسجد الجامع يوم الفتح ، وكان محله حديقة كنيسة الروم القديمة التي بنتها هيلانة أم قسطنطين. قالوا : إنه كان يضاهي جامع دمشق بالزخرفة والرخام والفسيفساء ، وإن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل : إن بانيه الوليد نفسه ، وإن بني العباس نقضوا ما كان فيه من الرخام والآلات ونقلوه إلى جامع الأنبار في جملة ما نقضوا من آثار بني أمية بالشام. ولما جاء الروم حلب سنة (٣٥١) أحرقوا الجامع والبلد فرم بعضه سيف الدولة ثم ابنه سعد الدولة ، وأحرقته الإسماعيلية سنة (٥٦٤) مع الأسواق التي حوله فعمره نور الدين زنكي وقطع الأعمدة الصفر من بعادين ونقل إليه عمد مسجد قنسرين ، وأحرقه الأرمن سنة (٦٧٩) أيام كانوا محالفين للتتر. وعمره قراسنقر سنة (٦٨٤) وبنى فيه غيره بعض جهات منه مثل الأمير ألطون بغا الصالحي نائب حلب والأمير يشبك اليوسفي.

ويقول العارفون بالآثار : إن بناء الجامع الحالي قد قام على الصورة التي عملت عليه زمن سابق بن محمود من بني مرداس (٤٦٨ ـ ٤٧٢) على يد القاضي ابن الخشاب وإن في أسفل المنارة كتابة تاريخها سنة (٤٨٣) ذكر فيها اسم ملكشاه وابن الخشاب وفي جهة أخرى ذكر اسم تتش أخو ملك شاه ويستدل من مجموع البناء ، وليس في جدرانه من كتابة مزبورة ، أن هذا الطراز قديم صبر على الدهر. ومحرابه من عهد قلاوون والمنبر من عهد الناصر محمد ، ويرد عهد الباب الأوسط للحرم إلى أوائل زمن المماليك وإن كانت فيه كتابات أحدث من عهد السلطان مراد الثالث (٩٩٦). وأسس المنارة المربعة ذات الخمس طبقات القاضي ابن الخشاب سنة (٤٨٢) وهي منقوشة أبدع نقش وهي بما كتب عليها من الكتابات الكوفية والنسخية المثال الوحيد من الهندسة الإسلامية. قال أبو الفداء : وكان بحلب بيت نار قديم ثم صار أتون حمام فأخذ ابن الخشاب حجارته وعمر منارة جامع حلب.

٤٨

وصف ابن جبير في القرن السادس جامع حلب بقوله : وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها وقد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين بابا ، فيستوقف الأبصار حسن منظرها ، وفي صحنه بئران معينتان ، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه ، فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره ، فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله ، وغرابة صنعته ، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصنعة الغريبة ، وارتفع كالتاج العظيم على المحراب ، وعلا حتى اتصل بسمك السقف ، وقد قوّس أعلاه وشرف بالشّرف الخشبية القرنصية ، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس ، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة ، دون أن يتبين بينهما انفصال ، فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا ، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف اه.

هذا وصف المسجد الجامع وما كان فيه وليس هو بالعظيم كمسجد دمشق أو المسجد الأقصى وقد رمم في أوقات مختلفة. وفي حلب جامع الصالحين جنوبي المدينة أنشئ سنة (٤٧٩) أنشأه أحمد بن ملكشاه ومحرابه مهم في بابه. وأول جامع بني بحلب فيما قالوا بعد الجامع الكبير جامع ألطون بغا الصالحي تم سنة (٧٢٣) وفيه يقول ابن حبيب :

في حلب دار القرى جامع

أنشأه ألطنبغا الصالحي

رحب الذرى يبدو لمن أمّه

لطف معاني حسنه الواضح

مرتفع الرايات يروي الظما

من مائه السارب والسارح

يهدي المصلي في ظلام الدجى

من نوره اللامع واللائح

من حوله روض يرى للورى

من زهره بالفائق الفائح

لله بانيه الذي خصه

بالروح للغادي وللرائح

وعدّ ابن الشحنة من أحسن الجوامع التي بنيت على أجمل الوجوه جامع منكلي بغا الشمسي نائب حلب عمر (٧٧٨). وعد ابن شداد في باطن حلب مائتي مسجد وسبعة عشر مسجدا داخل سور البلد منها ما نسبه لمنشئه ومنها

