خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

الجبل عليهم وأصبحت كلمة النصيري أشنع كلمات التحقير.

وقال : إن قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ،) معناه كمال الدين وكمال الدين هو ولاية علي ، وهذه هي الحكمة المقصودة من نزول القرآن بالتدريج. ويقول العلويون : إنه لما أعلن كمال الإسلام كان لا يزال بعض العقائد مكتوما وخفيا ، ولذلك بقي إلى هذا اليوم مكتوما بخصوصيته ، وبتعبير أصح إن بقاء عقيدة العلويين مكتومة هو من كمال الإسلام وإعلانها مضرّ به لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر المؤمنين بولاية علي وبذلك كمل الإسلام ، ولكنه بقي حريصا على كتمان البقية ولذلك كان كتمان البقية من كمال الإسلام أيضا. وهذا هو تعليل تكتم العلويين في عقيدتهم. وهم يقولون أيضا : إن بني هاشم كانوا يعرفون في زمن النبي أحكاما ما كان يعرفها الأمويون ، وإن أهل البيت تعلموا علوما لم يسمعها غيرهم. وهنا مبدأ أسرار العلويين. ومن جملة أسباب تكتم العلويين أن بيعة غدير خمّ لم تكن إلا إفشاء لبعض حقوق أهل البيت والأمر باتباعها واحترامها.

وقال : إن السلطان سليما العثماني لما فتح الشام استدعى عشائر تركية من الأناضول إلى خراسان وقدرها تسعون ألف خيمة أي أكثر من نصف مليون تقريبا وأسكنهم في القلاع في جبال النصيرية والمواقع الغنية المرتفعة منه ، ولم يمض أكثر من خمسين عاما حتى انقرض الأتراك في المنطقة الضيقة التي لم تكن حاصلاتها تكفي سكانها الأصليين ، ولم يبق من الأتراك سوى خمسة عشر ألفا وهم اليوم في الباير والبوجاق وقليل منهم في الساحل ، حافظوا على جنسيتهم ولسانهم ، ومن نزل منهم أرجاء حماة وحمص تغلبت عليه العربية.

وليس بين العلويين اختلاف في المذهب بل تفرقوا عشائر وأفخاذا فمنهم الكلبية وهي من أكبر العشائر والنواصرة والجهينية والقراحلة والجلقية والرشاونة والشلاهمة والرسالنة والجردية والخياطية والبساترة والعبدية والبراعنة والفقاروة والعمامرة والحدادية وبنو علي والبشالوة والياشوطية والعتارية والمتاورة والحلبية والخرزجية والسوارخة والنيلاتية والسرانبة والصوارمة والمهالبة والدراوسة والمحارزة والبشارغة والجواهرة والسواحلية والأنطاكيون

٢٦١

والأطنويون. والنسبة في هذه الأسماء إما إلى أشخاص منهم معروفين عندهم أو إلى قرى ومدن معروفة في أرضهم وغيرها.

وقال أيضا : ليس للعلويين ديانة خاصة أو مذهب خاص كما يظن بعضهم ، بل إن العلويين مسلمون شيعيون جعفريون ، لا تفرق بينهم وبين سائر الجعفرية قيود دينية أو اجتهادات عملية ، ويعتقدون أن الأئمة الاثنى عشر هم معصومون من الخطايا ، وإن أقوال الأئمة دلائل قطعية ، ولا يمكن أن يخالف الإمام القرآن والأحاديث ولا يحق لأحد أن يؤول القرآن ، ولا أن يفرق بين محكمه ومتشابهه سوى أهل البيت ، ولا تنفع عند العلوي القواعد الصرفية والنحوية أو الأصولية في استخراج الأحكام الشرعية ، بل كل ذلك من جملة حقوق أهل البيت. وإن العلويين يمتازون على بقية الجعفرية أي الاثني عشرية بانتسابهم في الآداب الدينية إلى الطريقة الجنبلانية ، وهذا الانتساب هو الذي أدى إلى افتراقهم عن بقية الاثني عشرية. ويرى المؤلف أن يتحد العلويون والشيعة المتاولة والإسماعيلية ، وليس بين هؤلاء وبين العلويين سوى الافتراق الخاص في اعتبار الأئمة بعد جعفر الصادق.

وقد سألنا الأستاذ الشيخ سليمان أحمد من علمائهم فأجاب معتذرا عن التوسع في وصف مذهبهم وختم بقوله : أمة توالت عليها النوائب السياسية والاجتماعية خمسة أجيال فأخملتها أي إخمال ، وانزوى علماؤها وصلحاؤها وعاث الجهل في عشائرها فسادا ، ليس من السهل الكتابة عنها ، وليس بالهين ضلال التاريخ ، وقل من جرى في ميدانه فلم يعثر. لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر التي توارثها سكان الشام ، أكثر الناس اختلافا ، وأقلهم ائتلافا ، إذ شيخ مذهبهم الذي ينتمون إليه (الخصيبي) من رجال الإمامية تقرأ ما له وما عليه في كتب الرجال. إنما لهم طريقة كالنقشبندية والرفاعية وغيرهما من الطرق الصوفية بالنسبة إلى أهل السنة. وهذا مصدر التقولات الباطلة عليهم ، وما أبرّئ جهلتهم من كل ما يقال ، ولكن أشهد بالغرض والتغرض على غالب المؤرخين الذين كتبوا عنهم اه.

ويسكن النصيرية أو العلويون اليوم في جبال اللاذقية وطرابلس وحماة

٢٦٢

ومنهم فئة قليلة في دمشق وصالحيتها وفي قرى عين فيت وزعورا وغجر في الحولة ، وعدد العلويين اليوم أكثر من مائتي ألف. وقد استعمل العنف معهم في أكثر الأدوار السالفة فنفروا وقد كان الظاهر بيبرس في القرن السابع أمر أن تبنى لهم جوامع في قراهم فبنوا في كل قرية جامعا وما كانوا يدخلونها على عهد ابن بطوطة في القرن التاسع ، بل كانت حظائر للغنم وإصطبلات للدواب ، وأمر السلطان قلاوون أيضا أن يبنى جامع في كل قرية من قرى النصيرية ، وهكذا فعل عبد الحميد الثاني من العثمانيين فبنى لهم جوامع لم يلبثوا أن خربوها وأهانوها. وشأن العلويين شأن سائر الطوائف الإسلامية الصغرى كلما زادوا علما وتربية رجعوا إلى الأصول الصحيحة. وفيهم كرم وشمم وشجاعة ومكارم أخلاق.

