خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

«شنبر» أسود حريري. فالمتزوجات يتلفعن به ويربطنه من الوراء. والعزبات يعصبن رؤوسهن فوق المنديل. ويلبسن (البوابيج) الصفراء والجزمات القصيرة ، ويتخذن زنارا من الفضة (حياصة) قيمته أكثر من ألف غرش ، وله ذوائب مسترسلة ، وفي معاصمهن أساور فضية ضخمة ، وفي أرجلهن خلاخيل فضية ، وفي آذانهن تراكي ذهب (حلق مستدير) ، وعلى رؤوسهن عصابة من قماش مرصوفة بنقود ذهبية تعرف بالشكة ، وفي أصابعهن خواتم فضية. ويستعملون جميعهم نساء ورجالا الوشم إلى غير ذلك مما يختلف باختلاف حالتهم اه.

وعادات السكان في القرى تتشابه وكذلك ألبستهم ، وكلما بعدوا عما يقال له التمدن تمازجوا وتضامنوا ، فما يزال المسلمون في بعض قرى وادي بردى إذا كان عند جارهم المسيحي فرح أو ترح يأتي المسلمون يخدمون ضيوفه ، ويقدمون له الهدايا ليبيضوا وجهه أمام الواردين عليه وبالعكس. وهذا من أجمل العادات في التضامن بين أهل البلد الواحد. وعادات المسلمين في الساحل والداخل متشاكلة ، وكلها مقتبس من عادات أهل دمشق. فدير الزور وحلب وحماة وحمص والمعرة وأنطاكية واللاذقية وطرابلس وبعلبك وبيروت وصيدا وصور وصفد والنبطية والصلت ونابلس وعكا وحيفا ويافا والقدس والخليل وغزة ، وبالجملة فكل بلد فيه كتلة إسلامية أو مسيحية من السكان لا تجد عاداته إلا دمشقية ، وأهله يقتبسون من دمشق إلى اليوم ما يروقهم من عاداتها ، ومدينة دمشق محبوبة تهفو إليها نفوس الشاميين عامة ، وأهلها محبوبون للرقة التي فطروا عليها ، ولأنهم يعطفون كثيرا على الغريب ، وربما أغرقوا في عطفهم وآثروه على ابن حيهم ، وكل من دخلها ولا سيما من سكان القطر متى خرج منها اكتأب ودعا لها بالعمار ولو خسر فيها جزءا من ماله. قال القزويني : «وأهل دمشق أحسن الناس خلقا وخلقا وزيا وأميلهم إلى اللهو واللعب ولهم في كل يوم سبت الاشتغال باللهو واللعب.» ووصف اجتماعهم هذا الذي يدعى اليوم سبتية أي يوم يسبتون وما يجري فيه من المساخر والصراع والغناء والألعاب بما لا يخرج الآن عما كان منذ نحو ألف سنة. والغالب أن السبتية من عادات اليهود سكان البلاد الأصليين كما

٣٠١

أن إضراب بعض المشايخ عن القراءة أيام الثلاثاء ، من عادات الصابئة لأن يوم البطالة عند الصابئة يوم الثلاثاء. ومع هذا فقد مدح الدمشقيون منذ القديم كثيرا وهجوا كثيرا. ولعل المادح والقادح لا يخلوان من مبالغة.

ومن يتزوج من أهل هذا القطر بامرأة دمشقية يحسب نفسه سعيدا ، فالدمشقيات يتغربن كثيرا ، وما برحت دمشق تضم إليها الغرباء من أهل الكور الأخرى وتتمثلهم وتعيضها عمن يدخل إليها من الرجال بعض نسائها ، يدخلن فيها عادات العاصمة الأموية ، ويمزجن أهل الوطن الواحد من طريق الأسر والبيوت. والبدو والحضر من جميع النحل يؤثرون البنين على البنات ، وكلهم يلدون كثيرا ، ويعيش الأطفال في المدن أكثر من القرى ، للعناية بصحتهم ووجود الأطباء والقوابل. ولو لا أن البدوي يولد له كل سنة لانقرض نسله لكثرة الغزو والذبح في الدهر السالف.

وجميع نساء القرى من المسلمات في الشام سافرات يعملن مع الرجال في الحقول والمراعي على صيانة لا تبذل فيها ، ما خلا بعض القرى القريبة من الحواضر فإن عادة الحجاب سرت إليهن ، فيلبسن ملاءات من حبر أسود أو أزرق على الأغلب. وفي بعض المدن ملاءات ملونة بأصفر وأحمر معا أو بأبيض فقط. ولكن نساء دمشق خاصة اخترن زيا من الملاءات ومناديل الوجه ، اقتبسنها عن نساء الاستانة أيام كان الحجاب شائعا في نساء الترك. فلما كشف الحجاب في تركيا في العهد الأخير وأصبح زيهن كزي الغربيات ، قبعات على الرؤوس وأثواب قصيرة خفيفة. وزال الحجاب أو كاد عند نساء مصر بالطبيعة لتغلب المدنية عليهن ، بقي نساء حواضر الشام كبيروت ودمشق وحلب وطرابلس حائرات يطمح بعضهن إلى تقليد التركيات والمصريات. ولكن شدة المسيطرين من الرجال ، اضطرتهن إلى الوقوف الآن عند حد حجابهن القديم ، فيظهرن في الشوارع في حبرات سوداء مسدولة إلى أعقابهن ومناديل سود مسبلة على وجوههن ، وقد تكون في المتبرجات شفافة جميلة لا تكاد تحجب الوجوه بل تزينها وتدعو الناظرين إلى إرسال الطرف إليهن.

ومنذ هاجر الجركس من القافقاس بعد الحرب الروسية التركية سنة (١٢٩٤) إلى الشام وأسكنتهم الدولة العثمانية في بعض قرى منبج وحمص

٣٠٢

وسلمية ودمشق وعمان وجرش والقنيطرة ، أدخلوا إلى الشام بعض عاداتهم في تربية المواشي والفلاحة والصناعات الزراعية. ويغلب على الجراكسة الإمساك والتضامن لأنهم في حاجة إليه لدفع عادية البوادي عنهم ، ويغلب التدين على شيوخهم والشجاعة على شبانهم. وإذا أراد الشاب منهم أن يخطب فتاة خطفها من بيت أبيها مهما كانت منزلتها ومنزلته. ونساؤهم يظللن سافرات ما دمن أبكارا وعانسات ، حتى إذا تزوجن عمدن إلى الحجاب وابتعدن عن مجالس الرجال. والفتيات يختلطن بالفتيان ويغنين ويرقصن معا ويتسامرون ويتحدثون من دون نكير. ويقل فيهم تعدد الزوجات ، والمرأة الجركسية مثال المرأة الصالحة في تربية أولادها وإدارة شؤون بيتها.

