خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

رسائل إخوان الصفا تقرأ عندهم بعد الرسائل المعروفة. و «الصحائف اليونانية في مخاطبة النفس الإنسانية» و «الضوء اللامع» للسخاوي في تراجم أهل القرن التاسع في خمس مجلدات كبيرة (طبع). والثاني من «مناقب الخلفاء الأربعة» لأبي بكر ابن الطيب الباقلاني. و «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر الأندلسي (طبع). والثالث من «الجليس والأنيس» لأبي الفرج المعافا بن زكريا. وكتاب «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يعلى (طبع) و «تفضيل السلف على الخلف» لإبراهيم بن هبة الله و «ديوان خالد الكاتب» (المتوفى في حدود السبعين والمائتين). و «الطب الروحاني» لابن الجوزي في علم الأخلاق (طبع). و «الأطراف فيما يتعلق بالمحدثين» سبع مجلدات للحافظ جمال الدين المزي. و «كتاب الأموال» لأبي عبيد بن سلام الأزدي (طبع). و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (المتوفى سنة ٥٧١) في عشرين مجلدا. والجزء الخامس من «الفتاوى المصرية» شيخ الإسلام ابن تيمية وهي في علوم شتى. و «أخبار الأذكياء» ليوسف بن عبد الهادي (المتوفى ٩٠٩) بخط مؤلفه. و «فهرس الكتب الموقوفة» بخط يوسف بن عبد الهادي بعضها من تصنيفه وبخط يده. «المناقب والمثالب» تأليف هبة الله بن عبد الواحد الخوارزمي.«مساوئ الأخلاق ومذمومها ومكروه طرائقها» لأبي بكر محمد بن جعفر الخرائطي في خمسة أجزاء. «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد الدمشقي المتوفى سنة (١٠٨٩) (طبع). «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة (٨٥٢) بخط إبراهيم البقاعي (طبع). «عقد الجمان في مختصر أخبار الزمان» المنسوب للمسعودي المتوفى (٣٤٣) وهو للشاطبي المتوفى (٨٧٢). (إرشاد السالك إلى مناقب الإمام مالك) ليوسف بن عبد الهادى بخط المؤلف. (طبقات النحاة واللغويين) لابن قاضي شهبة الأسدي ويليه (مختصر النحاة للزبيدي). (المدهش) لأبي الفرج بن الجوزي المتوفى سنة (٥٩٧). (طبع) (اللطف واللطائف) لأبي الفرج بن الجوزي. (أدب السلوك) لأبي الفضل عبد المنعم بن عمر ابن عبد الله الأندلسي (٦٠٣) مشتمل على مشارع كلمات الحكمة والأدب والأخلاق. (قاموس الأطباء وناموس الألباء.) لمدين بن عبد الرحمن القوصوني

٢٠١

المصري من أطباء القرن الحادي عشر للهجرة في المفردات الطبية. (ما لا يسع الطبيب جهله) ليوسف بن إسماعيل المعروف بابن الكبير من أهل القرن الثامن. (منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان) لأبي العباس يحيى بن عيسى الكاتب الملقب بالرئيس الأجل المتوفى (٤٩٣) وهو في جزئين دخلا في مجلد واحد. (خلاصة تحقيق الظنون في الشرح والمتون) تأليف محمد بن مصطفى الصديقي وهو ذيل لكشف الظنون أتمه (١١٨٠). (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) لأبي الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي (٨٠٧) جمع فيه مؤلفه زوائد الكتب الستة من مسند أحمد بن حنبل والبزاز وأبي يعلى الموصلي والمعاجم الثلاثة للطبراني نسخة في مجلد كبير. (المجمل في اللغة) لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى (٣٩٠) اقتصر فيه مؤلفه على الألفاظ المهمة المستعملة أخذ أكثرها بالسماع عمن تقدمه واختصر الشواهد ورتبه على الأبجدية منه جزء يبتدئ من حرف العين إلى آخر الكتاب بخط أبي بكر محمد بن محمد بن خلف في سنة (٥٨٩). (جنى الداني في حروف المعاني) لحسن بن قاسم المرادي المتوفى (٧٤٩) وهو كما في كشف الظنون من مآخذ المغني لابن هشام. (شرح الإيضاح) لأبي علي حسن بن أحمد الفارسي (٣٧٧) والشرح للجرجاني (٤٧١) شرحه أولا شرحا مبسوطا في نحو ثلاثين مجلدا وسماه المغني ثم لخصه في مجلد واحد وسماه المقتصد وهو في مجلد ضخم (٩٠٤ صفحات) بخط نفيس من القرن العاشر. (مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب) لعبد الرزاق الفوطي المتوفى (٧٢٣) منه الجزء الرابع يبتدئ من حرف العين إلى القاف بخط مؤلفه. (الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة) للنجم الغزي المتوفى (١٠٦١) وذيله المسمى (لطف السمر وقطف الثمر) من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر. (طبقات الحنابلة) لابن رجب (٧٩٥). (نشر المحاسن اليمانية في خصائص ونسب القحطانية) لأحد أفاضل وصاب من بلاد اليمن. (أجزاء من عيون التواريخ) للصلاح الكتبي (٧٦٤).

وفي خزانة المجمع العلمي الخاصة عدة مخطوطات نادرة أخذت بالتصوير الشمسي منها نسخة من (الدارس) للنعيمي (أبي المفاخر محيي الدين) المتوفى

٢٠٢

(٩٢٧) منقولة عن نسخة لابن المؤلف محفوظة في خزانة مونيخ. و (تراجم الأعيان) للبوريني (١٠٢٤). (الذيل على الروضتين) لابن أبي شامة (٦٦٥). (حكماء الإسلام) للبيهقي المتوفى في حدود سنة (٥٧٠). (رحلة الأمير يشبك) بن مهدي الدوادار (٨٨٥). (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري) لكمال الدين ابن العديم الحلبي المتوفى سنة (٦٦٠) ناقص من آخره. (مجموع فيه نقش خواتم الحكماء وآدابهم ، واجتماعات الفلاسفة في بيوت الحكمة وغير ذلك. (التيسير والاعتبار والتحرير والاختبار) فيما يجب من حسن التدبير والنصيحة في التصرف والاختيار لمحمد بن محمد بن خليل الأسدي صاحب كتاب لوامع الأنوار ومطالع الأسرار فرغ من تصنيف كتابه سنة (٨٥٤). (المثالث والمثاني في المعالي والمعاني) لصفي الدين الحلي (٥٧٠) ومعه مجموعة أخرى للشاعر نفسه. (نظم درة الغواص) للسراج الوراق بخط محمد بن الصالحي الهلالي المتوفى سنة (١٠٠٤). (تحفة ذوي الألباب) للصفدي سنة (٧٦٤). وفي المجاميع عشرات من الرسائل النادرة الجديرة بالنشر.