الدروز :

لما طمع الحاكم بأمر الله الفاطمي سادس خلفاء الفاطميين أو العبيديين بمصر في دعوى الربوبية ، أخذ يمهد لذلك المقدمات ولقب نفسه الحاكم بأمره وأمر الخطباء بأن يقرأوا بدل البسملة (باسم الله الحاكم المحيي المميت) وفي رواية أنهم كتبوا بسم الحاكم الله الرحمن الرحيم. فلما أنكروا عليهم كتبوا بسم الله الحاكم الرحمن الرحيم فجعلوا في الأول الله صفة للحاكم وجعلوا في الثاني العكس. وأنشأ يدعي علم المغيبات ، وكان من دعاته رجلان عجميان من دعاة الباطنية يقال لأحدهما محمد بن إسماعيل الدّرزي (١) المعروف بنشتكين ، وللآخر حمزة بن علي بن أحمد وهذا من أعظم دعاة الحاكم ، كان يؤثره على جميع عشيرته ، وكان صاحب الرسائل والمكاتبات عنده. وصنف الدرزي كتابا كتب فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب ومنه إلى أسلاف الحاكم متقمصة من واحد إلى آخر حتى انتهت إلى الحاكم بأمر الله. وقرئ هذا الكتاب في الجامع الأزهر بالقاهرة ، فهجم الناس على مؤلفه ليقتلوه ففر منهم ، وحدث شغب عظيم في القاهرة وقتلوا

__________________

(١) الدرزي بفتح الدال معناه الخياط فارسي معرب والعامة تضم الدال ويقولون في الجمع الدروز والصواب الدرزة محركة.

٢٦٣

كثيرين من أصحابه. وكانت بلغت جريدة أسمائهم ستة عشر ألفا. ولم يسع الحاكم بأمر الله بعد أن وقع ما وقع إلا أن يبعث إلى الدرزي في السر والا وأو عز إليه أن يخرج إلى الشام وينشر فيها الدعوة ، فنزل وادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق ، وقرأ الكتاب على أهله واستمالهم إلى الحاكم ، وأعطاهم المال فكثر مشايعوه وأنصاره.

وكان الأمراء التنوخيون سكان لبنان على استعداد لقبول دعوة الدرزي فانقادوا إليه فسمي جماعته بالدروز. والدروز ينكرون هذه التسمية ويحبون أن يدعوا بالموحدين ، وكان يسميهم أصحابهم بالأعراف. وغلب عليهم في حوران في العهد الأخير لقب آل معروف دعوا به تحببا. وهذا كان من شعار اليمنيين لانقسام هذه الطائفة إلى أصلين من أمهات أصول العرب في هذا القطر وهما القيسية واليمنية. ولما أنشأ الدروز يبثون دعوتهم بين المسلمين غزوا في عقر دارهم في وادي التيم نحو سنة (٤١٠) على الأرجح وغزوا في جبل السماق من أرجاء حلب لما جاهروا بمذهبهم أيضا وخربوا ما عندهم من المساجد فقتل دعاتهم وأعيانهم سنة (٤٢٣) (خطط الشام م ١).

ووقع خلاف بين الداعية الأول محمد بن إسماعيل الدرزي والداعية الثاني حمزة بن علي بن أحمد ، فكتب التقدم لهذا ومات الدرزي في سنة (٤١١) فقام بالدعوة حمزة وأصبح القوم يقدسونه ويلقبونه بهادي المستجيبين وحجة القائم وغير ذلك. ولما هلك الحاكم كتب حمزة الرسالة المسماة بالسجل المعلق وعلقها على أبواب الجامع وفيها يقول : إن الحاكم اختفى امتحانا لإيمان المؤمنين ، وشرع حمزة يزرع في القلوب بذر الاعتقاد بألوهية الحاكم وتوحيده وعبادته ، ويجتمع هو وأتباعه في المعبد السري ، حتى ثار عليهم المسلمون وطردوهم ففروا من مصر إلى الشام.

قال سليم البخاري : إن الدروز يخالفون في عقائدهم عقائد الفرق من أرباب الديانات يتظاهرون بالتبعية لمن يكونون تبعا له ، وأما في الباطن فإنهم ينكرون الأنبياء عليهم‌السلام وينسبونهم إلى الجهل وأنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم وما عرفوا المولى ، ويشنعون بالطعن على جميع أرباب الديانات من المسلمين والنصارى واليهود ، والديانة الحقة عندهم هي توحيد الحاكم ،

٢٦٤

ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم وحفظ الإخوان بدل الصلاة. ويقرأون القرآن ويؤولونه ويذهبون إلى قدم العالم تبعا لبعض الفلاسفة ويقولون بالتناسخ معبرين عنه بالتقمص، فالجسد يسمى قميصا عندهم ، وأن الميت حين موته تنتقل روحه إلى من يولد وقتئذ ، فالأرواح الإنسانية لا تنتقل عندهم إلا إلى قوالب إنسانية. ويقولون : الهوية الإلهية تنتقل من قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر ، فتتجلى في كل زمن بصورة وتجلت أخيرا في الحاكم ، وأن حمزة أيضا ظهر في كل عصر بقالب ، ففي زمان كان فيثاغورس الحكيم ، وفي زمان كان شعيبا ، وفي زمان كان سليمان بن داود ، وفي زمان كان المسيح الحق ، فهو النبي الكريم عندهم ، وحمزة العصر المحمدي هو سلمان الفارسي ، ويزعمون أن القرآن قد أوحى حقيقة إلى سلمان الفارسي وأنه كلامه وأن محمدا أخذه وتلقاه عنه حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خاطب به ولده في معرض الوصية بقوله : «يا بنيّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر» هو خطاب سلمان لمحمد والتعبير بالنبوة إنما هو من خطاب المعلم للمتعلم.

وإذا أراد أحد من جهالهم أن يدخل في سلك الموحدين ينبغي له أن يستجلب رضاهم بتقديم وسائل العطف مدة حتى تتحقق توبته ، فإذا قبلوه أدخلوه على الإمام فيوصيه بحفظ السر وعدم إشهاره ، ويأمره بتحرير العهد الواجب تحريره ، إذ لا يكون موحدا خالصا بدون تحرير العهد على نفسه ، فإذا حرره وسلمه إلى الإمام صار واحدا منهم. وصورة العهد وهو المعروف لأول انتشار الدرزية بميثاق ولي الزمان : «توكلت على مولانا الحاكم الأحد الفرد المنزه عن الأزواج والعدد ، أقر فلان بن فلان إقرارا أوجبه على نفسه وأشهد به على روحه في صحة من عقله وبدنه وجواز أمره طائعا غير مكره ولا مجبر ، أنه قد تبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها على أصناف اختلافاتها وأنه لا يعرف شيئا غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره والطاعة هي العبادة وأنه لا يشرك في عبادته أحدا مضى أو حضر أو ينتظر وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع ما يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره ورضي بجميع أحكامه له وعليه ، غير معترض ولا منكر

٢٦٥

لشيء من أفعاله ساءه ذلك أم سره ، ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه أو أشار به إلى غيره أو خالف شيئا من أوامره ، كان بريئا من البارئ المعبود وحرم الإفادة من جميع الحدود واستحق العقوبة من البارئ العلي جل ذكره ، ومن أقر أن ليس له في السماء إله معبود ولا في الأرض إمام موجود إلا مولانا الحاكم جل ذكره كان من الموحدين الفائزين. وكتب في شهر كذا وسنة كذا وكذا من سني عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين والمرشدين بسيف مولانا جل ذكره وشدة سلطانه وحده»

