خطط الشام - ج ٦

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٦

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٤

كل من لم يمالئوه ، ويتوهم أن النقاد لا يفرقون بين الزيف والبهرج ، ولا بين الهازل الماجن والمجد المجاهد ، والعلم الحقيقي يولي صاحبه عزوفا ، وإذا قرن بالتهذيب لا يحاول صاحبه درجة إذا تخطاها أدركه العثار.

عرفت عالمين دينيين أريدا على أن تفتح لهما أبواب الرزق ، وتغدق عليهما المظاهر على أن يسفا إسفافا خفيفا يكون في السكوت عن رجل كان لهما صاحبا قديما فحاز مظهرا كبيرا من مظاهر الدنيا حسده عليه عبيد المطامع والشهوات ، وكان جوابهما كل مرة أن من لا يعمل للمصلحة العامة لا يستحق صداقتنا ، ليأت ما استطاع من الخير ونحن بالطبع له الأخلاء الأوفياء لا نريد منه جزاء. وهكذا قاطعاه وهو الحاكم المتحكم في الدولة ، وهكذا عزفت نفسهما عن أن يرقصا للقرد في دولته ويزينا للظالم ظلمه وهو في أوج عزته. زهدا في الجاه العريض لزهد صاحبه في الفضائل وشدة هيامه بدرهمه وديناره. رجلان يأكلان اللقمة بالتسفل والرياء وآخران جاهرا بأنها تؤكل بدون هذا. وهذا مثال من أخلاق بعض المعاصرين ، وعبرة للأعقاب في الغابرين.

ظهر التعطيل في الإسلام منذ قرون ، بما قام به المبتدعة من أهل الطرق وسخفاء الدجالين والقصاصين ، فانحطت العقول وضعف مستوى العلم والتهذيب في الناس فمن تصدى يا ترى لمحاربة هذه الضلالات التي لم ينزل بها سلطان؟ فشت أخلاق سيئة تخالف هدي الدين فتغافل الموكل إليهم هداية الخلق عن انتشار سمومها كأنهم يقرونها ، وتركوا رعيتهم هملا كالسائمة. وكانت دروس العلم مباحة مورودة إلى أوائل هذا القرن ، وبتساهلهم كاد العلم الإسلامي ينقرض. وجاء كثير من مرتزقة الوعاظ والخطباء والأئمة والقضاة جهلاء يفتون بغير علم ، ويخطبون بالمبتذل الساقط ، ويلهون الجمهور بالقشور ، ويبيعونه من سلعهم الكاسدة ما لو ائتمر العوام بأوامرهم لرجعوا ألف سنة إلى الوراء. وإذا اجتمع هؤلاء الدينيون إلى أكثر زعماء الأديان الأخرى ، ظهر الفرق بين التقصير والعناية وتجلت المباينة بين من ساروا مع الزمن ، ومن عاندوا الحقائق وحاربوا العقل وجمدوا في الفكر ، ومالوا إلى الكسل عن العمل. وفوق هذا تراهم يجمعون أموالهم بخرق حرمة كل

٣٢١

قانون وشريعة ، وهم متخاذلون متفاشلون لا يكاد واحد منهم يزكي أخاه ، ولا تجد خمسة منهم اتفقوا على مقصد واحد من مقاصد الخير. والعاقل يرجح الأمية على هذا العلم الذي لم ينتج خيرا لأهله ولا لغيرهم ، والأميون لا تصدر منهم هذه الجرأة على العبث بناموس الكمال. ومن تفلتوا من حدود الشرائع على قربهم منها ، كانوا أشد انتقاضا عليها من الجاهلين والغافلين.

وتتصرف على هذه الطبقة ، طبقة تلتحم بالخاصة أو العليا أيضا ، من جماعة المتعلمين على الأصول المدنية الحديثة ، فقد دب في بعض هذه الطبقة سوس الفساد ولما تزل في بدء تأسيسها ، وظهر لأرباب البصائر أن الدروس الطبيعية والرياضية والاجتماعية والفلسفية والحقوقية تنير العقل ، ولكنها لا تحسن الأخلاق ، إذا كانت منحطة من أصلها. وربما كان العلم في بعض هذه الطبقة أداة شر تستخدمه حبائل لصيد ما يسد المطامع. والأخلاق مغروسة في الدم والأسرة ، والعلم صناعة يتعلمه الذكي الدائب.

ولقد تلونت صبغة هذه الفئة في هذه الأرض الطيبة ، بألوان أهوية الأقاليم وجوائها ، بل بألوان المدارس التي تخرجت بأساتيذها ، فمن تعلم منها في مدارس التبشير التي أنعم بها أهل أوربة وأميركا على آسية وإفريقية ، جاءت إلا قليلا منحلة من ربقة حب الوطن وعهدة حب الجماعة ، واستحكمت في كثير من أفرادها الأنانية والأثرة استحكاما هوّن عليها كسر قيود الحكمة والخروج على الأدب الصحيح.

وقد اشتهر بعض هذه الطائفة بمعاداة الدينيين والأعيان ، والإزراء بسائر الطبقات وأكل الحسد والحقد قلوبها ، فهي لا تتحاب بينها ولا تحب غيرها ، ولا تعرف من محيطها أكثر مما يعرف الدخلاء : شمخت بأنوفها ، واحتقرت كل من لم يجر على مثالها ، ولا تثقف تثقيفها. ومنهم من دفعه ما لقفه من تربية وحصله من تعليم ناقص ، إلى خدمة الغريب ، والفناء في محبته والدهشة بكل ما يأتي على يده وقبول كل ما حمله من خلق وثقافة والتغني بتاريخه ومجده والتغزل بجمال بلده والإعجاب بأوضاعه ، أخذ كل ما أعطاه شاكرا مغتبطا ، فخرج بذلك عن قوميته. وكثير منهم هجر بلده ، إلى مكان ينبت بزعمه العز ويدر أخلاف الرزق.

٣٢٢

ومنهم من تعلموا في مدارس الدولة المنقطعة وتخلقوا بغير أخلاقهم ، وانحلوا زمنا من قوميتهم فلا يفكرون ولا يتكلمون إلا بالتركية ، ولا يكتبون إن كانوا ممن يحسنون الكتابة إلا بالتركية. فلما تبدلت الحالة السياسية بعد الحرب العامة دفعتهم الضرورة إلى ادعاء العربية وكانوا من قبل يعقونها وهم من أبنائها ، زاعمين أنهم تبدلت أخلاقهم بمجرد الانتقال من دور إلى دور. وليست الأخلاق بذلة تنزعها ، ولا طلاء تزيله وتستبدل غيره به. ولما كان معظم من تعلموا هذه العلوم في العهد السابق من أهل الطبقات النازلة في أصولهم ، كان الموروث لهم والماثل فيهم من الأخلاق مثالا من أخلاق أهل جرثومتهم ، ولذلك هان عليهم ويهون في كل دور أن ينزلوا عن مشخصاتهم لأول طارئ. وهذه الفئة مضرّة بأخلاقها أكثر من الجهال لأنها تعلمت تعليما ممسوخا ظنته كل شيء. ومذ فارقت المدارس التي تفاخر بأنها تحمل شهاداتها ، وكثيرا ما نال شهاداتها المتوسط والغبي ، ظنت أنها قبضت على قياد العلوم وودعت الكتب فصارت ترجع القهقرى في معارفها الأولية وتجلت أخلاقها في كل ما عانته من الأعمال ، فكانت إذا وسد إليها أمر تلتهم الأخضر واليابس ، وإذا بدا لها طمع تهزأ بالفضائل إذا لم تجلب لها السعادة التي تتصورها.