هذا ما أمكن استيعابه من الكلام على خزائن الكتب المخطوطة في هذا القطر عرفنا بها في الجملة كيف نمت وجمعت وكيف مزقت وتشتتت ، وكان القوم يعتقدون أن اقتناء الكتب يورث الغنى وبيعها يورث الفقر ، ولذلك احتفظت بعض البيوت بكتبها وربما زادت عليها. وشوهد أثر هذه العناية في البيوتات القديمة فإن المخطوطات على كثرة ما أصابها من التفريق ما برحت محفوظة في المدن بل في القرى في بيوت أفراد من الشعب قد لا يخطر في البال أنها تعنى بمثل هذه الكنوز. ومنهم من يتبرك بها ويفاخر باقتنائها ، ومنهم من يرتقب الزمن ليبيعها بالأثمان الغالية. وقد ابتاعت مصر في العهد الأخير مقادير عظيمة منها ، لغنى مصر وشيوع العلم في بنيها ، وتفانيهم في إحراز آثار السلف. وقد يبتاعون السفر المخطوط بثمن فاحش وربما كان مما مثّل بالطبع مرات ، لأن للمخطوط روعة غير روعة المطبوع ، وقيمة تاريخية يدركها من يعاني هذه الصناعة ويقدر العاديات قدرها.

ومن الأسف أن صناعة النسخ ماتت من قطرنا وضعف بذلك التنافس

٢٠٣

في الخطوط الجيدة المنسوبة وغيرها كما قضت الآلة الكاتبة في الغرب وفي الشرق على الخط أيضا. ومن المؤلفين والكتاب اليوم من يملون على كتّابهم على تلك الآلة مباشرة أو يكتبون هم بأنفسهم عليها دون أن يتعبوا أناملهم بتنميق السطور ووضع الصفحات مما يفيد في الإسراع بالأعمال ، ويقضي على الفن والجمال. ولو لا الحرص المغروس في الفطر ما بقيت هذه البقايا التي نفاخر بها من عمل الأجداد ، وهي في نظر العقلاء أغلى من التبر والعسجد ، ولا سيما بعد أن سطت عليها كل يد أثيمة وأبيع من كتب الجوامع والمدارس بالألوف فسافرت عنا تنزل على الرحب والسعة على من يعرف قيمتها ويحسن تعهدها. والكتب كما قال أحد المولعين بها كالطيور لا تطلب إلا الهواء الطلق السالم من الشوائب. ولطالما انتقلت من يد إلى يد ومن جيل إلى جيل كما تتنقل الأعلاق النفيسة أو كما تتداول النقود والحليّ ولكن بتجلة وحرمة.

هذا وخير طريقة تحفظ بها ثمالة تركة السلف الصالح أن يعمد كل من حوت رفوفهم وقماطرهم كتبا إلى كتبهم المخطوطة فيودعوها في الخزائن العامة لأنها أقل عرضة للحريق والتلف ولكارث ووارث ، وأن يستعاض عنها بالكتب المطبوعة في الخزائن الخاصة ، وتجعل المخطوطات ملك الجماعات يرجع إليها العلماء والباحثون ، وتسبّل عليهم فتكون منهم على طرف الثمام ، وبذلك يزيد النفع منها ويحيا بالطبع والنشر ما لم تساعده الحال أن يعرف حتى الآن ، وبذلك تجتمع فائدتان فائدة الانتفاع وفائدة الحفظ ، كما فعل المصريون وحفظوا بقايا كتبهم في داري الكتب المصرية والأزهر وخزانة المجلس البلدي في الإسكندرية والجامع الأحمدي في طنطا. والله يرث الأرض ومن عليها.

٢٠٤

الأديان والمذاهب

أديان القدماء :

اهتدى الفينيقيون بفطرتهم إلى الاعتقاد بالتوحيد على ما يظهر. ودعوا معبودهم البعل أي الرب والسيد وقد يسمونه أدون ومعناه السيد أيضا. ولقبوه بملوك أو ملوخ أي الملك أو ببعل شمائيم أي رب السماء ، ثم أخذوا يصورون الرب ويجسمونه على الصورة التي يختارونها ، خصوصا لما جابوا الأقطار ومصروا الأمصار ، فأصبحت كل مدينة تخص الرب بها ، فكان أهل صور يطلقون على معبودهم بعل صور ، وأهل صيدا يقولون عن معبودهم رب صيدون ، وأهل بيروت يعرف ربهم ببعل بيروت وهكذا يقولون بعل حرمون وبعل جاد وبعل تامار.

وتفننوا بعد في أربابهم فأخذوا ينسبونها إلى النار وعبادة الطبيعة وأنشأوا يؤلهون قوات الوجود ومظاهره الرائعة والأفلاك والنجوم. وكما جعل الفينيقيون لأربابهم أندادا اخترعوا لهم أزواجا سموها عشتروت وقد عبدت في سواحل الشام خاصة. ثم أخذت بعض المدن بالطبع تطلب لمعبوداتها زوجات وتنشئ لها معابد. وكان معبد بعلة جبيل يحج إليه الناس من أنحاء القطر كما يحتفلون في الربيع بمقتل الرب أدونيس أو نهر إبراهيم. وكان من كهنة الفينيقيين أن أقاموا في أوقات مخصوصة من السنة حفلات دينية تجري فيها أمور غريبة من الرقص والفحش ومن تضحية البنات والأسرى على مذابح الهياكل التي كانت أشبه بمواخير يأوي إليها الفاحشات فيختلف إليهن من يريد الفجور باسم الدين.

٢٠٥

ويقال على الجملة : إن الفينيقيين عبدوا في كل بلد مجموعة من الأرباب ، فأهل صور عبدوا عشتروت وملكوت وبعلا ، وأهل صيدا أشمون وعشتروت وبعلا ، وأهل بيروت عشتروت وعطارد وبعل مرقد. وتجيء بعد هذه الطبقة من الأرباب طبقة أخرى منها كالرب أبيس والرب سلمان. ومجموع الأرباب الكبرى عند الفينيقيين كمجموعة ما عبده الرومان بعد قرون في بعلبك من عطارد والمشتري وغيرهما.

وكانت ديانة الآراميين كديانة الأشوريين والبابليين يعبدون الرب العظيم ورب الفكر ورب السماء والرب الأسد. ويجسمون رب الأرباب عندهم ، على صورة إنسان في نصفه الأعلى ، ونصفه الأسفل على صورة سمكة. وذكروا أن شيما كانت ربة أهل حماة. وعبد الآراميون النيازك والشمس والقمر والسيارات السبع والهواء والرياح والنيران وعبدوا أترعطي الربة السورية ودعوها دركيتو نصفها إنسان ونصفها السفلي سمكة. وكان عابدوها إكراما لها يمتنعون عن تناول السمك ويتوفرون على فتح أحواض يربون الأسماك فيها. ومن معبودات الآراميين هدد وسميسيوس زوج الربة شيما وأترعطي زوج الرب هدد.