وليس لأحد من الناس أن يدخل في مذهب الدروز لأن ذلك لا يتأتى إلا إبان الدعوة الأولى ، وقد سد هذا الباب بعد ذلك. ويحرص الدروز كل الحرص على كتمان عقائدهم ولذلك يعبرون عن مرامهم في كتبهم ورسائلهم بطريق الرمز والكناية فلا يفهم ما يراد منها إلا الطبقة العالية من أرباب الدين عندهم أو مشايخ العقل. ويذكرون مباحث من علم الكلام ، وبعض مقالات غلاة المتصوفة ، وتأويلات الرافضة والملاحدة ، وخصوصا الإسماعيلية من غلاة الشيعة. ولهم قضاة منهم يحكمون في المعاملات المدنية الجارية بينهم على مقتضى الشريعة ، غير أنهم يخالفونها في بعض المعاملات بحكم العادة الموروثة وقد اصطلحوا على التوصية بما يشاءون لما يشاءون. ولا يجوز عندهم الجمع بين امرأتين فإن لم يطلق التي عنده لا يمكنه التزوج بغيرها. وتطلق المرأة بأدنى سبب ، ولا يجوز عندهم رد المطلقة ولو كان بعد زوج آخر.

ويقسم الدروز من حيث الدين إلى ثلاثة أقسام : العقال أو الأجاويد والشراح والجهال. ويرخص للشراح بالاطلاع على ما كتبه الشيخ الفاضل بشرح أحد أوليائهم الأمير عبد الله التنوخي الملقب بالسيد دفين قرية عبيه وهو الذي بنى المساجد وجدد الجوامع ، وكان على ما قيل يريد أن يرجع بالدروز إلى مذهب أهل السنة والجماعة توفي سنة (٨٧٤).

ولا يباح للجهال من الديانة غير معرفة المسائل الأولية من الدين. ومن العقال طبقة أتقياء يقال لهم المتنزهون وهم مثابرون على العبادة والورع ، ومنهم من لم يتزوج ، ومنهم من لم يأكل لحما طول حياته ، ومنهم من هو

٢٦٦

صائم كل يوم ، ولا يذوقون شيئا من بيت أحد من غير العقال. والعقال جميعهم يعتقدون أن أموال الحكام والأمراء حرام فلا يأكلون شيئا من طعامهم ولا من طعام خدمهم ولا من طعام حمل على دابة مشتراة من مال حاكم ، وقد يعتاشون من عمل لهم خاص يتعاطونه بأنفسهم من زراعة وصناعة. وينزهون ألسنتهم عن ألفاظ الفحش والبذاءة ويتجنبون الإسراف.

واسمع بعد هذا رأي الأمير شكيب أرسلان (من مقالة في جريدة الشورى (١٥) جمادى الثانية سنة (١٣٤٤) في الدروز قال : الدروز فرقة من الفرق الإسلامية أصلهم من الشيعة الإسماعيلية الفاطمية ، والشيعة الإسماعيلية الفاطمية أصلها من الشيعة السبعية القائلين بالأئمة السبعة ، وهؤلاء هم من جملة المسلمين كما لا يخفى. وإذا قيل : إن الدروز هم من الفرق الباطنية التي لا يحكم لها بالإسلام فالجواب أن الدروز يقولون : إنهم مسلمون ويقيمون جميع شعائر المسلمين ويتواصون بمرافقة الإسلام والمسلمين في السراء والضراء ، ويقولون : إن من خرج عن ذلك منهم فليس بمسلم. ولهذا أصبح من الصعب على المسلم الذي فهم الإسلام كما فهمه السلف الصالح والذي سمع حديث (فهلا شققت عن قلبه) أن يخرج الدروز من الإسلام. وفي الشرع المحمدي قاعدة : نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر. وقد قال الله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهؤلاء لا يلقون السلام فقط بل يلقون السلام ويقولون : إنهم مسلمون ، ويحفظون القرآن ، ويلقن ملقنهم الميت «إذا جاء منكر ونكير وسألاك ما دينك ومن نبيك وما كتابك ومن إخوانك وما قبلتك فقل لهما الإسلام ديني ومحمد نبيي والقرآن كتابي والكعبة قبلتي والمسلمون إخوتي» وليس من شعائر الإسلام شيء لا يقيمه أو لا يوجب إقامته الدروز.

وإذا قيل : إنه مع كل هذه المظاهر تحتوي عقيدتهم الباطنية التي تعرفها طبقة العقال على ما يصادم أركان عقيدة السنة والجماعة ولا يتفق معها في شيء فالجواب قد وجد في الإسلام أئمة كبار يترضى عنهم عند ذكرهم ولهم قباب تزار وتعلق فيها القناديل وكانوا يقولون بوحدة الوجود! فهل وحدة الوجود مما يطابق السنة؟ كلا فهل أخرج المسلمون هؤلاء الأئمة من

٢٦٧

الإسلام؟ وأما تجسد الإله فليس من عقيدة الدروز كما يتهمهم بعضهم والتجسد شيء والترائي شيء آخر. وأما تأويل آي القرآن الكريم بحسب زعمهم فكم من فرقة في الإسلام انفردت بتأويل للآيات الكريمة ... اه.

وبعد فإن للدروز روابط مهمة بينهم منها أنهم مهما كانت بينهم طوائل وحزازات يتخلون عنها ويصبحون جسما واحدا يوم يريدون مقاومة عدّو لهم. وهم من التسامح على جانب حتى مع من يخالفهم. ومعظم عاداتهم إسلامية وأسماؤهم إسلامية وفيهم من الإسلام شيء كثير من جوهره. وقد رأينا لعهدنا أبناء هذا المذهب كلما تعلموا قربوا من الأصول الإسلامية وفيهم اليوم فئة صالحة مستنيرة تريد الجهر بالرجوع إلى مذهب أهل السنة. ومن أراد زيادة تفاصيل في مذهب الدروز فعليه بالرجوع إلى كتبهم ورسائلهم وهي محفوظة في دور الكتب العامة هنا وفي الغرب. وينزل الدروز اليوم في شوف لبنان وجبل حوران ووادي التيم وبعض قرى الغوطة بدمشق والجبل الأعلى في حلب وبعض قرى عكا ولا يقل عددهم عن مئة وأربعين ألفا.