رأى المجتمع من سقوط الأخلاق في بعض أهل هذه الطبقة ما تندى الجباه من تسجيله : رأى منهم من يقول ولا يخجل أنه إذا قيل له : إن الحالة الحاضرة ستتبدل بعد عشرين سنة يفكر مذ الآن في أمر راتبه الذي يقبضه من سلك ما كان يحلم أن يحشر في جملة أهله ، ويقول أبدا : اعذروني إذا خدمت أغراض كل صاحب قوة كما يشتهي ، وإذا كنت له آلة في كل ما يحب. هو غني الجيب فقير النفس. جاهل يحشر نفسه في العلماء ، والطبيعة تضعه حيث تريد.

ومنهم من جعل رأس ماله في مصانعة ولاة الأمر مهما كانوا والتقرب إليهم بكل حيلة، لينال مظهرا يظهر به ، لاعتقاده واعتقاد كثيرين أن الشرف كل الشرف في التقرب من الحكام ، وأن كل مجد جاء من غير طريقهم لا وزن له إذا نصبت الموازين ، وهؤلاء المتصدرون أسوأ مثال لمن حولهم.

٣٢٣

يحببون إليهم الاتكال وضعة النفوس ، وكأنهم يقولون : إن سبيلهم لا غيرها هي سبيل الفلاح والتمجد ، وإن الفضائل لا شأن لها أمام المغانم. وإن العلم لا ينفع بغير تدليس ، والطريق المسلوك عندهم طريق المداجاة والمحاباة ، وإتقان المؤمرات والسعايات.

ومنهم أناس ظنوا ويا لسوء ما ظنوا ، أن السعادة مناط القحة ، والسعادة هي المال ، والمال محلل أخذه من كل وجه ، فتراهم يرتكبون كل شائن من العمل ليجمعوا مالا ويعددوه ويستمتعوا بمتع الحياة ، فهم حراص على كل ما يوصلهم إلى غايتهم ، سلاط في التسور على مقامات أهل الفضل ، يصمونهم بكل كبيرة وينبزونهم بالخفة والرعونة. جوزوا لأنفسهم السرقة ، لأنهم لا مأرب لهم في غير الإثراء ، وجمع المال جماع المزايا في نظرهم. احتقروا الشرائع فهان عليهم تبديل مذهبهم والتقرب إلى أهل كل دين وطريقة بدينهم وطريقتهم. ولو أنصفوا لعدوا لصوصا عارفين باللصوصية ، واللص يسرق خفية من طريق واحدة قد يكون فيها مكرها ليطعم نفسه وعياله ، وهذا يسرق جهرة من كل طريق ويزيد على لؤم طباعه تبجحا بالمبادئ والشرف والأمانة ، ومن الغريب أن يرى حتى من الأذكياء من يجلونه أو يغالطون أنفسهم في انحطاط أخلاقه وهم يعرفونها ، ورحم الله شاعر مصر إسماعيل صبري حيث قال :

غاض ماء الحياء من كل وجه

فغدا كالح الجوانب قفرا

وتفشى العقوق في الناس حتى

كاد رد السلام يحسب برا

أوجه مثلما نثرت على الأج

داث وردا إن هن أبدين بشرا

وشفاه يقلن أهلا ولوأدّ

ين ما في الحشا لما قلن خيرا

ومنهم أناس ورثوا عن آبائهم استحلال أكل السحت والعبث بحقوق العباد. فلما تلقفوا القشور اللازمة لهم في المدارس التي سموها بالعليا ومرنوا على النفاق والباطل ومردوا على آداب الأديان وخرجوا عن أوضاع المجتمعات ، جاءوا سراقا يسكنون القصور ، وعاشوا طول حياتهم في ذل النفوس ، يجمعون بين المنازع المختلفة في وقت واحد علما بأن أحدها لا بد أن تكتب له الغلبة ، فإذا نجح كان لهم حظ من نجاح أهله ، وإذا أثمر الآخر لم تفتهم خيراته ، جعلوا

٣٢٤

بيوتهم للخمر والقمر أندية ومسارح ، وفطموا نفوسهم إلا عن إشباعها المال الحرام. وهم بأصحاب الملاعب أشبه منهم بالمتعلمين أصحاب المراتب ، وإذا دخل الغرّ حانتهم وفيها كل مفعول جائز هان عليه انتهاك الحرمات ، وإذا عاشرهم تعلم في بؤرتهم من التزوير والتغرير ما يعاب به الحيوان فضلا عن الإنسان.

ومنهم من ورثوا التذبذب من بيوتهم وأخذوا الدس والوقيعة بالسند المتصل بآبائهم ، وكان قصاراهم أن يحرزوا مناصب تمكنهم من المتاجرة بحقوق الناس ودمائهم ، ليتأثلوا وينفقوا في السفه ما تأثلوه ، فهم لا يستنكفون عن التقرب من أصحاب الشأن بكل ما لديهم من الوسائط ، ويبسمون لعامة أصناف الناس بل ويصانعونهم على حين تلعنهم قلوبهم ، وهم موقنون أن المصانع على الجملة يعرف كذب مصانعه ، ومع هذا يمضون في طريقهم وهم لا يحبون أحدا ولا يحبهم أحد. ونزع عقيدة عرفوا بها أمس ، لتقلد غيرها اليوم ، أسهل عليهم من نزع أحذيتهم وقمصانهم. قضوا أعمارهم في نصب الحيل والمكايد ، لا يلذهم من دنياهم غيرها ، وأكبر أفراحهم يوم يغشّون ويسري في الناس غشهم ، كأن المدرسة التي تعلموا فيها لم تعلمهم غير ذلك. ولكن هي الفطرة إذا فسدت فكل خير يأتيها يكون عارضا عليها ، تنبذه ولا تسيغه.