وقد أخذ الصهيونيون في فلسطين يدخلون عاداتهم منذ كثر سوادهم فيها ، ولكن من الصعب أن يقتبسها السكان الأصليون لأنهم ينظرون إليهم نظر أعداء ، وإن كان في عاداتهم الجميل جدا كحب النظام والترتيب والنظافة والاقتصاد ، وتجويد الأعمال الزراعية على اختلاف ضروبها. وكذلك الحال في المهاجرين من الأرمن الذين تسربوا من الشمال وامتدوا إلى الجنوب قليلا وإلى الغرب ، فإن من عاداتهم ما هو المعقول ، وهو تضامنهم إلى ما لا حد له ، واقتصادهم ومهارتهم في التجارة والصناعة ، بيد أنهم لا يمتزجون بالشاميين ويريدون كالصهيونيين أن يعاملوا أهل القطر ليربحوا منهم فقط ، لا لتكون بينهم المنافع مشتركة كما هو الحال بين أبناء هذا الوطن الواحد على اختلاف نحلهم ، وعلى كثرة ما يوقد الواقدون من الرؤساء المتعصبين من جذوة التعصب ، يوشكون أن يقاطعوا غير أبناء جنسهم ، ولكن السواد الأعظم إذا عاملهم بالمثل وعمدوا إلى مقاطعتهم لا يبقى أمامهم سوى الرحيل.

وأهل دمشق وحلب بل وأكثر المدن الداخلية من أشد الشاميين محافظة على عاداتهم وأخلاقهم ، ولهم غرام إلى اليوم بالتلقيب بألفاظ التشريف ، واستعمال الألقاب الضخمة ، راجت رواجا كثيرا على آخر عهد الترك العثمانيين ، لأن رتبهم وألقابهم مما كانوا أسرفوا في منحه للرفيع والوضيع ، فصار أهل الطبقتين الوسطى والدنيا لا يتخاطبون إلا بلقب «باشا» أو «بك» أو «أفندي» و «دولتك» «عطوفتك» «سعادتك» «سماحتك» «فضيلتك»

٣٠٣

«سيادتك». أما ألقاب سيدنا ومولانا فتكاد تؤلف جزءا مهما من أحاديثهم. ابتليت الأمة بهذه الألقاب كما ابتليت بالتلقيب بالدين في القرن الخامس إلى القرون الأخيرة. وقد وصف ابن جبير مآتم أهل دمشق وجنائزهم في الدولة الصلاحية فقال : ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانها ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة إلى الدين (١) فتسمع ما شئت من صدر الدين أو شمسه

__________________

(١) أول من لقب بالدين في الإسلام بهاء الدولة بن بويه ركن الدين وذلك في القرن الرابع للهجرة. وسرى هذا التلقيب إلى العلماء ثم سمت نفوس العامة إلى التلقب بالدين فأصبحت بعد القرن الخامس لا تسمع إلا ألقابا هائلة مضافة إلى الدين تساوى الناس في التمجد بها ولم تخل من التحلي بهذه الحلية سوى الأندلس لأن دولهم بقيت عربية الروح والجسم حتى في الأيام التي كان الحكم فيها للبربر. وقد حمل بعض العلماء قديما على هذه الألقاب المبتدعة لمخالفتها للشرع ولما فيها من تزكية النفس المنهي عنها. قال القلقشندي : وبقي الأمر على التلقيب بالإضافة إلى الدولة إلى أيام القادر بالله فافتتح التلقيب بالإضافة إلى الدين وكان أول من لقب بالإضافة إليه أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه زيد على لقبه بهاء الدولة «نظام الدين» فكان يقال «بهاء الدولة ونظام الدين». قال ابن حاجب النعمان : ثم تزايد التلقيب به وأفرط حتى دخل فيه الكتاب والجند والأعراب والأكراد وسائر من طلب وأراد وكره حتى صار لقبا على الأصل. ولا شك أنه في زماننا قد خرج عن الحد حتى تعاطاه أهل الأسواق ومن في معناهم ولم تصر به ميزة لكبير على صغير حتى قال قائلهم.

طلع الدين مستغيثا إلى الل

ه وقال العباد قد ظلموني

يتسمون بي وحقك لا أع

رف منهم شخصا ولا يعرفوني

وقال أبو الريحان البيروني : وبنو العباس لما لقبوا أعوانهم بالألقاب الكاذبة ، وسووا فيها بين الموالي والمعادي ، ونسبوهم إلى الدولة بأسرهم ضناعت دولتهم ، فإنهم أفرطوا في ذلك حتى احتيج للقائم بحضرتهم إلى فرق بينه وبين غيرهم فثنوا له التلقيب ورغب في مثل ذلك غيرهم ، وكان الراغب ينجح حاجته بالبذل ، وتنزاح علته بالأدلاء ، فاحتيج ثانيا إلى الفرق بين هؤلاء وبين المختص بحضرتهم ، فثلثوا له التلقيب وألحقوا به الشاهانشاهية. وبلغ الأمر غايته من التكليف والتثقيل ، حتى إن الذاكر يمل ذكرهم قبل أن يبتدئ به ، والكاتب يفني زمانا وأسطرا ، والخاطب لهم على خطر من فوت وقت الصلاة. قال : وكذلك وزراء الخلافة قد لقبوا بالأذواء كذي اليمينين وذي الرئاستين وذي الكفايتين وذي السيفين وذي القلمين وأمثال ذلك. وتشبه بهم آل بويه لما كانت الدولة منتقلة إليهم ، وبالغوا فيه واستغرقهم الكذب فسموا وزراءهم بكافي الكفاة ، والكافي الأوحد وأوحد الكفاة. ولم ترغب السامانية ولاة خراسان في هذه الألقاب بل اكتفوا بالتكنية. وكانوا يذكرون في حياتهم بالملك المؤيد والموفق والمنصور والمعظم والمنتصر ، وبعد ـ

٣٠٤

أو بدره أو نجمه أو زينه أو بهائه أو جماله أو مجده أو فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه إلى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة ، وتتبعها ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضا من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الإسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتي الفريقين إلى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية ، فيصعد كل واحد منهم إلى الشريعة ساحبا أذياله من الكبر ثانيا عطفه وقذاله قال : ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة ، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلما يقول : جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة كناية عن السلام ، فيتعاطون المحال تعاطيا ، والجد عندهم عنقاء مغرب. وصفة سلامهم إيماء الركوع أو السجود فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض وربما طالت بهم الحالة في ذلك ، فواحد ينحط وآخر يقوم وعمائمهم تهوي بينهم هويا. وهذه الحالة من الانعطاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لقينات النساء. وعند استعراض رقيق الإماء ، فيا عجبا لهؤلاء الرجال ، كيف تحلوا بسمات ربات الحجال ، لقد ابتذلوا أنفسهم فيما تأنف النفوس الأبية منه ، واستعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه ، لهم في هذا الشأن طرائق عجيبة في الباطل ، فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة ، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم لقد تساوت الأذناب عندهم والرؤوس ، ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس اه.

بمثل هذا اللسان الغريب وصفنا ابن جبير. ولما أفرط القوم في عاداتهم في الجنائز والمآتم والأفراح والمجتمعات والقيام والقعود وتبادل السلام وتقديم القهوة والشاي وغيرهما ، ودخلت في طور من الهزل عجيب ، زهد فيها المتعلمون على المناحي الغربية ، وأنشأوا ينبذونها نبذ النواة. وخفت أيضا

__________________

ـ وفاتهم بالحميد والشهيد والسعيد والسديد والرضي وأمثال ذلك. ولكنهم لقبوا قواد جيوشهم بناصر الدولة وعمادها وحسامها وعميدها وسيفها وسنانها ومعينها ونصيرها اقتداء بأفعال الخلفاء. وكذلك فعل بغراجان من تلقيب نفسه بشهاب الدولة ، وجاوز نفر منهم هذا الحد فسموا أنفسهم بأمير العالم وسيد الأمراء. فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وأظهر لهم ولغيرهم عجزهم اه.

