خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

نظيفة ويحملانه على أداء الصلاة ويسمعانه قراءة القرآن يقرأه قارئ حسن الصوت ، ثم يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في الآخر الأصوات الجميلة والنغمات الموسيقية الطيبة.

(٦٠٨) «بيمارستان أرغون الكاملي» هو في محلة اسمها الآن باب قنسرين ، أنشأه أرغون الصغير الكاملي نائب حلب سنة سبعمائة وخمس وخمسين ، رتب كل ما يحتاج إليه من رزق وآلات وأدوية وخدام ، شرط واقفه أن التولية لكافل حلب فكان في كفالة تغري برمش على أتم الوجوه ، فيه حجر وأروقة ومحابس للمجانين مظلمة ، يروى أنه كانت توضع فيه الرياحين ويؤتى بآلات الطرب والمغنين لتكون هذه المشاهد والأنغام من تمام العناية بالمداواة ، ثم في أواخر عهد الأتراك نقل من كان فيه من المجانين إلى مستشفى الغرباء وأصبح هو مأوى لبعض الفقراء. وفي مدخله أفاريز ونقوش من أجمل ما نقش النقاشون تزينه.

(٦٠٩) «مستشفى الرمضانية» أنشأه إبراهيم باشا المصري ، وهو مخصص لمرضى العسكر.

(٦١٠) «المستشفى الوطني» بدئ به سنة ثلاثمائة وألف وبعد بلوغه نحو النصف ترك ، ثم أكمل بعد نحو عشر سنين وجعل للمرضى الغرباء والفقراء.

(٦١١) «المستشفى الزهري» أنشأته إدارة الصحة للأمراض الزهرية بعد تأليف الحكومة العربية.

بقية المستشفيات :

المارستان النوري هو المستشفى الوحيد في حماة ، بناه نور الدين محمود وكانت التولية عليه سنة ألف للشيخ صفا العلواني وكان مجموع نفقته كل يوم ثمانية وثمانين عثمانيا (العثمانى أو السلطاني نحو سبعة قروش) ، وهو الآن شبيه بالمندرس يستعمله بعضهم للسكنى وذهبت أوقافه إلا قليلا. وقد وجد على حجر في المارستان بالجانب الغربي من أعلى البيان كتابتان الأولى سنة خمس وسبعمائة وهي : رسم الملك لأمر بخشاي الكافلي بحماة بإبطال ما كان

١٦١

يؤخذ من البيمارستان بغير طريقه وأن وقفه يصرف على ما وقفه الواقف على السكر والأشربة وذلك بأمر السيفي. والثاني : لما كان بتاريخ الشهر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة حضر الجناب العالي السيفي المارستان النوري بحماة المحروسة داود بن المقر السيفي درداس الخاصكي كافل المملكة الحموية أعز الله أنصاره وتبرع بمعلومه على الضعفاء المقيمين به وهو في كل شهر مائة درهم لاغتنام الأجر والدعاء اه.

وفي حماة اليوم مستشفى واحد ، ومثله في حمص ، وآخر في درعا ، ورابع في القنيطرة، وخامس في يبرود ، وسادس في دير الزور ، وفي إسكندرونة مستشفى وذلك ما عدا المستوصفات في كثير من الأقاليم ، وكل هذه المستشفيات والمستوصفات بإدارة الصحة والإسعاف العام ويقوم بإدارتها وتمريض مرضاها أطباء وطنيون.

وكان في طرابلس «مارستان» أنشأه بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر أحد الأمراء بحلب المتوفى سنة (٧٤٢). وفي طرابلس اليوم مستشفى كان سمي مستشفى عزمي بك أحد عمالها الذي قام بتنشيطه.

وقبل ٥٥ سنة جاء نابلس مبشر إنكليزي وأسس فيها مستشفى ، وأخذ يعالج المرضى بأجور طفيفة ويكرههم على استماع وعظه فتحسس المسلمون وأسسوا سنة (١٣٢٦) شرقية المستشفى الوطني وهو إلى اليوم سائر سيرا حسنا يقوم بأموالهم وريع البلدية.

أسس البرتستانت عدة مستشفيات ومستوصفات في الشام منها في طبرية والناصرة وصفد والصلت وصيدا والقدس ويافا وحيفا وبيروت ودمشق وغيرها من البلدان ، ولا تكاد تخلو المدن المهمة من مستشفى أو شبه مستشفى مثل اللاذقية وطرطوس ومنها مستشفى خاص بمرض السل ومستشفى العصفورية للمجاذيب في لبنان ، وكان في الخليل مستشفى جميل اسمه المنصوري وقفه الملك المنصور قلاوون ، ومستشفيات الصهيونيين في القدس وحيفا ويافا وغيرها مهمة في بابها.

وقد أقام الصليبيون في المدن التي احتلوها بعض مستشفيات منها واحد في صور وكان لهم في القدس مارستان وهو من الأماكن التاريخية كان عبارة

١٦٢

عن ١٥٥ مترا طولا و ١٣٧ مترا عرضا وعليه قامت في القرون الوسطى الملاجئ والمستشفيات الخاصة بزوار الغرب ولا سيما رهبنة فرسان القديس يوحنا ومستشفياته. وحوّل ابن أخت صلاح الدين كنيسة الملجإ إلى مستشفى وبقي اسمه العربي الفارسي أي المارستان يطلق منذ ذاك العهد على مجموع تلك الأماكن. وفي سنة (١٨٦٩ م) أعطى سلطان العثمانيين النصف الشرقي من المارستان إلى تاج بروسيا بمناسبة زيارة ولي عهد بروسيا للقدس. وقد كان صلاح الدين جعل دار الأسقف في القدس لما فتحها بيمارستان المرضى.

ومستشفيات القدس اليوم كمستشفيات بيروت مهمة لكثرتها ووفرة ريعها وتنافس المبشرين في تجويدها وتخيرهم لها أحذق الأطباء ، وفي بعض قرى لبنان مستشفيات صغيرة ومصاح منها مصح بحنس ومستشفى جمعية الفرندس في برمانا ، ومصح ضهر الباشق وغيرها، وفي عمل دومة من دمشق مستشفى ابن سينا لأصحاب الأمراض العقلية.