وكان الحثيون على مثال من تقدمهم من الأمم عباد أوثان أيضا ، فقد عبدوا الرب تيشوبو وهو مثل هدد الآراميين وبعل الكنعانيين. وروي أنهم عبدوا الشمس وأخذوا عن الكنعانيين عبادة عشتروت وغيرها من الأرباب وألهّوا مظاهر الطبيعة فعبدوا جمالها وجلالها.

وعبد الكلدان والأشوريون أولا رب السماء ورب الأرباب ورب الأرض ورب البحر ، وجعلوا لكل رب من هذه الأرباب ربة تكون قرينته. وبعد حين عبدوا القمر والشمس والزهرة. والزهرة هذه ينظرون إليها أنها قد تجسدت فيها الحياة والحرب ففيها اللطف والهمجية ، وقد بنوا لها في مدينة أرك هيكلا للفحش حتى دعيت هذه المدينة بمدينة العاهرات. وعبد البابليون على عهد حمورابي مردوك رب الأكوان وعبدوا رب الحكمة والعلوم والحرب والصيد والزراعة والموت والزوابع والأنواء والأوبئة. واقتبس الأشوريون عامة معبودات البابليين وزادوا عليها ربهم أشور رب الأرباب عندهم ،

٢٠٦

ينزهونه عن الوالد والولد والزوج ، ويعتقدون بحشر الأجساد أو ما يشبه ذلك في يوم الجزاء. ويرمزون إلى أربابهم بحيوانات ودواب كرمزهم بالأفاعي والطير والسمك والغزلان والبقر والخرفان.

أما قدماء المصريين فقد اهتدوا إلى عبادة رب الأرباب وتمثلوه في الشمس الحاكمة على الأكوان. وقدسوا معبودهم على صور شتى ثم أصبح لكل مدينة ربها يعتقدون بأنه واحد يظهر في مظاهر مختلفة من مظاهر الطبيعة من نبات وحيوان وجماد وكواكب وأنهار ولا سيما النيل ، وأقاموا لكل واحد من أربابهم الهياكل يخدمها الكهنة والسدنة ومن أهم معبوداتهم أوزيريس وإيزيس وهوروس أي الوالد والوالدة والولد. واعتقد المصريون بالآخرة والجزاء في العالم الثاني وحشر الأجساد ، ولذلك عنوا بتحنيط موتاهم على ما لم يصل إليه أحد قبلهم ، علّ الميت يأنس بصورته.

وعبد الفرس قوى الطبيعة التي وقعت تحت حسهم من شمس وقمر ونار وماء وهواء ، ثم عبدوا ميترا التي هي الزهرة ، ثم كان من مجوسهم على عهد زرادشت وأخلافه أن عبدوا رب الخير والشر ، واسم رب الخير يزدان أو رب النور وهو الرب الأعظم مبدع الكائنات ، واسم رب الشر أهرمن وهو رب الظلمة وأصل كل بلاء. قال ماني : مبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة كل واحد منهما منفصل من الآخر ، فالنور هو العظيم الأول ليس بالعدو وهو الإله ملك جنان النور وله خمسة أعضاء الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة ، وخمسة أخر روحانية وهي الحب والإيمان والوفاء والمروءة والحكمة ، وزعم أنه بصفاته هذه أزلي ومعه شيئان اثنان أزليان أحدهما الجو والآخر الأرض ، وأعضاء الجو خمسة الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة وأعضاء الأرض النسيم والريح والنور والماء والنار ، والكون الآخر وهو الظلمة وأعضاؤها خمسة الضباب والحريق والسموم والسم والظلمة ، ومن تلك الظلمة كان الشيطان. والصابئة هم القائلون بالأصنام الأرضية للأرباب السماوية أي الكواكب متوسطون إلى رب الأرباب ، وينكرون الرسالة في الصور البشرية عن الله تعالى ولا ينكرونها عن الكواكب.

هذا وقد دان اليونان كما دان كثير من الأمم القديمة قبلهم بتأليه الجمال

٢٠٧

على اختلاف مظاهره ، عبدوا الجمادات لأول أمرهم ثم ترقوا إلى غيرها من تأليه الأشجار والرجوم والأحجار ، وأنشأوا يكرمون الأفعى في هياكلهم كما يكرمون بعض حيوانات البحر وطيور البر. وكانوا يبالغون في إكرام الموتى من عظمائهم حتى ألحقوهم بأربابهم ، ونسبوا إليهم كل صفات البشر وأبشع رذائلهم. ويقدمون في المذابح ذبائح من الطيور والحيوانات والبشر مما كان عند الفينيقيين. وهكذا كثرت أربابهم إلى التي ليس بعدها ، وكلما فتحوا أرضا أضافوا إلى أربابهم بعض الأرباب التي وجدوها تعبد في الأقاليم المغلوبة على أمرها ، وكثرت خرافاتهم حتى كان يستهدف للموت كل من يريدهم من عقلائهم على أن يقلعوا عن تخريفهم. هذا غاية ما يشار إليه من أديان قدماء الدول التي طال أمرها في هذه الديار.

ومن أجيال العرب التي حكمت هنا أجزاء مهمة قبل الإسلام النبطيون في الجنوب والايطوريون في بعض الساحل وقد عبد النبطيون اللات والعزّي ، وكانت البتراء مركز عباداتهم قبل العهد اليوناني بستة قرون على الأقل. وعبد الايطوريون الكواكب والشمس والزهرة وذا الشرى ، وربما تشابهت معبوداتهم ومعبودات النبطيين. وكان لهم في بعلبك مذبح قالوا : إنه بيت من بيوتهم عظيم عندهم جدا. وصنم الأقيصر كان في مشارف الشام لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان يحجون إليه ويحلقون رؤوسهم عنده وكلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعره قرة من دقيق أي قبضة. وعرف من الآثار أن أهل صرخد كانوا يعبدون اللات على ما اكتشف على باب كنيستها. ومعظم هذه الأصنام كان مما ينحت من الأحجار ومنها ما كان من الشبه (البرونز) ، وقد نقلوا هذه الأصنام إلى الغرب خصوصا منذ أوائل القرن الثالث قبل المسيح لما قبض على زمام الامبراطورية الرومانية أباطرة من الشاميين ، وقد عثروا على بعضها في فرنسا والنمسا وإيطاليا. وكان ياهو المشهور في تاريخ الإسرائيليين حفيد يهو شافاط الذي قتل جميع أنبياء بعل وعبدته يعبد العجول في بيت ايل. وبيت ايل إلى شرقي خط يمتد من أورشليم إلى نابلس على بعد واحد من كلتا المدينتين وكانت قديما عاصمة الكنعانيين.