٤٩

ما عرفه بالخطة التي هو فيها. وذكر المساجد التي بأرباض حلب وذكر منها ما هو بالحاضر السليماني مائة مسجد وعشرة مساجد ، وذكر مساجد الرابية وجورة جغال فعدها مائة وثمانية وستين مسجدا وأتى على ذكر المساجد التي بالظاهرية فعدها تسعة وتسعين مسجدا وعد بالرمادة أربعة وثلاثين مسجدا. وعد ببانقوسا ثلاثة عشر مسجدا وبالفرافرة اثني عشر مسجدا وبالمضيق ستة عشر مسجدا وبالقلعة عشرة مساجد. قال ابن الشحنة وعنه لخصنا احصاء ابن شداد لمساجد حلب : فجملة هذه المساجد التي داخل حلب وخارجها إلى حين تأليف ابن شداد كتابه سبعمائة وخمسة وعشرون مسجدا. وقد بنى بعض الولاة الأول في الدولة العثمانية جوامع في حلب منهم جامع خسرو باشا (٩٣٨) وجامع عادلي محمد باشا (٩٥٧) وجامع بهرام باشا (٩٨٨) وابشير مصطفى باشا (١٠٦١) وجامع عثمان باشا (١١٥٠). ومن جوامع حلب التي بقيت عليها بعض الكتابات الحثية جامع القيقان ومن جوامعها الأطروش واشتهر بكتاباته ونقوشه جامع البيادة في شمالي غربي القلعة.

جوامع عمالة حلب :

قامت في أنحاء حلب مساجد كثيرة ومنها مساجد قنسرين وهو البلد القديم الذي كان في الإسلام بمثابة حلب فخرّبه سيف الدولة سنة (٣٥١) أو (٣٥٥) وأحرق مساجده ، لما نزل الروم حلب وقتلوا جميع من كان بربضها وذلك خوفا من سقوطها في أيدي أعدائه. وأنشئت في أنطاكية عدة جوامع بقيت منها بقايا على ما انتابها من الزلازل وأهمها اليوم جامع حبيب النجّار والجامع الكبير والشيخ علي والذخرية. وفي أنطاكية لعهدنا ١٣ جامعا و ٢٧ مسجدا ومجموع ما في عملها ١٣٥ مسجدا وجامعا وزاوية وتكية. وأنشئت منذ الفتح جوامع في مدينة المعرة وصف ناصر خسرو في أواخر منتصف القرن الخامس جامعها الأعظم فقال : إنه مبني على أكمة قامت وسط المدينة ومن أي جهة اتجهت إلى هذا الجامع كان عليك أن ترتقي سلما ذات ثلاث عشرة درجة. وقد خربت المعرة بدخول الصليبيين ، ثم عادت إليها بعض حياتها وفيها اليوم ٢٣ جامعا ومسجدا أهمها الجامع العمري الكبير تقام فيه الجمعة دون غيره

٥٠

من المساجد. ومجموع ما في عمل المعرة ٤١ مسجدا وجامعا. وفي عمل جبل سمعان اليوم ١٨٣ جامعا ومسجدا ، وفي بيلان ٥ مساجد وجوامع. وفي قضاء إدلب ٣٧ مسجدا وجامعا وجامعها في القصبة من عهد الفتح يسمونه العمري. وفي معرة مصرين وعملها ١١ جامعا ومسجدا ، وفي حارم جامع ومسجد وفي عملها عدة جوامع ومساجد وكذلك في اعزاز ، وفي قضاء الباب ١٥ جامعا ومسجدا وفي بزاعة وجسر الشغر ومعرة مصرين وسرمين وجبرين وسلقين وخناصرة والفوعة وأرمناز وديركوش والجبول والأثارب ودانيث وكلز وغيرها من البلدان القديمة مساجد وجوامع. ولا تكاد تخلو في يومنا هذا كل قرية من مسجد إلا إذا كانت مزرعة حقيرة لأحد أرباب الأملاك. وفي الشغر اليوم ثلاثة جوامع وخمسة مساجد ولا تخلو المدينة التي كانت عامرة جدا ثم خربت عن آخرها مثل بالس (مسكنة) ومنبج مثلا من مساجد لا بأس بها.