لهفة على المدارس وغيرها :

أرأيت أيها الناظر في هذا الكتاب ، كيف كان عمل الأجداد في إنشاء المدارس والربط والخوانق والمستشفيات ، وكيف تساوى في تأييدها والوقف عليها الملوك والعظماء وجمهور الناس من الرجال والنساء. وكيف جودوا بناءها وأحكموا وقوفها الدارة ، ومع هذا لم تقو على مقاومة المخربين والغاصبين فعاد أكثرها دورا وحوانيت. أزهرت في أربعة قرون واستصفيت في أربعة ، استصفاها من ارتكبوا العار في الاستيلاء عليها من دون حرج ، عملوا هذا وهم متنمسون بالدين يصلون ويصومون ، ويقال عنهم : إنهم المسلمون ، وربما كان على أبدان بعضهم شعار العلماء وما هم في الواقع إلا من أهل الرسم لا من أهل العلم ، وقد يكون أقرب الناس إلى مخالفة الشرع القائمون عليه.

ترى هل تلام الحكومات على هذا العبث بالمدارس وانتهاك حرمتها أم تلام الأمة؟ لا شك أن الحكومات ينالها قسط كبير من الملامة لأنها هيأت سبل السرقات ، وربما كانت مشتركة بالسرقة أحيانا ، ولكن اللوم كل اللوم

١٦٣

على الجماعة والمدارس مدارسهم والدين دينهم. ومنذ عبث العابثون بالمدارس ، وسرق السارقون عينها ومغلها ، تراجعت دروس الدين وتراجعت معها دروس العلوم الأخرى ففشا الجهل المطبق في الأمة ، وكادت تعود سيرتها الأولى من الجاهلية الجهلاء ، وأصبح من وسموا بالعلم إذا سئلوا أفتوا بغير علم ، وجوزوا ما حرمه الشرع وحرموا ما جوزه ، ومن مساويهم أكل أموال الأوقاف واستصفاء أعيانها ، ومعدهم تهضم خصوصا المساجد والمدارس.

أضاع الخلف ما أبقاه السلف معمورا زاهرا من المدارس التي كانت في العصور الغابرة غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفا ومظروفا ، وبها أثبت أجدادنا أنهم كانوا شيئا مذكورا في إتقان الهندسة والبناء ، وأنهم على جانب من سلامة الذوق ، وأنهم حراص على مجد أمتهم ، وأن الأعمال العظيمة لم تقم بنفسها لو لم يفكر فيها عقول كبيرة ، وما كانت تلك المدارس تعمر لو لم يدرس فيها نوابغ من رجال العلم والآداب ، ولو لم تكن ذات قانون معقول. نعم لم نعرف سر هذه الصناعة التي مثلتها لنا هذه المدارس ، ولعله يقوم في الجيل المقبل من أبنائنا علماء بالآثار والبحث يكشفون سر أعمال الأجداد كما توفر علماء الآثار في أوربا مائة سنة حتى كشفوا لأممهم أسرار البيع العظمى التي قامت خلال القرون الوسطى ، وعسى أن يبرهن الباحثون منا أنه لم يقم في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه ويغذونه بعقولهم ، ويفيضون عليه من معين قرائحهم.

قلت مرة من محاضرة ألقيتها في الشهباء في ربيع سنة (١٣٤١ ه‍ ١٩٢٣ م) وقابلت فيها بين مدارس حلب ودمشق : من تأمل مدارس أرباب الخير من المسلمين في الشهباء والفيحاء ، وقرأ ما كتب عليها بتأمل ، وزارها المرة بعد المرة على تغير معالمها ، وتشويه طرأ على محاسنها ، وفساد عرا أذواق الأبناء والأحفاد ، إذا قيس إلى سلامة ذوق الأحداد ، وجعل نسبة بين عدد ما عمر منها وما بقي في البلدتين الشقيقتين يؤكد معنا أن الفساد استحوذ عليها في دمشق أكثر من حلب ، وأن من تجردوا من الوجدان فاستحلوا استصفاء تلك المدارس كانوا في الفيحاء أكثر من أمثالهم في الشهباء. ولذلك كان عدد الباقي في حلب أكثر وأجود من المدارس في دمشق.

١٦٤

ولا ينكر أن مادة البناء قد تختلف في بلد عن آخر. وقد كان الاعتماد في تلك القرون على الحجر الصلد ، وفي دمشق عدة مقالع جميلة منوعة منه كما في حلب ، ولم يكثر الآجر والطوب والخشب إلا في القرون الحديثة ، ولذلك لم تخرب المدارس الدمشقية لعدم متانة في بنائها ، فإن الأمثلة الظاهرة منها إلى اليوم لا تجعلها تختلف في شيء عن مدارس حلب. ولكن القائمين على هذه المدارس في هذه المدينة كانوا يعتدلون في العبث بها ، ومتانة الأخلاق من جملة ما امتاز به الحلبيون ، يضاف إليها حب الاحتفاظ بتراث الأجداد على صورة كانت ظاهرة في قرون الارتقاء ، كامنة في عصور الشقاء والرجوع إلى الوراء.

والناظر إلى مدارس دمشق وحلب وهي لا تقل عن ثلاثمائة مدرسة ، منها زهاء مائتين في دمشق يدرك أنها من عمل السلاطين والعمال وقليل من التجار وأهل الخير. وكان منهم من يتوخى منها أن تكون توليتها لبنيه من بعده ليعيشوا منها إذا صودرت أملاكهم. بنى قليل من التجار المدارس لأن الشعب كان يفنى في أغلب العصور في كبرائه ، فلم يكن شأن في مظاهر النعمة والغبطة مدة قرون لغير أرباب الدولة أو من كان يعد في جملتهم ، وكان الناس يحاذرون أن تنشأ لهم شهرة في الثروة ، والثروة تتجلى في الدار والفرش والدابة واللباس ، وفي بذل المال لإقامة دور العلم وإيواء اليتامى والمحاويج ، فكانوا يتظاهرون بالفقر لينجوا من مخالب العمال.

وقلّ أن رأينا جماعة اتفقوا على إقامة عمل من هذا القبيل يفتخر به اللهم إلا قليلا من المساجد ، ولو فعلوا لأمنت أعمال الجماعات من اعتداء المعتدين أكثر من عمل الأفراد، ولما استصفيت واستحل هدمها ، ولا غير خططها ومعالمها من لا يخافون الله ولا عباده ، ولجاءت ممثلة للعظمة الحقيقية في الأمة ، على نحو ما قامت البيع والأديار والمدارس في الغرب ، بإرشاد رجال الدين من كرادلة وأساقفة وقساوسة ، فكانوا يجمعون قليلا من صدقات الملوك والأغنياء والفرسان والشعب ، فيجيء مجموعها عظيما يدار بأيدي هيأة منظمة على كل حال ، ويختطون خطة لا يخرج عنها الخلف إلا قليلا.

