خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

وفي سنة (٥٥٣) اجتمع المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية على عهد القيصر يوستنيانوس الكبير وكان أعضاؤه مائة وخمسة وستين أسقفا حكموا على غوايات أوريجانوس الشهير وما يعرف في التاريخ الكنسي «بالقضايا الثلاث» وأثبتوا أحكام المجامع المسكونية الأربعة.

وفي سنة (٦٨٠) إلتأم المجمع المسكوني السادس في القسطنطينية وحضره القيصر قسطنطين اللحياني ومائة وسبعون أسقفا وفي رواية أخرى مائتان وتسعة وثمانون أبا حكموا على القائلين «بالمشيئة الواحدة» في المسيح ، منهم سرجيوس بطريرك القسطنطينية وأونوريوس بابا رومية وأقاموا المجامع المسكونية الخمسة فباتت هذه البدعة تعالج النزع في شيعة الراهب يوحنا مارون التي عرفت «بالمردة» وانحصرت على قنن لبنان وتسمى الآن «بالمارونية نسبة إلى الراهب المذكور الذي صار أسقفا أول عليها حتى استوفت أنفاسها أيام حملات الفرنج الصليبيين على الشام سنة (١١٨٢) فإنهم جذبوا الموارنة إلى الخضوع لكنيسة رومية فثبتوا فيه بعد أن طرد المسلمون الصليبيين ، إلا أنهم أبدلوا بدعة «المشيئة الواحدة» بما ابتدعته رومية بعد أن قطعتها الكنيسة من شركتها في القرن الحادي عشر.

وفي سنة (٧٢٦) بدأ القيصر لاون الإيصوري محاربة صور الأولياء (الأيقونات وبقاياهم وشايعه أساقفة كثيرون فتأذت الكنيسة من هذه البدعة حتى حكمت عليها في مجمعها السابع المسكوني الذي اجتمع في مدينة نيقية سنة (٧٨٧) على عهد القيصرة ايريني الوصية على ابنها قسطنطين السادس وحضره ثلاثمائة وسبعة وستون أبا. إلا أن هذه البدعة تجددت في الشيع البرتستانتية في أوائل القرن الخامس عشر ولا تزال ترهقها بأضرار جمة عاملة على تشعث إلفتها وتمزق شملها.

وفي سنة (٨٧٩) إلتأم المجمع المسكوني الثامن في كنيسة أجيّا صوفيا وحضره القيصر باسيليوس المكدوني وعماله ليحافظوا على النظام جريا على عادة أسلافه العواهل العظام وثلاثمائة وثلاثة وثمانون رئيس كهنة أثبتوا دستور الإيمان الذي وضعه المجمعان الأول والثاني على ما مرّ قاضين بانتباذ من يزيد فيه أو ينقص منه. ولا يحصى هذا المجمع رسميا مع المجامع السبعة

٢٢١

المذكورة ، مع أن الكنيسة كلها شرقا وغربا اشتركت فيه وقررت أحكامه بالاتفاق التام جريا على عادتها فيها. وسبب ذلك أنه لم يلتئم بعده مجمع مسكوني تام الشروط ليثبت صلاحيته الشرعية اتباعا لنظام المجامع.

ونشرت كنيسة رومية الدين المسيحي في شعوب أوربا أيام كان الله خاتما على قلوبهم ، فبذلوا لها مقادتهم وخشع ملوكهم أمام أساقفتها فعصفت في رؤوس الباباوات زوابع المجد العالمي واسترسلوا في سعيهم وراء السلطة المطلقة على الممالك والكنائس ، فنزل جهل الغرب المطبق على مقترحهم وأسدر عيونهم نور الشرق ـ والشرق مبعث النور ـ فنصح لهم البطريركان المسكونيان أن يتّزعوا ، فما كان منهم إلا أن غلوا في طغيانهم فنبذتهم الكنيسة بمجمع التأم على عهد القيصر قسطنطين مونوماخس والبطريرك ميخائيل المذكور ، فعمدوا بعد يأسهم إلى القوة البدنية توصلا إلى ما اشرأبت إليه أطماعهم فسيروا على الشرق الحملات الصليبية التي سوّدت بإفحاشها فيه مجلدات برمتها حتى محقها المسلمون وطهروه منها وردوا على الكنيسة الأرثوذكسية حقوقها التي منحها إياها الخليفة عمر بن الخطاب وخلفاؤه. فمقت الروم اللاتين حتى آثروا أن يروا عمامة السلطان محمد الثاني (الفاتح) في كنيسة أجيا صوفيا على أن يروا فيها كمة البابا.

ولما انحجب نور الشرق عن رومية تاهت كنيستها في شعاب الباطل فأجفل منها معظم أمم أوربا متعوذين بالمذهب البرتستانتي ، فأنشأت لهم «ديوان التفتيش» المشهور بفظائعه. ثم لما سطع فجر العلم في أوربا وامتنع عليها إكراه الناس على التدين بما تمليه عليهم عمدت إلى دهاء الرهبانيات كالجزويت والكبوشيين وغيرهم فاستغوت بالمال حزائق من الطوائف الشرقية القديمة ، منها حزيقة الروم الكاثوليك الذين استغوتهم من الملة الأرثوذكسية فانتحلوا لأنفسهم وصف «الملكيين» ليوهموا الناس أنهم الأصل ولكنهم لم يوهموا إلا أنفسهم فصدق فيهم قول المتنبي :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

أما الحقيقة التاريخية فهي أن القائلين «بالطبيعة الواحدة» من أقباط مصر

٢٢٢

نعتوا الأرثوذكسيين «بالملكيين» لتمسكهم بإيمان ملوك القسطنطينية.

فمن هذه الحقائق التاريخية التي أيدتها شواهد العقل والنقل المثبتة في المطولات يعلم المطالع :

١ أن الحقيقة الإنجيلية حفظت في الكنيسة الأرثوذكسية مصونة عن كل شائبة بدعة وضلال وستحفظ إلى منتهى الدهر (مت ١٦ : ١٨ و ٢٨ : ٢٠ يو ١٤ : ١٦).

٢ وأن المملكة البزنطية التي عاشت زهاء ألف ومئة وخمسين عاما قد ناصرت الكنيسة على صيانة هذه الحقيقة مؤثرة أياها على المصلحة المادية.

٣ وأن أمر الكنيسة الأرثوذكسية شورى لأنها تعمد في حل المشكلات إلى المجامع اقتداء برسل المسيح المخلص فلا يستبد فيها شخص واحد برأيه (مت ١٨ : ١٥ ـ ١٧ واع ١٥ : ٦).

٤ وأن السلطة العليا فيها منحصرة في المجامع المسكونية وحدها فهي تؤمن بما حددته من عقائد الإيمان المقررة في الكتاب المقدس وتأتمر بأوامرها وتحفظ قوانينها وتنبذ كل بدعة نبذتها وتحكم على من يتجاسرون على نقض أحكامها والعبث بقراراتها أيا كانوا.