وقد عبد الرومان قوى الطبيعة من الأفلاك والشمس والأرض والنبات

٢٠٨

والحيوان وأكرموا الينابيع والأشجار العظيمة والحجارة ، ثم عبدوا المشتري وأظهروه في مظاهر عديدة وكانوا يقولون رب البرق ورب الرعد ورب النور. وجعلوا للمشتري ربة اسمها جونون وعبدوا المريخ رب الحرب يقدمون له ضحايا من الخنازير والبقر والغنم بل يقدمون له الذبائح البشرية يختارونهم من أسرى الحرب على الأكثر. ولهم أرباب أخرى كرب البيت وحارسه ورب نار البيت وجعلوا لها هياكل أقاموا على حراستها بنات عذارى يتعهدن نارها حتى إذا غفلن عنها فأطفئت وأدوهن على ما كان أهل الجاهلية يئدون بناتهم خشية العار. ولما اختلط الرومان بالأمم الأخرى اقتبسوا منها ما راقهم من أربابهم ومنها عشترت المعبود الشامي.

قال كلرمون غانو : لم تكد تظهر الوثنية اليونانية الرومانية حتى أصبح الناس يحبونها في أصقاع الشام كافة ويقبلونها راضين. وذلك لأنها قائمة على أساس التسامح القابل للظهور في كل مظهر وصورة. تلتئم بمرونة عجيبة مع أشكال الديانات التي تدين بها الشعوب الأخرى. وذلك بأن تمزج هذه الديانات بنفسها أو تمزج نفسها بها. ولم تدخل في ذاك المحيط الخاضع المدهوش إلا إصلاحا واحدا وهو معرفة الأشياء الحسنة ، ولم تقض إلا بقضاء واحد وهو الابتعاد عن البشاعة ، ولم تضع إلا نظاما واحدا وهو نظام السرور ، ولا تعليما واحدا غير تعليم الذوق ، ولم توح بغير الجمال. وكانت ترفق بالأديان التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها ولا تشتدّ إلا على الأديان التي تحاول مقاومتها. فالعبادات القديمة التي عرفت عند الكنعانيين استقت من هذا النبع الصافي البارد مأخوذة بشيء من الجنون اه.

لما جاء كسرى إلى حلب وعمر بيتا للنار كان في الشام أربعة أديان أمهات ، وهي : اليهودية والنصرانية وعبادة الأوثان والنيران. ولما جاء الإسلام كان الناس يدينون بهذه الأديان. وكانت النصرانية قبل الإسلام على رواية اليعقوبي في ربيعة وغسان وبعض قضاعة ، واليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة ، والمجوسية في تميم ، والزندقة في قريش أخذوها من الحيرة. وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلها من حيس ،

٢٠٩

والحيس تمر يخلط بالسمن والأقط فيعجن ، فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه. ولما مرض عمرو بن لحي وكان يلي أمر الكعبة في الجاهلية قيل له : إن بالبلقاء من الشام حمّة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال : ما هذه؟ فقالوا : نستسقي بها ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.

اليهودية (١) :

يرجع البشر على اختلاف مذاهبهم وأديانهم إلى جد واحد وهو آدم وإلى أبناء سيدنا نوح الذين تناسلوا وتكاثروا وانتشروا على سطح الأرض ومعلوم أنّ عرب الجاهلية واليهود هم أبناء سام ولذلك سموا بالسامية واستوطنوا في الأصل الديار الكنعانية المعروفة اليوم بفلسطين ومشوا؟؟؟ إلى حدود مصر جنوبا وإلى العراق ثم إلى منتصف آسيا شرقا. والحاميون أبناء حام سكنوا مصر والحبشة وانتشر القسم الثالث أي أبناء يافث فهم في القارة الأوربية والأرض التركية.

ولما ظهر الأب الأول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، من بلدته الرّها (أورفة) من ديار الكلدان جاء منقادا بمشيئة الله إلى الأرض الكنعانية وأقام في بلدة حبرون أي خليل الرحمن رمزا لمودّة الخالق له. وهنا نغضي عن سرد ما أوتي من المعجزات ونغفل أيضا عن ذكر من جاء بعده من الآباء والأنبياء الكرام وما أوتوا هم أيضا من المعجزات. والكتب المقدسة حافلة بكل ما يراد معرفته بهذا الشأن. ولا نرى بدا من الإشارة فقط إلى أن سيدنا إسماعيل بن الخليل الأكبر قد نزح وأمه هاجر من الأرض الكنعانية إلى شبه

__________________

(١) رجونا بعض العارفين بهذه المذاهب أن يكتب كل واحد عن دينه فكتب على اليهودية الدكتور سليمان تاجر وعلى الأرثوذكسية الأرشمندريت توما ديبو المعلوف وعلى الكثلكة الأب لويس شيخو اليسوعي وعلى المارونية الخوري بطرس غالب وعلى البروتستانتية القس أسعد منصور وعلى أهل الإسلام السنيين الشيخ سليم البخاري وعلى المسلمين الشيعة الشيخ أحمد رضا ووصفنا نحن مذاهب الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية والدروز والبابية ووصف السيد محمد عزة دروزة نحلة السامرة.

٢١٠

جزيرة العرب وبقي أخوه إسحاق في تلك الأصقاع الموصوفة بأرض الميعاد ، إشارة إلى العهد الذي أعطاه الخالق سبحانه وتعالى خليله إبراهيم القائل بإعطاء الأرض الكنعانية على رحبها إلى نسله. وقد سميت بالأرض المقدسة أيضا عندما بدأ اليهود يحجون إلى الهيكل المقدس الذي بناه سليمان الحكيم. وقد كان بناء هذا الهيكل مدعاة لتمسك اليهود بهذه الديار ولعدم النزوح عنها إلّا لتعاطي التجارة لمن كان مكرها بحكم الضرورة على الإقامة موقتا في الأقطار المجاورة. وقد وجدت في الدهر الغابر آثار تاريخية كثيرة تدل على نزول اليهود حوران ودمشق وبلاد الفينيقيين الواقعة على شاطئ البحر المتوسط.