للأثر القديم من الموقع في النفس ما ليس للأثر الحديث ، فإن الأول

١٦٥

يذكر بأمور كثيرة ، يذكر بمجد السلف وأياديهم البيضاء وإرادتهم الصحيحة ، يذكرنا بأن فلانا الذي تحترمه الأمة بنى ذاك المصنع وتلك الدار ، وأن فلانا العالم درّس هناك أو كان يألف المكان الفلاني ، وكم من أثر تاريخي أو مصنع من مصانعنا نمر به دون أن نحفل بما فيه من عبر ، ولو كنا على شيء من مدنية أجدادنا ما زهدنا هذا الزهد البشع في تراثهم ، ولو اقتبسنا المدنية الحديثة بمحاسنها ومساوئها لرأيتنا أسرع إلى التقاط آثار الجدود والاحتفاظ بها من الماء إلى الحدور.

لا تستطيع أمة أن تقطع الصلة بينها وبين ماضيها ، خصوصا إذا كانت ذات غابر عظيم كغابر الأمة العربية ، قام على أساس متين ، وتقاليد جميلة ، ومقدسات متسلسلة ، أما ونحن لا نرقى بدون القديم والأخذ من نافع الحديث ، فواجب العقلاء أن يفكروا في أقرب الطرق إلى هذه الغاية ، وهذا لا يتم بغير إحياء دور العلم ومعاهد الفضل ، وإحياؤها موقوف على قليل من العناية.

ليس للمدرسة الحديثة التي ننشئها اليوم تلك النضارة ، ولا تتجلى فيها معاني الحسن والإحسان التي نشعر بها ونكاد نلمسها في المعاهد القديمة مثل مدرسة ضيفة خاتون رحمها الله فإنك إذا رأيتها تمثلت أمامك صفحة من تاريخ هذه الأمة المجيد ، تمثلت بيت بني أيوب وأفضالهم على ربوع الشام ، وكفى بهم وبصلاح الدين حسنة عقم الدهر أن يلد مثلها. كثير من المصانع بناها الملوك بالسخرة وإرهاق الرعية ، وإعنات الأسرى والمعتقلين ، ولم نقرأ في التاريخ أن أحدا من آل البيت الصلاحي عمر مدرسة أو جامعا أو مستشفى أو رباطا من مال مشبوه ، أو سخرة ممقوتة ، فأكرم وأنعم بكل فرد أصيلا كان في هذا البيت الشريف أو دخيلا عليه ....

عمر أهل الخيرات من سلف هذه الأمة هذا القدر العظيم الذي نعجب به من معاهد التعليم الديني دع المساجد والجوامع ، ولو كتب البقاء لبعضها لأغنت القوم بعض الشيء بمعارفها ونشرت النور بينهم. وكانت المدارس والجوامع في تلك القرون المظلمة في الغرب المستنيرة في هذا الشرق هي المتكفلة بتعليم الناس وإخراجهم من الأمية ، وكان لمعظم المدارس والجوامع كتاتيب مرتبطة بها وخارجة عنها لتعليم الأطفال تؤهلهم لتلقي دروس

١٦٦

المدارس والجوامع ، ولا نغالي إذا قلنا : إن عدد الأميين كان في تلك العصور أقل مما هو الآن في هذه الديار. ولو اطرد العمل اطراده في مدارس الغرب مثلا لأصبحنا في هذا القرن والأميون أقل مما هم في ممالك المدنية الحديثة.

ولكن الجهل قضى على تلك المدارس وأكل المتولون أوقافها فخربت وتغيرت معالمها. وكم من وقف يستمتع به النظار عليه يصرفون ما وقف على الخير في سبيل شهواتهم بدون محاسب من ذممهم ولا رقيب من أصحاب السلطان. ولو كتب لهم أن يأكلوا منها بالمعروف ويصرفوا حقوق تلك المعاهد أو بعض مغلها على رمها وإجراء الرزق على ساكنيها والدارسين فيها لأتت بثمرات جنية ، ولما أكلوا في بطونهم النار ، وركبوا متن العار والشنار ، وكم من بيت كان موسوما في القديم بالعلم والتقى فخلف من بعد السلف خلف عبثوا بالحرمات فاستحلوا أموال المدارس والمعابد فدثر البيت وانقرضت الأسرة وذهبوا وما يملكون جملة. لم يرحموا لأنهم لم يرحموا.

ضبطت الحكومة السابقة أكثر أوقاف الملوك والسلاطين وكان ريعها كثيرا جدا في هذه الديار ، فلم تصرفها فيما خصصت له ولم تنجح في الغاية التي توختها منها ، واستقل بعض أرباب النفوذ بالأوقاف التي ائتمنوا عليها أو انتهت إليهم بحكم الوارثة فأساؤوا الاستعمال إلا من عصم الله. فالسبب إذا في خراب مدارسنا الجميلة سوء إدارة الحكومات السالفة وعبث المتولين عليها وإخراجها عما وضعت له من عمل الخير بصنع أولئك الذين يعدون أنفسهم في جملة حماة هذا المجتمع وهم أعدى عداته اه.

١٦٧

دور الآثار

المتاحف والعرب :

المتاحف العامة على الصورة التي نراها في الغرب لعهدنا ليست مما عهد في هذا الشرق. فإن آثينة منذ الزمن الأطول كان لها متحف دعته رواق الصور. وعرضت رومية أجمل ما أخذته من الصور من آثينة. ولم يكن حتى في القرون الوسطى في أوربا متاحف. وكانت بدائع الصنائع البشرية تحفظ في دور الملوك وفي قاعات البيع والأديار. حتى إذا كانت القرون الحديثة ونشأ كبار المصورين في إيطاليا وغيرها كثرت المتاحف التي تعرض فيها التصاوير العجيبة ومبدعات العقول والأنامل ، بحيث كاد أن يكون لكل مدينة معرض منها. وأخذت تغص بما يهديها إياه الكبراء والملوك ، ولما كثر الإخصاء عمّ المتاحف أيضا. فصار للأمم العظمى متحف لغرائب الصناعة في النقش ، وآخر في الرسم ، وغيرها في أدوات الحرب ، وآخر في أدوات الزينة ، وغيره في أدوات الموسيقى إلى غير ذلك.