ومنهم أناس عرفوا منذ قبضوا على زمام أعمالهم بسلب نعمة الضعيف ومحاولة التقرب من القوي نبذتهم الطبيعة أولا ، ثم عمي الدهر عنهم فبلغوا مأربهم من المراتب ، ولم تسعهم جلودهم يوم شاهدوا العز بعد الذل ، فظهروا في مظاهر من الكبرياء والعظمة ، ومن أين للسافل بأصله أن يكون فرعه عاليا. حصروا همهم في العبث بالمصالح العامة ، فلا يفكرون بغير إملاء جيوبهم ، والدهان لساداتهم مهما كانوا ، وتوفير المنافع لمن يحف من حول عروشهم ، وإن كانوا من أحط الطبقات معرفة وأخلاقا. وقد رأينا من هذه الطائفة من يغير سيرته في السنة الواحدة مرتين ، ويدخل في آن واحد في عدة أحزاب وجمعيات سرية وجهرية ، ويقسم لكل واحد منها اليمين الغموس ، معاهدا كل طائفة على الإخلاص لطائفتها وحزبها وطريقتها دون غيرها ، وهو لا يتوقع من هذه المرونة المستغربة إلا أن يكون له شأن مع كل

٣٢٥

حزب إذا كتب له الظهور ..

ومن هذه الفئة أناس لا يهنأ لهم بال إلا إذا اغتنوا ، فلما انتفخت صناديقهم بالورق والورق ، ضيقوا حتى على بنيهم وبناتهم لئلا يسرفوا في أموالهم ، فاضطروهم إلى ارتكاب كل شنعاء ، أما هم فعادوا يدعون الفاقة ، فتراهم لا ينفقون إلا ما يحفظ عليهم مظهرهم ، ويوصلهم إلى مراميهم ، كأن الدينار جعل للخزن فقط ، والسعيد من يجمعه ولو لم يستمتع به حياته ، ويخلفه لمن هم عليه أشد الأعداء ، يصرفونه في العهر والخمر والزمر والقمر. ولو أنصف هذا نفسه لأنفق بعض دخله على ما يرفع مستوى أمته ويزيل بؤسها ، وفي هذا ظهور له أيضا إن تاقت نفسه إلى الظهور.

ومنهم طائفة تصلي وتصوم ، وتلزم المساجد ودروس الوعظ ، وتتظاهر بالدين ، وتتقرب إلى حملة الشرع وأرباب الصلاح لا تفلت السبح من أيديها ، تتظاهر بأنها تذكر اسم الله في غدوها ورواحها ، وهي في باطنها من أشد الخلائق عداوة للإنسانية ، تقول بألسنتها ما ليس في قلوبها ، ولو كشفت عنها الغطاء لأيقنت أنها من الشفقة بحيث لو شاهدت صغارا يتضورون جوعا ما أطعمتهم فتات موائدها ، ولو بصرت ببائسين يرتعدون دنقا وعريا ما كستهم بلاس بلاطها ولا زودتهم حثالة مطابخها وأهرائها ، وإذا وقع لها أن أكرهت على نجدة بائس مؤوف تبجحت بما أتت ، وقامت تومئ بلسان الحال إلى أنه لولاها لانهار بناء الأمة وتداعت صروح مجدها ، وتوهم أن وجودها رحمة ، وعملها غبطة ونعمة ، ولها في نشر ما تتخيله محامد ، أساليب غريبة مضحكة.

ومنهم أناس إذا عرفتهم في العهد الماضي عرفتهم بعجمتهم التي لا غبار عليها ، وهم ما كانوا يجوزون لأنفسهم التكلم بلغتهم الأصلية ، فلما تبدلت السياسة تبدلوا لساعتهم ، وصاروا لغير ما سبب معقول حربا على من كانوا بالأمس يتمنون رضاهم ، وأخذوا أنفسهم وأبناءهم بتعلم لغة من جاءوهم ، وغيروا عاداتهم ولهجاتهم ، وأنشأوا يستخدمون كل الطرق للاحتفاظ بكراسيهم ، حتى إذا جلسوا عليها نسوا فضل المفضلين عليهم ، وقد عاهدوا أنفسهم أن يخدموا كل صاحب قوة بالصورة التي تروقه مع

٣٢٦

ذكاء فيهم وتجربة أحرزوها فهان عليهم أن يبيعوها مقابل عرض قليل ومظهر ضئيل. التجسس فيهم فطرة والإزراء بالقومية والوطنية من مألوفاتهم ما أساءوا استعمال ما ائتمنوا عليه إلا ليغتنوا بطرق عرفوها ، ويغنوا أبناءهم ولو كان في ذلك هلاك مئات من الناس.

ومنهم أناس كانوا في أخذ المال كالعلقة يمتصون الطاهر وغير الطاهر ثم يفيضون منه على القانع والمعتر ، ويطعمون الطعام ويكسون الأيتام. ومنهم من جمعوا عشرات الألوف ومئات الألوف ولا تجود أنفسهم بدانق لتعليم أطفال الفقراء وإنجاد البائسين وإكساء العراة. وإذا تصفحت جرائد الجمعيات الخيرية التي قامت في العهد الأخير لتعليم اليتامى وإغاثة المحاويج ، لا تسقط فيها إلا نادرا على أسماء بعض أرباب السعة ، بمعنى أن هذه الطبقة كانت أقل الناس في معاونتها. والطبقتان الوسطى والنازلة هما اللتان جمعتا الدرهم فوق الدرهم ، اقتطعتاه من رزق عيالها ، لتطعما به من هم أجوع منها ، وتنشل من السقطة من هم أكثر سقوطا من بنيها.

وفي هذه الديار عشرات من الأغنياء يدمجون في سلك الأعيان يعتزون بأموالهم ، ويضنون بها كل الضنانة ، اللهم إلا إذا كان في صرفها إرضاء شهواتهم ، وتوفير أنواع رفاهيتهم. وإذا أشير إليهم أن يشاركوا في المصالح الوطنية لووا وجوههم ، وهزأوا في باطنهم بهذه الأعمال التافهة ، حتى إذا حلت بهم مصيبة أخذوا يستنجدون ولا ينجدون ، ويطلقون ألسنتهم في رجال كانوا بالأمس يقدسونهم ، وأنّى للأمة أن تعرفهم أيام شقائهم ، وهم لم يتعرفوا إليها أيام سعادتهم. هذا وهم أنصار كل حكومة تسوغهم أكل حقوقها وحقوق الضعاف ، وتطلق أيديهم في ظلم الفلاحين والمغفلين ، وتعاونهم في محاكمها على فض قضاياهم بما يتفق مع رغائبهم ، وتوسد إليهم أمورها المنتجة لهم مالا وجاها.