ومما لا ريب فيه أن اليهود قد أقاموا عصورا في القطرين اللذين دوختهما جيوش النبي داود وأعني بهما سورية وشمال ما بين النهرين. ولمّا أعمل نبوخد نصّر ملك بابل (٦٠٠ ق م) سيفه باليهود هاجر قسم منهم إلى فارس وآسيا الوسطى وآب قسم آخر إلى دمشق. وعادت البقية وعلى رأسها نحميا ودانيال وجددوا بناء الهيكل المقدس ولم يلبث أن جاء تيطوس الروماني (٧٠ ب م) وهدمه. وقد أعمل هو أيضا السيف برقابهم واضطرهم إلى النزوح إلى الأمصار البعيدة كاليونان والأندلس وشمال إفريقية. وقد روي عن بولس الرسول أنه حاول اقناع اليهود القاطنين في الشام لاتباع السيد المسيح والتدين بدين النصرانية ، وهذا مما يدل على وجودهم في تلك الأزمنة في هذه الديار.

ثم إن قائدي عساكر سيدنا عمر عندما فتحا الشام انتقيا نفرا غير قليل من اليهود والمسلمين الدمشقيين أرباب الصناعات والفنون الجميلة وجيء بهم بعد إلى بلاد بخارى فتوفروا على البناء المماثل تمام المماثلة للنسق الدمشقي من حيث طرز البناء ورسومه وأشكاله وأدواته حتى يخيل لمن يزور تلك الأصقاع أنه في سوق أو دار من أسواق الشام ودورها.

ثم إن نزول اليهود في دمشق منذ أمد بعيد مشهود ومحسوس من كنيس قرية جوبر التي تبعد بضع دقائق عن شرقي دمشق وقد جاء ذكره في التلمود الموضوع منذ أكثر من ألفي سنة وذلك بقوله بالحرف الواحد : «كنشتاديبه جوبر» ومعناه كنيسة جوبر القائمة إلى يومنا هذا والتي كانت مقرا للنبيين

٢١١

إيليا (الخضر) وتلميذه اليشاع (اليسع). وفي بعض دور الكتب العبرية في دمشق إلى اليوم آثار مخطوطة يرجع عهدها الى القرن الحادي عشر للميلاد. وصفوة القول أن اليهود لم ينقطعوا عن الشام لا سيما عند فتح المسلمين لها إذ ثبتت أقدامهم فيها وتوفرت لهم أسباب الهناء والرخاء.

ولم تؤثر التطورات والفتوحات التي وقعت في هذا القطر في اعتقاد اليهود الديني ولا غيرت شكلا من مراسمهم ، بل كانت بالعكس سببا قويا لتضافرهم وتحفزهم لدرء كل ما من شأنه أن يفسد لهم معاملاتهم وعاداتهم. وما زالوا منذ الخلقة كسائر اليهود يعبدون الله عزوجل ويوحّدونه ويعرفونه بيهوه كما تسمى إلى آدم وإلى الآباء والأنبياء بقوله لهم باللفظ العبري : «إني ي ه وه» أي أنا يهوه.

وقد فصل المجتهدون من علماء اليهود اسمه المقدس تفصيلا وافيا خلاصته باللغة العبرانية : «هيا ، هيو ، يهيه» ومعناه كان (في الماضي) وكائن (في الحال) وسيكون (في المستقبل) أي إنه تعالى حي قيوم دائم إلى الأبد. وكان يرفق أحيانا اسمه الكريم في التوراة كلمة «إلوهيم أو شدّاي» ومعناهما الجبروت والشدة. ويحترم اليهود أيضا الأنبياء الذين أوحي اليهم في زمن ملوكهم وعددهم ٤٨.

يتآلف اليهود مع مواطنيهم مهما اختلفت نزعاتهم. فهم فرنسيس في فرنسا ، وروس في روسيا ، وإنكليز في بريطانيا ، وهنا أيضا لا يختلفون عن الشاميين من حيث الأخلاق والزي. ولأسمائهم دخل قوي في الألفة مع مسلمي الشام. فهم يتسمون بأسماء لا يسمى بها غيرهم من اليهود كصبحي وصبري وعارف ومراد ويحيى وعبده وبهية وعائشة وجميلة إلى ما هنالك من الأسماء العربية المحضة ، ومما يزيد ائتلافهم مع المسلمين أنهم مضطرون بحكم الدين الموسوي أن يراعوا مثلهم أحكام الختان والغسل والطهارة.

ولغة اليهود «العبرية» أينما حلّوا ورحلوا يتعرف بها بعضهم إلى بعض وبها يؤدون فروض صلواتهم اليومية وشعائرهم الدينية ، ولغتهم هذه هي شقيقة اللغة العربية. فإن الصرفيين العرب لا يتعذر عليهم معرفة دقائق الصرف العبراني وكذلك العبرانيون لا يصعب عليهم تعلم اللغة العربية والتعمق

٢١٢

في دقائقها. وهي كما قلنا لغة سامية تكتب كالعربية من اليمين إلى الشمال وأغلب كلماتها هي كشقيقتها لفظا ومعنى. وعدد حروفها ٢٢ حرفا وهي : ا ب ج د ه وز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت أي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت.

وقد كان للغة العبرانية الفضل الأكبر في حفظ حياة اليهود إلى هذا الزمن فهي التي جمعت شملهم في البلدان المختلفة وهي التي ذبت عن حياضهم وحافظت على كيانهم. وقد حث العلماء المعاصرون على رفعها إلى مصاف اللغات الحية مما حدا بهم على تأسيس الجامعة العبرية في القدس الشريف في ١ نيسان سنة (١٩٢٥) وبدأوا بترجمة الآثار النفيسة والكتب المفيدة إليها. ولا يمضي زمن حتى يكون لهذه اللغة على ما أرى شأن عظيم ومركز سام. ورب قائل يقول : إنه قد يحول دون توسع علماء اليهود في الترجمة والإنشاء فقدان الكلمات الفنية الحديثة من اللغة العبرانية ، فالجواب ، أن التلمود أتى على ذكر بعض المخترعات التي نظنها وليدة القرن الغابر أو الحاضر كالمناطيد والكهرباء وسمّاها بأسمائها المخصوصة. وقد أعيدت إلى اللغة في هذا العصر ومع هذا لم يحجم علماء اللغة في القرن الماضي عن استعمال الكلمات الدخيلة المحتاج إليها والتي تفي بالمعاني المقصود إدخالها على اللغة العبرانية.

السامرة (١) :

ينسب السامريون أنفسهم إلى سبط يوسف وينسب كهانهم أنفسهم إلى سبط لاوي ويقررون أن هذا السبط هو بيت الكهنوت الإسرائيلي حصرا. و «السامرية» نسبة إلى إقطاع شمرونيم الذي كان في ملك سامير الأشوري الشمرونيمي. وذلك إن الأشوريين لما غزوا فلسطين غزوتهم الأولى انتشروا في الأقاليم وامتلكوا كثيرا من الإقطاعات. وكانت فرقة شمرونيم تملكت

__________________

(١) لا شك أن المطلعين على ما جاء في التوراة المعتبرة عند اليهود والمسيحيين معا سيجدون بونا عظيما بين ما ذكر في هذه الرسالة وبين ما جاء هناك ولكننا أردنا أن ننقل ما يقوله السامريون عن أنفسهم. وكتبت هذه النبذة اقتباسا من كتاب مخطوط ألفه أحد كهان الطائفة السامرية في نابلس.