ولا نعلم إن كانت للعرب متاحف أيام مدنيتهم على الصورة التي هي اليوم في كل بلد تذوّق الحضارة ، بل كانت متاحفهم في جوامعهم وقصورهم التي اختاروا لنقشها وتزويقها أمهر صناع أيامهم على نحو ما كان في جامع بني أمية في دمشق ، والأقصى في القدس ، وبعض جوامع بغداد والقاهرة ، وفي الحمراء والزهراء في الأندلس ، وفي قصور الخلفاء ببغداد وقصورهم في الأندلس وقصور الفاطميين في القاهرة. وكانت دور العظماء في الشرق كما كانت في الغرب تتنافس في بدائع الصناعة وتجعلها بحيث يراها من يختلفون

١٦٨

إلى قصورهم ، ولا تزال البيوت القديمة إلى اليوم في الشام تفاخر بما عندها من مجموعات الصيني والقاشاني والسلاح القديم والحلي والأواني الفضية والذهبية القديمة على كثرة ما طرأ على القطر من الحوادث التي عزت فيها الحاجيات دع الرغبة في الكماليات. وكان اقتناء هذه البدائع في هذه الديار من دلائل الظرف وآيات التعين والرياسة ، كما كان اقتناء الكتب في قرطبة بل في حلب ودمشق إلى عهد قريب.

كان الفاتحون يغنمون في جملة ما يغنمون الطرائف البديعة وأدوات الزينة والتحف. هكذا فعل تيمور فحمل معه من دمشق صناع هذه البدائع وما أبدعوه ، وهكذا فعل سليم العثماني فاتح مصر فنهب منها أجمل آثارها التي استطاع حملها وزين بها قصره وقصور جماعته في القسطنطينية. وذكر المؤرخون أن بعض ملوك الأندلس من العرب كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة من غير نكير ، وفيها صور الآدميين وغيرهم.

وكان أهل أوربا زمن الحرب الصليبية وبعدها يتنافسون فيما يجلبونه من الأقمشة والبسط وأدوات الزينة من الشام ، ولما جاء القرن الأخير أخذوا ينقلون إلى متاحفهم ما أبقته صنع الأيدي من أهل المدنيات القديمة من تماثيل ونصب وأحجار زبر عليها رقم ، وفي بعض متاحف أوربا ولا سيما في متحف اللوفر في باريز والمتحف البريطاني في لندرا ومتحف برلين ومتاحف إيطاليا وغيرها كثير مما عثر عليه الباحثون من العاديات الحجرية في اليمن والشام ومصر ولا سيما من الديار الشامية. وقد أخذت عادياتنا تسافر من أرضنا منذ أخذ علماء الآثار يبحثون في سهولها وجبالها ، وما كتبه كثير من علماء المشرقيات والعاديات في القرن التاسع عشر دليل يؤيد ذلك ، وقد نشروا أبحاثهم في كتب خاصة ومقالات لهم في المجلات الأثرية والعادية والعلمية.

أما نحن سكان هذه الديار فلم تكن لنا عناية بهذا الشأن بل قلّ جدا من اهتدى إلى الاحتفاظ بما خبأته الأيام في بطون هذا الصقع. وكنا أزهد الناس فيها حتى نقلت آثارنا ونفائسنا أمام أعيننا كما نقلت مخطوطاتنا ونحن ضاحكون مستبشرون ، وانتفع بها القوم هناك وأكملوا بها تاريخ المدنية ، ولما وقع الانتباه في الحكومة العثمانية أخذت تمانع بعض الشيء في نقل هذه التحف

١٦٩

والطرف ، ونقلت بعض ما عثر عليه من المصانع في خرائب صيدا وتدمر وغيرها فزينت بها متحف الاستانة. وقد ندب بعض علماء الآثار من الإنكليز وحفروا بطرق عجيبة مغارة الصخرة في المسجد الأقصى فذهب ما فيها ولم يعلم عنه شيء.

وكم من بعثة أثرية قامت بحفريات وأخذت ما عثرت عليه ولم تأخذ الدولة العثمانية حقها منه ولسان حال الباحثين ما ورد في الأمثال العربية «لا يحزنك دم ضيعه أهله». وقد طلب منها في مؤتمر الصلح بباريز إعادة ما أخذته هي وألمانيا خلال الحرب العامة من هذه الديار من الآثار. وفي ذلك برهان على مكانة العاديات في نظر الغربيين.

ولقد كنا نزين للحكومة التركية منذ ست وأربعين سنة أن تنشئ لدمشق متحفا صغيرا تجعل فيه العاديات وبدائع الصنائع ، فكان عمالها يتشاغلون عن ذلك لأنهم يحبون أن يكون كل فضل في الاستانة ، وأن تكون سائر الولايات قرى ومزارع للاستعمار على طريقتهم ، حتى إذا نادت سورية بالحكومة العربية صحت عزيمة هذه على إنشاء متحف فاتخذت له سنة (١٣٣٧ ه‍ ـ ١٩١٩ م) دار المدرسة العادلية من أجمل قصور الفيحاء ، وأخذت تجمع بعناية المجمع العلمي ما بقي من الآثار النفيسة. فهو أول متحف عربي في هذه الديار، سار القائمون به على قدم الغربيين في نظامه ، ثم بني له بناء خاص في غربي المدينة في المرج الأخضر واغتنى في أسرع مدة غنى يغبط عليه بما اكتشف المنقبون عن العاديات من علماء الغرب.

حياة المتحف العربي بمعاضدة الأمة له. ولم يقصر بعض من لديهم مثل هذه التحف والطرف في إهدائها لتجعل في دار آثار الأمة عنوان ارتقائها ونموذجا على معرفتها بتاريخها. لا جرم أن هذا المتحف هو البذرة الأولى التي ألقيت في هذه التربة المخصبة المهيأة لأنواع النماء والإثراء يستفيد منه أهل الأجيال الخالفة ما يغني غناءه في تربية عقولهم وعيونهم وأناملهم ويعتبرون بماضي الصناعة عند الأقدمين ، وما كان لأجدادنا من الأيادي البيضاء في الفنون الجميلة بين المحدثين.

١٧٠

نشأة علم الآثار (١) :

عنيت الأمم منذ القديم بالفنون الجميلة ، وكان حظ كل أمة من هذا الشأن بحسب رقيها وحضارتها. كان الأفراد يجمعون الآثار ويتنافسون باقتنائها لا لغاية علمية بل للزينة والتفاخر. ودام هذا حالهم حتى سنة (١٧٦٤ م) لما ظهر كتاب تاريخ الفن عند الأقدمين لمؤلفه وانكمان الألماني ، وهو أول من وضع أسس هذا العلم الحديث.