٥ وأن الشرق كان موطن أحبار الدين المحققين ، وجهابذة اليقين الراسخين ، الذين حددوا العقائد المسيحية تحديدا لا يحتمل التأويل والتبديل بما أقاموا عليها من البينات الواضحة والحجج الدامغة مما اضطر الغرب أن يجعل قياده في يده وينزل على حكمه في جميع الأمور الدينية.

٦ وأن الروم الأثوذكسيين كانوا أصحاب البلاد وكان معتقدهم سائدا في من توطنها من العباد حتى افتتحها المسلمون وأمّنوهم على دينهم وأموالهم فعاش بوجاهتهم في الممالك الإسلامية حتى اليوم بقية الطوائف النصرانية التي حكمت عليها الكنيسة قبلا ، وقد قال القرآن الشريف في الروم (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (سورة الروم).

الكثلكة :

الكثلكة أو الدين الكاثوليكي أو الكنيسة الكاثوليكية اسم واحد للمذهب

٢٢٣

الديني المعروف الذي يدين به اليوم نيّف وثلاثمائة مليون من البشر كما ورد في أضبط الإحصاءات الحديثة. يعلن أصحابه ويثبتون قولهم بالبرهان أنه هو الدين الوحيد الذي بشر به السيد المسيح قبل تسعة عشر قرنا وأخذه عنه رسله الحواريون لينشروه بأمره في كل العالم (متى ٢٨ : ١٨ ـ ٢٠ مرقس ١٦ : ١٥) تحت رئاسة الأساقفة الخاضعين للحبر الأعظم بابا رومية وخلف القديس بطرس المقام من السيد المسيح كالمتقلد الرئاسة العامة المطلقة على كنيسته وكراعي نعاجه وخرافه (متى ١٦ : ١٨ ـ ١٩ يوحنا ٢١ : ١٥ ـ ١٧) وأما اسمها فمشتق من لفظة يونانية معناها الجامعة والمنتشرة في كل الأرض لأن الكنيسة الكاثوليكية منذ عهد الرسل انتشرت في جميع أنحاء المعمور حتى ما وراء حدود المملكة الرومانية.

وأصل الكثلكة تلك الجماعة الأولى التي أنشأها السيد المسيح بذاته ودعاها كنيسة (متى ١٦ : ١٨) ألفها من الاثني عشر رسولا (متى ١٠ : ٢ ـ ٥) ثم من الاثنين والسبعين تلميذا (لوقا ١٠ : ١) وأنبأهم بتبشير إنجيله في كل العالم (متى ٢٦ : ١٣) وأوصى تلامذته قبل صعوده أن يتلمذوا كل الأمم ويعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس ويعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به (متى ٢٨ : ١٩ ـ ٢٠) فما مر عليهم بضعة أيام حتى حل عليهم البارقليط أي الروح القدس الذي وعدهم بإرساله (يوحنا ١٥ : ٢٦) فأنطقهم بألسنة جميع الأمم التي كان حضر بعض أبنائها أورشليم لعيد العنصرة ووقفوا بذلك على الدين الجديد (أعمال ٢ : ١ ـ ١٢) فاعتمد في ذلك اليوم ثلاثة آلاف من اليهود (أعمال ٢ : ٤١) ثم بلغ عددهم خمسة آلاف بعد أيام (٤ : ٤) ثم شاع اسمهم فعرفوا بالمسيحيين (١١ : ٢٦) ثم صار التخصيص بظهور بعض الشيع فدعوا بالكاثوليك وكنيستهم بالكنيسة الكاثوليكية قريبا من عهد الرسل كما ورد في كتاب القديس أغناطيوس تلميذهم والفيلسوف يوستنيوس النابلسي المستشهد سنة (١٦٥ م) ولم يزل مذ ذاك الوقت اسمهم الخاص دون سواهم.

يؤمن الكاثوليك بكل العقائد التي أوحى الله في الكتب المنزلة وفي التقليد. وتقسم الكتب المنزلة إلى قسمين أسفار العهد العتيق وأسفار العهد الجديد.

٢٢٤

وأسفار «العهد العتيق» منها أولية ومنها ثانوية. فالأولية هي التي كتبت في الأصل باللغة العبرانية وهي : أسفار موسى الخمسة (التكوين والخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع) ثم الأسفار التاريخية (يشوع والقضاة وراعوت والملوك الأربعة وأخبار الأيام الاثنان وعزرا ونحميا وأستير) ثم الأسفار النبوية : أربعة كبار (أشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال) واثنا عشر صغار (هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجّاي وزكريا وملخيا) ثم الأسفار الحكمية (مزامير داود وأمثال سليمان وأيوب ونشيد الأناشيد والجامعة).

أما الأسفار (الثانوية) فهي التي كتبت بالكلدانية أو اليونانية ونقلت في الترجمة المعروفة بالسبعينية وهي : طوبيا ويهوديت وابن سيراخ والمكابيون (اثنان).

وهذه كتب «العهد الجديد» : الأناجيل الأربعة القانونية للرسولين متى ويوحنا وللتلميذين مرقس ولوقا. ثم سفر أعمال الرسل للقديس لوقا. ثم رسائل القديس بولس الأربع عشرة ثم رسالة القديس يعقوب ورسالتا بطرس وثلاث رسائل يوحنا ورسالة يهوذا ورؤيا يوحنا.

وفي الكنيسة الكاثوليكية معتقدات أخر ليست مدوّنة في الأسفار المنزلة وإنما أخذتها بالتعليم الحي بسلسلة متواصلة من عهد الرسل إلى يومنا وأعلنت بها في مجامعها أو في براءات أحبارها وفي تعليمها اليومي. وخلاصة هذه المعتقدات المدوّنة في أسفار العهد العتيق ولا سيما في أسفار العهد الجديد مرجعها إلى ما يلي :

أولا عقيدة التوحيد : أي اعتقاد وجود إله واحد روح بسيط أزلي لا أول له ولا آخر لا يحصر جوهره المكان ، قائم بذاته ذو صفات وكمالات لا حدّ لها من قداسة وحكمة وقدرة ورحمة وعدل. وهو خالق كل الكائنات الروحية والهيولية من العدم بجوده واختياره.

