الآية. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، أي : لمن عصاه ، وهذا هو الموجب للتقوى ، فإن من خاف عقاب الله ، انكف عما يوجب العقاب ، كما أن من رجا ثواب الله ، عمل لما يوصله إلى الثواب ، ومن لم يخف العقاب ، ولم يرج الثواب ، اقتحم المحارم ، وتجرأ على ترك الواجبات.
[١٩٧] يخبر تعالى أن (الْحَجُ) واقع في (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) عند المخاطبين ، مشهورات ، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص ، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره ، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس. وأما الحج ، فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته ، معروفة بينهم. والمراد بالأشهر المعلومات عند الجمهور : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) ، أي : أحرم به ، لأن الشروع فيه يصيره فرضا ، ولو كان نفلا. واستدل بهذه الآية ، الشافعي ومن تابعه على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ، قلت : لو قيل : فيها دلالة لقول الجمهور بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا ، فإن قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة ، وقد لا يقع فيها ، وإلا لم يقيده. وقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ، أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وخصوصا الواقع في أشهره ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو : الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصا عند النساء بحضرتهن. والفسوق ، وهو : جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام. والجدال ، وهو : المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لكونها تثير الشر ، وتوقع العداوة. والمقصود من الحج : الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات ، والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه بذلك ، يكون مبرورا ، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء ، وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان ، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، ولهذا قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) ، أتى ب «من» للتنصيص على العموم ، فكل خير وقربة وعبادة ، داخل في ذلك ، أي : فإن الله به عليم ، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير ، خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنفية ، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها ، من صلاة وصيام وصدقة وطواف وإحسان قولي وفعلي. ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين ، والكف عن أموالهم ، سؤالا واستشرافا ، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين ، وزيادة قربة لرب العالمين ، وهذا الزاد المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاعا. وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه ، في دنياه وأخراه ، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة ، وأجلّ نعيم دائما أبدا ، ومن ترك هذا الزاد ، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر ، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين ، فهذا مدح للتقوى. ثم أمر بها أولي الألباب فقال : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ، أي : يا أهل العقول الرزينة ، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ، وتركها دليل على الجهل ، وفساد الرأي.
[١٩٨] (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ، لما أمر تعالى بالتقوى ، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج ، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله ، لا منسوبا إلى حذق العبد ، والوقوف مع السبب ، ونسيان المسبب ، فإن هذا هو الحرج بعينه. وفي قوله : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) دلالة على أمور : أحدها : الوقوف بعرفة ، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج ، فالإفاضة من عرفات ، لا تكون إلا بعد الوقوف. الثاني : الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ، وهو المزدلفة ، وذلك أيضا معروف ، يكون ليلة النحر بائتا بها ، وبعد صلاة الفجر ، يقف في المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا ، ويدخل في ذكر الله عنده ، إيقاع الفرائض والنوافل فيه. الثالث : أن الوقوف بمزدلفة ، متأخر عن الوقوف بعرفة ، كما تدل عليه الفاء والترتيب. الرابع والخامس : أن عرفات ومزدلفة كلاهما من مشاعر الحج