في هؤلاء الأعيان رجل كان عنده من أدوات الزينة والتبرج ما يساوي المئات من الدنانير ، وربما كان ثمن ربطات رقبته المعمولة من الحرير لا يقل عن ألف جنيه ، لأن عددها كان ألفي ربطة معروضة في قاعة كبيرة ، وكنت إذا أردته على أن يبتاع جريدة ليقرأها شكا إليك ضيق ذات يده ،

٣٢٧

وأظهر أن القراءة مما لا تسمح له به أوقاته الثمينة ، وكان يدفن أمواله في الأرض ، حتى لا يظهر عليها الناس إذا وضعت في المصرف ، فظهر منها ألوف بعد أن أصيب بنكبة اضطرته إلى نبشها. وبلغ الشح ببعضهم أنه كان يطعم خدامه وأولاده طعاما غير ما يطعمه نفسه وزوجه ، ويدعي مع كل من يجتمع إليه أنه فقير مملق ، لا طاقة له على تحمل شيء ، فلما اضطر إلى الكشف عن دفائنه كانت ألوفا عدا ما يسلفه بالربا الممقوت أضعافا مضاعفة وعدا مزارعه وحدائقه. ومن الغريب أن يتطوع مثل هذا الرجل الذي رد إلى أرذل العمر في الجاسوسية وهو يتظاهر بالتقوى. وأكثر هؤلاء الأشحة يظهرون في العامة بمظهر المتصدقين والمحسنين ، كأن تجود نفوسهم ببعض دريهمات لبعض المستكدين على رؤوس الأشهاد ، ليقال عنهم إنهم أهل خير وصلاح. وهناك رجل كذب على قومه طول حياته الطويلة ، بنسبه وعلمه وتقواه ، فلم يعدم بين ضعاف العقول من صدقوه في دعاويه ، وعاش بمداهنة الناس وبلغ من ثقة القوم به أنه إذا حانت منية أحدهم ، يلوب على من يأتمنه على أولاده بعده ، فلا يجد غير هذا المزوّر يقيمه وصيا على عياله لما اشتهر من أمانته بين السذج في كل دور ، فلا يلبث مال الموصي أن يمزق بيد الوصي. وهكذا كان هذا الدعي بعد نصف قرن من المشار إليهم المجمع على تكريمهم ، وقد عرف أيام تولى القضاء بتبرئة المجرم وتجريم البريء. ومن العجب أنه لم يسأله أحد من أين جاء بثروته ، والعادة على الأكثر أن لا يسأل الغني عن طرق غناه بل يتمسح به ويتبرك بأنفاسه ، ولو كان لا ينزل منه عن قطمير لأحد.

ظهر كثير من العامة في حوادث وقعت بمظهر الغيراء على المصالح الوطنية ، وأبانوا عن حمية وأريحية ما كان يرجى صدور مثلهما من أرباب الطبقة العليا ، ولا ممن اعتادوا أن يجعلوا من الأديان سلما إلى درك شهواتهم ، وقام من صفوف الأميين وأهل المتربة أناس جعلوا هدفهم ما اعتقدوه حقا نافعا مخلصين في أقوالهم وأفعالهم ، معتقدين الخير فيما بذلوا أنفسهم ونفائسهم في سبيله. وتجلى النبوغ في أفراد منهم بحكم قانون الرجعة ، فأثبتوا في الشدائد بهذا الشرف المغيب أنهم ربما كانوا من سلالة عظماء أكارم. وهناك أناس ظاهرهم مهذب براق آثروا

٣٢٨

امتهان النفس في أخس الأعمال مقابل عرض ينالونه أو إقبال يتخيلونه ، فارتكبوا كل ما يورثهم عار الأبد ، فكان ظاهرهم مجملا ، وباطنهم خبثا وخديعة ، يفادون بكل ما ليس لهم فيه مصلحة ، ويداجون كل من يلقاهم بما يريد ، ولعلك على حق إذا قلت إن صيغ الكلام تضيق عن وصف أفعالهم. فهم ممن حبب إليهم من دنياهم أذى القريب لا ينامون ملء جفونهم إلا يوم يوقعون بأصحاب الشرف والمروءات.

وما لنا والإكثار من ضرب الأمثلة بفئة هي معقد الآمال في الإصلاح وهي لم تكد تحقق رجاء إلى الآن ، وليست في أخلاقها مما يرغب المرء كثيرا في تكثير سوادها ، لأن منها من تجرد من معنى الحق والصدق. ولو حللت نفوس أكثرهم تحليلا دقيقا لرأيتهم أعرف الناس بالمدخل والمخرج وأعراهم من أكثر الفضائل الكسبية واللدنية. ضعف عطفهم على جنسهم وهان عليهم أن يبيعوا وجداناتهم لمن يضمن لهم مظاهرهم. فهم أبدا سلاح الغريب على القريب ، وهم يده الباطشة وأظافره الخادشة.

ولطالما نضب حلم أرباب الحلوم من تلاعب أناس استناروا بقبس العلم الحديث ، يتهارشون على أبواب جمعية مدنية وهم في الحقيقة لا يهمهم من دعوتها إلا أن يحموا بسلطانها سلطانهم ، ويستروا في حمى كهفها معايبهم ، ومن الغريب أنه لا يكاد يرقى في درجاتها إلا من عرفوا بالاسترسال في حظوظهم ، وكانوا من الممقوتين في العرف والعادة ، هذا وقانون الجمعية شديد في التسامح مع أمثالهم ، ولكن كل قانون ينصبغ بصبغة محيطه ، وما دام المحيط على ما ترى فلا بدع إن كان بعد هذا أعظم قانون سماوي أو أرضي في حكم العدم.

ولا يفوتنك أن الطبقة الوسطى في ديارنا هي التي تتمثل فيها الأمة حقيقة لا مجازا ويكثر فيها الخير ويقلّ الشر ، وهي التي تقوم بجلب المنافع ودرء المضار ، وتعيش في خوف الديان ، وتهتم لسعادة الأوطان ، هي في الغالب محدودة بعقول أبنائها ، كثيرة بما يتم على أيديها من الخيرات باجتماعها ، وهي التي تفكر وتقدر وقد قام كثير من الأعمال النافعة بصنيعها ومن وضعها. فيهم الصبر وفيهم الأناة وفيهم الرحمة ، خسيسهم أقل من رفيعهم ، هم قوة الظهر

٣٢٩

في جيش الأمة بل في طليعته المتيقظة. السخاء مغروس في أكثرهم والمروءة والوفاء غريزتان يورثهما الآباء لأبنائهم ، وهم يبعدون عن أرباب السلطات ، دأبهم التوفر على صناعاتهم وزراعاتهم ، وقلما تحدثهم أنفسهم أن يتخذوا بديلا عن عمل عاناه آباؤهم وأجدادهم.

الأخلاق التي تعبث بالفضائل هي التي رسخت في بعض العلية من أهله. وشهد الله أن هذه الأمة لا تشكو قلة علمها بقدر ما تشكو ضعف أخلاقها ، وإذا أخذت المطامع البشعة من قلوب دعاة الإصلاح وحماة الحوزة كيف يوجه اللوم على من كان دون طبقتهم؟ ومما يسوء أن كان أقرب الناس إلى إدراك معنى الفضائل أسرعهم إلى عقوقها وانتهاك حرماتها. وإذا كانت في الطبقة الوسطى هنات لا يخلو منها إنسان فهي كالعوذة يتقى بها شر الحاسد ، ويصان بها جمال المكرمات والمحامد ، وقلما يخلو بشر من عيوب صغيرة ضررها على صاحبها وحده.