ثانيا عقيدة التثليث : هذا الإله الصمد ذو الجوهر الفرد والطبيعة الإلهية الواحدة له ثلاثة أقانيم هي صفات جوهرية نسبية متساوية بكل كمال وكل

٢٢٥

قدرة لا يفرقها شيء سوى نسبة بعضها إلى بعض. فندعو الأقنوم الأول «أبا» وهو أصل اللاهوت غير مولود وغير منبثق. والثاني «ابنا» مولودا من الآب منذ الأزل ليس ولادة جسدية بل ولادة عقلية روحية بمعرفة الآب لذاته ولكمالاته يصدر بهذه المعرفة ابنه الشبيه به وضياء مجده وصورة جوهره (عبرانيون ١ : ٣ كولوسّي ١ : ١٥) فهو إله من إله نور من نور إله حق من إله حق من جوهر الآب (دستور نيقية). والثالث (روحا قدسا) منبثقا من الآب والابن ليس بطريق الولادة العقلية ، بل بتبادل حب الآب لابنه وحب الابن لأبيه المولود منه. وهذا الحب ليس عرضيا بل جوهريا ندعوه الروح القدس. وهذه عقيدة تثليث الأقانيم في الله أوصى بها الله بنوع خفي في العهد العتيق كما يؤخذ من بعض آياته ، ثم صرّح به السيد المسيح في نصوص عديدة في الإنجيل وقرره تلاميذه في رسائلهم بما لا يبقي في الأمر أدنى ريب وإن كان سرا يفوق الإدراك البشري.

ثالثا عقيدة التجسد : هو سر الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الذي تأنّس واتخذ في أحشاء مريم العذراء دون زرع بشري طبيعتنا البشرية بكل خواصها ما عدا الخطيئة ليفدي بني آدم من تبعة الخطيئة الأصلية التي ارتكبها الأبوان الأولان بمخالفتهما لأوامره تعالى في جنة عدن وخلّفاها لسائر نسلهما وبها حصل هلاك الجنس البشري ففقد البرارة الأصلية التي منحها قبل خطيئته فلم يعد أهلا للتمتع بالنعيم الأبدي ومشاهدة الله في السماء. وإذ كان الإنسان غير قادر على الوفاء عن خطيئته لجلال الله فإنه تعالى رحمه ووعده بمخلّص يعيد له بفدائه ما فقده من تلك النعم (تكوين ٣ : ١٥) وليس هذا المخلص إلّا السيد المسيح منتظر الآباء والأنبياء وجميع الشعوب وهو الإله المتجسّد ذو الأقنوم الإلهي الواحد وذو الطبيعتين الإلهية والإنسانية (يوحنا ١ : ١٤ و ٣ : ١٦ لوقا ١ : ٢٦ ـ ٣٦) فهذا الإله المتأنس قضى على الأرض ثلاثا وثلاثين سنة يعمل ويعلّم وأنشأ كنيسة وأسلم نفسه اختيارا للعذابات وللموت ثم قام بقوّة لاهوته من قبره في اليوم الثالث وتراءى مرارا لتلاميذه ثم صعد إلى السماء بعد أربعين يوما. وبكل ذلك أتمّ جميع ما تنبّأ عنه الأنبياء دون أن يخلّ من نبوّاتهم حرفا.

٢٢٦

ولما كانت أعماله سواء صدرت من طبيعته الإلهية كالمعجزات التي صنعها أو من طبيعته الإنسانية كمولده وموته ذات قيمة غير متناهية لصدورها عن شخصه الوحيد الإلهي شخص ابن الله فقدّمها لأبيه ولا سيما موته على الصليب تكفيرا عن خطايا البشر الذين يستطيعون بعد ذلك أن ينالوا نعمة البرارة والخلاص الأبدي بواسطة المعمودية والأعمال الصالحة والتوبة عن الزلّات.

رابعا عقيدة القيامة : يؤمن الكاثوليك بخلود النفس فعند انفصالها عن الجسد بالموت تدخل السماء إن كانت طاهرة من كل خطيئة ثقيلة أو خفيفة وتعاقب بعقوبات جهنم إن كانت في حال الخطإ المميت دون توبة عند الموت. أما إن كانت مدنسّة ببعض الخطايا الخفيفة أو لم تكفر تماما عن خطاياها السابقة المغفورة فيحكم عليها بعذابات موقتة وذلك ما يدعونه المطهر ريثما تفي لعدل الله الوفاء التام. وفي آخر الأزمنة سيبعث الله الموتى من قبورهم فيعوذون إلى أجسادهم ليحضروا الدينونة الأخيرة التي يتولاها السيد المسيح فيحكم نهائيا على البشر فيجازي الأبرار بالنعيم الأبدي ويعاقب الأشرار بالعذاب الدائم (يوحنا ٥ : ٢٦ ـ ٢٩).

خامسا المعتقدات التقليدية : ما عدا المعتقدات السابقة التي وردت في الأسفار المقدسة يؤمن أيضا الكاثوليك ببعض الحقائق التي لم تصرح بها الكتب المنزلة وإن أمكن إثباتها من بعض آياتها كعقيدة عصمة الخبر الأعظم عن الغلط في أمور الإيمان والآداب إذا علّم كنائب المسيح وكخليفة هامة الرسل وكعقيدة حبل العذراء مريم بلا دنس وكعقيدة وجود المطهر وهلّم جرّا. فهذه العقائد يمكن ترقيتها بسلسلة متواصلة إلى زمن الرسل تشهد عليها نصوص الآباء والمجامع جيلا بعد جيل ويعلن بها أرباب الكنيسة في تعليمهم اليومي بالإجماع. لما كانت الكنيسة الكاثوليكية تعلن بكونها هي كنيسة المسيح ويعارضها في ذلك غيرها من الكنائس المنفصلة عنها كان لا بدّ أن تمتاز الكنيسة الحقيقية عن سواها ببعض العلامات الخاصة. وهذه العلامات قد سبق الرسل ودوّنوها في دستور الإيمان المنسوب إليهم وتكرر ذكرها في كل دساتير الإيمان المتقررة بعدهم وهي أربعة : أن تكون الكنيسة واحدة

٢٢٧

مقدسة جامعة رسولية. وهذه العلامات لا تستطيع أن تثبتها لنفسها أي كنيسة كانت إلا الكنيسة الكاثوليكية.

فهي «واحدة» باتفاق جميع أعضائها في خضوعهم لرأس واحد منظور هو نائب المسيح وخليفة بطرس هامة الرسل ثم في اعتقادهم كل ما تعلمه الكنيسة دون خلاف وأخيرا في اشتراكهم بالأسرار عينها.

وهي «مقدسة» لأن منشأها السيد المسيح هو القداسة بالذات ثم لأن كل تعاليمها وآدابها صالحة مقدسة ولأنها أيضا تقدم لذويها وسائط جمة لتقديس نفوسهم لا سيما بالأسرار السبعة التي رسمها المخلص أعني المعمودية والميرون والتوبة والقربان الأقدس ومشحة المرضى والكهنوت والزواج بقرينة واحدة دون طلاق. ولذلك قد أولدت عددا لا يحصى من القديسين في كل أنحاء العالم تشهد على قداستهم أعمالهم العجيبة وفضائلهم السامية التي لا تزال آثارها ظاهرة لكل ذي عينين. وكفى دليلا عليه وجود الرهبانيات الساعية وراء الكمال بنذورها والمتفانية في عمل كل خير دون غاية زمنية.