٣٠٥

ألفاظ التكريم عن عهد الترك وهي آخذة بالزوال ، وبقدر ما يكثر سواد المتعلمين يقل سواد المداهنين والمرائين ، على ما يقلّ المخرفون والمعتقدون. فقد كان بعض الناس يعتقدون بالفال والمندل والكيمياء والأحلام والكشف ، فقلّ اليوم من يلتفتون إلى هذه المسائل ، وخفت وطأتها حتى من القرى البعيدة. والمنورون من الناس قسمان : قسم وقف عند حدود الشرع واكتفى بأوامره ونواهيه ، وآخر نزع ربقة الدين ولكن في سره دون الجهر من القول.

وبعض العادات لا تقوى على نزعها إلا الأيام الطويلة والنشوء السريع ، وهذا متعذر الآن لتعذر نشر التعليم الإجباري في الشعب ، فقد كان النساء إلى عهد قريب في الأحياء البعيدة عن مدينة حلب يخرجن في الجنائز مسخمات وجوههن مخمشات لها لابسات ثياب الحداد ، باكيات مولولات منتحبات ، وهذا من عادات الجاهلية التي منعها الإسلام. وأول المسؤولين عن إقرار مثل هذه العادات المشايخ والوعاظ وأرباب الصحف. وقل أن رأينا من المشايخ والوعاظ من يتعرض لإنكار مثل هذه البدع والعادات الضارة. أما الصحف فعلى كثرة ما نشرت من الأنوار في طبقات مخصوصة من الناس فقد بقيت في ناحية من النواحي مقصرة كل التقصير ، وهو البحث في العادات المضرة والأخلاق الساقطة. وإنا ليحزننا أن كان في الصحافيين أناس لا يزيدون المجتمع إلا فسادا فوق فساده ، لأنهم يلقنون العامة الكذب والخديعة والملق ، ويدعون أن قراءهم لا يرضون منهم إلا بهذه الطرق. ولكننا على يقين من أنهم هم يبيعون من قرائهم ما يتفق مع مصلحة جيوبهم وأكياسهم. كان التدجيل إلى عهد قريب من خصائص بعض مشايخ الطرق فذهبت الآن ريحهم أو كادت وخلفهم هذا الضرب من الناس.

يمكن إرجاع أهم صفات الناس في هذا القطر إلى مادتين أصليتين «الوفاء والكرم» ولا تزال هاتان الصفتان ماثلتين في معظم الشاميين على كثرة ما اعتور مجتمعهم من تبديل وتعديل. وتجد هاتين المزيتين على أتمهما في كثير من أهل الطبقات الوسطى والدنيا ، يقومون عليهما غالبا من دون أن يتوقعوا عنهما أجرا سماويا أو مظهرا دنيويا. أما الطبقة العليا فمن النادر أن يكون فيها الوفاء والكرم ، وإن وفت فلأمر ما تفي ، أو تكارمت فلغرض

٣٠٦

ترتجيه. وكلما ضعف الوازع الديني في القوم ، وهاجمتهم عادات الغربيين ، انحلوا من عهدة الوفاء والكرم ، ولذلك ترى الأوفياء والكرماء بعيدين إلا قليلا عن المناطق التي اختلطت بالغريب على سواحل البحر ، وأخذت من معارفه ، وتخلقت بأخلاقه ، واعتادت عاداته.

ومنذ شاع الكذب والحسد في الشاميين ، ضعفت مادة حياتهم من التجارة والصناعة ، وكادت ثقة الغرب ترتفع منهم ، وإذا كتب لهم أن عاشوا في الجملة اليوم فبفضل الأسس القديمة التي قام عليها مجتمعهم وجامعتهم ، وبفضل نشاطهم في مهاجرهم حيث رأوا أنفسهم أمام جاليات كثيرة من الأمم اضطرتهم الحال معها أن يظهروا بمظهر الأمانة ليعتاشوا ويرتاشوا. أما التحاسد والمشاغبة فلم تنقطع شأفتهما فيهم حتى في ديار الغربة ، وربما زادهم على ما كانوا ألفوه منها ما رأوه في مهاجرهم عند الأمم الأخرى فاقتبسوه وأضافوه إلى رؤوس أموالهم. وربما بلغت الجالية الشامية نحو ألف ألف نسمة أي نحو سبع سكان القطر ، فما أمرهم باليسير إذا حتى لا يشار إليهم بجملة ، لأنهم على الأقل يمثلون صورة من أهل القطر في الخارج ، والأجانب لا يعرفون إلا أنها صحيحة مطابقة للأصل ، أو أنهم من أمثل طبقات الشعب. ولو تفرقوا في الأرجاء التي ينزلونها ، كما تفرقت قلوبهم في موطنهم الأصلي ، لكان لزاما أن يؤثر ذلك في أخلاقهم وعاداتهم ، ولكنك تراهم في مهاجرهم يجتمعون أهل كل إقليم بإقليمه على الأكثر ، وقد لا تختلط لفائفهم بسكان الديار التي ينزلونها إلا كما يختلط الشامي بالمصري إذا نزل مصر ، يختلط به ليربح منه ويحتفظ بشاميته وتقاليده بعد جيلين وثلاثة وأحيانا بعد أربعة وخمسة.

عادات القبائل وأخلاقها :

ثمن أو سبع أهل القطر الشامي اليوم أي نحو خمسمائة ألف نسمة بادية أو قبائل رحالة ، ويقال لهم في الاصطلاح : العرب أو العربان ، تصطاف في مكان وتشتو في آخر ، وقلّ من يألف منهم سكنى الدور ، وبيوتهم من الخيام والمضارب تنسج من شعر المعزى ، يعمدونها بعمد ويشدونها بأطناب ،

٣٠٧

ويضربونها حيث نزلوا لرعية ماشيتهم ، يحملون معهم أثاثهم وخرثيهم ودوابهم ومؤونتهم ، وهم شاوية يقومون على تربية الشياه والعنز ويربي بعضهم الأباعر ، والشاوية من الأسماء التي تطلق على عشائر دير الزور على الفرات خاصة لأنهم جماعة شياه. ومعاش البدو من مواشيهم وما تدرّ عليهم من السمون والألبان والأجبان والزبد وما يبيعون من نتاج قطعانهم ، أو من غزو بعضهم بعضا إن كانوا أشرارا على الفطرة لم تتدمث أخلاقهم قليلا بالاحتكاك بالمتحضرين ، وإذ كان سكان البادية على هذه الحالة من التنقل وأكثرهم يوغل في الشتاء إلى وسط ديار العرب انتجاعا للكلإ والماء ، أصبح من المتعذر أن تنشأ لهم حالة ثابتة يتأتى معها وصف كل قبيل منهم في عاداته وأخلاقه.