٢١٣

إقطاع سبسطية وأخذوا يستغلون أرضه بعد أن خربوا المدينة المذكورة. ثم آل هذا الإقطاع إلى سامير أمير الفرقة فجاء إليه أحد ذوي اليسار من آل يوسف واشترى إقطاعه وأخذ يعمره هو وآله ، فلبستهم نسبة الأرض ثم ابتنوا أخيرا مدينتهم التي تسمت بالسامرية نسبة إلى أصل تسمية الإقطاع ومالكه الأشوري.

ويعزو السامريون سبب انشقاقهم عن سائر أسباط إسرائيل إلى خلاف ديني نشأ بينهم وبين هذه الأسباط. وذلك أن الإسرائيليين ظلوا إلى القرن الثالث من دخولهم أرض كنعان يقدسون جبل جرزيم الذي هو جبل «نابلس» الجنوبي ويقربون عليه قرابينهم اعتقادا منهم أن يوشع أقام هيكل العبادة الأول في هذا الجبل. وكان إلى ذلك التاريخ مركز حجهم ومقام إمامهم الأكبر وكاهنهم الأعظم. فلما ورث الإمامة الكبرى الإمام عزي ابن بحقي وكان حديث السن فحسده الكاهن الأعظم عالي وأنف أن يكون له مرءوسا وأخذ يدس الدسائس حتى نجح في استمالة فريق من الإسرائيليين فهجروا جرزيم وانتقلوا إلى سيلون ـ قرب القدس ـ وكان ماهرا في الشعوذة وأعمال السحر ، فعظم حوله الجمع فأقام هيكلا وصندوقا للشواهد وادعى أنهما الأصليان وأوجب تقديسهما وصرف الوجوه عن جرزيم. وقد ساعده في عمله اختفاء الهيكل وصندوق الشواهد اللذين أقامهما يوشع على جرزيم بأعجوبة ربانية انتقاما من اليهود لمخالفتهم الشريعة وانغماسهم في المعاصي. فاعتبر سائر اليهود قول عالي وأخذوا يقدسون هيكل سيلون. أما سبطا يوسف ولاوي فإنهما ظلا على عهدهما من نصر الإمام عزي وتقديس جرزيم واعتباره المحل المختار الذي اختاره الله للهيكل والذبيح. ومن هذا الحين أصبح الإسرائيليون فرقتين : فرقة عزي ومركزهم جرزيم وحدوده ، وفرقة عالي ومركزهم سيلون. وقد استحكم العداء بين الفرقتين فأخذتا تبتعدان إحداهما عن الأخرى وطفقت كل فرقة تلصق بالأخرى التهم ، وجرت بينهما مناقشات ومنازعات كانت تؤدي في بعض الأوقات إلى إراقة الدم.

يقول السامريون : إن عالي الكاهن بعد أن عظم أمره أخذت مطامعه تظهر

٢١٤

وأساء السيرة في اليهود هو وأولاده وأخذوا يخالفون أوامر الله وشريعته ، وقد تبنى ولدا اسمه صمويل أتقن الشعوذة. واغتنم الفلسطينيون فرصة انشقاق الإسرائيليين فزحفوا على اليهود ونكلوا بهم ، فلما مات الكاهن خلفه صمويل فلم ير إلا أن يدعي النبوة ربطا لقلوب اليهود به ، فصدقه هؤلاء لقوة شعوذته ودهائه ولكنهم طلبوا منه أن يقيم عليهم ملكا يدير شؤونهم ويجمع شملهم دفعا لخطر الفلسطينيين فأقام عليهم شاول الملك. وكان من أعمال هذا الملك إشهار الحرب على سبطي يوسف ولاوي لعدم اتباعهم لهم وعدم اعتبارهم هيكل سيلون وذبحهم معهم في مذبح سيلون. وقد كبس شاول السبطين في عيد المظال فقتل منهم كل من وجده وذبح إمامهم الأكبر شيشي بن عزي وخرب محل عبادتهم في جرزيم ونقض حجارة الهيكل. واحتل منطقتهم فتشتت قسم كبير من الذين سلموا من القتل منهم. وظل آل يوسف ولاوي اثنين وعشرين عاما لا يقدرون على أداء فريضة الحج ولا يجرأون على التظاهر بشعائرهم الدينية. وقد حاول كاهنهم الأكبر باير إقناع داود حينما ملك باحترام جرزيم وبناء الهيكل فيه فلم ينجح ، وأخذ يقيم الهيكل في يابيس «القدس الآن» وادعى هو وابنه سليمان من بعده أنه المحل المختار وأناطوا به جميع المقدسات المنوطة بجرزيم دون أن يكون لي أسفار التوراة الخمسة دليل على ذلك في زعم السامريين.

ولما غزا بختنصر فلسطين أجلى في من أجلاه آل يوسف إلى بابل وأسكن محلهم أمما غريبة فسبب ذلك انحباس الأمطار وعطب الزيتون ، فالتمس القاطنون من الملك أن يسأل آل يوسف عن سبب ذلك فأجابه هؤلاء أن لنا جبلا مقدسا نحج إليه ونتقرب إلى الله فيه بالقرابين لا نرى فيه حبسا ولا عطبا ، فعزم على إعادتهم إلى أرضهم ليقيموا شعائرهم. وقد وقع في هذا السياق بينهم وبين آل يهوذا خلاف على المحل المختار ولكن آل يوسف أقنعوا الملك بقوة نصوصهم فرجحهم وأعادهم وجعل لهم شيئا من السلطة فجاءوا وأقاموا هيكلهم وزحفوا على يابيس وهدموا هيكلها. فكان نجاحهم هذا عاملا جديدا في ازدياد النفرة بين الفريقين أولا وتحريف اليهود نسخ التوراة الموجودة في أيديهم ثانيا.

٢١٥

وقد طعن اليهود في أصلهم فقالوا عنهم كوتيين ونعتوهم بأنهم وثنيون وأن لهم صنما اسمه أشيما نكاية وتغرضا وانتقاما. وقد كان اليهود في عهد الحكم الروماني والفارسي كثار العدد. وكان لهم يد كبرى في الثورات الوطنية التي كانت تنشب من حين إلى آخر ، وقد أفنت هذه المنازعات عددا كبيرا. فلما دخل العرب فلسطين أخذ السامريون يدينون بالإسلام فيقل عددهم رويدا رويدا إلى أن أصبحوا طائفة قليلة جدا ربما لا يتجاوز عددها الآن مائتي نفر ذكورا وإناثا كبارا وصغارا. وقد اقتبسوا من المسلمين واقتبس المسلمون منهم في نابلس على توالي الأيام كثيرا من العادات واللهجات. وهم الآن يتكلمون بالعربية النابلسية العامية. وقليل منهم يعرف العبرانية كما أن عبرانيتهم قديمة بينها وبين عبرانية اليهود اختلاف بين وإن؟؟؟ اللغتان إلى أصل واحد. ولا يزال أصل بعض الأسر المسلمة في نابلس م؟؟؟ النسبة والأرومة في الطائفة السامرية.