البابية :

مؤسس هذا المذهب رجل من فارس اسمه الميرزا علي محمد الشيرازي ولد سنة (١٢٣٥ ه‍) وتوفي والده وهو حدث فكفله خاله وعلمه مبادئ الفارسية والعربية وحسن الخط واشتغل لأول أمره بالتجارة ، وفي سن العشرين أخذ يكثر من الرياضة والعبادة فخاف خاله على صحته فأرسله إلى العراق وقضى أشهرا في كربلاء والنجف اجتمع خلالها إلى علماء الشيعة وخرج من العراق بأفكار تخالف ما عرفه الناس من الإسلام ، وأخذ يبث دعوته فمال إليه جماعة وحج في تلك الأيام. وكان يقول : ادخلوا البيوت من أبوابها «أنا مدينة العلم وعلي بابها» يشير إلى أنه واسطة السعادة الأبدية ، ثم دعا نفسه «الباب» ومعنى الباب عند الشيعة نائب المهدي المنتظر وتخلى عن اسمه. وبعد مدة أرسل إلى بوشهر ومنها أرسل دعاته إلى شيراز وأصفهان يبثون دعوته. فعقد والي شيراز لهم مجالس المناظرة مع الفقهاء فأفتى هؤلاء بكفر

٢٦٨

البابية ووجوب قتلهم. لكن الوالي اكتفى بقطع العصب الكعبري من كعابهم وسجنهم. وجيء بالباب من بوشهر (١٩ رمضان سنة ١٢٦١) وأنزل في دار أبيه ريثما يهدأ روعه ، ثم استقدمه الوالي سرا وبعد المفاوضة تظاهر الوالي بأنه اقتنع بصحة دعوة الباب وجعل هذا في قصره ، ثم عقد له مجلسا لمناظرته فأفتوا بكفره فلم يسع الوالي إلا أن أشار بضربه على رجليه فلما استغاث أو عزوا إليه أن يصعد المنبر ويعلن توبته ففعل. وظهر الوباء في شيراز واختلت أحوال فارس فبعث والي أصفهان يستدعي الباب إليه ، فلما رأى والي شيراز ذلك نفى جميع أصحاب الباب من ولايته ، ولما حمل الباب إلى والي أصفهان أوعز هذا بأن يحسن القوم استقباله فاستقبلوه ، ثم عقد له مجلس المناظرة فأفتى العلماء بقتله ، فاعتذر الوالي عن تنفيذ فتواهم ، وخبأه في قصره مطلقا له حرية التأليف والكتابة وبقي في داره حتى قتل الوالي وخلفه في الحكم ابن أخيه ، فطالع هذا رجال عاصمة الملك بالأمر ، فأمروا بنفيه إلى آذرباجيان فحبس في قلعة جهريق ثم في قلعة ماكو.

وبث الباب دعاته وساعده المحيط واختلال الأمن في كثير من الولايات ، فاشتد دعاته في بث دعوته فلقيت قبولا من بعض الناس ، وفي مقدمة أتباعه الملا حسين بشرويه الملقب بباب الأبواب في خراسان ، والثاني الملا محمد علي البار فروشي بمازندران والثالثة امرأة من قزوين اسمها زرين تاج من عائلة عريقة في العلم وزوجة أحد المجتهدين وهي جميلة الصورة جميلة الأدب ، تحفظ القرآن وتعرف تفسيره وأسراره ، فاقتنعت بصحة دعوة الباب ، ولم تلبث أن دعت إليه سرا وجهرا وإن لم تجتمع به ، فمال الناس إلى مواعظها وفتنتهم بفصاحتها وجمالها وجميل شعرها ، وقد حسرت نقابها ولقبت بقرة العين ، ثم خرجت إلى خراسان فالتقت في رشت بالبار فروشي أحد الدعاة ومعه جند من البابية فبعثا مناديا ينادي «عجلوا أيها الناس فقد ظهر الإمام المنتظر» فنصبوا منبرا ووقفت قرة العين سافرة وحثت الناس على الاعتقاد بالباب فآمن بعضهم وأنكر الآخر ، ثم انتقلت على هودج إلى مازندران والناس يتبعونها ، وأخذت تطوف القرى تبشر بدعوة الباب فقبضت عليها الحكومة وخنقتها وأحرقتها.

٢٦٩

ثم قام الملا حسين بشرويه وقد كثر أنصار الباب وألف منهم جيشا صغيرا قاتل جيش الشاه في مازندران وجعل الملا علي البار فروشي مقدسا وسماه حضرت أعلى» وحجبه عن الناس ، وأصيب بشرويه في إحدى المعارك وأوصى جماعته بأن يطيعوا «حضرت أعلى» وتغلبت الحكومة على قلعتهم وقبضوا على ملا محمد علي وحاكموهم فقتلوهم على بكرة أبيهم. وبلغ عدد من قتل في هذه الوقائع ألفين وخمسمائة من البابية وخمسمائة من الجند وغيرهم. وحدث مثل ذلك بقيام أحد الدعاة الملا محمد علي الزنجاني في زنجان ولكنه لم يوفق. وكذلك وقع في مدينة تبريز فقاتلت حكومة فارس دعاتهم حتى أبادتهم. أما الباب فكان مسجونا في سجن جهريق. ولما اندلع لسان الثورة في مازندران وزنجان وتبريز وقتلت الأنفس ، ارتأى رئيس حكومة فارس قتله فقتله بمشورة الشاه في ٢٨ شعبان سنة (١٢٦٦ ه‍). ووضعت حكومة فارس في أشياعهم السيف في جميع مملكتها خصوصا بعد أن ثبت أن الذي حاول اغتيال ناصر الدين شاه سنة (١٢٦٨) هو من شيعة البابية.

وكان من جملة العلماء الذين فتنوا بدعوة الباب رجل اسمه بهاء الله ميرزا حسين علي فلما وقعت هذه الحوادث قبض عليه وسجن ثم حوكم ، وكان سفير روسيا يدافع عنه من تهمة الاتفاق مع الخارجين على الشاه ، ثم أفرج عنه ونفي إلى العراق فأرسل مخفورا بالجند الفارسي مع بعض فرسان من سفارة روسيا في طهران لئلا يغتالوه في الطريق فأقام في العراق ١٢ سنة ثم حمل إلى الاستانة ومنها إلى أدرنة فأقام فيها نحو خمس سنين ثم صدر الأمر بنفيه إلى عكا سنة (١٢٨٥ ه‍). ونفي أخوه مرزا يحيى نوري الملقب بعد بيحيى صبح أزل إلى قبرس وظل البهاء في عكا حتى وافاه أجله سنة (١٣٠٩) فدفن فيها ، وخلفه ابنه عباس أفندي وكان كأبيه على غاية من حسن السمت والأخلاق وعظم النفس وبسط اليد وجمال الأدب وحسن العشرة حتى استمال بأخلاقه من يعتقد بالبابية ومن لا يعتقد. ولما توفي سنة (١٩٢٢) تفرق أمر الجماعة وانقلبوا فرقا كما كان عباس أفندي في حياته مع صبح أزل متخاصمين متشاكسين. وسرت دعوتهم إلى عدد قليل من أبناء الشام وإلى بعض أهل أوربا وأميركا. ويبالغون في عدد من دانوا بهذا المذهب

٢٧٠

في الغرب. وهم في الشام وفي أميركا وأوربا بضعة آلاف على الأغلب.