أكثر ما تعاب به هذه الأمة عصيانها على الأنظمة والشرائع لا تطبق منها إلا ما لا يمس بمصالحها الخاصة ، فإذا كان في بعضها ما يخالف الشهوات والأغراض خرجت عليها وحاربتها والمهيمنين عليها. ولذلك صعبت هنا في كل قرن مهمة المصلحين في إصلاحهم لقلة الثبات وونى الهمم. فقد يسرع بعضهم في التصديق خصوصا إذا أحسنت الدعاية بادئ بدء ولكنهم سرعان ما ينقضون العهد. ومن أضرّ ما يضر هذا الشعب أنه قلما يخضع للزعيم خضوعا حقيقيا تقرأ معانيه في حركاته وسكناته ولو كان الزعيم في الغاية من حسن الأخلاق وإرادة الخير لها. وهذه أخلاق العرب بعينها أفرطوا في حب حريتهم فحاول الصعلوك فيهم أن يكون وجيها فسارع الانحلال إلى دولهم بالطبيعة وظهر التخبط في إحرازهم الرياسات منذ فجر الإسلام.

وظلت هذه الأخلاق متسلسلة في دمائهم. وقد يريد الطامع في شيء أن تنقلب الدولة رأسا على عقب ، وتنتقل ولو إلى عدوه ، على أن يتولاها قريبه الذي لا يحبه وأن يهلك في الحمم والنيران المستعرة فريق عظيم من قومه إذا كان له من هذا الحريق ما يشوي به سمكته.

وأنت إذا حللت روح الشاميين تراهم فرادى لا يقلون كثيرا عن

٣٣٠

غيرهم من الراقين ، وإذا جئت تحللهم جماعات فهناك التفسخ في القوى والانحلال في الروابط. الشاميون إذا اجتمعوا تخالفوا عادة على الرياسة والتصدر ، وتباينوا في الفكر والاجتهاد ، لأن الذكاء غالب عليهم ، وحب الذات مستحكم في شغاف قلوبهم ، وكل واحد يريد أن ينفذ قوله ولو كان مغلطا ، وإذا لم يوافقه رفقاؤه على ما ارتأى عاداهم وربما آذاهم ، كأن الاختلاف في الاجتهاد يستلزم العداوة والسخيمة. فلا تستغرب بعد هذا إن أصيبت أكثر أعمال الجماعات عندهم بالشلل والفشل ومنها ما يموت كالجنين في بطن أمه قبل أن يتمثل بشرا سويا. وقد ينشئ غير المسلمين الجمعيات والمجامع ويحالفهم النجاح أكثر من غيرهم لأنهم على تربية متقاربة وعلى تكافل ودؤوب في الحملة. وما ندري لعل العامل في هذا النجح الضرورة التي دعا إليها تماسك الصغير أمام قوة الكبير ، على حين ترى أن هذا الكبير لا يحسن على الأغلب إلا الإدلال بقوته الموهومة والإعجاب بماضيه يقف عند حده ، ولا يعرف أن يبرهن على العظمة الغابرة بسداد أعماله الحاضرة.

ومن عيوب السواد الأعظم أن الهزل يغلب عليهم ، والجد قليل فيهم ، يحبون المداعبة والهزل واللهو ، ويسوء بعض اللئام أن يروا في قربهم من يجد. يهزأون بمن يعملون وهم لا يعملون ولا يعرفون كيف يعملون ، فسبيلهم سبيل العاطل والمعطل. ومن عيوبهم أنهم لا يصدقون صاحبهم لأن سوء الظن غالب عليهم ، هذا ولو جاءهم مستنصحا مسترشدا ، لأنهم أميل إلى المصانعة لا إلى الصدع بالحق ، وأقرب إلى أن يرضوا جليسهم ويسكتوا أمامه عن هفواته ، وربما التمسوا له في حضرته المعاذير حتى إذا غاب عن عيونهم نحتوا أثلته وعابوه بما قد لا تلزمه تبعته. ومن أجل هذا تأصلت في القوم عادات وأخلاق كان يتأتى نزعها لو كتب لها من ينقدها وينكرها غير مدالس ولا موالس. فالنعومة الظاهرة التي تشاهد في بعض الشاميين يحتاجون معها إلى شيء من الخشونة والقسوة.

كانوا في الأيام الماضية إذا أرادوا الحط من شخص سلبوه صفاته واتهموه «بالمروق من الدين» وربما أوصلوه بهذه التهمة الشنعاء إلى ضرب عنقه ، وهذا من بعض الأسباب في قلة النوابغ في القرون المتأخرة. واليوم

٣٣١

نشأ لهم زي جديد من أزياء التهمات يلبسونها من لا ترضيهم حاله ، أضافوا إلى من يحاولون النيل منهم تهمة «المروق من الوطنية» كأن الوطنية ما هم فيه من الختل والتخاذل وطلب الظهور بقاصمة الظهور. ويا لشقاء الدين والوطن كم اتجر بهما متجرون في الغابر والحاضر. ومن تدبر أحوال هذه الطائفة بأدنى نظر أدرك أن كل من يتبجحون بهذه الدعاوي هم أول من يدوس كل مقدس لبلوغ غرض حقير.

والدواء الناجع في مداواة هذه الأخلاق هو أن يكون للصغار مدارس وطنية متقنة تلقنهم العلم الصحيح والأخلاق الصحيحة والقومية الصحيحة. أما الكبار الذين اشتهروا بسوء القالة فيقاطعون ويتجهم لهم العقلاء في كل أفق ، لا يدنونهم من مجالسهم مهما بلغ من سلطانهم وجاههم ومالهم. فإن من السخف التلطف مع الأشرار في المحضر ، والتهامس في قبيح سيرتهم في المغيب. يجب أن يناقشوا الحساب ولا يؤمن لهم على خطاب و «المؤذي طبعا يقتل شرعا».

سيقول فريق ممن يقرأون هذه الصفحات : إنها أغرقت في وصف أخلاق الطبقات وفضحت ما كان مكنونا لا يعرفه إلا أرباب البصيرة ، ونحن في زمن أحوج ما نكون إلى السكوت عن المعايب حتى لا يبدو عوارنا لغيرنا ، كأن غيرنا لا يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. وكان الأولى في عرفهم أن نجامل ونجمجم ، بيد أن السكوت عن العيوب عيب كبير ، وكتمان العلة مدرجة إلى الهلكة ، والتاريخ لا يكتب على الهوى ولا يملى لإرضاء الناس. وما نخال منصفا بصيرا إلا ويعترف وهو مثلنا جدّ آسف أن ما أصاب هذه الديار من المصائب منذ عهد طويل لم يكن إلا بسوء أخلاق من تولوا من أبنائها أمرها ، وأنه من المستحيل بعد أن صرح الحق عن محضه أن تؤلف الشام كيانا يذكر وتقوم في ساحة الحضارة البشرية بعمل يشكر ، ولو أوتيت علم الجرمانيين واللاتينيين ، ورزقت غنى الإنكليز السكسونيين ، ما دامت أخلاق أهل الحل والعقد فيها لا تعالج بالتقويم ، ولا يحاول القضاء على مواطن الضعف من نفوسهم وعقولهم. الساكت عن الحق شيطان أخرس.