وهي «جامعة» لأنها وحدها قد نشرت تعاليمها في جميع أقطار العالم المعروف فقام دعاتها بأمر الرب الموصي بنشر إنجيله بين كل الأمم ومن ثم لا يكاد يخلو قطر من بعض تبعتها. وهي أعظم عددا من أي مذهب كان إذا قيس بها منفردا منقسما كالروم والشيع البرتستانية والبوذية والبرهمانية وهلم جرّا. وفي اسمها دليل على هذه السمة فإن الكاثوليكية معناها الجامعة. وقد ظهرت هذه العلامة منذ عهد الرسل إذ يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية (١ : ٨) «إن إيمانكم يبشر به في العالم كله».

وهي «رسولية» لأن سلسلة أحبارها الأعظمين تتصل دون انقطاع برأس الكنيسة الأول القديس بطرس هامة الرسل. وبيوس الحادي عشر الجالس اليوم سعيدا على كرسي رومية إنما هو خلفه المائتان والسادس والستون.

هذه علامات الكنيسة الكاثوليكية الأصلية. أما ما يرى في بعض بلاد الشرق من الاختلافات في الطقوس واللغات والعادات الدينية فكل ذلك ثانوي : عرضي يمكن تغييره مع الزمان دون أن يمس جوهر الكنيسة الكاثوليكية لا بل يزينها ويزيدها جمالا.

٢٢٨

ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية انتشرت بكل سرعة في العالم كله منذ عهد الرسل الحواريين حتى تجاوزت حدود المملكة الرومانية. ولوقوع بلاد الشام في جوار فلسطين لا يستغرب انتشار النصرانية فيها قبل سواها. وذلك ما تثبته أقدم الشواهد التاريخية وأولها سفر أعمال الرسل الذي منه يلوح إنشاء الدين المسيحي في أنطاكية (١١ : ٢٦) وفي سائر سواحل الشام ذكر منها صور وعكة وقيصرية (٢١ : ٣ ـ ٨).

ويمكننا أن نتتبع تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الشام جيلا بعد جيل على الرغم مما حلّ بها من اضطهادات الوثنيين وعلى الرغم مما شاع من البدع كالأريوسية واليعقوبية والنسطورية والمنوثلية فلم يكن بين الطوائف الشرقية ما يفصلها عن الكنيسة الرومانية في إيمانها وخضوعها لرأس الكنيسة الرومانية وآدابها غير الأعراض السابق ذكرها. والدليل على ذلك إكرام كنائس الشرق لقديسي الغرب وإكرام الغربيين للقديسين الشرقيين. وفي طقوس الشرقيين القديمة ما يشهد إلى اليوم بتلك الوحدة والاتفاق. وكذلك سير القديسين الشرقيين تثبت ذلك الأمر. وكثيرون منهم أزهروا في الشام كالقديس يوحنا فم الذهب والقديس أفرام السرياني والقديس مارون الناسك.

غير أن تملك العرب على الشام واستفحال الشيع المضادة لتعاليم الكنيسة وصعوبة طرق المواصلات بين الشرق والغرب أضعفت الدين الكاثوليكي كثيرا في الشام ، إلى أن عاد فتعزّز بقدوم الصليبيين إلى الشرق ثم بدخول المرسلين منذ القرن الثالث عشر في هذا القطر ، فظهرت آثاره الطيبة أولا بين الموارنة ثم بعد ذلك بزمن بين الروم والأرمن ، ثم بين الكلدان والسريان حتى قامت لكل هذه الطوائف كنائس منظمة لها بطاركتها وأساقفتها ورعاياها ، ولكل طائفة تاريخها الخاص يترجم عن أعمال بنيها ومشاهير ملتها وارتباطها مع الكرسي الروماني.

واليوم يبلغ إحصاء الكاثوليك في الشام نيفا وستمائة ألف معظمهم الموارنة (٠٠٠ ، ٣٠٠). ثم الروم الكاثوليك (٠٠٠ ، ١٢٠). ثم الأرمن (٠٠٠ ، ٨٠). ثم السريان (٠٠٠ ، ٢٠). ثم اللاتين (٠٠٠ ، ١٠). ثم الكلدان (٢٠٠٠) هذا ما عدا المهاجرين منهم إلى أميركا وغيرها.

٢٢٩

وقد تعززت الكثلكة في الشام بدخول الرهبان وأقدمهم الفرنسيون في القرن الثالث عشر. ثم في القرن السابع عشر الكرمليون والكبوشيون واليسوعيون. ثم في أواخر القرن الثامن عشر اللعازريون ، وفي القرن التاسع عشر أخوة المدارس المسيحية والأخوة المريميون مع راهبات من رهبانيات مختلفة كراهبات الزيارة وراهبات المحبة واليوسفيات وراهبات القلبين الأقدسين وراهبات السجود وراهبات العائلة المقدسة وراهبات العجز الخ. ولكل من هؤلاء الرهبان والراهبات من المشروعات الجليلة ما يكفي وحده لتشريف الكنيسة الكاثوليكية. ولله الحمد على كل حال.

المارونية :

الموارنة طائفة من النصارى الكاثوليكيين الشرقيين يعرف من تواريخهم أنهم ينتسبون إلى الناسك البار القديس مارون القورسي النشأة على ما يرجح. اعتزل هذا الفاضل الدنيا في أواخر القرن الرابع ولجأ إلى صومعة في قمة جبل غير بعيد عن أنطاكية فما لبث عرف فضائله أن فاح في تلك الأنحاء فجذب إليه جماعات قصدوه ليلتمسوا منه بركته وصلواته ويسترشدوا بتعاليمه ويقتدوا بسيرته. وقد زهد قوم منهم بالدنيا واختاروا العزلة والتفرغ لخدمة الله في المغاور وأعالي الجبال ليقيموا بعيدين عن ضوضاء العالم ، على أن أريج حياتهم الطاهرة لم يمكن إخفاؤه فتقاطر المجاورون حول تلك المناسك وتألفت منهم طائفة عرفت فيما بعد باسم الطائفة المارونية ، وكان أهم المراكز التي التفوا حولها دير القديس مارون المبني على ضفاف النهر العاصي في نواحي أفامية.

ولما توافر عددهم مسّت الحاجة إلى تنظيم أحوالهم الروحية فأقيم لهم بطريرك هو البار يوحنا مارون وبه تبتدئ سلسلة بطاركة الموارنة ، وعاش هذا البطريرك الأول في أواخر القرن السابع في حين كان للموارنة أمراء يديرون شؤونهم الزمنية ، ثم أخذ الموارنة يهجرون إلى الأقطار المجاورة ، فنزل قوم منهم في جبال عكار وعمروا فيها القرى ، وسارت فئة نحو الجنوب إلى لبنان الشمالي فما عتموا أن قويت شوكتهم فيه فبلغ في القرن العاشر عدد

٢٣٠

رجالهم الصالحين للقتال أربعين ألفا على ما ذكر مؤرخو الحروب الصليبية.