ينعت السامريون أنفسهم بالمحافظين لأنهم حافظوا ولا يزالون يحافظون على أدق شعائر العبادات والشريعة دون تأويل ولا انحراف. ويزعمون أن التوراة التي في أيديهم أصدق وأقدم توراة وأنها بخط أبيشع بن فينحس ابن العزر بن هرون نقلها أبيشع عن المدرج الذي كتبه بيده موسى عليه‌السلام. وتوراتهم هذه مدرج طويل من الرق له أسطوانة مفضضة محفوظة في معبدهم تكاد تكون سلوتهم الوحيدة في هذا العالم الذي أصبحوا فيه غرباء عن كل أممه وأثرا تاريخيا أكثر مما هو شعب حي. وهم يزعمون أن توراة اليهود قد فقدت مرارا وحرقت كثيرا وأن التوراة التي بين أيدي اليهود ملفقة بالظن والحدس على غير أساس ، وأن اليهود عدا ذلك قد تسامحوا بكثير من مظاهر الدين وأولوا نصوص الشريعة فصار بينهم فروق كثيرة. وفي أيدي السامريين كتب جدلية كثيرة في تثبيت طريقهم والطعن في طريقة اليهود وتفسيراتهم وتأويلاتهم.

وأول خلاف نشأ بينهم وبين اليهود خلاف القبلة. فالسامريون يعتبرون جبل جرزيم الجبل المقدس والمحل المختار الذي أمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده عليه والذي أمر يوشع من قبل موسى بإقامة الهيكل فيه ويقررون أن عيد

٢١٦

الفسح وقرابينه لا تجوز إلا في هذا الجبل وحدود منطقته التي لا تتعدى منطقة نابلس الآن. ومن الخلافات بينهم وبين اليهود وقت الختان. فالسامريون لا يقبلون عذرا لتأخير يوم الختان إلى ما بعد اليوم الثامن من الولادة على حين يتجوز اليهود في ذلك. وبين الفريقين خلاف في مواعيد الأعياد وشعائرها وفروعها وفرضية القرابين والطبقات الملزمة بها. وللسامريين أصول فلكية دقيقة يستندون إليها في حساب تولد الأهلّة وتعيين مواعيد الأعياد والشعائر.

ويخالف السامريون اليهود في تجويز بعض الأنكحة فهم يحرمون نكاح امرأة الأخ الشقيق وبنت الأخ وزوج الأخت وامرأة العم وامرأة الخال واليهود يحللونها. وكذلك هم يختلفون في بدء عيد الفطير والطقس الخمسيني ذوي الأسابيع السبعة المقدسة التي يحيي بها الإسرائيليون ذكرى أسابيع الخروج من مصر ودخول أرض كنعان. والسامريون يتشددون في شعائرهم الدينية لا سيما يوم السبت ، ويزعمون أنهم يطبقون أوامر التوراة حرفيا. ويتشددون في أحكام الدم والنجاسات ومواعيد الطهارة وكيفياتها ويحملون أنفسهم عبئا لا يملك الإنسان نفسه من الشفقة عليهم من أجله. وهم اليوم لا يغسلون موتاهم ولا يحملونهم وإنما يستأجرون لهذين الغرضين أناسا من المسلمين لأن للميت وغسله ومائه نجاسات يتعذر طهر السامري منها في الحال الحاضر. ويقولون : إن السامري لا يطهر منها إلا إذا رش بعد عزلة الأيام السبعة برماد بقرة مقررة الصفات. وقد نفد هذا الرماد الذي كانوا يتوارثونه منذ أمد طويل ولم يمكنهم تعويضه. وللسامريين صلوات مفروضة يوم السبت وغيره. ففي غير السبت لهم صلاتان مفروضتان هما صلاة الصبح وصلاة المغرب. وفي يوم السبت صلاتان زائدتان على تينك الصلاتين هما صلاة الظهر وصلاة الصرفة. وصلاتهم ذات ركوع وسجود وانتصاب يتلون فيها سورا من التوراة. وهم يتوضأون قبيل الصلاة وضوءا يقرب من وضوء المسلمين.

وأهم أعيادهم عيد الفسح في آخر أسبوع الفطير. ويكون في الرابع عشر من الشهر القمري الذي يجتمع مع شهر نيسان. وهو عيد سنوي جامع يشبه الحج. يصعد السامريون فيه كبارهم وصغارهم جبل جرزيم. ويوجبون

٢١٧

حضوره على كل سامري ولا يقبل للمتخلف عذر. فإذا كان يوم العيد وأخذت الشمس بالزوال تهيأوا للعيد في ثياب بيضاء وجبب زاهية واعتموا بعمائم بيضاء أو حرير (أغبانية) مطرزة وهيأوا سبعة أكباش سالمة من كل عيب ونقص وحفروا تنورا عميقا يبنونه بحجارة مرصوفة من دون طين. فإذا آن وقت الغروب يأخذون بتلاوة التوراة وقراءة التراتيل مصطفين على شكل إمام ومؤتمين ، فحينما يأزف الوقت المقرر وهو بين الغروبين يعطي الكاهن الأكبر إشارته فيذبح الذباحون الأكباش بسرعة البرق ، ثم ينتهون من هذه الصلاة الأولى ويبادرون جميعا لتحضير الذبائح ينتفها أناس ويملحها آخرون ، وبعضهم يوقدون النار ويحمون التنور وهم في كل أعمالهم هذه في صلاة لا يفترون عن التلاوة والترتيل. ثم يحرقون شحوم القرابين وأطرافها على مذبح يصنعونه من الحجارة ويلقون بعد ذلك الذبائح في التنور ، ويقضون بعد ذلك ثلاث ساعات في الصلاة ريثما تنضج القرابين فيرفعون عنها الحجارة ويخرجونها ويأكلونها ، وبعد أن ينتهوا من الأكل يحرقون الفضلات والعظام ، إذ أنه لا يجوز لغريب أن يمس الذبيحة ولا أثرا منها. وقد اعتاد المسلمون في نابلس أن يصعدوا الجبل في هذا اليوم للتفرج أولا ولزيارة شيخ لهم اسمه الشيخ غانم يظن أنه من شهداء الحروب الصليبية اه.