ولقد تقلبت الأيام بهذه المساجد والجوامع فكثرت في الأماكن التي اشتدت إليها الحاجة وقلت حيث قل العمران وابذعرّ السكان. فقد كانت سرمين مثلا على طرف جبل السماق من المدن ولها مساجد كثيرة روى ابن شداد أن عددها كان ينيف على ثلاثمائة مسجد ، قال : وليس بها الآن أي في عهده مسجد يصلى فيه غير الجامع وأكثر أهلها إسماعيلية ولهم بها دار دعوة. وسواء كان هذا العدد مبالغا فيه أو غير مبالغ فالمحقق أن الجوامع والمساجد كثرت في الأعصر السالفة في هذه الأرجاء بكثرة السكان وتوفر خيرات الأرض ثم لما خربت المدن دع القرى تراجع أمر بيوت العبادة.

ومن الجوامع القديمة في هذا الصقع جامع اعزاز عرف بالجامع الكبير قال الغزي : وهو صحن واسع فسيح في شماليه رواق وفيه مأذنة ضخمة وفي وسطه حوض يهبط إليه بدركات تجري فيه قناة جرها إليه إسماعيل بن عبد الله العزازي المتوفى سنة (٧٤٨) وفي جنوبي صحن الجامع قبلية يبلغ طولها نحو ٥٠ في عرض ١٥ ذراعا سقفها قباب محمولة على أعمدة ضخمة وقد كتب على باب الجامع المتجه إلى الغرب : بسم الله الرحمن الرحيم في سنة (٦٤٤) أمر بعمله مولانا السلطان العالم العادل الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي ابن أيوب ناصر أمير المؤمنين خلد الله ملكه.

٥١

مساجد الساحل وجوامعه :

لما كانت مدن الساحل معرضة لهجمات الأعداء كل حين ، وكانت الزلازل قد توالت عليها كثيرا وظلت مرسحا للجيوش الصليبية مدة قرنين أصاب الجوامع والمساجد فيها ما أصاب غيرها من العمائر ، فليس في الإسكندرونة اليوم سوى جامعين وفي عمالتها بعض المساجد الحقيرة ، وكذلك الحال في السويدية واللاذقية والمرقب وطرطوس وجبلة وبانياس وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور وعكا وحيفا ويافا وغزة ، خربت جوامعها ومساجدها وعمرت غير مرة في الإسلام. ففي اللاذقية اليوم عدة مساجد وفيها جامع جميل مطل عليها من الهضبة المطلة على الثغر ولها منارة جميلة. وأهم جوامع اللاذقية جامع المغربي ومن جوامعهم جامع الجديد والكبير المنصوري وأرسلان باشا والصليبة وصوفان والشيخ ضاهر وجامع الاسكلة والشواف والصغير ، وفي اللاذقية اثنا عشر مسجدا غير هذه الجوامع. وفي جبلة جامعان وهما جامع السيد إبراهيم والمنصوري ومن مساجدها القنطاري وبني علي أديب والغزالي والأكراد وجامع واحد في بانياس ، وفي طرطوس جامع كان على عهد الصليبيين كنيسة كاتدرائية ، وفي صافيتا جامع وثلاثة مساجد في جوارها.

وفي طرابلس (١) عدة جوامع ومساجد ومعظمها من آثار المماليك البحرية والجراكسة، وما تجدد بعدهم فقليل جدا بالنسبة لآثارهم في هذه المدينة ، وأكثرها لم يذكر عليه اسم بانيه. ولا ريب أن البواعث كانت دينية محضة ورغبة في ثواب الله بدار الآخرة فكان عدم ذكر الباني على البناء أبعد عن السمعة والرياء ، وكان الأمير أو المتمول منهم إذا شيد مسجدا للصلاة جعل في أحد أطرافه مشهدا ليدفن فيه عند موته ولم يزل إلى الآن كثير من قبور المماليك الرخام محفوظا في المساجد التي أقاموها على الطراز المخصوص بهم كأن يجعلوا في كل زاوية من زوايا القبر قاعدة بارتفاع ثلاثين سانتيما وأعلاها كروي. وللمماليك من نوع هذه القبور في دمشق صنوف. وإن ما بقي إلى اليوم من الفسيفساء في محاريب تلك المساجد وجدرانها آية في الإبداع وحسن الصناعة.

__________________

(١) كتب وصف جوامع طرابلس السيد محمد كامل بابا.

