الجميلة ، فإن الصدق دعوى عظيمة في كلّ شيء يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان. وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة ، والفوز الأبدي ، والفلاح السرمدي ، فمن ادعاه وقام بواجباته ولوازمه ، فهو الصادق المؤمن حقا ، ومن لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه ، وليس لدعواه فائدة ، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى.
[١٦] فإثباته ونفيه من باب تعليم الله بما في القلب ، وهو سوء أدب ، وظن بالله ، ولهذا قال : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦) وهذا شامل للأشياء كله ، الّتي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران ، والبر والفجور ، فإنه تعالى يعلم ذلك كله ، ويجازي عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. هذه حالة من أحوال من ادّعى لنفسه الإيمان ، وليس به ، فإنه إما أن يكون ذلك تعليما ، وقد علم أنه عالم بكل شيء ، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنّة على رسوله ، وأنهم قد بذلوا وتبرعوا بما ليس من مصالحهم ، بل هو من حظوظه الدنيوية ، وهذا تجمّل بما لا يجمل ، وفخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله ، فإن المنة لله تعالى عليهم.
[١٧] فكما أنه تعالى هو المانّ عليهم بالخلق والرزق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام ، ومنته عليهم بالإيمان ، أفضل من كلّ شيء ، ولهذا قال : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧).
[١٨] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : الأمور الخفية فيها ، الّتي تخفى على الخلق ، كالذي في لجج البحار ، ومهامه القفار ، وما جنّه الليل أو واراه النهار ، يعلم قطرات الأمطار ، وحبّات الرمال ، ومكنونات الصدور ، وخبايا الأمور. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ، يحصي عليكم أعمالكم ، ويوفيكم إياها ، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة ، وحكمته البالغة. تم تفسير سورة الحجرات بعون الله ومنّه وجوده وكرمه ، والحمد لله.
تفسير سورة ق
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
[١] يقسم تعالى بالقرآن المجيد ، أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه كثير البركات ، جزيل المبرات ، والمجد : سعة الأوصاف وعظمتها. وأحق كلام يوصف بذلك ، هذا القرآن ، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين ، الذي حوى من الفصاحة أكملها ، ومن الألفاظ أجزلها ، ومن المعاني أعمها وأحسنها ، وهذا موجب