وعرب الشام من أصول شتى وقد تتغير أسماء قبائلهم مهما عظمت في كل قرن أو قرنين ، فقد تغيرت أسماء القبائل التي كانت معروفة بدخول الإسلام الشام ، في القرن الثالث أو الرابع ، وما عرف من أسمائها في القرن الثامن أو التاسع تبدل في القرن الحادي عشر ، وهكذا تتبدل أسماء العشائر تبعا للمتأمر عليها ، وقد تسمى القبيلة كلها باسم أميرها أو شيخها. والعشائر كلها تنقسم إلى أفخاذ وبطون ، والإمارة أو المشيخة ترجع على الأغلب لمن كان له أصل قديم من بيته ، أو من كان أذكى قومه جنانا ، وأبسطهم بالكرم يدا ، وأشجعهم يوم النزال قلبا ، وأصلبهم في الحوادث عودا ، ثم تنتقل بالوراثة.

وغزو القبائل بعضها بعضا يحول دون بقاء الثروة الناطقة والصامتة فيهم ، فقد تكون القبيلة اليوم في الغاية من طيب العيش ، ناعمة البال بحلالها أي ماشيتها ، فتغزى من الغد في عقر دارها ، فلا تلبث أن تصبح أعرى من مغزل لا سبد لها ولا لبد. دع ما يصيبها من نقص في الأنفس ، فقد كان من النادر أن تجد رجلا بلغ أقصى سن الشيخوخة لأنه يعتبط في الغزوات ، ويقتل في سن الفتوة غالبا. والحكومات الشامية اليوم تحظر على القبائل الغزو ، وهم يخافون سطوتها لمكان السيارات ورشاشاتها في الأرض ، والطيارات وقذائفها في الجو ، وتحاول كل حكومة أن تعطي البادية أرضا تزرعها لتأوي

٣٠٨

إلى البيوت الثابتة ، وتتخلى عن عيش البداوة وما تستلزمه من شقاوة وشقاء. ومن عشائر الشام ما عرف أنها كانت رحالة فأصبحت مزارعة مقيمة ، ولذّ لها عيشها الثاني فاغتنت يوم تحضرت ، مثل الدنادشة أو بني دندش فهم قبيلة يمانية جلت إلى حوران منذ نحو ثلاثمائة سنة ، ثم انتقلت إلى أرجاء تل كلخ من عمل حصن الأكراد ، ولهم اليوم قرى عامرة وبيوت وقصور في قرى الفتايا والحوز ومدان وحير البصل والموح ومشتى حمودة ومشتى حمزة وبرج الدنادشة وغيرها ، وظلت أخلاقهم إلى عهد قريب أخلاق العشائر يحبون الغزو والسطو ويحمون الذّمار والجار ، وهم على حصة موفورة من الكرم والوفاء وصحة العهد. واتفق مثل هذا التحول لكثير من عشائر الحديديين والموالي وبني خالد ، فإنهم لما امتلك السلطان عبد الحميد الثاني أرضا واسعة في الشمال الشرقي من الشام في أرجاء حماة وحمص ، حمى العشائر ومنع الغزو بينها ، فتحضر من هذه العشائر عدد كبير انصرفوا إلى اعتمال الأرض والعناية بالزرع والضرع. وهكذا كانت الحال في القديم والحديث ، تدخل البادية في الحضارة ، وقلّ أن خرج أفراد من الحضارة إلى البداوة ، لأن الترقي سنة الطبيعة ، والبداوة أصل ثم يذوب أهلها على الزمن في الحضر.

تبعد منازل البدو عن سواحل البحر المتوسط غالبا ، ولا تزال تمتد في الداخل حتى ينتهي العامر من ديار الشام في الجنوب والشرق ، وهناك البداوة بأجلى مظاهرها. والأولى أن يقال مثلا في عشائر الفضل والهوادجة والبحاترة النازلين على ضفاف بحيرة الحولة ، وبني صخر الضاربين في البلقاء ، وبني حسن في عجلون ، والحسينة والفواعرة والعكيدات في أرجاء حمص ، وبني خالد عرب حماة ، والحديديين والموالي واللهيب والغيار عرب حلب. والسّبعة والفدعان من عنزة النازلين من بحيرة الجبول إلى سلمية وعشائر البشاتوة والبواتية الغزاوية والمساعيد ونقار والصقور عرب بيسان ونابلس وجنين وطول كرم ، وعشائر شرقي الأردن التي تشتو في وادي العربة أو الأغوار ، أو الحماد أي الصحراء العربية شرقا ، وتصطاف في أرض معينة الحدود معروفة ـ فالأولى أن يطلق على هذه القبائل اسم نصف حضرية

٣٠٩

لأن منها من يزرع الأرض ، ومن أفلح في الفلاحة ، وأيقن على الأيام أن العيش الثابت خير من المتقلقل ، وأن من يدفع للدولة أجرة حمايته ، أهنأ بالا ممن يتكل في حمايته على نفسه وسيفه وعصبيته.

وهكذا يقال في عرب الغياث والعمور في اللجا والصفا ، وعرب العدوان والأيديات والعباد والمشالخة والحمايدة والشوابكة والدعجة والعجارمة والنمر والكايد في أطراف عمّان والصلت ومادبا ، والخرشان والجبور في الموقر والعليا والنقيرة ، وبني حميدة والسليط والحجايا والحباشنة والصرايرة والطراونه وكثر ربة والمعايطة والمجالي والمدانات في أرجاء الكرك ، والحويطات والدمانية وأبي تايه والمطالقة والنعيمات والديابات وبني عطية في جهات معان ، وعرب الشرور وبني عطا والهلالات والعبيدية والعلايا في وادي موسى وجبال الشراة ، والحميدات وعبدين والبحارات والكلالدة والوهبيات والمناعين في الطفيلة ، فإن كثيرا منهم يزرعون الأرض ، ويقومون على تعهد الماشية ، وقد يبعدون في الانتجاع ثم يعودون أدراجهم.

وعلى مثل هذه الحال عشيرة العمور في أرجاء تدمر وعشائر بوشعبان في السخنة والجبور في البوكمال والكعيدات في الميادين ودير الزور وغيرهم من العشائر النازلة على شط الفرات الغربي ، فإنها كلها نصف متحضرة وبقليل من العناية تدخل في المدنية وتترك عاداتها وشقاءها ، ويسوغ لنا أن نستنتج أن البادية حتى أكثرها إيغالا في البداوة يمكن تحضيرها إذا أكرهت على التحضر خلافا لما يذهب إليه بعض أهل الغرب. وفي الشام قبائل من البدو مثل عرب الروالة من عنزة وهم لا يقلون عن عشرين ألف نسمة ، يتنقلون أبدا كالنور أو الغجر كل مدة في ناحية ، ولا ينزلون المدن إلا لابتياع حاجاتهم وبيع جمالهم وأصوافهم وألبانهم. والنور جيل منحط من الناس يرتحلون كالبدو ويعملون الأعمال الخسيسة ، ولذلك يحتقرهم جميع أصناف العالم من أهل المدن والقرى والبدو ، وهم قلما تخلو منهم بلد ومنهم عدد كبير في أوربا.