يقولون : إن من تعاليم الباب تحريم الكتب المنزلة قبله ونسخ القرآن وأحكامه. وإنه قضى بهدم المزارات حتى الكعبة وقبر الرسول وفرض بناء ١٩ مزارا باسمه ومن دخلها كان آمنا ، وأبطل الحج وقسم السنة إلى (١٩) شهرا وجعل الشهر الواحد ١٩ يوما فأيام السنة عنده (٣٦١) وأضاف إليها خمسة أيام سماها المسروقة ورمز عنها بحرف (ه) وجعل أول يوم من شهر (فروردين ماه) الفارسي الموافق للحادي والعشرين من شهر مارس الإفرنجي الغربي الذي هو يوم الاعتدال الربيعي وهو يوم عيد النوروز عند الفرس عيدا للفطر وخصه بنفسه وسماه عيد رضوان. وجعل الصوم (١٩) يوما من شروق الشمس إلى غروبها وخصص الأيام الخمسة المذكورة للهو والطرب قبل دخول شهر الصيام. والمطهرات عنده خمسة النار والهواء والماء والتراب وكتاب الله (أي البيان كتابه) وكيفية التطهير بالبيان أن يتلى ما تيسر من اسم النقطة أي الباب مع تلاوة آية التطهير (٦٦) مرة على كل شيء نجس. وجعل الدم وروث البهائم وغيرها طاهرا. وللباب وخليفته بهاء الله عدة رسائل وكتب منها ما كتباه بالفارسية ومنها بالعربية ، من أهمها من قلم الباب كتابه البيان وفيه شريعته وتعاليمه. ومن أهم كتب بهاء الله كتاب أقدس نهج فيه منهج القرآن في ترتيب الآيات والسور ودوّن فيه شريعته وأحكامها باللغة العربية. وقد أدخل البهاء عدة إصلاحات على مذهب الباب اقتضته الحال ذلك. وبعضهم يطلق على أهل هذا المذهب اسم البابية نسبة للمؤسس الأول وبعضهم يلقبهم بالبهائية نسبة لبهاء الله الذي زاد في المذهب ونقص منه ، وهم يسمون أنفسهم أهل البيان.

قال كليمان هوار : إن الباب أنشأ دينا جديدا بتعاليمه وعقائده وأنشأ مجتمعا جديدا تحت ستار الإصلاح في الإسلام. فالله واحد وعلي محمد مرآته التي ينعكس فيها النور الإلهي ويتأتى لكل إنسان أن يشاهدها. وقال الباب في كتابه البيان : عليكم أن تجعلوا من أنفسكم ومن أعمالكم مرائي بحيث لا ترون فيها إلا الشمس التي تحبونها وقد برأ الله العالم على سبع صفات سميت حروف الحقيقة وهي القدر والقضاء والإرادة والمشيئة والإذن والأجل

٢٧١

والكتاب. ويدير شؤون الطائفة (١٩) رجلا وكل بابي يدفع لهم في السنة خمسة في المئة من قيمة رأس المال ، وتلغى جميع العقوبات ما عدا الغرامة التي توضع على زوجين لا يريدان أن يتعاشرا بالمعروف. والتجارة والعقود مشروعة ، ويسمح بدفع فائدة عن بضائع بيعت بالنسيئة. والزواج إجباري بعد الحادية عشرة والطلاق ممقوت ، ويمهل الزوجان المتخاصمان سنة لتأليف ذات بينهما ، وعلى الأرامل من الرجال والنساء أن يتزوجوا ، وعدة الرجال منهم تسعون يوما والنساء خمسة وتسعون يوما وإذا لم يفعلا يغرمان غرامة.

ولا يضرب الولد قبل أن يبلغ الخامسة وبعد ذلك لا يضرب أكثر من خمس ضربات. ويسمح لمن يدينون بهذا المذهب أن يستعملوا الحلي والجواهر خلافا لما أمر به الشرع الإسلامي. ويسمح لهم بالوضوء ولكن لا على أنه فرض ، ويجب أن يكون في كل حي حمام ، ولا يتحجب النساء ويؤذن بالتحدث إليهن من دون إكراه ، وأن يكون الكلام معهن جهرا لا سرا. ويحج أتباع الباب إلى البيت الذي ولد فيه حيث يقام له مسجد ، أو إلى المكان الذي سجن هو فيه أو خاصة حوارييه ، ولا يسمح لمن يدينون بمذهبهم بالارتحال والسياحة إلا لمن اضطر إلى ذلك ، ولا يسمح بركوب البحار منهم إلا للحجاج والتجار ، ولا تقام صلاة جماعة إلا على الأموات وخطبة المسجد واجبة ، ويدفن الموتى في زجاج أو في حجارة منحوتة مصقولة ، ويجعل في يد الميت اليمنى خاتم يكتب على فصه «لئلا يفزع الموتى في قبورهم». وليس من حق أحد أن يستعمل الشدة مع إنسان ولا أن يسيء إلى أخيه ، ويجيبون على كل من يكلمهم أو يكاتبهم ويفرض عليهم أن يؤدوا الرسالة التي ائتمنوا عليها إلى صاحبها من دون عبث بها. ويحظر عليهم تعاطي المخدرات والمسكرات ، ويجب أن يدعو كل واحد منهم في كل شهر تسعة عشر إنسانا ، وأن يجتمع معهم ولو على شرب الماء القراح ، ويحظر عليهم الكدية ، ومن الضلال إعطاء الشحاذين. وتقسم مواريثهم على الصورة التالية بعد صرف نفقات الدفن والجنازة : للولد (٩) من ستين وللزوج (٨) من ستين وللوالد (٧) من ستين وللأم (٦) من ستين وللأخ (٥) من ستين وللأخت (٤) من ستين وللأستاذ (٣) من ستين ، ولا يرث أحد من ذوي القربي بعد ذلك اه.

وحظر على البابية لما نزلوا عكا الدعاية إلى مذهبهم في الشام. ولما أعلنت

٢٧٢

الحرية سنة (١٩٠٨) انتقلوا إلى عكا وزاد أشياعهم قليلا وهم هنا قلائل ربما لم يتجاوزوا المائتين وهم على غاية من حسن الأخلاق وجميل المعاملة قلما شكا منهم إنسان أو اشتكوا هم من إنسان ، ولا تجد بينهم من لا يحترف حرفة ويعمل ويكد. ولا سيما رئيسهم الأخير عباس أفندي فقد كان محافظا على صلواته مع الجماعة لم يخرج في سمته عن روح الشرع الإسلامي. فإما أن يكون صادقا في إسلامه أو أنه عاش في تقية متقنة كما يعيش كثير من أرباب النحل الضعيفة بين المخالفين لهم من السواد الأعظم ، ولا سيما الشيعة بين ظهراني أهل السنة.