٥٢

ومن أعظم جوامع هذا الثغر الجامع الكبير بناه السلطان صلاح الدين خليل الأشرفي على ما يرى في الكتابة المحفورة فوق باب الجامع الشمالي وذلك في سنة (٦٩٣ ه‍) وكان متولي العمارة سالم الصهيوني ابن ناصر الدين العجمي وفي سنة (٧١٥) وعلى عهد ولاية السلطان محمد بن قلاوون للمرة الثالثة بنيت بأمره الأروقة المحيطة بصحن المسجد أيام نيابة المقر السيفي كستاي الناصري وكان متولي العمارة أحمد بن حسن الحرلبعليلي وتسميه أهالي طرابلس الجامع المنصوري وهو غلط بين لأن الملك المنصور قلاوون هو أبو الأشرفي باني الجامع المذكور.

ومنها جامع طينال وتسميه العامة طيلان بناه سيف الدين طينال مملوك محمد الناصري وحاجبه وكان قد تولى ولاية طرابلس مرتين وبنى الجامع المذكور للمرة الثانية سنة (٧٣٦). وفي منارته هندسة لطيفة ولها من داخلها سلمان أحدهما سقف للآخر ، فإذا أراد المؤذن الصعود للأذان من داره الملاصقة للمسجد دخل من باب المنارة صاعدا أعلاها وإذا أراد النزول للصلاة دخل من باب آخر يصل منه إلى داخل المسجد وعلى هذه الصورة فباب المنارة السفلي الخارجي أدنى من أرض المسجد بقدر قامة الإنسان.

ومن جوامعها جامع أرغون شاه وتسميه العامة الفنشا على الطريق الشرقية الآخذة لجبانة باب الرمل ولا يعلم تاريخ بنائه وفوق بابه كتابة حفرت أيام قايتباي من المماليك الجراكسة سنة (٨٨٠) يأمر فيها بحماية زراع أراضي الوقف للجامع المذكور وتسليمها إلى محمود الأدهمي الحسيني وقد بني هذا الجامع حديثا بعد سقوطه ووضعت له القساطل الحديدية لجر المياه.

ومن جوامعها جامع التوبة وهو ملاصق للجسر الجديد على نهر أبي علي ومن الثابت أنه بني أيام دولة المماليك وطرز هندسته يشبه الجامع الكبير من وجوه كثيرة وقد جدد بناءه بعد ما تهدم من الفيضان الكبير الذي وقع في طرابلس سنة (١٠٢٠) أحمد بن محمد الشربداري الأنصاري كتخداي حسين باشا السيفي ، وتم بناؤه في شهر ربيع الآخر سنة (١٠٢١) والكتابات الأثرية التي عليه يرجع تاريخها إلى سنة (٨١٧) أيام دولة المؤيد أبي النصر شيخ المحمودي من المماليك الجراكسة.

٥٣

ومن جوامعها جامع المعلق بناه محمود بن لطفي الزعيم سنة (٩٦٧) أيام سليمان القانوني وهو في محلة بوابة الحدادين. وجامع العطار وسط البلد بقرب محلة الملاحة والمشهور عند أهالي طرابلس أنه كان كنيسة في زمن الصليبيين ثم تحول إلى جامع بعد الفتح الإسلامي وكان قد تداعى بناؤه ، فأقيم وفي أعلى بابه الشرقي مكتوب هذا التاريخ «البسملة. هذا الباب المبارك والمنبر من عمل المعلم محمد بن إبراهيم المهندس في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة». وجامع البرطاسي في جانب الجسر العتيق على نهر أبي علي وفي الكتابة التي فوق بابه يقول : بنى هذه المدرسة عيسى بن عمر البرطاسي ووقفها على المشتغلين بطلب العلم على مذهب الإمام الشافعي ولم يعلم الزمان الذي تحولت فيه إلى جامع وقد ذهب من أصل الكتابة التاريخية القسم الذي يذكر به زمن البناء غير أن أسلوب تلك الكتابة وطرز بنائه الفخم ودقة الفسيفساء التي على محرابه وفي أرضه تدل على أن بانيه من الأثرياء أيام دولة المماليك البحرية. وجامع الأويسية بني في دولة المماليك غير أنه لم يكن عليه كتابات تاريخية إلا ما كان في أعلى منارته وفيها ذكر أنه جدّد بناءها أيام السلطان سليمان القانوني سنة (٩٤١) رجل اسمه حيدرة وفي وقفية الجامع أن اسم بانيه محيي الدين الأويسي.