ولا تختلف عادات العشائر لأنها كلها في حالة أولية فطرية هدتهم إليها الحاجة إلى الحياة ، فعشائر ولد علي والسرحان والمعجل والسردية والنعيم

٣١٠

في حوران والقنيطرة والزوية ، والزريقات في طرابلس والتياهة والعزازمة والترابين والجبارات والحناجرة والكعابنة والصرايعة والجهالين وفقرة وثباني وهارين وفرحات وزويديين وضواحك وسلامات وصقرير والرسيلات وأبي صونية والغوالبة في أقصى فلسطين أي في أرجاء بئر السبع وغزة والخليل والمجدل ، وعشائر القدس ورام الله وبيت لحم وأريحا ويافا والرملة كالسويطرة وعرب النبي روبين والجماسين وأبي كشك والسوالمة والعوجا والديوك والنويعمة والخطباء والفهيرات والعرينات والنصيرات والتعامرة والعبيدية والسواحرة وعرب حيفا وعكا وزمارين والناصرة وطبرية وصفد وهم الغابة والعواضين والشقارات والزبيدات والتواتحة والكمابية والضيبة وبني عزة والنغناغية والرمل وعرب التركمان وجسر الزرقاء وقسارية والفقرة ونفيعات والدمايرة والسواعيد والسمنية والغوارنة والسويطات والحجيرات والطوقية والمريسات وصبيح الحجيرات والمزاريب والسبارجة والجواميس والغزالين والتلاوية والمواسي والسرجونة والسدور والسمايرة والخرامية والسماكية والمنارة وكراد الخيط والملاحة والشمالنة والبويزية والزنغرية وزبيد وقديرية وطوبا وحسينية وعلمانية ووقاس والصويلات والنميرات ، وعشرات من القبائل كلها متشابهة في عاداتها وأحوالها الطبيعية وجلها لا تسد مطامعه إلا الغارات واستباحة حمى المعمور ، عرفوا بذلك منذ عرف تاريخهم. وكان الرومان خاصة يقيمون المخافر خوفا من اجتياحهم القرى ويقيمون لهم منهم زعماء يصدونهم عن الاعتداء بعضهم على بعض ، أو يحولون دون اعتدائهم على المقيمين من سكان المزارع والدساكر.

وفي تاريخ فلسطين أن العزة والسيطرة كانت في جميع بلاد الساحل والسهل للبدو وأهل الدير ، فبلاد السبع وغزة كانت منقسمة بين العزارمة والحناجرة والترابين والتياها والجبارات ، فالعزارمة يمانيون ومشايخهم أجداد ابن سعيد ، وأمراء الترابين عائلة أبي ست ، وأمراء التياها الهزءيل ، وأنساب هذه القبائل غير صريحة فإنها مزيج من عشائر مختلفة وقبائل متنوعة وفيهم القيسي واليماني ، وبلاد الخليل أكثرها قيسية ومقاطعة القدس يمانية وقيسية اه.

وكما عرف البدوي بأنه يجير الملتجئ إليه ، فهو كذلك إذا آنس ضعفا

٣١١

من أحد أبناء السبيل في البرية سرق منه ماله وثيابه أو هميانه ودابته ، وندر أن يقتله فشأنه شأن معظم البشر عبد القوة لا يحاذر غيرها. ولطالما كان الجنود الشاميون أيام كانوا يفرون على عهد الترك من اليمن تطيل البادية عليهم أيدي الاعتداء تارة ويكسونهم ويطعمونهم تارة أخرى ، وهكذا كان الفار يعرى ويكتسي مرارا حتى يصل إلى المعمور من دياره.

وماذا يعمل البدوي وماشيته ترعى أمامه ، وكيف يصرف ليله ونهاره ، وكيف تطيب له الحياة في الصيف والشتاء ، وهو معرض لأشد الحرارة وأشد البرودة ، وخائف على الدوام يترقب غزوة خصمه وقبيله الذي يعاديه؟

لا جرم أن البدوي ، وهو بذكائه وفراسته معروف موصوف أكثر من الفلاحين أهل القرى ، يعرف من الأخبار التي تهمه من أنباء العالم ما ينبغي له الإحاطة به ، ويتناقله بسرعة البرق ، حتى إن ما يحدث في الحجاز أو العراق ، يصل خبره إلى ابن بادية الشام وما وراءه من العرب ، قبل أن تصل السيارة والبريد ، فينتقل الخبر في الأفواه من فم إلى فم ، ويسمون الأخبار «العلوم» وأول ما يسأل البدوي في البادية أو المعمورة عن العلوم. وإذا لم يكن عند البدوي ما يتسلى به من القصص والأخبار التي تكون في العادة نمطا واحدا يأخذ شاعر القبيلة ربابه يضرب عليها ، ويفكههم من نظمه أو من محفوظه بأشعار. وفي الغالب أن يكون ما ينشدهم إياه بلهجتهم التي يألفونها. ويحتوي على الأكثر الحماسيات وأخبار الغزاة والغزوات وأيام الشجعان وحوادث الكرماء والضيفان. والرقص معروف عندهم وهو الدبكة أو السحجة يرقص في الغالب الفتيان والفتيات ، دون الرجال والنساء المتزوجات. ومهور النساء غالية في بعض العشائر ، وتكون من الجمال والشياه غالبا لا من النقود لقلة تداول النقد بينهم فهم يتقايضون الحاصلات ، كما يتقايضون البنات بالحيوانات. والبدوي يخصب إن جادت المراعي من خيرات السماء ، وإلا فقد أترب وأجدب ، ونفقت دوابه فأعوزته اللقيمات.

ويجلس الرجال في العراء في خيمة مضروبة تكون في الغالب خيمة الشيخ أو الغني ، يتعاطون قهوة البن وهم يجيدون طبخها لفراغهم وتوفرهم على معالجتها. وقد يستغني البدوي عن الأكل أو يقلل منه كثيرا ، ولكنه لا

٣١٢

يستغني بحال عن تعاطي القهوة في كل ساعة فهي نقله وحلواؤه وشرابه المنعش ، وقد يصرف أحدهم ثمن بنّ في السنة أكثر مما يصرف على طعامه ولباسه. وأحب الهدايا إلى قلب البدوي أن تحمل إليه مقدارا من البن. وطعامهم من أسهل الأشياء ، مقصور على بعض الألبان والبرّ والجريش والأقط والعصيدة ، ولباسهم ساذج للغاية وكسوتهم متشابهة : قفطان من القطن ، وعباءة خفيفة ، وزنار عادي ، وكوفية وعقال ، ولا يلبسون في الأعم من حالاتهم قمصانا وصدرا وسراويل ، وأكثرهم حفاة ، ويصطنع بعضهم كسكان وادي موسى نعالا من جلود الأباعر ينيطونها بحبال يدخلون فيها أباهم أرجلهم تعلق بها.

قلّ أن تجد في البادية من يقرأ ويكتب ، فقد تبلغ العشيرة ألف نسمة ولا تظفر فيها بمن يكتب جملة. ومن العشائر من تستأجر خطيبا من أهل الحضر يكون معها في مشتاها ومصيفها ، يقرئ بعض أبناء العشيرة القرآن ، وينظر في الأنكحة والطلاق ويعظهم بما يعلم من أمور الدين. وأكثر البادية لا يتطهرون ولا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون من الإسلام إلا أن الله واحد وأن محمدا رسوله. ولو لا هاتان الكلمتان لقلنا إنهم كعرب الجاهلية حذو القذّة بالقذة وقد تصلي بعض القبائل كالروالة ، ولما كان الماء يعوزهم في منتجعاتهم وتنقلاتهم فهم يتيممون صعيدا طيبا ، والله يعلم هل يحسن أكثرهم قراءة فاتحة الكتاب ، أو يعرفون بعض سوره الصغار. وما كانت هذه العشيرة تصلي من قبل لو لا أن لابسها بعض دعاة الشيعة وعلموا كل فريق منهم إقامة الصلوات ، ولقنوهم بعض معتقدات التشيع من حيث لا يدرون. وقد تديّن اليوم أي دان بالمذهب الوهابي قسم من الروالة لما لحقوا بنجد ، والمذهب الوهابي مذهب محمد بن عبد الوهاب وهو مذهب أحمد بن حنبل بأصوله وفروعه.