وكان عباس على علم وأدب إذا تكلم يمزج الفلسفة بالمنقولات فيتعذر على كل إنسان فهم كلامه ، وله خطب ومواعظ انطلق بها لسانه في سياحة له في أوربا وأميركا دامت خمس سنين ، ويؤخذ من مجموع أقواله أن البهائية أو البابية ترمي إلى تطبيق الشرائع السماوية على العقل وحلّ المشاكل القائمة بين أهل الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام. وقال مرة : إن الباب صاحب المذهب كان يريد التوفيق بين السنة والشيعة. بل كان يرمي إلى وحدة العالم الإنساني ونشر السلام العام والتأليف بين قلوب البشر بقوة الدين وتحكيم العقل والعلم ، ونبذ التعصب الديني والجنسي والوطني والسياسي ، ونشر العلم وإنشاء محكمة عامة كبرى تفصل الخلافات التي تحدث بين الشعوب والدول ، وإلى تربية بني البشر على الفضائل الإنسانية وإلى إقامة القواعد الاقتصادية وتأليف لغة عامة تفهمها جميع الأمم.

ويقال على الجملة : إن التشيع كان منشأ البابية والإسماعيلية والنصيرية والدرزية. وكما كانت فارس مثابة كثير من أسباب المدنية الإسلامية كانت أيضا منشأ معظم ما تفرع من الإسلام من النحل والطرق الغريبة. ولو تسامح أهل هذه المذاهب في نشر حقائقها ، لما تقول عليهم المتقولون ، ولا رماهم المخالفون بما قد يكونون منه أبرياء. بقي أن يقال : إن في الشام مذهب اليزيدية عبدة الشيطان ، وممن ينتحلون هذه النحلة قريتان في ضواحي حلب ، ولما كانت جمهرة أهل مذهبهم في جبل سنجار من عمل الموصل لم نخصهم بمبحث خاص لأنهم لا يسترعون الانتباه ويتمثلون على الأغلب في سواد الأمة والله أعلم.

٢٧٣

الاخلاق والعادات

عادات الدمشقيين :

كان سمر الشاميين قبل نصف قرن تقريبا في بيوتهم ، تكتفي كل طبقة باجتماعها مع أهل طبقتها ، فنتج عن ذلك أن ترى في المدينة الواحدة من مدن الشام الكبيرة تباينا ، يكاد يوهم لأول وهلة أنهم من أقاليم مختلفة يتباينون بأزيائهم ومآكلهم ومشاربهم وسمرهم ولهجاتهم ، وبالطبع بتصوراتهم وعقليتهم إلى أن ولي الشام مدحت باشا الوالي العثماني الشهير ووضع أسس الإصلاح العلمي والاجتماعي والإداري ، وبدأت النهضة الأدبية عقب ذلك فتعارف الأولاد بالمدرسة أولا ، وتقومت ألسنتهم ، واعتادوا التلفظ بالفصيح الصحيح ، وفتحت الأندية والمقاهي ودور التمثيل ، ثم قاعات الصور المتحركة ، وتعارف الناس وقلت الفوارق ، وقضي على الأرستقراطية إلا قليلا ، وحلت محلها الديمقراطية ، فنشأ عن ذلك اعتياد الشباب الراقي المتعلم ارتياد المحال العامة والاحتكاك بمن مضى وقت تعليمهم ، فمرنوا أيضا على التخاطب بالفصيح الصحيح ما أمكن ، وعم ذلك جميع الطبقات حتى غير المسلمة وما نزال نرى ذلك في تقدم مستمر.

تنقسم حفلات الدمشقيين إلى مدنية ودينية. أما الدينية فتنحصر فيما يلي : عيد الفطر والنحر ، والرجوع من الحج ، والإياب من زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسنة الختان ، وبعض نذور لله يقوم بها من أبلّ من مرض شديد ، وآب من سفر خطر أو بعيد ، وعادات القوم في تلك

__________________

(١) كتب هذا الفصل محمد شخاشيرو

٢٧٤

الأعياد إخراج الصدقات والزكوات والتوسيع على الفقراء ، وتكثر الزيارات ، ويتصافح القوم عما بينهم من سيئات ، ويصلون أرحامهم ويوسعون على عيالهم. وعادتهم في ذلك أن يبدأ الأصغر سنا بزيارة الأكبر ، ويقدّم الأكبر سنا ويحترم في كل شيء. ومنشأ ذلك على ما أعلم الأمية فإن غلبة الأمية على قوم تضطرهم إلى احترام من كان أكثر تجربة منهم ، ومن مرت عليه السنون ، وحلب الدهر أشطره وكثرت تجاربه ، كان جديرا بالاحترام. أما اليوم فحقيق بالاحترام من يقدم الخدم النافعة لأمته ، وليس للسن دخل في ذلك. وخير الناس كما قيل أنفعهم للناس.

ويتقدم عيد الفطر شهر رمضان ، وللدمشقيين فيه عادات : منها إتمام فريضة الصيام ، والانقطاع عن بعض عادات ضارة ، ويقضون نهاره في سماع المواعظ في المساجد ، وليله في زيارات بعضهم بعضا ، وارتياد محال اللهو المباح ، وتكثر حركة الأخذ والعطاء والبيع والشراء ، وهو من المواسم المذكورة.

أما حفلات الحج في هذا العصر ، فتتم حين رجوع أحدهم من بعد أداء فريضة الحج بأن يقدم إلى خواص ذوي قرباه وجيرانه وأصدقائه وأحبابه هدية ، وتختلف هذه الهدية بحسب مقدرته المالية ، ويبتدئ المهنئون بزيارته في داره ، ويقدم له خواص أصدقائه وأقربائه قبل وصوله إلى وطنه هدايا تكون غالبا من اللباس الفاخر ، ويكون مثل ذلك بعد رجوع أحدهم من زيارة مسجد الرسول. وتختم هذه الزيارات غالبا بإقامة حفلة يدعونها مولدا وهي عبارة عن اجتماع يضم أصدقاء المحتفى به وذوي قرباه وزملاءه وجيرانه في داره ، ويدعون المنشدين ويفتتحون بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم وينشدون بعض قصائد في مديح الرسول يتلون المولد النبوي فيه وتعداد بعض مآثره ونسبه وبعض أرهاصات تقدمت بعثته ، وحين مولده ، يقصدون من ذلك التبرك.

ومثل ذلك حفلة الختان ومن المتعارف فيها أن يهدي إلى صاحب الحفلة أهله وأصدقاؤه شيئا كثيرا من السمن والأرز والغنم والقهوة ، بل من جميع ما يلزم لتلك الحفلة ، ويكون ذلك دينا عليه وفاؤه ، حين إقامة حفلة مثلها

٢٧٥

عند المهدين. وتختم هذه الحفلة مثل أخواتها أيضا بتلاوة المولد.