فصّلته لكن على عقلي فما

مقياس عقلك كان لي معروفا

٣٣٢

حياة محمد كرد علي

مؤلف خطط الشام

«ترجمته بنفسه»

أصل أسرتنا من السليمانية تنسب إلى الأكراد الأيوبية ، جاء جدي إلى دمشق في التجارة وكان من أهل اليسار فراقته وسكن فيها. ثم ذهب في بعض السنين إلى الحجاز متجرا ، واتفق له أن انتقد ذات يوم عملا من أعمال محافظ الحج ، وكان ظالما جبارا ، فشق ذلك عليه ، وأمر بمصادرته في كل ما يملك ، فاضطر أن يذهب إلى الاستانة مستعديا. وما زال يعمل الوسائط حتى اجتمع بالسلطان ، واقترح عليه هذا أن يصرف النظر عن دعواه على محافظ الحج ، ويأخذ مقابل ماله قريتين في الشام إقطاعا له ولأولاده من بعده ، فأبى وقال للسلطان : ما جئت لآخذ صدقة بل جئت أطلب عدلا وإنصافا. وهكذا رجع إلى دمشق مجردا من ثروته وهلك قهرا بعد قليل. وخلف والدي يتيما فقيرا فاشتغل لأول أمره في صناعة الخياطة ثم بالتجارة ، فأثرى مرات وخسر مرات ، وابتاع في آخر أمره مزرعة صغيرة في الغوطة تمززتها أنا وإخوتي منذ كنا صغارا وإلى الآن.

ولدت في دمشق أواخر صفر سنة (١٢٩٣ ه‍) (١٨٧٦ م) ، من أم شركسية ، ولما بلغت السادسة في العمر أخذت بتلقي القراءة والكتابة ومبادئ العلوم الإسلامية والحساب والطبيعيات في مدرسة كافل سيباي الأميرية ، ونلت شهادتها من الدرجة الأولى. ثم دخلت المكتب الرشدي العسكري فدرست مبادئ التركية ، وكانت دروس الإفرنسية ناقصة فأتاني والدي بمعلم إلى الدار أخذت عنه نحو هذه اللغة وصرفها على الأصول مدة ثلاث سنين ،

٣٣٣

وبرعت بالترجمة من الإفرنسية إلى العربية وبالعكس. ولما أحرزت شهادة المدرسة الرشدية من درجة متوسطة ، لأني لم أتمكن على ما يجب من الرياضيات لإصابتي بالحسر وضعف البصر ـ بحيث لم أكد أتبين عن بعد ما يرسم الأستاذ من أشكالها وخطوطها في اللوحة ، ففاتني التبحر فيها مع الأسف ـ عينت مدة ست سنين موظفا في قلم الأمور الأجنبية ، فأخذت في خلالها أتقن آداب التركية. وشرعت أنشئ فيها كما أنشئ بالإفرنسية ، وقد اختلفت حولين كاملين إلى مدرسة اللعازاريين للاضطلاع بآداب اللغة الإفرنسية ، ودرست الطبيعيات ودروس الكيمياء بهذه اللغة لأزيد تمكنا منها.

وقد اقتطعت مع ذلك جانبا من الوقت لدرس الآداب العربية والعلوم الإسلامية ، وتلقيت اللغة الفارسية حتى حذقتها ثم أنسيتها. وفي خلال تلك المدة اتصلت بالأساتذة الشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد المبارك والشيخ سليم البخاري وأخذت عنهم وعن غيرهم من مشايخ الطبقة الثانية كل ما وسعتني قراءته ، من كتب اللغة والأدب والبيان والاجتماع والتاريخ والفقه والتفسير والفلسفة. وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي ، والإقدام على التأليف والنشر ، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثارهم ، والحرص على تراث حضارتهم ، أستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري ، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة (١٣٣٨ ه‍) حميد الأثر. وكنت بدأت بنظم الشعر فنهاني عن تعاطيه أستاذي المبارك ، وأرادني على إتقان الإنشاء فقط ، وما ينبغي له من الأدوات ، لئلا يشغلني الشعر بلذته عن طلب العلم. فصدعت بأمره ، كما كنت قبلت نصيحة والدي ، وأنا يافع ، بترك الإنشاد بصوت رخيم. لأن ذلك كان يعدّ في نظره شيئا وضيعا كما روى ذلك عن شيخه. وهكذا حرمني والدي الموسيقى ، وحرمني شيخي الشعر. ولو لا نصيحتهما لعنيت بهذين الفنين ، وكانا لي سلوى وأي سلوى. ولكن أستاذي المبارك خرجني باللغة والإنشاء. ووالدي ، وكان عاميا يقرب من الأمية ، أنفق عن سعة ليعلمني. فكان مدة سنين يدر الرواتب على أساتذتي ، وقد ابتاع لي خزانة كتب كانت تعد في ذلك العهد شيئا في بلدتي.

٣٣٤

وأهم ما أولعت بمطالعته ـ بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه ـ كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع ، وأصول الشعوب ومدنياتهم. وطالعت بالإفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر وفوليه وتين ورنان وسيمون وبوتمي ولافيس وهانوتو وبوترو ولوبون وبرونتيروبثي دي جولفيل ولمتر وسانت بوف ، وتدارست المجلات الفلسفية الاجتماعية والتاريخية والأدبية باللغة الفرنجية.

وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر ، وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب ، وقلما دوّنت موضوعا لم أدرسه في الجملة ولم تتشربه نفسي. وعهد إليّ سنة (١٣١٥ ه‍). بتحرير جريدة «الشام» الأسبوعية فحررتها ثلاث سنين كانت مدرستي الأولى في الصحافة. وساعدتني فيها معرفة التركية والإفرنسية. ثم دعيت إلى. المؤازرة في مجلة المقتطف المصرية أكبر مجلاتنا العربية. فنشرت فيها أبحاثا جمة في التاريخ والاجتماع والأدب مدة خمس سنين فبدأت لي شهرة في عالم الأدب العربي لمنزلة هذه المجلة إذ ذاك بين أبناء اللغة العربية ، وكثرة من تقع تحت أنظارهم من العلماء والأدباء والباحثين. وفي عام (١٩٠١ م) هبطت مصر للسياحة بقصد الذهاب إلى باريز للدرس ، فعرض عليّ صاحب جريدة «الرائد المصري» نصف الأسبوعية أن أحرر في جريدته ، فلبيت الطلب متكارها ، إذ كانت عاقتني عن العودة إلى الشام أمور قام بها المشاغبون المتجسسة في دمشق. واتهموني تشفيا بأمور هي من المحرمات في عرف الحكومة العثمانية ، ثم رجعت إلى الشام بعد عشرة أشهر. ومن أعظم ما استفدته من رحلتي هذه الأخذ عن عالم الإسلام والإصلاح الشيخ محمد عبده وحضور مجالسه الخاصة والعامة.