وإذ كان من الأمور العادية في البادية أن تكون القبائل في خصام دائم ، وهي أشبه بحكومات صغرى تتقاتل وتستعين بالغريب على خصمها ، مست الحاجة إلى قضاة يفصلون بينها في المنازعات ، وقضاتهم منهم يتقاضون عندهم بأجر معلوم ، وأحكامهم سريعة نافذة ، ومن أحكامهم ما هو مطابق للشرع

٣١٣

الإسلامي ، ومنها ما هو من بنات أفكار القاضي ، أو يأخذه من العرف والعادة. والاختلافات تفض بين المتخاصمين على أيدي الرؤساء صلحا على الأكثر. وقلّ أن يراجع البدوي الحكومة في مسائله لأن من أصولها البحث والتحقيق ، وهو يحب قضاء عاجلا ، وأن يحكم له أو عليه في جلسة واحدة ، وينفى القاتل في بعض القبائل سبع سنين فإذا صالح أهل القتيل ودفع الدية يعود إلى عشيرته ، وتختلف دية القتيل بين (٣٣) ألف غرش إلى (١٥) ألفا ، ولا يحق عند بعضهم لأحد بعد سبع سنين أن يثأر للقتيل ، والأخذ بالثأر كثير عندهم ، ولا مدة عند معظمهم للمطالبة بالثأر. ومن المأثور عنهم أن البدوي أخذ ثأره بعد أربعين سنة وقال : إنني تعجلت أخذه. وجزاء السارق تغريمه المال المسروق من ضعفين إلى أربعة أضعاف ، وينجو السارق بالفرار ، ويدفع الضارب للمضروب إذا عطل منه عضوا نصف الدية. والزاني يرجم عندهم حتى يموت ولكنهم تساهلوا في هذا الحكم ، والفحش عندهم على نسبة ما هو عند الحضر ويكثر في بعض العشائر ويقل بحسب اختلاطها بأهل المدن وبعدها عنها ، والخمور لا أثر لها في البادية لأن العرب قلما يشبعون الخبز والإدام فمالهم إذا والمدام ، ولشظف العيش عندهم يعدون في الأعياد اليوم الذي ينزل على شيخهم ضيف يجب أن ينحر له شاة فإنهم في تلك الوجبة مدعوون كلهم بالطبيعة ، وعندما يأكلون اللحم فترى قطعانه تسافر من فوق الرؤوس حتى يطعم من «المنسف» البعيد منهم عنه ، وتسمع عندها تعريق اللحم عن العظم أشبه بأصوات حيوانات وقعت على عظام.

ويكثر تعدد الزوجات بينهم خصوصا عند من يملك بعض نعجات أو بضعة أباعر فتراه طول النهار وجزءا من الليل ، تحت خيمته يتقهوى أي يشرب القهوة مستلقيا على قفاه ، يقص أقاصيصه وينعم ببطالته ، على حين ترعى امرأته وبناته الغنم والجمال ، ويحتطبن الحطب أو يجمعن العشب ، وتحمل المرأة الماء على رأسها من مكان بعيد ، أو تستقيه في قرب تحملها على حمار إن كان صاحبها من أهل اليسار ، وتستخرج المرأة الزبد والسمن وتعمل الجبن وتخبز الخبز وتهيئ الطعام. ويعيش أولادهم كالسائمة في البرية بدون عناية ويهلك معظمهم قبل الخامسة من العمر ، ولهذا تكون أجسام من يفلتون

٣١٤

منهم من الموت قوية تبعا لقاعدة بقاء الأنسب. وهم لا طبيب عندهم ولا جراح ولا قابلة إلا ما تعلموه من أجدادهم من الوصفات ، وثقفوه بطول الزمن في مداواة الجروح ، ويداوون أكثر الأمراض المستعصية بالكيّ أو بأدهان وحشائش لهم يعرفونها. وأمراضهم قليلة بالنسبة لخشونة عيشهم وجشوبة طعامهم وقلة تطهرهم ، وذلك لمكان الهواء النقي والشمس المطهرة من أجسامهم ولندرة ما يطعمون من الأطعمة المركبة من حامض وحلو وحار وبارد ، ولقلة الهموم التي تساورهم وما تساور في العادة إلا سكان المدن والقرى ممن يفقهون واجبات الحياة ، ويكدحون في طلب المعاش ولا يزالون مأخوذين بحب التقليد. والبدوي حاد النظر يرى الأشباح من مسافة بعيدة جدا ، وقد يرى والقمر ليلة هلاله ما لا يبصره الحضري ، ومن رآه في تمييز المرئيات عن بعد باعد ، يكاد يصدق ما ذكرته العرب عن نظر زرقاء اليمامة. وكما كانت أبصارهم حادة كانت أسنانهم وأضراسهم سليمة براقة للطف أخلاطهم وتخليطهم.

قال أديب وهبة : «إن سكنى البدوي في بيت الشعر في البوادي المحفوفة بالأخطار والمشاق ، وبعده عن الحامية وانتباذه الأسوار ، قد ولد فيه عدة مزايا يمتاز بها على الحضري، منها الشجاعة والعصبية والكرم والوفاء والأنفة والنجدة فتوغل البدو في البادية ، وتولعهم بالغزو والغارات قد جعلهم في قتال أو استعداد دائم للقتال ، فأصبحت الشجاعة فيهم طبيعية ، وتعذر قيام الفرد مهما كان شجاعا بمقابلة العدد العديد من العدو قد اضطرهم للالتجاء إلى العصبية ، وهي التضامن المطلق بين أفراد القبيلة ، حتى تطلب العشيرة بأجمعها بحق أحد أفرادها ، وأقرب أسبابها لديهم الأخوة والأبوة والعمومة ، ومنها تتألف الأسرة ، ومن الأسر تتألف الفصيلة وتتدرج بهذه الصورة إلى القبيلة. والذي عليه عشائر الشرق العربي أنها تطلب وتطالب بحقوق أفرادها إلى الجد الخامس من جدود الطالب والمطلوب ، أي لكل فرد يتصل مع أيهما بالجد الأول أو الثاني أو الثالث إلى الخامس الحق بطلب حق قريبه ، وعليه أن يخضع للحق المطلوب منه ، ولهم بذلك قوانين وقواعد موروثة. ثم إن ابتعاد البدو عن المدن وتفردهم في الأرض المقفرة يضطرهم إلى إكرام

٣١٥

الضيف والقاصد وحماية الضعيف والملتجئ ، حتى إذا وقع أحد أفراد قبيلتهم بمثل هذا الأمر الذي يكثر حدوثه لديهم يتقاضى ما أسلفه. وقد قويت هذه المزية فيهم حتى ضرب بكرمهم المثل ، وفاقوا به سائر الأمم. وإن مطاوي التاريخ العربي مستفيضة بأقاصيص كرماء العرب وكرمهم العجيب. والبدوي يعتقد أنه لا ذكر له ولا إرث أفضل من سمعة الكرم والجود. وإن هذه المزية لا تزال عند بدو الشرق العربي على ما كانت عليه في زمن أجدادهم الجاهليين. فلا يحل ضيف بيت أحدهم غنيا كان أو معدما ، إلا ويسرع لتهيئة كل ما يرضيه ويسره ، وإن الكثيرين منهم يضطرون إلى تحمل أعباء الدين الثقيلة لإرضاء قاصدهم. وإذا استأمنهم مستأمن على أمانة فدوا لحفظها أموالهم وأولادهم وأنفسهم ، وكذلك إذا التجأ إليهم خائف، أو استجار بهم مظلوم ، أو نزل عليهم موتور مطرود».