ولم يبرح بعض من لا يعتدّ بعقولهم ينذرون بعض نذور غريبة وهي ما يسمونه بالنوبة يقيمون لها حفلة هي عبارة عن دعوة بعض الفقراء المشعوذين ، ممن يضربون على الطار والطبل ، ويلعبون بالشيش ، وبعض قطع من السلاح الأبيض ويطفئون بأفواههم النيران فيجتمع عليهم الأطفال وبعض صغار الأحلام فقط. وهي عادة أصبحت على وشك الزوال.

ومن الحفلات الدينية أيضا حفلات تكايا أو زوايا المولوية ، وأرباب هذه الطريقة لهم حين إقامة هذه الحفلات لباس خاص وهو ثوب أبيض فضفاض ، ويلبسون على رؤوسهم ما يسمونه «كلاها» وهو من اللباد مستطيل الشكل ، ويمتاز رئيس تلك الطريقة بوضعه عمامة خضراء فوقها ويدورون على أنفسهم على نغمات موسيقية مطربة جدا من حيث الفن الموسيقي. وهي من حيث نظامها أتقن حفلات الشرق الدينية على الإطلاق ، وهي بالحفلات المدنية أليق منها بالدينية.

إذا حضرت أحدهم الوفاة تعلن وفاته إن كان من الأشراف والعلماء وأرباب الظهور في مآذن المدينة ، ثم يحضر غسل المتوفى أصدقاؤه وذوو قرباه. وغسل الميت عند المسلمين يقوم مقام التقرير الطبي في هذه الأيام ، يثبت بها أن الميت مات ميتة طبيعية فيطلع الغاسل على عامة جسمه ، فإذا كان فيه أثر ضرب أو رض أو خنق ظهر ذلك لحاضري غسله ، وهم غالبا من محبيه ، فيشيع ذلك ويتصل بالحكام ، وبعد غسله يشيعون جنازته إلى أحد المساجد ويصلون عليه ، ويذهبون به إلى المقبرة ويمشي المؤذنون أمام جنازته يذكرون الله وذلك إشهارا لموته وإعلانا له. وبعد رجوعهم من المقبرة يذهبون إلى منزل عميد الأسرة يعزونه ويحضرون على ثلاث ليال بعد العشاء أحد المساجد القريبة من دار المتوفى ، يسمعون ما تيسر من القرآن الكريم ، ويسمون ذلك «صباحية» ، ويحضر تلك الحفلة أقرباء الراحل وجيرانه وزملاؤه ، ويصرفون على الفقراء والمعوزين الدراهم والطعام بحسب ثروة المتوفى. وهذه العادة كادت تبطل لمعرفة القوم بقيمة الوقت فأخذوا يكتفون بالتعزية في

٢٧٦

بيت آل الفقيد. وعادة عيادة المريض معدودة عندهم من الواجبات يواسونه ويسلونه ويكررون الاختلاف إليه.

من عاداتهم المدنية أنه متى بلغ الشاب العشرين إلى الثلاثين أن يتولى عميد أسرته إرسال عميدة العائلة مع من ترضاه من أخت وعمة وخالة ونسيبة وبعض خواص الجيران إلى بيوت المدينة وأحيائها يبحثن وينقبن على زوجة لذلك الشاب ، وتكون قاعدتهم في خطبتهم غالبا الكفاءة من جهة الثروة والسن والآداب. ولا يزلن يوالين بحثهن عاما كاملا على الأقل ومتى قر قرارهن على إحدى البنات يكررن التردد إلى دارها مرات عديدة ليرينها بجميع مظاهرها ، يرينها في زينتها وفي وقت الغسيل ووقت الطبخ وتنظيف المنزل. وعادة الدور التي يكون بها بنات في سن الزواج وهي عادة من الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرين أن يناط بالبنات تقديم القهوة والشراب للخاطبات فيتأمل الخاطبات مشيتها ونقل أقدامها وأدبها في تقديم القهوة في الإياب والذهاب ويخاطبنها فيرين غنة كلامها وفصاحتها ، ومتى أصبح الأمر تقريبا واقعا يذهبن إلى الحمام معا ويرين جسمها عارية وشعرها ويشممن آذانها وفمها وتحت إبطها ورائحة عرقها وثيابها ، وينقلن ذلك إلى الخاطب وعميد الأسرة مع وصف شكلها وجمال وجهها وطولها وغير ذلك. هذا مما له مساس بالنساء من طرف الخاطب.

أما وظيفة النساء من جهة الخاطب فيزرن الحي القاطن فيه سرا ويرسلن من يثقن به من أقربائهن وجيرانهن فيدخلن غالب بيوت ذلك الحي باحثات عن أخلاق الخاطب وثروته وتجارته أو وظيفته ، وعن عدد آل بيته ومركز تلك الأسرة في الهيأة الاجتماعية. ويجري التقصي عن آداب بيت الخاطب وأصوله ويذهبن بالمخطوبة سرا إلى مقر الخاطب أو طريق ذهابه وإيابه فتراه فإذا راق الخاطب في أعينهن بعد تلك الاستخبارات يرفعن الأمر إلى عميد أسرة المخطوبة. وهنا تنتهي مهمة النساء ، ثم يتألف شبه وفد من عميد أسرة الخاطب ، والبعض من معارف عميد بيت المخطوبة ، إلى دار ذلك العميد ، ويطلبون منه الموافقة على زواج تلك البنت من ذلك الشاب ، بعبارات تختلف بحسب مركز تلك الأسر في المجتمع. ويكون الأمر مقضيا على الأغلب

٢٧٧

بعد تلك التمهيدات ، ويقررون المهر ويقرأون الفاتحة فاتحة القرآن الكريم للتبرك دليلا على رضى الطرفين. وبعد ثلاثة أيام يقدم الخاطب خاتم الخطبة. وبعد أسبوع غالبا يحتفل بحفلة العقد يقوم بها الخاطب ، فيدعو برقاع مطبوعة على غاية الإتقان أهله ومعارفه ، معينا وقت الدعوة ويومها ، ويرسل إلى عميد أسرة المخطوبة بعدد من تلك الرقاع يتفقون عليه من قبل ، فيدعو من أراد من أسرته وأصدقائه. فيجتمع المدعوون في المحل المعين ويجري على الأغلب افتتاح تلك الحفلة بقراءة المولد ، وتدار المرطبات وقراطيس الحلوى على المدعوين ، بعد عقد قران الزوجين الشرعي ، وينفض المدعوون ، وتنتهي حفلة العقد بعد دفع المهر المقرر ، وبعد شهرين أو ثلاثة غالبا يذهب وفد نسائي من قبل العروس بعد أن يكون أهل العروس أتموا لوازم عروسهم يحملن هدية تختلف بحسب مكانتهن ، يسمينها «تعيينة» فيعين موعد حفلة العرس وعدد المدعوات من أهل العروس وتكون تلك الحفلة ليلا في الغالب ، ويرسلون بطاقات الدعوة ، وليلة الحفلة يرسل وفد من النساء في مركبات على عدد المدعوات من النساء إلى دار العروس ، يأتين بها من دارها مع المدعوات إلى دار العروس ، وتكون هذه على غاية الرواء والبهاء والزينة ، ويدعى عادة إلى تلك الحفلة المغنيات والمطربات ويقضين تلك الليلة بعد دخول العروس بعرسه غرفة خلوتهما بالغناء والرقص وسماع الموسيقي وآلات الطرب ، ويمسين على ذلك إلى الصباح ، وتعود السيدات المدعوات إلى دورهن ويبقى في بيت العروس بعض الخواص من أهلها ، مثل أمها وعمتها وخالتها ومربيتها سبعة أيام.