وجامع عبد الواحد وراء سوق الصاغة بناه عبد الواحد المغربي المكناسي أيام السلطان محمد بن قلاوون للمرة الثالثة سنة (٧٠٥) وعليه زبرت كتابة تشعر بذلك. وجامع التفاحي ويسمى اليوم بالحميدي لم يبق من بنائه الأصلي أثر وتجدد بناؤه حوالي سنة (١٣١٠) بمعاونة أهل الخير وإعانة السلطان عبد الحميد الثاني فنسب إليه. وجامع محمود بك السنجق وهذا بناه في طرف البلد تقريبا للجهة الشرقية بالمحلة المعروفة بباب التبانة سنة (١٠٢٠) في عهد السلطان أحمد من ملوك بني عثمان ووقف عليه أوقافا كثيرة لم تزل قائمة إلى الآن. وجامع الطحام داخل البلد ولم يعلم اسم بانيه ولا تاريخ بنائه وشكله وطرز منارته يدل على أنه بني زمن المماليك.

هذه جوامع طرابلس وقد وصف ناصر خسرو المسجد الأعظم فيها أواخر النصف الأول من القرن الخامس بقوله : والمسجد الأعظم قائم في وسط المدينة وهو جميل للغاية ، مزدان بأحسن زينة ، ومبني على غاية القوة

٥٤

والمتانة ، وفي صحنه قبة عظيمة تعلو حوضا من المرمر في وسطه فوارة يخرج ماؤها من منقار نحاس أصفر اه. والغالب أن هذا الجامع خرب بخراب تلك المدينة بعد.

وفي جبيل جامع قديم هو مما اتخذ جامعا بعد الحروب الصليبية. أما مدينة بيروت فكانت فيها جوامع صغيرة بعد الفتح ولم تكن بيروت بالثغر العظيم إذ ذاك ولم يكن للمسلمين جامع فيها أيام استيلاء الصليبيين عليها ، فلما انتزعت منهم أخذوا كنيستهم وجعلوها جامعا ، وهي تعرف بكنيسة مار يوحنا الصايغ ويقال لها جامع النبي يحيى أو الجامع الكبير اليوم. وبنى فيها الأمير منصور عساف جامع السراية. وكان جامع الخضر كنيسة للموارنة باسم مار جرجس إلى سنة (١٦٦١ م) فأخذه أحد باشاوات الترك وجعله جامعا. ومنها جامع المجيدية وغيره ومجموع ما في بيروت اليوم من المساجد والجوامع ثلاثون جامعا ومسجدا.

وفي صيدا سبعة جوامع ومساجد أهمها الجامع الكبير جامع يحيى وكان كنيسة على الغالب باسم مار يوحنا وفي صور مسجد جامع. وفي عكا بضعة جوامع أهمها جامع الجزار ، وفي حيفا وعملها عدة جوامع ومساجد ، وفي يافا وعملها كذلك وجوامع يافا قديمة في الجملة ، وفي غزة اليوم عدة جوامع ومساجد. وقد أعجب الظاهري في القرن التاسع بجوامع غزة ، وكان مسجدها الجامع من الكنائس المهمة في القرن الثاني عشر للميلاد على اسم القديس يوحنا المعمدان ، وكان كاتدرائية لأسقف الروم ، وفيها جامع هاشم وجامع باب الداروم وغيره من الجوامع التي فيها نقوش بديعة وأنقاض تدل على مجد قديم.

جوامع المدن الداخلية :

وفي الخليل و (حبرون) جامع فيه مقام الخليل إبراهيم في مغارة تحت الأرض. قال شيخ الربوة : ومن المباني القديمة مقام الخليل عليه‌السلام طوله ثمانون ذراعا وعرضه خمسون ذراعا ، في الطول منه عشرون حجرا مدماكا واحدا ، وداخل المقام نصب على الضريح كل واحد حجر واحد ، الطول أربعة أذرع والعرض ذراعان ونصف والسمك مثلها وأزيد. ويحتوي اليوم سور الخليل على أساس يبلغ علوه ١٢ مترا وحجارته ملساء عليها مسحة

٥٥

الأمبراطور هيرودوس. وقد بنى هذا الجامع الصليبيون من سنة (١١٦٧) إلى (١١٨٧) ، وربما كان إنشاؤه مكان كنيسة يوستنيانوس وجدده المسلمون بعد ذلك. وأقدم ما في الجامع من الترميمات ما قام به قلاوون من سلاطين المماليك.