رأي في الأخلاق الشامية :

تمثل الأمم في العادة طبقتان من أبنائها «الوسطى والعليا». والطبقة الدنيا وهي طبقة العامة مستتبعة لا متبوعة ، لأن ما هي فيه من تأخر أسباب الحياة ، لا يترك لها مجالا للتفكير في شيء ، غير ما يقع تحت حسها مباشرة ، وتشتد حاجتها الطبيعية إليه. وقد تقلد الطبقة السفلى الطبقة الوسطى تقليدا خفيفا لا يكاد يشعر به ، وتقليد الطبقة الوسطى الطبقة العليا أشد ظهورا من تقليد الدنيا للوسطى. وتتجلى في الطبقة العليا مظاهر السعة في العيش ، والبسطة في العلم أو الحضارة ، وهي أبدا حريصة على مكانتها ، تحاذر سقوط شأنها من أنظار الطبقتين التاليتين ، وتعد السؤدد كل السؤدد ، ما هي فيه من جاه ومال ومجد وعلم.

يعد من الطبقة العليا العلماء والعظماء والقواد وأرباب الأموال ، ممن يسيرون الجماعات إلى حياتها أو موتها ، وينفثون في روعها ما يرفع مستواها العقلي ، ويطهرون نفوسها من الآثام والآلام ، وبأيديهم زبدة ثروة الأمة وجهودها ، وإليهم منتهى ما بلغته قرائح أبنائها يمثلون التسلسل في الفكر ، وتتجسم فيهم الإرادة الثابتة والعزيمة الصحيحة ، وهم صورة البيوت الخالدة

٣١٦

ومنعكس التأثيرات الطريفة والتالدة ، ومثال الشعب ورقيه ووجهه الوضاح الجميل ، وفي قبضتهم مفاتيح المفاخر ومغاليق المآثر وهم المذكورون وهم المشهورون ، ومصير غيرهم إلى الخمول والعفاء.

من أجل هذا كان على تلك الطبقة أن تتحلى بحلى الفضيلة والشرف ، وأن تكون عفيفة الطعمة حسنة الأحدوثة ، بعيدة عن الموبقات والبذخ والسرف ، حريصة على النهوض بالأمة تشارك في المسائل المدنية عن عقيدة راسخة وتأخذ بأيدي العاثرين والبائسين ، وتلقن أبناء أمتها علما ينتج الثروة ويحفظ المجد ، ويولي الكرامة. وإذا جنت بالظهور من دون استعداد له وحاولت الاحتفاظ بمكانتها دون أن تتذرع بأسباب البقاء ، وبتجديد مواد حياتها الحين بعد الآخر ، فإن عزها لا يلبث أن يزول ، وسعادتها توشك أن تضمحل ، ومن العبث أن تعيش هذه الطبقة بشهرة أجدادها من الحكام وأهل الشرف وأرباب المظاهر ، وأن تعتقد أن جماع المفاخر وقف على أحسابها وأنسابها ، وتطلب من كل إنسان أن يرفع مقامها لأن من أجدادها من كان على شيء من الفهم أو الظهور ، أو أنه كان يسفك الدماء ويستحل أكل أموال الناس حتى أثرى وخلف عقارا وقرى وصامتا وناطقا. ورب صعلوك في نظر المتمجدين كبير في عيون الخلق. والكبير من كبرت أخلاقه ، ونفع الناس وانتفع بهم.

وإذا جئنا نحاسب مثلا بعض من انتسبوا إلى الدين ، وهم أشرف الفئات في العرف نراهم أقرب الناس إلى امتهانه بأعمالهم ، يأتون ما لا ينطبق على جلال منزلتهم. فقد فشت المطامع فيهم واستحلوا الأموال مهما كان لونها وطعمها ورائحتها ، وأتوا للاحتفاظ بمظاهرهم القديمة من الأعمال ما بدت به مقاتلهم ، فقضوا بفساد ذممهم على أوضاع الأمة ، وركبوا مراكب الهوى واستمرأوا لأنفسهم أكل ما اعتقدوه حلالا طيبا فأضاعت الأمة مشخصاتها ومقوماتها ، وأصبحت مزيجا غريبا لا تعرف كيف تكيفه. وليس في المجتمع من يناقشهم الحساب ، وكيف يناقشون وهم المرجع وهم الهادون. وكان المشار إليهم بالبنان من أهل هذه الطبقة في الدهر الغابر ، يدلون بشممهم على الخلفاء والسلاطين ، ويسيطرون بإخلاصهم على القضاة والحاكمين ، ومن هانت عليه عزة نفسه يوشك أن يستهين بكل محمدة. ولقد أدركنا أحد كبار شيوخ

٣١٧

العلم ، لما شاهد هذا التسفل في طبقة العلماء يشير على طلاب العلم الديني أن يتقن كل واحد منهم صناعة حتى لا يسفّ لأحد يستجدي نواله ، ولا يمسي عالة على أبواب الحكومات وأرباب السلطات ، إن احتاج إلى صناعته احترف بها. وإلا كان لمناصب الدين والدنيا مخطوبا لا خاطبا.

ولي سويد بن عبد العزيز قضاء بعلبك سنة (١٦٧ ه‍) وكان محتاجا ، فلقيه داود ابن أبي شيبان الدمشقي فقال له : يا أبا محمد وليت القضاء بعلم العلم والحديث. قال : نشدتك الله أتحت جبتك شعار؟ فقال داود : نعم. فرفع سويد جبته وقال : لكن جبتي ليس تحتها شعار. وقال : أنشدك الله هل هذا الطيلسان لك؟ قال داود : نعم. قال سويد : فو الله ما هذا الطيلسان الذي ترى عليّ لي ، وإنه لعارية ، أفلا ألي القضاء بعد هذا ، فو الله لو ولوني بيت المال فإنه شر من القضاء لوليته اه. هذا قول عالم في زمن كان صاحب السلطان يطلب الأكفياء إلى القضاء فيفرون منه فرار السليم من الأجرب. ومنهم من ضرب لأنه لم يقبل أن يلي القضاء ، وكان محتما عليه قبوله لانتهاء الرياسة في العلم والعمل إليه. كان هذا في ذاك العصر الذهبي فما بالك بالعصر الأخير ، والجهال يتطلبون مناصب الدين إلا في الندر ، ويقدمون لتوليتها الرّشى والهدايا وقلّ فيهم النزيه الذي يستحق أن يطلق عليه اسم العالم ، أفلا تسقط بجدّك هيبة هذه الطبقة من النفوس بعد هذا؟