وقصد فريق منهم سورية الداخلية فاستوطن جوار دمشق واستغل الأرض فيها وبنى الدساكر والمرابط. وفريق أمّ القدس وآخر نزح إلى قبرس في أيام الصليبيين وبعض الأسر سكنت حلب في أواسط القرن الخامس عشر وهبط بعضهم مصر ورودس ومالطة. على أن الأغلب فضلوا الإقامة في جبال لبنان فاعتصموا بها ونموا وكثروا رغم ما أصابهم من النكبات في أوقات مختلفة. ولما ضاق بهم جبلهم رحل قسم منهم إلى بلاد المهجر كأميركة وإفريقية وأوقيانية حيث ألفوا جاليات لها مقامها المعتبر في عالم التجارة والصناعة والأدب كسائر إخوانهم اللبنانيين والسوريين ، وبلغ عدد الموارنة ويدخل فيه المهاجرون خمسمائة ألف نسمة.

أما في الدينيات فيتفق الموارنة مع الكاثوليكيين بمعتقدهم وشرائعهم الدينية والأدبية وهم مثلهم خاضعون لسلطة بابا رومية ، إنما لهم وللسريان لغة طقسية واحدة هي السريانية لكنهم يختلفون عن سائر الطوائف بترتيباتهم ونظام إدارتهم الروحي المبينة كلها في دستورهم المجمع اللبناني الذي عقد سنة (١٧٣٦) وفي عاداتهم المشروعة ، ويرأس الطائفة بطريرك يعرف ببطريرك أنطاكية مستقل عن سائر البطاركة الشرقيين مركزه الشتوي دير سيدة بكركي فوق جونية ومقره الصيفي جديدة قنوبين في لبنان الشمالي فوق طرابلس. ويخضع لإدارته مطارنة يقيم بعضهم نوابا له وبعضا على أبرشيات معينة مستقل بعضها عن بعض ، ويعهد إليهم في تدبير هذه الأبرشيات الروحي والزمني وإدارة أوقافها مباشرة أو بواسطة وكلاء يسمونهم لذلك ويراقبون أعمالهم ، وفي الأبرشيات كهنة يعنون بخدمة الرعايا. وفي الطائفة جمعيات رهبانية يقيم أعضاؤها في أديارهم ومدارسهم ويتفرغون لخدمة الله والنفوس.

وكان للموارنة شرع خاص يتقاضون بموجبه أقره لهم جميع الذين حكموا القطر من نصارى وغيرهم ، ولا تزال أغلب قوانينه مرعية الإجراء عندهم حتى اليوم.

ونبغ منهم في رجال الدين كثيرون نذكر منهم البطاركة جرجس عميرة الذي ألف أول غراماطيق سرياني ووضع قواعده باللغة اللاتينية ليسهل على

٢٣١

المستشرقين درس هذه اللغة ، ثم العلامة أسطفانوس الدويهي المؤرخ المشهور ، ويوسف حبيش وبولس مسعد ويوحنا الحاج ، والبطريرك الحالي الياس الحويك صاحب المواقف المشهورة في القضايا الوطنية.

ثم الأساقفة كالمطران جرمانوس فرحات والسيد يوسف سمعان السمعاني ويوحنا حبيب ويوسف الدبس وغيرهم كثيرون من رجال الدين ممن خدموا اللغة العربية والقانون والتاريخ.

وبين العلمانيين أمراء شهاب وبيت أبي اللمع وأناس امتازوا بخدمة وطنهم وأعمالهم المبرورة كآل خازن ودحداح وحبيش والسعد وكرم والظاهر ونبغ غيرهم في خدمة العلم كآل البستاني والشدياق والنقاش والباز. ولا يمكن في عجالة سرد أسماء جميعهم.

البرتستانتية :

التأم في أوائل سنة (١٥٢٩) في إحدى مدن جرمانيا مؤتمر بأمر الأمبراطور كارلس الخامس قرر عدم السماح بإحداث تغيير في الرسوم الدينية وكان هذا القرار موجها ضد الإصلاح والمصلحين. وفي ١٩ نيسان من نفس السنة أرسل كثيرون من الأمراء والأشراف وأربع عشرة مدينة امبراطورية احتجاجا قالوا فيه : إنهم مستعدون أن يطيعوا الامبراطور والمؤتمر في كل القضايا الواجبة والممكنة ولكنهم لا يخضعون لأحد في ما يعتقدونه مخالفا لكلمة الله وضميرهم. فسموا من ذلك برتستانت أو محتجين ، ومن هذا الوقت أطلق هذا الاسم على كل المسيحيين من غير اللاتين والكنائس الشرقية بفروعها. وهم يدعون أنفسهم غالبا إنجيليين ويدعون غيرهم تقليديين نسبة إلى التقليد كما سترى. والبرتستانتية بمعناها اللغوي لا يخلو منها دين أو مذهب ، ففي كل زمان ومكان أفراد وجماعات يحتجون على رسوم في الدين أو المذهب الذي ولدوا فيه قد ينجحون أو لا ينجحون ، أما البرتستانت فقد نجحوا نجاحا لم يقدره أحد لهم فعددهم الآن يتجاوز مئتي مليون في الدرجة الأولى عددا بعد اللاتين وكل من انضم إليهم من الكنائس الشرقية ، وفي الدرجة الأولى في الرقي وسعة الملك.

ثم إن البرتستانت وإن افترقت أكثر فرقهم في أمور أكثرها عرضية

٢٣٢

فهم مجمعون على أمور كثيرة ، وإليك التفصيل في ما هم مجمعون عليه وما هم مختلفون فيه : أهم ما تجمع عليه أكثر فرق البرتستانت (عدا ما هم مجمعون عليه مع غيرهم مما يأتي بيانه):

(أ) : أن الكتاب المقدس هو القانون الوحيد في كل ما يلزم للخلاص.

(ب) : أن المسيح هو المخلص الوحيد وليس بأحد غيره خلاص.

(ج) : أن الخلاص كله نعمة مجانية من الله.

(د) : أن الإيمان هو السبيل الوحيدة لنيل الخلاص.

(ه) : أن الأعمال الصالحة هي ثمر الإيمان الحي فنعمل لأننا مخلصون لا لكي نخلص.

والبرتستانت إجمالا قسمان كبيران ـ الأول الايسكوبيليان أي الأسقفيون وهم الذين يقولون : إن درجات الأكليروس ثلاث : الأسقف والقسيس والشماس ـ الثاني البرسبتيريان أي القسوسيون وهم الذين ليس عندهم رتبة أساقفة. وأكثر فرق البرتستانت هذا القسم. فالأسقفيون مثلا يجرون العبادة غالبا بموجب كتاب صلاة أي صورة معينة تتلى وقت عبادة الجماعة. وأما العبادة العائلية والاجتماعات الأخرى الروحية فيتركونها لحرية القسيس أو من ينوب عنه. أما القسوسيون فالحرية مفوضة للخادم في كل الأوقات. وعندهم بعض صلوات وإرشادات مكتتبة لمساعدة القسيس في أحوال خصوصية.