وفي شتاء سنة (١٣٢٣) فتشت الحكومة العثمانية داري في دمشق بحجة أنه علقت مناشير في شوارع البلدة مكتوبة بلغة سلسة ، وفيها مطاعن في أحد الأعيان والوالي ، ومثل هذه العبارة وهذه الأفكار لا يحسنها ولا يعرفها غيري! فظهر للحكومة افتراء المفترين واكتفت بأن شردتني أياما عن داري. وفي هذه الوقعة نظم صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان قصيدة ارتجالية يداعبني بها ، ويصف ما حل بي مجسما قال سامحه الله :

٣٣٥

ألا قل لمن في الدجى لم ينم

طلاب المعالي سمير الألم

ومن أرّقته دواعي الهوى

فدون الذي أرقته الحكم

فكم في الزوايا تخبى فتى

طريد الكتاب شريد القلم

يرى الأرض ضيقا كشق اليراع

ويهوى على ذا الوجود العدم

وكم ذا بجسرين من ليلة

على مثل جمر الغضا في الضرم

تمنى الأديب بها ندحة

ولو بات يرعى هناك الغنم

وكم سروة تحت جنح الظلام

كسرّ بصدر الأريب انكتم

يخاف بها حركات الغصون

ويخشى النسيم إذا ما نسم

وإن تشد ورقاء في أيكة

تؤرقه في صوتها والنغم

وكم بات للنجم يرعى إذا

أديم السما بالنجوم اتسم

وطال به الليل حتى غدا

يظن عمود الصباح انحطم

ومن ذعره خال أن النجوم

لتهدي إلى مسكه عن أمم

إذا ما السماك بدا رامحا

توهمه نحوه قد هجم

ولو لا الدجى لم يتم النجا

وقد أمكن الظلم لو لا الظلم

ولله در القرى إذ خفته

فما بالسهولة يخفى العلم

«فجسرين» «زبدين» و «الأشعريّ»

ديار بها قد أوى واعتصم

ونحو «المليحة» رام الخفا

وكم بالمليحة من متهم

ديار أبى أهلها غدره

وآواه فيها الوفا والكرم

ولا شك رقوا لأحواله

طريدا يعاني الجوى والسقم

ليالي كانون في الأربعين

وبرد العشيات أغلى الفحم

بأرض تراها سماء وماء

ففوق السوافي وتحت الديم

يجول وقد صار مثل الخيال

ودقّ فلو لاح لم يقتحم

وفوق الخدود كلون البهار

وتحت المآقي كلون العتم

وفي كل يوم سؤال وبحث

وأنّى تولى وكيف انهزم

وقد كان في كبسهم بيته

بجلق قال وقيل عمم

فكانت على كتبه غارة

كغارات عرب «الصفا» بالنّعم

وقالوا سينفى إلى «رودس»

وقالوا سيجزى بما قد جرم

٣٣٦

وقالوا سيحمله أدهم

بمرقاه لا تستريح القدم

وقد قيل «فزان» من دونه

وتلك السموم وتلك الحمم

وبعض بسجن عليه قضى

وبعض بضرب عليه حكم

و «كرد علي» غدا عبرة

ففات ومنه الرجاء انصرم

فيا كرد لا تحزننك الخطوب

فإن الهموم بقدر الهمم

ومن رام أن يتعاطى البيان

توقّع أن يبتلى بالنقم

فذي حرفة القول حرّيفة

وكم أدركت من لبيب وكم

وكم نكتة أعقبت نكبة

وكم من كلام لقلب كلم

ومن بالكتابة أبدى هوى

فإن الكآبة منها القسم

فيا كرد صبرا على محنة

فكم محنة شيبت من لمم

وصبرا على ورقات لها

عيون المعاني يبكّين دم

وواها لباقات زهر غدوت

لها جامعا يا أخي من قدم

أزاهر تسهر في جمعها

فلا غرو إن فاح عرف فنم

وما نمّ إلا بنشر ذكي

وطيب يفوق عرار الأكم

فقولوا لواش بكرد علي

نشرت الثنا حين حاولت ذم الخ

كان التضييق عليّ في الشام يزيد كلما استفاضت شهرتي ، والشهرة حقيقة كانت على صاحبها آفة في الدور الحميدي ، فرأيت بعد طول التأمل أن المقام فيه عبثا ، فأخذت بالاستعداد للهجرة إلى مصر لأصدر مجلة المقتبس ، فأصدرتها في أول سنة (١٣٢٤ ه‍) ، وتوليت معها رئاسة تحرير جريدة الظاهر اليومية ، وبعد سنة عينت أمين سر تحرير جريدة المؤيد. والجرائد الثلاث التي توليتها في مصر هي «الرائد المصري» و «الظاهر» و «المؤيد» وكانت من الصحف التي تصدع بالوطنية المصرية ، وتنتقد سياسة المحتلين ، ولذلك كثر أصدقائي من الوطنيين المصريين ، فعددت بهم مصر وطني الثاني ، وكادوا هم يعدونني منهم. وقد آزرت في مجلة «العالم الإسلامي الباريزية» التي ما زالت تصدر في باريز باللغة الإفرنسية إلى عهد قريب. حتى إذا حدث الانقلاب العثماني (١٩٠٨ م) رجعت إلى دمشق وأصدرت في ١٧ كانون الأول

٣٣٧

(١٩٠٨) جريدة المقتبس يومية سياسية ، بعد أن صدر المقتبس ثلاث سنين في القاهرة مجلة شهرية علمية ، وعدت إلى إصدار المجلة أيضا.

وكان المقتبس السياسي معتدلا بلهجته ، وطنيا بمسلكه ، ينتقد ما يمكنه نقده من مواطن الخلل في الإدارة العثمانية ، وما رمى إلى الانفصال عن الترك قط ، بل كان يرمي الى استحصال حقوق العرب ضمن الجامعة العثمانية الكبرى ، فلم يرق هذا أيضا بعض رجال الدور الحميدي ، وأخذوا يقاومون المقتبس وصاحبه ، ويقيمون عليه الدعاوي المزورة ، يصدرها الظالمون المرتشون من الموظفين ، ممن دأبنا على الكيد لهم ، والعمل على تنحيتهم ، حتى جاء زمن وعلى المقتبس عشرات من الدعاوي ، يطلب فيها أصحابها جزاء المفتري على الأكثر ، لأنهم أبرياء بزعمهم مما نسب إليهم. ومن أغرب دعوى الوالي الحميدي عليّ في السنة الأولى اتهامه إياي بالارتجاع ، أي إرجاع عهد عبد الحميد الاستبدادي ، وهو الدور الذي بكيت من أهواله ، وقد هجرت الأهل والوطن فرارا من كابوسه ، ولكن أعمالي في خدمة الحرية سنين طويلة ، كذبته وأشياعه من الحميديين الاتحاديين. وقد اضطررت في هذه الدعوى إلى مغادرة الشام ، فركبت البحر إلى فرنسا ، وأخذ الوالي يهدد القضاة بالعزل إذا لم يحكموا عليّ بالجناية ، وصرفت الوقت في باريز أدرس مدنيتها وأستفيد من لقاء علمائها وساستها ، ووقفت وقوفا حسنا على حركتها العلمية والسياسية ، وذلك بواسطة جماعة من أصدقائي علماء المشرقيات ، عرفوني إلى الطبقة العليا التي أردت التعرف إليها في عاصمة الفرنسيس ، وفي مقدمتهم فيلسوف فرنسا المرحوم إميل بوترو. وقد سألته أن يكتب لي جريدة بأمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية ، فتفضل وكتب لي ما أردت ، فابتعته وطالعته كله مطالعة درس ، ولا أزال إلى اليوم أجعل تلك المجموعة المختارة سلوتي في خلوتي وجلوتي.