إن علم الآثار القديمة فرع من فروع التاريخ ، ومن أصعبها مراسا ، إذ يحتاج صاحبه إلى قوة انتباه وذوق سليم. فإن هذا العلم لا يقتصر فيه فقط على جمع الآثار القديمة في المتاحف ووصفها ، بل يتطلب حل رموزها وفهم كنهها ، واستجواب تلك الشهود الصامتة ، واستنتاج الحقائق منها.

ولقد أصبح النظر في أبحاث علماء الآثار وتحقيقاتهم محتما على كل مؤرخ ومحقق ، ويستنير بها كل لغوي ومفسر. وكم معضلة تاريخية ولغوية حسمت بفضل هذا العلم. وها هي كلمة فرعون التي لا يجهل اليوم الأحداث معناها ، ذهب المتقدمون من علماء اللغة في تفسيرها مذاهب حتى قام علماء الآثار فأظهروا وثائق تثبت أنها لقب كل من ملك مصر. وكم من حوادث جاءت في كتب السلف وفي الكتب المنزلة فذهب الناس في تأويلها ، وشك بعضهم في صحتها ، ولو لا علم الآثار الذي أماط عنها اللثام ، وأظهرها للعيان ملموسة محسوسة ، لقالوا : إنها أساطير الأولين. أليست جهود الذين اكتشفوا آثار آشور والكلدان ومصر وفارس ويونان وبعثوا ذكرها بعد أن كانت نسيا منسيا ألوفا من السنين ، شاهدا عدلا على أخبار تلك الممالك.

لم يدون الأقدمون غير النزر اليسير الذي وصلهم من أخبار الشعوب القديمة ، وأغفلوا ذكر أكثر الأمم البائدة التي ذهبت أخبارها بزوال أصحابها ، ولو اكتفينا بهذه النصوص المشوهة لما كنا أوفر حظا ممن تقدمنا بمعرفة أخبار السلف ، وبفضل هذا العلم نعرف اليوم أخبار أكثر هذه الأمم ، كما نعرف حوادث الأمم في القرون الوسطى ، وقد توصلوا لمعرفة ما كان عليه الإنسان

__________________

(*) وضع هذا الفصل الأمير جعفر الجزائري.

١٧١

قبل عشرات الألوف من السنين ، يوم كان يأوي إلى الكهوف ، ويقتات بالنبات ، ويفترس الوحوش ، مع أننا نجهل ونحن في القرن العشرين كثيرا من عقائد بعض الشعوب الضاربة في مجاهل إفريقية وهي معاصرة لنا.

ومن الإنصاف أن لا ننكر فضل من نقلوا إلينا أخبار القدماء لأن هذا الشيء اليسير هو الذي أثار في فئة من الناس حب الاستطلاع ، وكانت هذه النصوص نورا يستضاء به ، ومرجعا يستأنس به. وعلماء الآثار أصدق الناس في هذه الروايات ، وهم وإن لم ينكروا وقوعها فلا يجزمون بصحتها إلا متى عثروا على دليل من ذلك العصر يؤيدها. ولأبحاث علماء الآثار ميزة جديرة بالاعتبار فإنها تكون في أكثر الأحايين منزهة عن الأغراض والغايات النفسانية. وقد يخطئ الأثري في استنتاجه ، ولكنه لا يعتمد تشويه الحقائق ، لأن همه الوحيد أن يحيي هذا الماضي البعيد ، ويصبح معاصروه كأنهم يعيشون في ذاك العصر وذاك المحيط. ومن منا لا يشعر بمثل هذا الشعور عندما يزور متحفا أو معبدا أو أطلالا قديمة. وكيف يمكنه أن ينكر الحقيقة ولسان حال هاته الأمم البائدة يقول :

إن آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

لقي هذا العلم الحديث إقبالا عظيما في الغرب فعنيت حكوماتها به ، وأرصدت للمشتغلين به أموالا طائلة ، وأنشأت له المدارس والمجامع العلمية أسوة ببقية العلوم. وقد أبدى الأثريون على قلة عددهم نشاطا عظيما ، ووضعوا في برهة قصيرة كثيرا من المؤلفات المفيدة. وقد نال الشام قسط وافر من هذه الأبحاث ، فهي أول بقعة اتجهت نحوها الأنظار وخصوصا فلسطين ، لمكنة الشعوب التي استوطنتها منذ الزمن الأطول ، وأهمهم الشعب الإسرائيلي ، لعلاقة الأمم الغربية بكتابهم المقدس.

البعثات الأثرية الغربية :

أوفدت أكثر حكومات الغرب بعثات علمية للتنقيب عن آثار الشام نخص منها بالذكر البعثة الإفرنسية التي رافقت حملتها في سنة (١٨٦٠ م) والجمعية الإنكليزية للبحث عن آثار فلسطين. ثم تضاعفت الهمم فجاء من

١٧٢

الفرنسيين رنان والدوق دولوين ودوسلسي ودوفوكوين وكلرمون غانو ودوسو وفانزان وغيران ، ومن الإنكليز روبنسون ومادن وسايس وويلسون وفارين ، ومن الألمان أوتوتينيوس ، ومن السويسريين ماكس فان برشيم. وأهم الأمكنة التي نقبوا فيها هي تل الحسي وتل زكريا وتل الصافي وتل الجديدة وتل الجزر وتل تعناك وتل المتسلم وعكا ويافا والقدس وصيدا وصور وجبيل وعمريت وجزيرة أرواد وبعلبك إلى عدة أصقاع في الشام الشمالية.

وبينا هذه البعثات مجدة في عملها ، كانت الدولة العثمانية في سبات عميق مكتفية بمراقبة هذه البعثات لاقتسام الغنيمة وإيداعها متحف الاستانة الوحيد. ولم تفكر بعمل حفريات قط ، كما أنها كانت تأبى إنشاء فروع لمتحفها في الشام أو في غيرها من السلطنة العثمانية ، وحجتها في ذلك أن الآثار إذا جمعت في مركز واحد ، وضم بعضها إلى بعض نتجت من ذلك فوائد علمية وعملية لا ترجى من تعدد دور الآثار ، وذلك أسوة بمتاحف أكثر الأمم الغربية ، وعملا برأي أكثر علماء الآثار. ولكنها تجاهلت بأن ما يصلح لأرض لها وحدة تاريخية لا يعمل به في أرض ضمت تحت لوائها شعوبا مختلفة ومدنيات متباينة كالامبراطورية العثمانية.