على أن هذا النظام لا يعد جوهريا فهذه الكنيسة الانكليكانية وهي تجري عبادتها بموجب كتاب صلاة تقول في العقيدة ٣٤ «لا يلزم أن تكون التقاليد والطقوس في جميع الأماكن واحدة متساوية إذ قد اختلفت في كل الأزمان ويصح تغييرها على مقتضى اختلاف المكان والزمان وعادات الناس بحيث لا يرتب منها شيء مضاد لكلام الله ... وكل كنيسة تختص بأمة فلها سلطان أن تثبت وتغير وتبطل طقوسها ورسومها التي رتبت بسلطان الناس فقط».

وكل الأسقفيين والأكثرية العظمى من غيرهم يجرون السرين المعمودية والشركة ويعمدون الأطفال والبالغين الذين لم يعمدوا أطفالا ، أما بعض القسوسيين فلا يعمدون إلا البالغين ويسمون بالمعمدانيين ، وبعضهم لا يجري السرين مطلقا وهم المعروفون بالفرندس أو الكويكرس.

٢٣٣

يتفق البرتستانت مع غيرهم في أمور كثيرة جوهرية ويخالفونهم في أمور أخرى وإليك التفصيل : أهم الأمور الجوهرية التي يتفق فيها البرتستانت مع غيرهم. يتفقون في قانوني الإيمان ـ أولا القانون المعروف بقانون إيمان الرسل وهو يرجع إلى أواخر القرن الأول المسيحي بل قيل : إن الرسل أنفسهم وضعوه ـ ثانيا قانون الإيمان النيقاوي وضعه المجمع المسكوني الأول الذي التأم سنة ٣٢٥ في مدينة نيقية مع ما أضيف إليه في ما بعد سوى عبارة واحدة بخصوص انبثاق الروح من الابن أضيفت فيما بعد لا يقبلها الروم الأرثوذكس. ويوجد قانون إيمان ثالث مجمع عليه يسمى قانون مار أثناسيوس ولكنه أقل شهرة وأقل استعمالا من الأولين. ويمكن تلخيص الأمور الجوهرية التي يتفقون فيها في ما يأتي : (١) التوحيد والتثليث (٢) الخلق والسقوط والفداء (٣) تجسد الكلمة الأزلية المسيح ابن الله من مريم العذراء بالروح القدس وكل ما يتعلق بتاريخ فداء المسيح من ميلاده إلى مجيئه الثاني للدينونة (٤) القيامة والدينونة (٥) وجوب التبشير بالمسيح ودعوة الغير إلى الإيمان به (٦) عدم تحريف الأسفار التي يتفقون على قانونيتها من الكتاب المقدس.

وأهم الأمور المختلف فيها سلطان الكتاب المقدس. ويعتقد البرتستانت أنه المرجع الوحيد المعصوم الذي يجب الرجوع إليه في عقائد الإيمان. ويعتقد غيرهم أن للكتاب والتقليد سلطانا متساويا ومن هذا يدعوهم البرتستانت تقليديين. والتقليد عند المسيحيين كالتلمود عند اليهود والحديث عند المسلمين. وبعد فلا خلاف بين البرتستانت وغيرهم في عدد أسفار العهد الجديد إنما الخلاف في عدد أسفار العهد القديم. فالبرتستانت لا يقبلون إلا الأسفار التي يقبلها اليهود وذكر عددها يوسيفوس. وغيرهم يضيف إليها أسفارا تسمى أبو كريفا وجدت في الترجمة السبعينية مضمومة إلى باقي الأسفار. ومع تسليم البرتستانت بلزوم المجامع وفائدتها فهم لا يحسبون لما تقرره قوة ولا سلطانا إلا إذا أثبت من الكتاب المقدس. أما المجامع عند الروم الأرثوذكس والمجامع والبابا عند البابويين فهم معصومون من الخطإ في ما يقررونه من عقائد الإيمان. ويعتقد البرتستانت أن فرصة الخلاص تنتهي بالموت وبه يتقرر حال كل

٢٣٤

نفس إما في النعيم أو في الجحيم. ويتفق معهم غيرهم في حال أهل الجحيم ويخالفون في حال أهل النعيم فعندهم مكان عذاب وقتي غير الجحيم يسمى عند الباباويين المطهر وعند الروم الأرثوذكس عقالات الجحيم تذهب إليه الأنفس لتكفر عن ذنوب صغيرة ، وتصرف فيه مدة تطول وتقصر بحسب عدد تلك الذنوب وصفتها ، ويمكن تقصير هذه المدة بالصلوات والصدقات. يحصر البرتستانت الشفاعة وطلب الخلاص بالمسيح ، وغيرهم يطلبهما منه ومن الملائكة والقديسين.

عند البرتستانت سران فقط هما المعمودية والشركة وغيرهم يضيف إليهما خمسة فيصير العدد سبعة والمضافة هي : (١) التثبيت عند اللاتين والموارنة. والميرون عند غيرهم. (٢) الكهنوت. (٣) الاعتراف للكاهن.

(٤) الزواج. (٥) المسحة الأخيرة قبل الموت. أما الإفاضة في تعريف السر وفاعليته وما يحدث فيه وما يحدثه هو من التغيير وفي سبب هذا الخلاف فإنها تخرجنا كثيرا عن المقصد.

والبرتستانت يعترفون لله وحده وللشخص الذي أخطأوا إليه ، ولله وحده عندهم السلطان على مغفرة الخطايا. وغيرهم يوجب الاعتراف للكاهن. وللكاهن سلطان مطلق على غفران الخطايا.

ولما كان البرتستانت في هذه الديار ثمرة الإرساليات نرى من الواجب أن نشير إلى الداعي إلى الإرساليات ، فالداعي إليها أوامر الكتاب المقدس الكثيرة ، وأهمها أمر المسيح الأخير الصريح «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس». وقد أطاع رسله أمره وتفرقوا في أنحاء العالم المعروف حينئذ وليس لهم ما يستندون عليه أمام قوات هذا العالم سوى إيمانهم وثقتهم بوعده. وعدوا مخالفة أمره هذا جرما عظيما فقال الرسول بولس : «إذ الضرورة موضوعة عليّ فويل لي إن كنت لا أبشر». ولا يزال هذا التبشير من مميزات الكنيسة الحقيقية ففي العقيدة ١٩ الانكليكانية «كنيسة المسيح المنظورة هي جماعة المؤمنين التي فيها يبشر بكلمة الله النقية».