وفي كتاب ولاية بيروت أن شروط العقيدة الأصلية عند السامريين خمسة وهي الاعتقاد بوحدانية الله ، ونبوة موسى ، وأن التوراة كتاب منزل ، وأن جبل جرزيم هو مقدس ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. ويعتقدون أن الله منزه عن جميع الصفات ولا يؤمنون بنبوة أحد من الأنبياء سوى موسى ويوشع ويعتقدون أن البشر يحاسبون على أعمالهم في اليوم الآخر ويؤمنون بمجيء المهدي ويطلقون عليه أسماء مختلفة فيسمونه «حاشا حيب» و «حاطا حيب» و «مرجع» وأن لظهوره علائم فيظهر كلمة الله وينقل عصا موسى وألواحه العشرة ويجيء بقدرة المن وهي الحلوى الإلهية. ويعتقد السامرة بالملائكة ويفرض على كل سامري أن يصلي ويزكي ، فالصلاة صلاتان : إحداهما صلاة الصبح ، والثانية صلاة الغروب ، وكل صلاة إحدى عشرة ركعة ،

٢١٨

جماعة أفضل ، والصلاة مفروضة على الرجال والنساء ولكن النساء لا يخالطن الرجال خلال الصلاة ، ويشترط أن يكون المصلي طاهرا والطهارة عندهم على نوعين الغسل أولا والوضوء ثانيا ، فالطهارة من الحدث شروط أولى على كل موسوي حتى إن لمس الحائض موجب للغسل ، وعلى الحائض أن تحضر ثلاثا من النساء يقفن على رأسها حين اغتسالها ، وأما الوضوء فيغسل المتوضئ أولا يديه ، وإذا كان من أصحاب الأعمال اليدوية فيغسل يديه إلى المرفقين والساعدين ثلاث مرات. ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا ثم يغسل وجهه ويمسح أذنيه ويغسل رجليه ثلاثا. ويتلون التوراة في الصلاة باللسان العبري القديم وتجوز تلاوتها باللغة السامرية. والحج عند السامريين هو عبارة عن زيارة جبل جرزيم وهو ثلاثة أشكال حج الفطير وحج العنصرة وحج المظال. ويمسكون في صومهم أربعا وعشرين ساعة قبل حج المظال بخمسة أيام ، فلا يدخل السامري كبيرا كان أو صغيرا شيئا إلى فمه حتى الطفل الرضيع إنه يمنع من الرضاعة طول هذه المدة ، ولا ينامون مطلقا في هذه الأربع والعشرين ساعة ، بل يقضونها بالطاعة والعبادة. أما الزكاة فهي عبارة عن إعطاء واحد في العشرة من الأرباح إلى الكاهن والفقير. ويحجب السامريون نساءهم ويجوز الزواج ثانية إذا كانت المرأة عاقرا أو مريضة أو ذات عيب شرعي. وأصول مواريثهم لا تخالف أصول الشريعة المتبعة عند جميع الموسويين.

الأرثوذكسية :

ليس من دين يدين به أبناء آدم إلا فيه مذاهب متباينة بتباين منازع زعمائه. فقد خاصم أهل الختان المنتصرون رسل المسيح ليقنعوهم بوجوب اختتان الوثنيين الراغبين في التدين بالنصرانية. ولكن الرسل والكهنة اجتمعوا في أورشليم في السنة الخمسين بعد الميلاد «وحكموا بألّا يثقل بهذا الناموس على من يرجع إلى الله من الأمم» (ا ع ١١ : ٢ ـ ٣ و ١٥ : ١ ـ ٣١ و ١٦ : ١ ـ ٣).

وفي القرن الثاني نشأت في الدين المسيحي بدع اليهود الناصريين والأنيونيين والكلساعيين والشمشونيين والفنوستيين على تفرق نحلهم فانتبذتهم الكنيسة

٢١٩

وعاجلهم سهم القضاء. وقام بعدهم مبتدعون كثيرون اشتهر منهم في القرن الرابع قس كنيسة الإسكندرية آريوس ، إذ كفر بألوهة المسيح فجمعت عليه الكنيسة سنة (٣٢٥) مجمعا مسكونيا في مدينة نيقية حضره أول ملوك المسيحيين القيصر قسطنطين الكبير وثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ما عدا الكهنة والشمامسة والعلماء وحكمت عليه فعري من الكهنوت ونفي وقطع السبب بأتباعه.

وبتأثير ضلال آريوس كفر مكدونيوس أسقف القسطنطينية بالروح القدس فحكمت عليه الكنيسة وعلى بدع آفنوميوس وأبوليناريوس وصباليوس وماركلوس وآفدوكسيوس وفوتينوس بالمجمع الثاني المسكوني الذي التأم سنة (٣٨١) في القسطنطينية على عهد القيصر ثيوذوسيوس الكبير وحضره مائة وخمسون أسقفا أثبتوا صلاحية المجمع الأول الشرعية وأكملوا دستور الإيمان الذي وضعه ، قاضين بإقامته على كل أورثوذكسي فهو شعار إيماننا إلى يوم القيامة ومطلعه «أومن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض ...» وحطوا مكدونيوس من رتبته الكهنوتية فسكن نسيس مشايعيه.

وأولع نسطوريوس أسقف القسطنطينية بعشق الإمامة نافرا إليها في شاكلة من «خالف ليعرف» فكفر بالمسيح وأمه مريم فرمته الكنيسة بإقحاف رأسه في مجمعها الثالث المسكوني الذي اجتمع في مدينة أفسس سنة (٤٣١) على عهد القيصر ثيوذوسيوس الصغير وحضره نحو مئتي أسقف قرعوا ضلال نسطوريوس بالحق فأسقط من الكهنوت ونفي إلى مصر وباتت بدعته تذمى في الكلدان كالخنفساء إلى اليوم.

وركب أوطينما الراهب رأسه في محاربة ضلال نسطوريوس حتى انتشر عليه رأيه في طبيعتي المسيح ففسد إيمانه بهما وأغرق في غوايته حتى انتصفت منه الكنيسة بحكمها عليه وعلى بدعته بمجمعها المسكوني الرابع الذي اجتمع في خلكيدون سنة (٤٥١) وحضره القيصر مركيانوس وستمائة وثلاثون أسقفا. وضرب الدهر بين القائلين بالطبيعة الواحدة فتشردوا قددا رنّقت عليها المنية لو لا زعيمهم أسقف أرفا يعقوب الزنزلي المشهور بالبرادعي. فإنه لأم صدعهم بتجديده لهم مركز البطريركية في أنطاكية فتسموا «باليعاقبة» إكراما له وانقسموا إلى سريان وأرمن ومصريين.

٢٢٠