وفي القدس عدا المسجد الأقصى ثمانية جوامع وهي جامع عمر بن الخطاب تهدم ومكانه الآن كنيسة القديسة حنة شمال كنيسة مار يوحنا والجامع الباقي مع المأذنة من آثار قلاوون (قاله الأستاذ البرغوثي) وجامع عكاشة وجامع سوق البيزار وجامع سلمان الفارسي وجامع الشيخ جراح وجامع سويقة علوان وجامع الخانقاه بالصلاحية قرب الكنيسة وجامع باب خان الزيت. والجوامع الخربة أيضا تسعة وهي جامع بحارة الحدادين ، وآخر قرب دير اللاتين وثالث قرب بطريركية دير اللاتين ورابع اسمه الحيات وخامس جامع اليعقوبي قرب القلعة وجامع قرب دير الأرمن ومثله على مقربة من دير السريان وغيره في حارة اليهود وجامع الأزرق. وهناك ثلاثة جوامع معمورة أيضا وهي جامع السبيل وجامع لؤلؤ وجامع أبي قصبة. وبعض هذه الجوامع لا شأن له من حيث النظافة والإتقان شأن المصليات البسيطة.

وفي الرملة عدة جوامع ومساجد قال ناصر خسرو في مسجدها الجامع : إن في وسطه صهاريج واسعة وإن مساحته ثلاثمائة قدم في مائتين. وقال الظاهري : إن من جملة مزاراتها الجامع الأبيض عجيب من العجائب. وكان فيها منارة من عجائب الدنيا بناها قلاوون. وفي لدّ عدة جوامع ومساجد وكان بها في القرن الرابع جامع يجمع به خلق كثير من أهل القصبة وما حولها من القرى وجامعها الكبير اليوم من عهد الصليبيين كان كنيسة. وفي نابلس تسعة جوامع ومساجد أهمها الجامع الكبير ومسجد أولاد يعقوب وجامع النصر والخضراء والجامع الكبير بناه يوستينانوس. وعلى قيد غلوة من أرسوف بقايا حرم سيدنا علي بن عليل أو عليم. وفي قاقون بنى الملك الظاهر بيبرس جامعا. والظاهر هذا جدّد وبنى عدة مساجد وجوامع في الشام ومثله قلاوون وتنكز من المماليك. وفي طور كرم وجينين عدة مساجد وجوامع أكثرها محدث.

ومن الجوامع التي رمها ديوان الأوقاف في فلسطين في العهد الأخير جامع المنشية والعجمي والبحر وأرشيد والطابية في يافا ، وجامع العصا في الرملة ،

٥٦

وجامع لدّ. ومقام النبي يحيى في قرية المزيرعة ومقام النبي روبين وجامع سويقة علّون وجامع باب خان الزيت والزاوية النقشبندية وجامع سعد وسعيد ، وجامع بيت لحم ومقام النبي شموبل في القدس وأرباضها. ورمت الأوقاف في نابلس جامع النصر والجامع الكبير الصلاحي وجامع العين وجامع التينة. وجامع قرية رفيديا وقرية عقربة وقرية عصيرة الشمالية وقرية صيدا وجامع البئر في قرية زواتا وجامع سبسطية وجامع قرية برقة. وأجريت عدة إصلاحات في جامع الجزار في عكا وأنشئ في حيفا جامع الاستقلال. وأصلحت الأوقاف الجامع الكبير في غزة أصابه خراب كبير بسبب معارك الحرب العامة «وهو من المساجد العظمى في فلسطين فخم البناء كبير القيمة الأثرية جميل الشكل والهندسة يحتوي على عدة سلاسل من العقود الحجرية» وأصلح جامع سيدنا هاشم وجامع ابن عثمان وجامع المجدل وحرم سيدنا زكريا في الخليل ، وشرع أهالي الخليل ينشئون مسجدا فساعدهم المجلس الإسلامي الأعلى.

وكانت المدن القديمة غاصة بالجوامع مثل قيسارية وأرسوف فذهبت بذهاب عمرانها. وفي طبرية اليوم جامعان قديمان الجامع الفوقاني من بناء عرب الزيادنة عام (١١٥٦) والثاني جدد بناؤه عام (١٢٨٠). وفي صفد عدة جوامع ومساجد. وفي قلعة الشقيف بنى الظاهر بيبرس جامعا وكانوا يقيمون الصلوات في القلاع أيضا ، كما بنوا جوامع لهم في قلعة دمشق وفي قلعة حلب. وفي صرخد عمر الظاهر بيبرس جامعا ، وكذلك فعل في بصرى وعجلون والصلت ، وفي هذه البلدان اليوم مساجد صغيرة فقد قضت الأيام على المساجد المهمة. وفي عمان جامع ومسجد وكان فيه في القرن السابع «جامع ظريف في طرف السوق مسقف الصحن شبه مكة». وقد أنشئ فيها في العهد الحديث جامع فخم.