ولذلك كان جل اهتمام الدولة العثمانية مصروفا إلى إنماء متحف الاستانة فأهملت أمر الآثار القديمة في ديارها ، ولم تعهد إلى أناس يتعهدونها أو يراقبون سيرها ، فدرس كثير من البنايات الأثرية البديعة ، وأقبل الأهلون في كل ناحية ينقبون عن الآثار القديمة بغية الاتجار بها. فأصبحت هذه التجارة ذات شأن في القطر ، وغصت متاحف أوربا بآثار الشام ، واقتنى غواة العاديات الأجانب كثيرا منها. وبهذه الصورة وبفضل الامتيازات الأجنبية تمكنت كل من الجامعة الأميركية والكلية اليسوعية في بيروت وغيرهما من المعاهد من إنشاء متحف خاص ، وجمع الدكتور فورد في صيدا ، وغيره في حلب من الأجانب مجاميع مهمة من آثار الشام. ولم يعرف من الشاميين من اشتهر بجمع الآثار ، القديمة وكانوا لا يعبأون بها ، ولا يقيمون لها وزنا. ومن كان منهم يملك طرفة أو أثرا يتنازل عنها مقابل دريهمات معدودة ، حتى تجردت أكثر البيوت والأسر من نفائسها.

١٧٣

آثارنا وآثار جيراننا :

ولقد تبين من الحفريات التي أجريت في الشام ومن الآثار التي اكتشفت فيها أن آثارها تختلف كثيرا عما وجد من نوعها في الأقطار المجاورة ، ولا يرجى أن نعثر في هذه الديار على آثار تثير بجسامتها إعجاب العامة قبل الخاصة ، كما هو شأن آثار مصر وآشور وفارس. والسذاجة في الصناعات تغلب على الشاميين منذ القديم ، وهذا ناشئ عن طبائعهم ومعتقداتهم. فالشامي في جميع أدواره التاريخية يميل إلى الساذج ، وهذا يظهر في صناعته وفلسفته الدينية ، وتتجلى في هذه البساطة مواهبه الفنية ، جمع بين الساذج والجميل فأحسن الصنع وأبدع. وتقل الآثار المنقولة النفيسة التي اكتشفت في الشام بالنسبة لما وجد في غيرها من الأقطار ، وهذا القليل يشهد ببراعة الصانع الشامي وذوقه السليم ، حاز بهما مكانة بين أقرانه من فناني بقية الشعوب.

وليس معنى قلة العاديات عدم انتشارها في القطر ، بل لأنها لم تصل إلينا لأسباب وعوامل شتى. ذلك أن تربة الشام رطبة لا تحفظ ما يودع فيها. وأن الشاميين قلما يجعلون في مدافن موتاهم نفائسهم ، كما هو شأن المصريين وغيرهم من الأمم القديمة. بل يكتفون بالأشياء الساذجة المنوعة. فإذا أضفنا إلى خلو القبور من الأعلاق ، وما قد كتبه اشمونزار ملك صيدا على تابوته مخاطبا به نابشي القبور ، ناصحا لهم أن لا يهتكوا حرمته ، مؤكدا أن لا ذهب ولا فضة في قبره ـ ندرك من هذا سرّ ندرتها بين أيدينا. فإذا كان هذا حال ملوكهم فما بالك بالرعية. وخلو القبور منها هو حجة للشام لا عليها ، ودليل على سمو عقيدة سكانها ، ونضج فكرتهم منذ القديم ، لأن الشامي كبقية الشعوب السامية يغلب عليه الاعتقاد بأن الجسم مادة تتلاشى مع الزمن ليست جديرة بالإكرام الذي يبالغ به غيرهم من الشعوب. ومع هذا فقد انتشرت في الشام عادة وضع بعض الأشياء في القبور وذلك بمؤثرات خارجية ، واقتباس عادات الغالب ، والشام في أكثر أدوار تاريخها خضعت لسلطان أجنبي.

الشام معهد ثلاث ديانات يدين بها اليوم معظم البشر. وهذه الديانات

١٧٤

لم تكن ابنة ساعتها ، بل هنالك عوامل مهدت لها السبيل مدة قرون عديدة قبل ظهورها. ولذلك يهم كلّا منا معرفة تطورها.

وهذا ما يزيد في مكانة آثار الشام ويجعل إقبال العلماء عليها أكثر من سواها لعلاقتها الكبيرة بنظامنا الاجتماعي الحاضر. وقد أدركت جمعية الأمم هذا الأمر واحتاطت له خوفا من المزاحمة واستئثار دولة بهذه الآثار دون سواها ، فاشترطت في المادة (١٤) من صك الانتداب أن القانون الذي سيسن لحماية العاديات يجب أن يستمد روحه مما يدعو إلى التنشيط أكثر منه إلى التثبيط ، كما أنها اشترطت على الحكومة المنتدبة عند منحها إجازات بالحفر أن لا تتصرف بشكل يرمي إلى حرمان علماء أي شعب كان تلك الإجازات دون أسباب موجبة ، وهكذا أصبح الباب مفتحا لجميع الأمم.

تأسيس دور الآثار :

وقد تضاعف نشاط البعثات الأثرية الأجنبية عقب الهدنة في سنة (١٩١٨) ، وأظهرت قيادة جيوش الحلفاء في الشرق عناية كبرى بالآثار ، وعهدت للإخصائيين في جيوشها بدرس آثار الشام ورفع التقارير عنها ، وشددت النكير على العابثين بها. ومن جملة مقررات المؤتمر الفرنسي الذي عقد في مرسيليا سنة (١٩١٩) للبحث بشؤون الشام العامة اقتراح على الحكومة الفرنسية بإنشاء ديوان للآثار القديمة ، والتشبث باسترجاع ما أخذته الحكومة العثمانية من آثار الشام ، وقد حققت المفوضية الفرنسية في الشام الاقتراح الأول ، فأنشأت لها ديوانا للآثار القديمة ، وحذت المفوضية الإنكليزية حذوها في فلسطين وشرق الأردن.