وبينا تجد بعض القائمين على الدين من أهل السواد الأعظم لا يهتمون لغير إملاء جيوبهم وبطونهم ، تشاهد بعض رجال الدين من أبناء الطوائف الصغيرة يجمعون شمل من التفوا؟؟؟ حولهم ، يقودونهم إلى محجة سعادتهم ، ويؤسسون لهم دور التعليم والقربات ، وينشلونهم من السقوط الذي صاروا إليه بحكم الأيام. فلا بدع إن جاء مجموع الطوائف المسيحية على قلته في الشام ، أرقى من مجموع الطوائف الإسلامية على وفرة عدده وسعة ثروته. وكان من أثر الرياسة الدينية المنتفية من الإسلام أن استخدمها أهل النصرانية في المصالح المهمة ، فكان لهم فيها عموم النفع. وكانت هذه الرياسة على ما فيها ناجعة في تهذيب الشعب عندهم ، فأخرجوه من تيه الفوضى إلى باحة النظام. وهذا هو سر الترتيب الذي تراه ماثلا في المجتمع النصراني وهو على

٣١٨

حصة ضئيلة في المجتمع الإسلامي ولا يؤاخذ الإسلام بانحطاط أهله وما المؤاخذ إلا من أخذوا على أنفسهم عهدا بأن يطبقوا مفاصله فأهملوا واجبهم ، ولو كان الدين عاملا من عوامل سقوط أمة ما كانت اليابان وهي تدين بالبوذية في مقدمة أمم الأرض علما وعمرانا.

ولا مشاحة في أن من طبقة الدينيين فئة صالحة ، ولكنها كانت في كل عصر تلقي الحبل على الغارب لغلبة اليأس عليها ، وهناك فئة أشد تأثيرا وظهورا وهي التي طالما قدمت وأخرت وباعت من هذه الأمة المسكينة ما شاءت وشاءت منافعها ودارت في كل دور مع مطامعها كيف دارت. إلا أن الدهر عاقب هذه الطبقة بما احتقبته من الكبائر ، فضربها ضربة آذنت بانقراضها لأنها لم تجار الزمن في نشوئه ، كأن تكون مثال الفضائل تربأ بأنفسها عن الغيبة والنميمة وتتشرب أفئدتها حب الصدق والصدع بالحق وتتحامى مزالق التغرير والتضليل وتحضر وكدها في واجبها من إرشاد العامة من طريق العلم الصحيح ، في زمن اشتد فيه النزاع بين القديم والحديث ، أو بين الدين والإلحاد ، وتجلى الانتقال في كل مظاهر الحياة. وما زالت هذه الفئة تحاول أن تسترد بالثرثرة والتبجح مجدا زائلا ، وهي في حالة المحتضر لا تبدئ ولا تعيد. وما تحدثت أن تخرج من جهالتها ، وتتطور بطور العصر ، وتأخذ بحظ من العلم الديني والمدني ، وتتحلى بشيء كثير من مكارم الأخلاق.

كان أحد أفراد هذه الطبقة أبلى في الدعوة الدينية بلاء حسنا ، ورزق قلما ماضيا ، وعزما مؤاتيا ، واستعد للنزول والنزال في ميدان دعوته ، يحمل أكثر أدواتها. وما عتم أن ترك ما هيأته الفطرة له وأكسبته إياه التجربة وطول المدة وحاول بلوغ مظهر جديد اعتقد أنه جماع المظاهر ، وهو لم يتمرس بآدابه ، ولا عرف مداخله ومخارجه ، وغلبه حب الشهرة فادعى ما لم يخلق له ولا تخلّق به ونسي الغرض الذي يضطلع به ، وراح يستغل موضع الضعف من فطرته ولا يعتمل فيما يرجى فيه كماله ، ترك سيرته الأولى وهام بمظهره الثاني ، زهد فيما يحسن وحاول التلبس فيما لا يحسن. وغريب من إنسان لم يقنع بمنزلة طيبة وضعته فيها بيئته وتربيته ، ويجاهد جهادا آخر في ساحة الوغى ولا سلاح معه يستخدمه ، ولا آلة من أدوات الحرب يتقنها. الذكاء

٣١٩

وحده ينفع إلى حد معين ، وأدوات النجح في طريقه تحتاج إلى علم وفطرة. والعلم بالتعلم والتريض ، والفطرة هبة لا تباع ولا تشرى.

أنت يا هذا إذا حفظت قواعد علم من العلوم ، يتعذر عليك أن تدعي الكيمياء والطبيعة أو السياسة والاجتماع ، علوم مختلفة طويلة الذيل لا ينفع معها التخليط. القواعد المجملة التي تحفظ من كتاب في موضوع تحتاج في إتقانها إلى صرف طائفة طويلة من عمرك فلا تعطيك القريحة قياد كل أمر ولا تيسر في سبيلك كل دعوى. ولذلك ترى من هذا شأنه صاعدا متدليا ، ينفي اليوم ما أثبت أمس ويحارب حينا من سالمه زمنا ، يصانع أرباب القوة طورا ثم يقلب لهم ظهر المجن تارة ، إذا لم يستمرئ ما أطعموه ولم يستقبل من أمره ما استدبر في وضع الخطط التي خطها لهم ، والناس كلهم في نظره صغار عقول وأرباب فضول وهو لا يرى غير نفسه استجمعت ضروب المحامد ، ولذلك لا يضن عليها بما يمجدها ، ويضع الألقاب الضخمة لها وينوه أبدا بما انطوى عليه من شرف وعلم وعمل ، ومن رضي عنه من الناس ينيله من عطفه ما لو وزن أيضا في ميزان القسط لشالت كفته. والعاقل من أنصف نفسه قبل أن ينتصف الناس منه ، ومن ظلم نفسه كان حريا بأن يظلم غيره ، ولهذا أمثال غير قليلة فيمن يلقبونهم ب «البارزين» والخواص أي النابهين.

نموذج آخر. بينا تجد الأول يجرع دعوته كما يجرع الصاب والعلقم ويستعلي ويستطيل ويحاول أن يثبت أنه مصدر كل خير ، لو استمع الناس له لتمت سعادتهم الدنيوية والأخروية، ترى أخاه قد اتخذ في الحياة غير طريقته وخالفه في سيره وسيرته ، فقد لقن في صباه مجملات يحكم فيها بالجزئيات على الكليات حكما مسمطا ويتلطف ويتطرف ليجد السبيل إلى قلوب العامة والسوقة لأنهم كثير سوادهم يستميلهم بالدعابة والفكاهة ، وماذا يهمه من الخاصة وهم قليل عديدهم ، وما يناله من غضبهم ورضاهم ما دام الجمهور عنه راضيا. وأحسن ما يراه للوصول إلى قلوب العامة أن يرضي كل صاحب سلطان ، لأن في رضى القويّ تنطوي المظاهر والدنيا وهو عبدها وغايته من الحياة السجود على أبواب سدنتها ، لا يبالي أن يصعق

٣٢٠