تعالى لا يعلم غيره؟ ومن أيّ جهة يجب أن يقال : إنّه عالم بجميع الموجودات؟ فنقول : قال أبو الوليد محمّد بن رشد الأندلسي في كتاب جامع الفلسفة (١) ـ بعد ذكر المبادئ المفارقة ووجوب انتهائها إلى مبدأ أوّل ، وأنّ كلاّ عاقل لذاته ـ : فلينظر هل يمكن في واحد واحد منها أن يعقل شيئا خارجا من ذاته ، أم لا؟ فنقول : إنّه قد تبيّن في كتاب النفس أنّ المعقول كمال العاقل وصورته ، فمتى أنزلنا واحدا منها يعقل غيره ، فإنّما يعقله على أنّه يستكمل به ، فذلك الغير مقدّم عليه وسبب في وجوده ، فمن البيّن أنّه ليس يمكن أن يتصوّر العلّة منها معلولها ، وإلاّ أمكن أن يعود العلّة معلولة ويستكمل الأشرف بالأقلّ شرفا ، وذلك محال.
ومن هنا يظهر ـ كلّ الظهور ـ أنّه إن وضع لها مبدأ أوّل ليس بمعلول لشيء ـ على ما تبيّن فيما سلف أنّه لا يتصوّر إلاّ ذاته وليس يتصوّر معلولاته وليس هذا شيئا يخصّ المبدأ الأوّل منها ، بل ذلك شيء يعمّ جميعها حتّى عقول الأجرام السماويّة ـ فإنّا لا نرى أنّها تتصوّر الأشياء التي دونها فإنّه لو كان كذلك لاستكمل الأشرف بالأخسّ ، وإذا كان الأمر على هذا ، فكلّ واحد من هذه المبادئ وإن كان واحدا ـ بمعنى أنّ العاقل والمعقول فيه واحد ـ فهي في ذلك متفاضلة ، وأحقّها بالوحدانيّة هو الأوّل البسيط ثمّ الذي يليه.
وبالجملة ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أكثر ، فهو أقلّ بساطة وفيه كثرة ما وبالعكس ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أقلّ فهو أكثر بساطة ، حتّى أنّ البسيط الأوّل بالتحقيق إنّما هو الذي لا يحتاج في تصوّر ذاته إلى شيء من خارج.
فهذا هو الذي أدّى إليه القول من أمر تصوّر هذه المبادئ إلاّ أنّه قد يلحق ذلك شناعات كثيرة إحداها أن تكون هذه المبادئ جاهلة بالأشياء التي هي لها مبادئ ،
__________________
(١) في النسخ : « الفلاسفة » وما أثبتناه من « شوارق الإلهام ».