النّعم ، من ربوبيته ، وإيجابها للشكر ، من ألوهيته. (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) تقرير لربوبيته. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير أنه المستحق للعبادة وحده ، لا شريك له. ثم صرّح بالأمر بعبادته فقال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : كيف تصرفون عن عبادته ، وحده لا شريك له ، بعد ما أبان لكم الدليل ، وأنار لكم السبيل؟
[٦٣] (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦٣) أي : عقوبة على جحدهم لآيات الله ، وتعديهم على رسله ، صرفوا عن التوحيد والإخلاص كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧).
[٦٤] (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي : قارة ساكنة ، مهيأة لكل مصالحكم ، تتمكنون من حرثها وغرسها ، والبناء عليها ، والسفر ، والإقامة فيها. (وَالسَّماءَ بِناءً) سقفا للأرض ، التي أنتم فيها ، قد جعل الله فيها ما تنتفعون به من الأنوار والعلامات ، التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فليس في جنس الحيوانات ، أحسن صورة من بني آدم. كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤). وإذا أردت أن تعرف حسن الآدمي وكمال حكمة الله تعالى فيه ، فانظر إليه ، عضوا عضوا ، هل تجد عضوا من أعضائه ، يليق به ويصلح أن يكون في غير محله؟ وانظر أيضا ، إلى الميل الذي في القلوب ، بعضهم لبعض ، هل تجد ذلك في غير الآدميين؟ وانظر إلى ما خصه الله به من العقل والإيمان ، والمحبة والمعرفة ، التي هي أحسن الأخلاق المناسبة لأجمل الصور. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) وهذا شامل لكل طيب ، من مأكل ، ومشرب ، ومنكح ، وملبس ، ومنظر ، ومسمع وغير ذلك ، من الطيبات التي يسرها الله لعباده ، ويسر لهم أسبابها. ومنعهم من الخبائث ، التي تضادها ، وتضر أبدانهم ، وقلوبهم وأديانهم. (ذلِكُمُ) الذي دبر الأمور ، وأنعم عليكم بهذه النعم (اللهُ رَبُّكُمْ). (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : تعاظم ، وكثر خيره وإحسانه ، المربي جميع العالمين بنعمه.
[٦٥] (هُوَ الْحَيُ) الذي له الحياة الكاملة التامة ، المستلزمة لما تستلزمه من صفاته الذاتية ، التي لا تتم حياته إلا بها ، كالسمع ، والبصر ، والقدرة ، والعلم ، والكلام ، وغير ذلك ، من صفات كماله ، ونعوت جلاله. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق ، إلا وجهه الكريم. (فَادْعُوهُ) وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل ، وجه الله تعالى. فإن الإخلاص ، هو المأمور به كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ). (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) أي : جميع المحامد والمدائح والثناء ، بالقول كنطق الخلق بذكره. والفعل ، كعبادتهم له ، كل ذلك لله تعالى وحده لا شريك له ، لكماله في أوصافه وأفعاله ، وتمام نعمه.
[٦٦] لما ذكر الأمر بإخلاص العبادة لله وحده ، وذكر الأدلة على ذلك والبينات ، صرح بالنهي عن عبادة ما سواه فقال : (قُلْ) يا أيها النبي (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان والأصنام ، وكل ما عبد من دون الله. ولست على شك من أمري ، بل على يقين وبصيرة ، ولهذا قال : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بقلبي ولساني ، وجوارحي ، بحيث تكون منقادة لطاعته ، مستسلمة لأمره ، وهذا أعظم مأمور به ، على الإطلاق. كما أن النهي عن عبادة ما سواه ، أعظم منهيّ عنه ، على الإطلاق. ثم قرر هذا التوحيد ، بأنه الخالق لكم ، والمطور لخلقتكم.
[٦٧] فكما خلقكم وحده ، فاعبدوه وحده فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) وذلك بخلقه لأصلكم وأبيكم ، آدم ، عليهالسلام. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وهذا ابتداء خلق سائر النوع الإنساني ، ما دام في بطن أمه. فنبه بالابتداء ، على بقية الأطوار ، من العلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، فنفخ الروح. (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَ) هكذا تنتقلون في الخلقة الإلهية. (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) من قوة العقل والبدن ، وجميع قواه الظاهرة والباطنة. (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) بلوغ الأشد (وَلِتَبْلُغُوا) بهذه الأطوار المقدرة (أَجَلاً مُسَمًّى) تنتهي عنده أعماركم. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أحوالكم ، فتعلمون أن المطور لكم في هذه الأطوار ، كامل الاقتدار ، وأنه الذي