وللدروز في الشوف من لبنان ووادي التيم الأعلى والأسفل ومرجعيون وصفد وضواحي دمشق وبيروت والجبل الأعلى وفي بعض قرى عكا خلوات أشبه بالمساجد لا منابر لها ولا مآذن ، يجتمع فيها خاصتهم ليلة الجمعة ويسمونها مجالس كما أن للنصيرية (العلويين) في جبالهم خلوات صغيرة ذات قباب تكون على الغالب في أطراف قراهم ، وكذلك لا تخلو أكثر قرى المتاولة

٥٧

(الشيعة) في جبل عامل من مساجد صغيرة لهم لا مآذن لها ولا منابر ، ومنها ما يسمونه «حسينية» نسبة للحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما يقيمون فيها المآتم عليه في أوقات لهم مخصوصة. وفي بعلبك عدة جوامع ومساجدها بقي بعضها من عهد عزها. أيام غلبة مذهب أهل السنة والجماعة على سكانها أكثر من التشيع. وللإسماعيلية مجالس أيضا كما للنصيرية.

ولقد زيّن بعض عمال السلطنة العثمانية للسلطان عبد الحميد الثاني أن يبني جوامع ومساجد في جبال النصيرية وجبل الدروز عسى أن يثوب أهلها إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، بنيت عدة جوامع في هاتين المقاطعتين ، منها أربعون جامعا في جبال العلويين على أمل أن يعود النصيرية والدروز إلى التسنن ، فأصبح بعضهم يصلون شبه مكرهين ، فلما آنسوا ضعف الحكومة بعد مدة قليلة أتى جهلاء النصيريين والدروز على ما بني من المساجد الجديدة ودمرها عن آخرها ودنسوا كرامتها بما لا يليق.

ومن الكتابات الأثرية في بعلبك ما زبر فوق باب قبة الأمجد على رابية الشيخ عبد الله «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر. أمر بعمارة هذا المسجد المبارك الأمير الاسفسهلار الكبير صارم الدين أبو سعيد خطلخ ابن عبد الله المعري الملكي الأمجدي ، ضاعف الله له الثواب وغفر له يوم الحساب ، في سنة ست وتسعين وخمسمائة».

وكتب في جامع الحنابلة ببعلبك هذا : «بسم الله الرحمن الرحيم. جدّد هذا المكان المبارك في أيام مولانا السلطان الأعظم ، شاهنشاه المعظم مالك رقاب الأمم ، سيد ملوك العرب والعجم والترك والديلم ، الملك المنصور سلطان الإسلام والمسلمين ، قامع الكفرة والمشركين ، محيي العدل في العالمين ، ملك البحرين ، خادم الحرمين الشريفين ، أبي المعالي قلاوون قسيم أمير المؤمنين ، خلد الله سلطانه ، وشد أزره ببقاء ولده وولي عهده ، مولانا السلطان الملك الصالح علاء الدين ، وأدام نصرهما ، وجعل البسيطة ملكهما ، بتولي الأمير نجم الدين حسن نائب قلعة بعلبك المحروسة ومدينتها ، ونظر القاضي بهاء الدين بن خلكان وذلك في العشر الآخر من جمادى الأولى سنة ثنتين وثمانين وستمائة والحمد لله وحده».

٥٨

والمساجد في لبنان قليلة جدا أنشى بعضها حديثا كجامع عالية ، وأهم الجوامع في هذا الجبل جامع دير القمر للأمير فخر الدين عثمان المعني وعهدي به والمسيحيون من أهل جواره يحافظون عليه إذ ليس هناك من يصلي فيه من أهل الإسلام. وقد كتبت على واجهته كتابتان هكذا بالخط العربي النسخي ، الأولى : «بسم الله الرحمن الرحيم. في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب». والثانية : «بسم الله الرحمن الرحيم. في بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة) يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار. عمر هذا المكان المبارك ابتغاء لوجه الله العظيم ورجاء لثوابه العميم العبد الفقير إلى عفو ربه القدير المقرّ الفخري الأمير فخر الدين عثمان بن الحاج يونس ابن معن غفر الله له.