ولم تكن الشام في عهد الملك فيصل أقل عناية من تينك الدولتين. فقد اغتنم هذه الفرصة بعض المفكرين وفي مقدمتهم الأستاذ مؤلف «خطط الشام» فاقترحوا على الملك إنشاء متحف في دمشق ، فقوبل هذا الاقتراح بارتياح عظيم. وما لبث الملك أن أصدر أمره بذلك إلى الأستاذ بأمر تحقيقه على أن يكون فرعا للمجمع العلمي العربي الذي أسسه الرئيس أيضا. وأنشأت الحكومة السورية متحفا آخر في حلب ، وأنشأت حكومات لبنان وجبل الدروز والعلويين

١٧٥

متاحف في بيروت والسويداء وطرطوس ، وكذلك أنشأت كل من حكومتي فلسطين والشرق العربي متحفا جعلته الأولى في القدس والثانية في عمان. وجميع هذه المتاحف نمت بسرعة عظيمة بفضل ما اشترته واستهدته من الآثار ، وما نالها مما اكتشفته البعثات الأثرية في مناطقها فأصبحت الشام بتشجيع الحكومات المحلية والسلطات المنتدبة ساحة عمل دولي كبير.

وقامت البعثات الفرنسية بالبحث عن الآثار في صيدا وأم العواميد وكفر الحرة وبيروت وجبيل والقرية ولبيا في منطقة الحكومة اللبنانية ، وفي السويداء وقنوات والشهباء ، وفي تل النبي مند (قدش القديمة) وفي المشرفة (قطنا القديمة) والنيرب وأرسلان طاش والقصر الأحمر ، وقامت بعثتان مختلطتان باعمال التنقيب في قلعة الصالحية (دوراسا أو روبوس القديمة) على شاطئ الفرات ، وفي مدينة تدمر. وتحرت البعثة التشكوسلوفاكية آثار الشيخ سعد وتل أرفاد ، ونقبت بعثة ألمانية في رأس العين شمالي الشام. وحصرت البعثات الإنكليزية والأميركية أعمالها في منطقة فلسطين والشرق العربي ، فنقبوا عن الآثار في تل (مجدو القديمة) وبيسان وسبسطية (سمرة القديمة) وسيشم وبيت جبرين والقدس والتابغة وجرش.

متحف دمشق :

تختلف مجموعة دار الآثار في دمشق عن مجاميع متحف الشام للعناية التي بذلتها بآثار القطر الشامي على اختلاف أدواره التاريخية وخاصة العهد الإسلامي. وحريّ بدمشق عاصمة الأمويين ، ومهد الحضارة العربية ، أن يكون لها متحف يحيي ذكرى هذا الماضي المجيد. ورغم ندرة العاديات الإسلامية المنقولة في ربوع الشام وأسعارها الباهظة ، تمكنت دار الآثار من جمع أعلاق قيمة. منها مجموعة نقود إسلامية ، ومجموعة خزف عربي ، ومجموعة مصاحف مخطوطة ومذهبة. ومجموعة خشبية أخص بالذكر منها جانبا من سدة جامع من خشب الحور الرومي آية في جمال الصنع وحسن الذوق ، مزينة بنقوش عربية بديعة ، وكتابات قرآنية كوفية مزهرة متناسقة جميلة جدا ، وقد كتبت في أعلاها هذه الفقرة : «بن محمد بن الحسين بن

١٧٦

علي صفي أمير المؤمنين تقبل الله منه وذلك في شهور سنة سبع وتسعين وأربعمائة» وتابوت مزين مجموع بشكل حشوات صغيرة منقوشة نقشا بديعا وقد كتب على جوانبه «هذا ضريح الست الجليلة الكبيرة المعظمة الملكة فخر الخواتين عصمة الدنيا والدين ، بختي خاتون ابنة السلطان الملك معز الدين قيصر شاه ابن السلطان السعيد الشهيد ملك ملوك الروم والأرمن قليج أرسلان قدس الله روحه ونور ضريحه ، وذلك في مستهل ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وستمائة» وبين مجموعة الكتابات الحجرية لوحتان سلجوقيتان كتب عليهما تاريخ ترميم جانب من جامع بني أمية في شهور سنة (٤٧٥) وأخرى أيوبية تاريخها سنة (٥٧٥) ومجموعة وافرة من شواهد قبور أمراء الشام وعلمائها في القرن السابع والثامن ه. ومما يلفت النظر جرة من رخام أبيض ، وعلى القسم الأسفل منها نقوش عربية وعهدها من القرن الثامن للهجرة. وأخرى من الفخار عليها نقوش أشخاص وحيوانات وطيور وزهور محكمة الصنع وكتب في وسطها هذه العبارة (عز وإقبال وسلامة وسعادة وكرم وغبطة ورفعة) ، وهذه الجرة فريدة في بابها وهي من صنع العراق في القرن الثالث عشر (م).

ومن أهم الآثار غير الإسلامية مجموعة زجاجية وهي أجمل مجموعات العالم ، ومجموعة مهمة من الآثار التدمرية وهناك رأس تمثال أحد عظماء الحثيين يرجع عهده للألف الثانية قبل الميلاد. ونصب الفرعون سيتي الأول وعليه ذكر انتصاره على الحثيين ، وطائفة من الآثار الرومانية واليونانية.

متاحف بيروت والسويداء وحلب وطرطوس والقدس وعمان :

وجمع في متحف بيروت كثير من الآثار الفينيقية وغيرها أهمها الأواني والحلي التي عثر عليها في مدافن جبيل وفي أقبية معبدها. ويرجع عهد بعضها إلى الألف الثالثة وبعضها إلى ١٨٠٠ سنة قبل الميلاد منها ناووس الملك أحيرام المتوفى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقد نقشت على جوانبه صورة الملك يتناول القرابين من أتباعه وبعض الشعائر الدينية ، وهو قائم على أربعة

١٧٧

أسود. ومما يزيد في شأن هذا الأثر الكتابة الفينيقية التي زبرت عليه وهي أقدم كتابة عرفت من نوعها حتى اليوم وهذه ترجمتها «عمل هذا الأران (التابوت) افسبعل بن احرام ملك جبيل لأبيه كي يكون مقره الأبدي ، فإذا نصب ملك من الملوك أو حاكم من الحكام العداء لجبيل وأخرج هذا التابوت من تحت التبليط فيكون خاتور خصمه فيدك عرش ملكه ويعم الخراب جبيل إذا محا هذه الكتابة ......» وبين هذه الآثار آنية خزفية نقش عليها اسم الفرعون امنمعحت الثالث (١٨٥٠ ـ ١٨٠٠) قبل المسيح. وآنيتان عليهما اسم امنمعحت الرابع وآنية من الرخام جميلة الصنع مع غطائها ، وكتب عليها بالهير وغليفية ما يأتي : «خدام الإله ابن الشمس فليعش امنمعحت إلى الأبد» وصندوق صغير للحلي من حجر كريم أسود محلى بالذهب وشكله على طراز الناووس وعلى الغطاء كتابة هيرو غليفية هذه ترجمتها : «فليعش الإله بون سيد الأرضين ملك مصر البحرية والقبلية مع حرون راع المحبوب من ثوم سيد هيليوبوليس الممنوحة له الحياة الأبدية». وجمع في هذا المتحف مقدار كبير من الفخار أهمه الأواني التي عثر عليها في كفر الجرة ويرجع تاريخ صنعها إلى الألف الثاني قبل الميلاد. ولآثار جبيل مكانة تاريخية عظيمة وهي من أهم ما عثر عليه حتى الآن في الشام.