وقد وجه البرتستانت قواهم إلى هذا الواجب حالما تمكنوا من تنظيم

٢٣٥

شؤونهم ، فتألفت الجمعيات هنا وهناك ، وربما كان أقدمها جمعية الموراقيين نسبة إلى موراقيا على ضفاف الدانوب ، وتعرف بجمعية الأخوة المتحدين ، وقد كانوا ولا يزالون في المقدمة بالنسبة إلى عددهم الذي لا يتجاوز ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٣. وفي أواخر القرن الثامن عشر زاد عدد الإرساليات البرتستانتية وزاد نشاطها. وقد طلبت من أمين سر الجمعية (S.M.L.) المستر هاردمان في القدس بعض إحصاءات لهذه الإرساليات فأسل آخر ما عرفه منها أعربه بالشكر قال : عدد إرساليات البرتستانت في العالم ٣٨٠ ، عدد المرسلين رجالا ونساء ٢٩٠٤٩ والمال الذي صرفته خمسة عشر مليون ليرة إنكليزية. «هذا عدا ما جمع في حقول الإرساليات نفسها وصرف عليها أيضا». وعدد الإرساليات في فلسطين ١٧ وعدد المرسلين فيها ١٦٠.

وعمل بعض هذه الإرساليات عام وبعضها خاص محصور في قارة أو مملكة أو إقليم أو دين أو مذهب أو رتبة من الناس أو الذكور أو الإناث أو الطب العام أو الخاص أو طبع الكتب أو نشرها أو التبشير مجردا أو فتح المدارس فقط. وهذا الاختصاص في الغرب حتى في الأمور الدينية هو أساس نجاحه.

ومن المبادئ الأساسية لهذه الإرساليات أن تنظم المهتدين جماعات تشرع بإدارة شؤونها بنفسها ، وتسير نحو الاستقلال الإداري والمالي. ومنها عدم التدخل في سياسة البلاد التي يرسلون إليها ، ووجوب إطاعة أوامر حكوماتها ، والمحافظة على قوانينها ونظاماتها في كل ما لا يخالف الضمير بناء على قول المسيح «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» وبناء على أوامر رسله المتعددة بالصلاة والطاعة للحكام. ومع ذلك فقد أوقعت السياسة الأوربية تهمة المداخلة في السياسة على المرسلين ، لأنها استعملت الإرساليات على غير قصد من المرسلين جسرا عبرت عليه إلى مقاصدها الاستعمارية فشوهت سمعة المرسلين.

ولقد كان من الطبيعي أن توجه الإرساليات أفكارها إلى هذه الديار مهبط الوحي ومهد المسيحية لإنعاش المسيحية وتبشير غير المسيحيين بها. وفي إحصاء بتاريخ سنة (١٩١٣) أن عدد الإرساليات في هذا القطر أكثر من

٢٣٦

٣٠ أميركية وإنكليزية واسكوتلاندية وإيرلندية وألمانية ودانماركية وموراقية وأسوجية. ويقوم بأكثرها أفراد أو مدينة أو جماعة صغيرة ، وأعمالها غالبا محصورة في العواصم كالقدس وبيروت ودمشق أو بعض المدن والقرى كيافا وحيفا والناصرة وبيت لحم والخليل ورام الله وصفد والشويفات وبرمانا وبيت مري والشوير وشملان وبعلبك والنبك ودير عطية وغيرها. وليس بين كل هذه الإرساليات سوى إرساليتين عموميتين كبيرتين لهما طائفة منظمة بمجامع وقوانين وميزانية مالية مستقلة عن ميزانية الإرسالية ، الأولى أميركية قسوسية في الشمال ، والثانية إنكليزية أسقفية في الجنوب.

إرسالية الشمال أميركية قسوسية أسست سنة (١٨١٠). وفي سنة (١٨٢١) نزل أول مرسليها من ميناء يافا وشرعت بعملها في القدس وجوارها ، ولكن قضت الأحوال أن ينحصر عملها في الجزء الواقع شمالي رأس الناقورة ، وقام مرسلوها بمبادئ الإرساليات البرتستانتية بكل أمانة ونشاط وكان لهم اليد الطولى وفضل السبق في نشر العلم والمدنية لا بما عملوه فقط بل بتحريض غيرهم أيضا.

ودائرة عمل إرسالية الجنوب من رأس الناقورة شمالا إلى حدود مصر جنوبا ، وهي إنكليزية أسقفية أعضاؤها من كنيسة إنكلترا المثبتة. أسست في لندن في ١٢ نيسان سنة (١٨٩٩) واسمها جمعية المرسلين الكنيسة ويعبر عنها بالأحرف (C.M.L.) وللإحاطة بعمل إرسالية فلسطين لا بد من ذكر لمحة من تاريخ الأسقفية الإنكليزية فيها. في سنة (١٨٤١) أسست أسقفية انكليكانية في القدس بالاشتراك مع بروسيا. وكان من مبادئ المرسلين الأولية أن لا يشقوا من الطوائف الأخرى المسيحية طائفة برتستانتية وخصوصا من طائفة الروم الأرثوذكس التي يعتبرونها أم الكنائس. بل قصدوا أن يعملوا بالاتفاق مع رؤسائها لإنعاش المسيحية من الغفلة التي استولت على معظم مسيحيي الشرق. ولكن مقاومة هؤلاء الرؤساء وهيجهم طوائفهم على المرسلين وعلى كل من يقترب منهم ، اضطرتهم بعد تردد طويل إلى تأليف طوائف. وقد دان بالمذهب البرتستاني من كل الطبقات ، وارتقى كثيرون من أولاد الفقراء والفلاحين إلى أسمى ما يمكن الوصول إليه من المراتب. على أن تأثير المرسلين

٢٣٧

لم يقتصر على العدد القليل من البرتستانت العرب ، بل عم القطر بل هم كانوا من أول عوامل الرقي.

إن لكل من الإرساليات المذكورة عمالا وأفرادا متعلقين بها وعددهم بحسب سعة عملها. ولكن للإرساليتين السابقتين فقط طوائف برتستانتية منظمة بمجامع وقوانين وميزانية مستقلة عن ميزانية الإرسالية كما مر.

ليس لطائفة البرتستانت العرب كما مر قسوسية مشيخية ، وليس لها كتاب صلاة تجري بموجبه عبادة الجماعة سوى بعض إرشادات مطبوعة ضرورية لإرشاد القسيس في بعض الواجبات وهو مع ذلك غير مقيد بها. وتستعمل كتاب ترتيل فيه الآن (٤٣٢) ترتيلة بأنغام مختلفة غربية وبعض أنغام شرقية ، وإنما العلامات الموسيقية كلها غربية. وهذا الكتاب مشترك بين سورية وفلسطين ومستعمل للعبادة في الكنيستين.