هذه هي الحفلة النسائية أما الحفلة الخاصة بالعروس (الرجل) فيتقدم أحد وجوه أسرته أو أصدقائه غالبا يعد داره لتلك الحفلة ويسمونها «تلبيسة» ويدعون إليها جميع أقارب العروس وأصدقائه وأرباب مهنته وجيرانه ، في جوقة موسيقية تدير هذه الحفلة نحو ساعتين تطرب الحضور بأنغامها ، ومتى حان للعروس لبس ثيابه يهزج الشباب عادة عند إلباسه كل قطعة من ثيابه بأهازيج وطنية عامية بحسب كل عصر ومصر. يذهب به الحضور عقبى ذلك إلى دار حفلة العروس بالأهازيج ، ويدخلونه الدار مع عميد الأسرة

٢٧٨

فيدخله ويضع يده بيد عرسه ويدخل بهما إلى غرفتهما ويذهب بسلام.

هذه حفلات الزواج وعوائد القوم قديما ، واليوم قد زيد عليها معاينة صحة الزوجين ، وينظرون إلى الكفاءة العلمية قبل كل شيء مما يبشر الأسرة المقبلة بأعلى درجات السعادة الزوجية ، وهذا الشكل في تأسيس الأسرة يعض عليه المحافظون بالنواجذ ، ويؤيدونه بكل ما أوتوا من قوة ، ويرونه أضمن لحفظ السعادة البيتية من جميع أشكال النظم المتبعة في العالم.

ومن عاداتهم الخروج أواخر فصل الشتاء وأوائل الربيع إلى المتنزهات العامة يوما في الأسبوع لاستنشاق الهواء النقي ، على اختلاف عادهم ومذاهبهم ، نساء ورجالا ، وتكون أماكن جلوس النساء خاصة بهن غالبا ، ولا يتيسر للرجال أن يخالطوهن بحكم العادة ، والشاذ قليل. ومن العادات القديمة التي نشأت من الأمية أيضا سماع القصاص في المقاهي وقد تلاشت الآن هذه العادة ، وكان يجتمع في المقهى عدد يختلف بحسب المحل والقصاص ، يتصدر القصاص «الحكواتي» في صدر المكان ويقرأ لهم غالبا القصص التي يرغبون فيها مثل رواية عنترة والزير وأبي زيد وهي روايات حماسية ، تمثل الشجاعة والكرم والأنفة والحمية والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمام ورعاية الذمار والجار ، إلى آخر ما هنالك من مكارم الأخلاق ينسبونها إلى أبطال الرواية ، ويجعلون نهاية النصر لهم والدائرة على مناوئيهم ، ويصفون الخصوم بالجبن والكذب والبخل والرياء والغدر والخيانة والنكث بالعهد إلى آخر ما هنالك من مفاسد الأخلاق ، مما يربي نفوس السامعين على حب الفضائل ويحبب إليهم العمل بها ، ويبغض إليهم النقائص ويحملهم على البعد عنها ، وغالب من يجتمعون لسماع تلك الأقاصيص من طبقة العوام ، وهم متصفون ببعض تلك الفضائل.

ومن ملاهيهم خيال الظل والعوام يدعونه «قره كوز» ، وكان في أول القرن الحاضر من أشد العوامل تأثيرا في تهذيب الأخلاق وتقويمها ، بما يلقيه أستاذ هذا الفن المشهور بدمشق علي بن حبيب على ألسن تلك الخيالات من المواعظ الأخلاقية ، بعبارات ملؤها انتقاد ، تفعل في قلب أشد الناس بلادة ، وكان يصور في كلامه العادات السيئة المتفشية في عصره ، ويظهرها

٢٧٩

في قالب ينفر الناس منها ، ويصور ظلم الحكام وأصحاب النفوذ وأغلاطهم ، في صور نقد لطيف ، وكان يحترمه علية القوم ويعد أستاذا كبيرا في الموسيقى تخرج به كل من ينتمي لهذا الفن بدمشق.

ومن العادات الشائعة تعاطي القهوة والشاي في المقاهي العامة شتاء ، وأنواع المرطبات صيفا ، والتدخين بالتبغ والنارجيلة على الدوام ، وتكون صورة اجتماعهم حسب طبقاتهم ، ويرتادون أماكن سمرهم هذا ، بعد العشاء حين الانتهاء من مزاولة الأشغال وطلب الراحة. وأحاديثهم غالبا تدور على السياسة وفي موضوعات علمية واجتماعية يمتدحون فلانا لمكرمة أتاها ، ويذمون فلانا لنقيصة بدرت منه. ارتقت أحاديثهم في هذا القرن إلى الخوض في هذه الشؤون العامة ، ولم تكن في القرن الماضي تتعدى أحاديث البطون والفروج إلا قليلا. ومنهم من يقضي سمره ببعض الألعاب الشائعة كالشطرنج والبليار والدومينة والداما والنرد وألعاب الورق على اختلاف أشكالها وأسمائها.

وقد فشت مؤخرا عادة ارتياد بعض الشباب أماكن الشراب ، وموقعها غالبا بين الرياض والغياض ، وعلى ضفاف الأنهار ، وتكون أغلب تلك الاجتماعات متجانسة ، فتراهم جماعات متشاكلين حول مناضد الشراب ، يجتمع كل أليف إلى أليفه ، وتجد جالسا إلى كل منضدة غالبا رجل من أرباب الصوت الحسن ينشد أصحابه الأناشيد الحسان. ومنهم من يختلف إلى زمرة من الموسيقيين الفنانين ، يصحبون آلاتهم كالعود والكمنجة والقانون والدائرة والناي. ومنهم من يقتصر على بعض تلك الآلات. وتجري غالب الاجتماعات في أماكن خاصة. وأما المحال العامة للشراب فتحوي من كل شيء أحسنه كالمنشدين والمغنين والآلاتية ، وتسمى تلك الأماكن الجنائن ، تضم غالبا الماء والخضرة والشكل الحسن ، وتبتدىء وقت الغروب وتنتهي عند منتصف الليل.

هذا مجمل عادات دمشق ولا تختلف عنها عادات سكان القطر في الشمال والجنوب والغرب اختلافا يذكر ما خلا بعض عادات دينية عند الطوائف غير المسلمة ، وفيما عدا ذلك فهم متشابهون في أخلاقهم الاجتماعية ، ويمتاز سكان هذه الديار من غيرهم في المحافظة على ما ورثوه من بعض أخلاق

٢٨٠