وكتب في ٥ من شهر الله المحرم الحرام من شهور سنة تسع وتسعين وثمان مائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام».

وكانت الجوامع في حمص مهمة للغاية أوائل الإسلام وقد صالح المسلمون أهلها على ربع كنيستهم وكانت «على أربعة أركان وذلك من عجائب بنيان العالم» ومسجدها اليوم وسط السوق وليس بالكبير وفيه عقود وعمد ومحراب مزين بالفسيفساء المذهبة القديمة. وفي جهة أخرى محراب قديم معمول بالفسيفساء أيضا. وأكد الأثريون أن بناء هذا الجامع هو من بناء الكنيسة ، والغالب أنه جدد في أدوار مختلفة من عهد نور الدين زنكي إلى زمن قريب. ولا تزال في حمص منارة مأذنة من بناء بكجور الذي استولى على المدينة سنة (٣٦٧) وعليها كتابة مفيدة في باب الهندسة العربية. ومن جوامع حمص المهمة جامع سيدنا خالد خارج البلد جدد بناؤه مؤخرا وأنشئت له مأذنة على الطرز الرومي. ولم يثبت كون المدفون في هذا الجامع هو خالد بن الوليد الفاتح ، لأن هذا على أغلب الروايات مات في مدينة الرسول والغالب أن هذا القبر

٥٩

هو قبر خالد بن يزيد بن معاوية على ما أكد ياقوت قال : وهو الذي بنى القصر بحمص وآثار هذا القصر في غربي الطريق باقية. وذكر المؤرخون أنه كان في جامع حمص عمود يقال: إنه من الكحل الأصفهاني.

وفي حماة ٣٤ جامعا و ١١ مسجدا ومن أهمها جامع النوري بناه نور الدين زنكي سنة (٥٥٩). ومنها جامع أبي الفداء الشهير بجامع الدهشة أو الحيات. وقد وصف الأثري هرزفلد المسجد الجامع في حماة وهو الجامع الكبير فقال : إنه أصل حرمه كان كاتدرائية للنصارى غريبة الشكل وله ثلاثة أفنية مختلفة السعة ، وثماني دعائم ، وخمس قباب ، ومن كل ناحية خمسة عقود أو أقبية. ويظهر أن الحائط الغربي كان حائط رواق الكنيسة ، والحائط الجنوبي من العهد السابق للنصرانية ، كما هو الحال في جامع دمشق كان معبدا ثم بيعة ثم جامعا. وإلى جهة الشرق قامت منارة قديمة منفردة وهي مربعة الزوايا زبرت عليها كتابة كوفية ربما كانت من القرن الخامس ، وتحيط بصحن الجامع الجميل أروقة معقودة ، وهناك سدة بمحرابين أمام الحرم وسدة أخرى لها حوض ماء ، ومحراب منفرد في الرواق الشمالي ، وخزنة قائمة على ثمانية أعمدة قديمة ، وفي الرواق الشرقي تربة ومصلى ولها نوافذ صلبة معمولة من النحاس من عهد المماليك ، ومن الرواق الغربي يصل الإنسان إلى قبة الملك المظفر محمود الثالث (٦٨٣ ـ ٦٩٨) وله تابوت معمول بالخشب الجميل المنقوش ، وهناك منارة ثانية قامت في الخارج وسط الرواق الشمالي ويستدل من كتابته وشكله أنه من زمن المماليك ، وفي جامع حماة تجلت خاصية من هندستها تجليا عظيما ، وذلك أن ظاهر الحيطان مزين بنقوش رسمت بألوان تشبه الفسيفساء لمراوحتهم في صنعها بين الحجر البركاني الأسود والحجر الكلسي الأبيض.

وفي الجامع النوري على الشاطئ الأيسر من العاصي في أرض منحدرة وعلى بناء تحتي عال بني هذا الجامع على عهد نور الدين ، وعلى ما دخله من الترميمات الكثيرة تشاهد فيه إلى اليوم أجزاء مهمة من البناء القديم ، ولا سيما على طول الحرم ، والعقود فيه حديثة العهد بالنسبة لمجموع الجامع ، وكذلك ثلاث قباب من الرواق الشمالي مختلفة الأشكال والأبنية التحتانية من الجهتين

٦٠