وعدد نفوس الإنجيليين في لبنان ١٠ آلاف نفس. بقي الكنائس الأخرى غير المشيخية منها كنيسة الفرندس في برمانا ورأس المتن والكنيسة المعمدانية في راشيا الوادي وجوارها والكنيسة الإنجيلية في دمشق للكنيسة المشيخية الاسكوتلاندية والكنائس الإنجيلية في جهات القلمون وهي تابعة للإرسالية الدانمركية ولها عدة مراكز في النبك ودير عطية ويبرود وصدد وغيرها.

أما طائفة البرتستانت العربية في فلسطين فهي أسقفية انكليكانية تجري عبادتها بموجب كتاب الصلاة العامة المترجم عن الإنكليزية مع عقائد الدين التسع والثلاثين وكتاب الترتيل المشترك مع كنيسة سورية. رسم أول قسوسها الوطنيين سنة (١٨٧١) في الناصرة وكانت طائفة الناصرة في مقدمة كنائس فلسطين في إقامة الأوقاف والسعي نحو الاستقلال وكان أحد أفرادها عودة عزام المستوطن القدس في الربع الثالث من القرن الماضي وقف أملاكه كلها لكنيسة القدس وأصبحت الآن ذات قيمة كبيرة. وتبعه غيره في الوقف على الكنائس. ويبلغ مجموع البرتستانت في فلسطين وشرقي الأردن نحو ثمانية آلاف إنسان.

وبعد فإن في العالم أجمع الآن حركتين متضادتين نعبر عنهما بالجذب والدفع ، فبينما أنت ترى الشعوب تتحرك بدفع بعضها عن بعض فتتألف

٢٣٨

كتلا متفرقة تجدها في نفس الوقت تنجذب وتتقارب وتتفاهم وتسعى لتوحيد هذه الكتل أو ربط بعضها ببعض على الأقل ، وعلى الرغم مما نجده من التباعد بحركة الدفع والتمركز نجد الناس يقرب بعضهم من بعض بحركة الجذب ، والعامل الأقوى في حركة الجذب سرعة المواصلة وانتشار العلم ، فسرعة المواصلة قربت الناس بعضهم من بعض فأخذوا يتفاهمون ، والعلم جعلهم يحكمون العقل أكثر من العواطف فرأوا أن كثيرا من الفوارق إما وهمية أو عرضية أو مبالغ فيها. وما يجري في الدائرة البشرية الاجتماعية يجري في الدائرة الدينية. فعلى الرغم من بعد مسافة الفوارق الدينية والمذهبية نجد أهل هذه الأديان والمذاهب أكثر تسامحا وأسرع سعيا نحو الاتفاق ، حتى في الأديان التي نراها على أعظم مسافة من البعد ، فلا تكاد تمر سنة حتى يعقد مؤتمر الأديان يجتمع فيه نواب معظم الأديان الإلهية كالمسيحية والإسلام واليهودية وغير الإلهية كالبوذية وغيرها. وقد عقد أول مؤتمر رسمي في ١٦ أيلول سنة (١٩٢٤) في سوق الغرب اجتمع فيه نواب الجهتين للسعي في زيادة الاتحاد وتوحيد النظام.

أصل السنة :

لا يخفى أن الأحكام الشرعية التي علمت من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام : الأول الأحكام الاعتقادية وأصولها المجملة ستة الإيمان بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر وبالقدر. ويقال لجميع هذه الأحكام دين الإسلام وهي ما جاء به جميع الأنبياء. وهذه وإن كانت في تعيينها مذاهب عديدة إلا أن ما عدا مذهب السنة باطل.

القسم الثاني الأحكام العملية وهي عشرة : الفرض ، الواجب ، السنة ، الاستحباب ، الإباحة ، الحرمة ، الكراهة التحريمية ، الكراهة التنزيهية ، الصحة ، الفساد. ولا يخلو فعل العاقل البالغ عن حكم منها ، فالشرائع المتعلقة بأفعال المكلفين ثلاثة أنواع إجمالية : الأول العبادات وهي عبارة عن الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الفرائض والواجبات. الثاني المعاملات كالنكاح والطلاق والهبة والوصية والبيع والشراء والكفالة والوكالة. الثالث العقوبات كالدية

٢٣٩

والكفارة والفدية والقصاص ، وفي تعيينها مذاهب كثيرة إلا أنه تقرر فيها المذاهب الأربعة ، وأصحابها أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، ومالك بن أنس ، وأحمد بن حنبل ، فما اتفق عليه هؤلاء الأئمة الأربعة هو حق وصواب ، وما اختلفوا فيه يحتمل الخطأ والصواب ، لأن كل مجتهد يخطئ ويصيب ، والحق واحد لا يتعدد ، وكل مؤمن مأمور باتباع مذهب منها إذا لم يكن بلغ مرتبة الاجتهاد ، ويلزمه الاعتقاد بصواب متبوعه ، إذ لا يجوز له تقليده إن اعتقد خطأه.

القسم الثالث الأحكام الشرعية المتعلقة بأحوال القلوب ، والمتكفل بذلك علم الأخلاق والتصوف. والقصد هنا بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في القسم الأول. وينبغي أن نبين أولا من هم أهل السنة والجماعة ثم نذكر عقائدهم إذ ربما يظن بعض الناس أن كل من يطلق عليه اسم المسلم هو من أهل السنة والجماعة ، وليس الأمر كذلك ، فإن أهل البدع والأهواء مخالفون لأهل السنة والجماعة ، والحال أن فيهم من يعد من أهل ملة الإسلام ، لذلك رأيت من اللازم أولا بيان من هم أهل السنة والجماعة ، ثم بيان عقائدهم التي اتفقوا عليها ، ولم أتعرض للمخالفين لهم ولا لذكر حجج الطرفين ، وسرد المسائل التي وقع فيها اختلاف بين الأشعرية والماتريدية لما أن ذلك خارج عن موضوع الخطط وإنما هو من خصائص كتب الكلام ، فاقتصرت على أهم المسائل الاعتقادية التي يكلف كل مؤمن باعتقادها.

وقد ألّف العلماء كتبا لبيان الفرق الإسلامية ومقالاتها كالشهرستاني وابن حزم وعبد القاهر البغدادي وغيرهم. إذا أطلق أهل السنة والجماعة يراد بهم الأشعرية والماتريدية ، أما الأشعرية فهم أصحاب الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل من ذرية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي الجليل. أخذ علم الكلام أولا عن شيخه محمد بن عبد الوهاب الجبائي شيخ المعتزلة وتبعه في الاعتزال حتى صار للمعتزلة إماما ، ثم رجع عن مذهبه وصنف كتبا في الرد عليهم ، وأجمع على عقيدة الأشعري المالكية والشافعية وبعض الحنفية وفضلاء الحنابلة ، ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة ، إنما جرى على سنن غيره أو على نصرة مذهب معروف فزاد المذهب

٢٤٠