كتبت خمسا وثلاثين مقالة ومحاضرة في وصف سياحتي ، ولا سيما في وصف عاصمة فرنسا ، وطبعت هذه المقالات في كتاب سميته «غرائب الغرب» وما كان في الحقيقة إلا غرائب باريز ليس إلا. وبعد أن أقمت ثلاثة أشهر في «كارتيه لاتين» بباريز عدت إلى الاستانة عن طريق قينا

٣٣٨

مبرأ مما نسب إليّ. وفي سنة (١٩١٢) أقام نفس الوالي الحميدي دعوى على المقتبس وقبض على مديره المسؤول المرحوم أخي أحمد ، وأخذ عالما من علماء المدينة اسمه الشيخ إبراهيم الأسكوبي ، وأرسلهما إلى الاستانة فسجنا مدة ، وذلك بتهمة أن المقتبس نشر قصيدة لهذا العالم تمس الآل السلطاني. والحقيقة أنها تأوهات ونصائح ، وكانت نشرت في جريدة من جرائد الشام قبل أن تنتشر في المقتبس بعشرين يوما. أما أنا فتمكنت من الفرار كالمرة الأولى ، وهبطت مصر عن طريق البر مع تجار الجمال. فدخلت الإسماعيلية بعد سير أربعة عشر يوما ، قطعت فيها الشام من الوسط إلى أقصى تخومها الجنوبية. ثم برئت مما نسب إليّ كالمرة الأولى ، وعدت إلى دمشق بعد ستة أشهر ، وعاد المقتبس إلى الصدور. إلا أن الوالي كان تمكن من إجبار أحد إخوتي على بيع مطبعتنا ، فأباعها بثمن بخس ، فأضيفت الخسارة بها إلى ما خسرناه في إغلاق صحيفتنا السياسية مرتين. ولم يعوض علينا أحد شيئا مما خسرناه.

واكتفى المقتبس إلى ذاك الحين باشتراكاته وإعلاناته ومطبوعاته فقط. وقد استقبلت يوم عودتي إلى دمشق كما يستقبل العظماء ، فضحكت من تبدل الرأي العام ، وبالغ بعض من استقبلوني بالحفاوة ، وهم يزيدون على ألفين ، كانوا يوم وقعت في الدعوى ينكرون عملي في انتقاد الحكومة ، ومن قبل كانوا يصفقون ويستحسنون ، وينحنون ويدعون ، فلم أدر وجها لرضاهم ولا لغضبهم ، فكتبت إلى صديقي المرحوم العلامة رفيق بك العظم أقول له : إن القوم لاقوني في دمشق في هذه المرة كما يلاقون الملوك. فلم أفرح لهذا الإقبال ، ولا ساءني ذاك الإدبار ، وعجبت لجنون من ينخدع بالجماعات الذين لا يثبتون بحال على أفكارهم.

وفي سنة (١٩١٣) زرت إيطاليا وسويسرا وفرنسا والمجر والاستانة ، وكتبت ٣٣ مقالة في وصف مدنية تلك الممالك. وكان الداعي إلى هذه الرحلة الثانية البحث عن المخطوطات التاريخية التي نقل عنها بالتصوير الشمسي صورا ، الأمير ليوني كايتاني من علماء إيطاليا وعظمائها. وقبل نشوب الحرب العامة ببضعة أشهر وقف والي دمشق المقتبس ، بدعوى أنه نشر عبارة في كشف الحجاب ، وهي منقولة عن الصحف التركية ، والحقيقة أن المقتبس

٣٣٩

كان توفر على كشف حجاب الاتحاديين ، وأصلاهم حربا عوانا هو وأنصاره من رجال البلاد وحملة الأقلام فيها ، فأخذوا يخلقون له هذه التهم أو يكفّ عنهم. ولطالما تقاضوه ذلك ، وله أن يتحكم في مطالبه الخاصة ما شاء فأبى ، وربما كان رده لهم غير جميل لا يخلو من بعض خشونة ، ثم ورد الأمر من نظارة الداخلية بعود المقتبس إلى الصدور ، فأبيت إصداره ، لما رأيت من الحيف والغرض وتربص الاتحاديين الدوائر به وبصاحبه ، وكانوا الحاكمين المتحكمين في السلطنة العثمانية بلا منازع. وألح أرباب الشأن بإعادة المقتبس إلى الصدور ، فكان جوابي أنني زهدت في هذه الصناعة صناعة الصحافة ، ما دامت أحكامهم غاشمة ظالمة. إلا أن الحكومة بقيت تحاذرني مدة أشهر. وأقامت شرطيا أمام داري يكتب كل يوم أسماء من يدخل عليّ من أرباب الطبقات المختلفة ، حتى إذا خرجت إلى منتزه أو زيارة أحد يتبعني الجواسيس حيث سرت. أما كتبي وجرائدي وبرقياتي فإنها كانت تراقب أشد مراقبة ، بل أضحكها وأبكاها.

وبينا كان حالي كذلك أعلنت الحكومة العثمانية النفير العام ، وجاء الشام وال عاقل عادل اسمه خلوصي بك فنشأت بيني وبينه صداقة ، ولا سيما عقب أن ظهر من تفتيش أوراق قنصل فرنسا أنني كنت دائما إلى جانب خدمة العرب ، ولم أمل إلى الخروج على الترك ، ولا أسففت إلى خدمة غيرهم ، مع أني أردت على ذلك مرات ، وأغلوا لي الثمن والجعالة ، فاحتقرت كل نفيس في سبيل خدمة المصلحة العامة ، وهذا سر نجاتي من مخالب قتلة الاتحاديين الذين لم يراعوا عظيما ولا غيره في الحرب ، وصلبوا من صلبوا على أعواد المشانق بلا رحمة في مدن دمشق وبيروت وحلب.

أرادني خلوصي بك ست مرات على إصدار المقتبس وأنا أحاوله وأطاوله ، ولكن قنصل ألمانيا كان يلح على الحكومة المحلية بإقناعي لإصداره ، لما أيقن من تأثيره في أفكار الشاميين بل في بلاد العرب ، فصحت بعد حين عزيمتي على إصداره ، خصوصا بعد أن أوحى إليّ أحد خلص أصدقائي ، بأن القوم يتربصون بي الشر إذا لم أجبهم إلى إصدار المقتبس ، ولم أخدم الحكومة في تلك الحالة الحرجة. وأنني إذا ظللت على إبائي يخشى أن يحاسبوني

٣٤٠