وكان في متحف السويداء مجموعة حجرية نفيسة أكثرها من العهد اليوناني والروماني ضاع معظمها مع الأسف إبان الثورة السورية. ومتحف طرطوس حديث العهد ليس فيه إلا مجموعة صغيرة ليست ذات شأن كبير. وأما متحف حلب فلم يخصص له مكان بعد ، ولكن مجاميعه جاهزة ستحفظ فيه متى هيئ لها المكان. وأكثر هذه الآثار حثية وأشورية من التي استخرجت في حفريات أرسلان طاش وتل الأحمر وتل أرفاد والنيرب.

وفي متحف القدس مجاميع خزفية ومعدنية تبين تطور نهضة فلسطين والأدوار التي مرت عليها في أهم عصورها التاريخية ، كما أنه يحنوي على عدد من النواويس من العهد اليوناني والروماني وأجملها مما نقش عليه صورة معركة بين اليونان والنساء المترجلات (أمازون) وطائفة آثار من الحجر البركاني من عهد الفرعون سيتي الأول ورعمسيس الثالث التي وجدت في

١٧٨

بيسان. وقد حفظت قطع الجمجمة التي وجدت في التابغة ويرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. وأما مجموعة متحف عمان فأكثرها مما يرجع تاريخه إلى العهد الروماني والبيزنطي.

وبعد فقد عرفنا بما تقدم مقدار العناية التي بذلتها البعثات الأجنبية بآثار الشام غير الإسلامية وإعراضهم عن هذه الأخيرة. لا جرم أن معظم الآثار الإسلامية في القطر محفوظة في الجوامع والمساجد والمدارس تحت إشراف ديوان الأوقاف. ولذلك يتحاشى الأجانب ما أمكن أن يثيروا عواطف عوام المسلمين حتى إن السلطات المنتدبة تركت لدوائر الأوقاف حرية التصرف بهذه الأماكن المقدسة. وقد اكتفت بأن تسدي إليها من حين إلى آخر النصائح لبذل العناية بهذه الآثار. ولكن أكثر هذه الدوائر في شغل شاغل عنها. فكل يومنسمع بضياع أثر أو تشويهه لا عن قصد منهم بل لأنهم لا يقدرون قيمة ما هو تحت أيديهم ، حتى أصبحت أكثر هذه الأمكنة الأثرية في حالة يخشى عليها من الاندراس ، وبذلك يفقد القطر هذه المفاخر التي تشهد بمدنية السلف العظيمة في أزهى العصور الشامية. فعسى أن تحذو الشام حذو شقيقتها مصر وتؤلف لجنة للآثار الإسلامية تعنى بجمعها وتتفقد شؤون الأبنية منها.

وقد أنشأت الجمهورية الفرنسية في دمشق معهدا إفرنسيا لدرس الآثار وخاصة منها الإسلامية على منوال المعهد الإفرنسي في القاهرة. وقد سبق للبعثات الأجنبية أن أسست في القدس معاهد لدرس الآثار مثل المدرسة الأثرية الفرنسية ، والمدرسة الأثرية الإنكليزية ، والمدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية ، ولهذه المعاهد فضل كبير بكشف غوامض تاريخ الشام القديم.

لم تدع السلطتان الفرنسية والإنكليزية في منطقتي سورية وفلسطين بابا إلا وطرقتاه لنشر الدعاية في الممالك الأجنبية عن آثار الشام ومكانتها. وقد تجلى ذلك في دعوتهم لمؤتمر الآثار الدولي الذي عقد في سورية وفلسطين في شهر نيسان سنة (١٩٢٦) فكانت نتائجه مرضية. وبفضل هذه الدعاية نرى عدد السياح بازدياد في كل سنة. ولا شك أن الشام إذا صرفت العناية بفنادقها وطرق مواصلاتها تصبح مقصد السياح من أهل الأرض ، وتجني من ذلك فوائد مادية وأدبية لا تقدر.

١٧٩

دور الكتب

نشأة الكتب :

عرفنا من سير القدماء أنهم كانوا يقيدون علومهم ومآثرهم وتواريخهم وأيامهم في صنوف من المواد ، تكون على مقربة منهم ، وتكثر في أرضهم وديارهم. فالبابليون كتبوا كتبهم على الآجر أي بالطين المشوي ، وكتب الهنود على النحاس والحجارة والحرير الأبيض والطومار المصري ، والعرب عمدوا إلى أكتاف الإبل واللخاف ، أي الحجارة البيض الرقاق وعسب النخل. وبقي الأمر على ذلك حتى شاع الورق المعمول من الكتان في خراسان وسمرقند وبغداد ودمشق ، منذ القرن الأول للهجرة على ما يظهر.

ولما شاع الورق قضي على الرّق لسهولة تناول القرطاس والمهرق ، وهي الصحيفة البيضاء يكتب فيها. وكان من الحرير الأبيض ما يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه ، وقد اعتمدوا عليه قبل القراطيس بالعراق ، وكتب بعض أهل الغرب في صفائح من معدن رقيق. وكان أهل فرغامة في الروم أول من استنبطوا الرّق ، كانت له تجارة رابحة بارت بظهور الورق ، وكانت الكتب في العراق تجعل في جلود دباغ النورة أي الكلس ، وهي شديدة الجفاف ، ثم كانت الدباغة الكوفية ، تدبغ الجلود بالتمر وفيها لين ولا رائحة لها

ولما فتح الإسكندر فارس كان العلم منقوشا مكتوبا في صخور وخشب ، فأخذ حاجته منها وأحرق الباقي. ولما تولى أردشير بابك وابنه سابور على فارس والعراق تجمع ما تفرق من الكتب فيهما ، واستنسخ من الهند والصين والروم

١٨٠