لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) قد أخبرت بها الرسل ، الذين هم أصدق الخلق. ونطقت بها الكتب السماوية ، التي جميع أخبارها أعلى مراتب الصدق ، وقامت عليها ، الشواهد المرئية ، والآيات الأفقية. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) مع هذه الأمور ، التي توجب كمال التصديق والإذعان.
[٦٠] هذا من لطفه بعباده ، ونعمته العظيمة ، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. وأمرهم بدعائه ، دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، ووعدهم أن يستجيب لهم. وتوعد من استكبر عنها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي : ذليلين حقيرين ، يجتمع عليهم العذاب والإهانة ، جزاء على استكبارهم.
[٦١] تدبر هذه الآيات الكريمات ، الدالة على سعة رحمة الله ، وجزيل فضله ، ووجوب شكره ، وكمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، وسعة ملكه ، وعموم خلقه لجميع الأشياء ، وكمال حياته ، واتصافه بالحمد على كل ما اتصف به ، من الصفات الكاملة ، وما فعله من الأفعال الحسنة. وتمام ربوبيته ، وانفراده فيها وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي الأوقات وحاضرها ، ومستقبلها ، بيد الله تعالى ، ليس لأحد من الأمر شيء ، ولا من القدرة شيء. فينتج من ذلك ، أنه تعالى المألوه المعبود وحده ، الذي لا يستحق أحد غيره ، من العبودية شيئا ، كما لم يستحق من الربوبية شيئا. وينتج من ذلك ، امتلاء القلوب بمعرفة الله تعالى ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه. وهذان الأمران ـ وهما معرفته وعبادته ـ هما اللذان خلق الله الخلق لأجلهما. وهما الغاية المقصودة منه تعالى لعباده. وهما الموصلان إلى كل خير وفلاح وصلاح ، وسعادة دنيوية وأخروية. وهما أشرف عطايا الكريم لعباده. وهما أشرف اللذات على الإطلاق. وهما اللذان إن فاتا ، فات كل خير ، وحضر كل شر. فنسأله تعالى أن يملأ قلوبنا بمعرفته ومحبته ، وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة ، خالصة لوجهه ، تابعة لأمره ، إنه لا يتعاظمه سؤال ، ولا يحفه نوال. فقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) أي : لأجلكم جعل الله الليل مظلما. (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) من حركاتكم ، التي لو استمرت لضرت ، فتأوون إلى فرشكم ، ويلقي الله عليكم النوم ، الذي يستريح به القلب والبدن وهو من ضروريات الآدمي لا يعيش بدونه. ويسكن فيه أيضا ، كل حبيب إلى حبيبه ، ويجتمع الفكر ، وتقل الشواغل. (وَ) جعل تعالى (النَّهارَ مُبْصِراً) منيرا بالشمس المستمرة في الفلك. فتقومون من فرشكم إلى أشغالكم الدينية والدنيوية. هذا لذكره وقراءته ، وهذا لصلاته ، وهذا لطلبه العلم ودراسته ، وهذا لبيعه وشرائه. وهذا لبنائه أو حدادته ، أو نحوها من الصناعات. وهذا لسفره برا وبحرا ، وهذا لفلاحته ، وهذا لتصليح حيواناته. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) أي : عظيم ، كما يدل عليه التنكير (عَلَى النَّاسِ). حيث أنعم عليهم بهذه النّعم وغيرها ، وصرف عنهم النقم ، وهذا يوجب عليهم ، تمام شكره وذكره. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) بسبب جهلهم وظلمهم. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الذين يقرون بنعمة ربهم ، ويخضعون لله ، ويحبونه ، ويصرفونها في طاعة مولاهم ورضاه.
[٦٢] (ذلِكُمُ) الذي فعل ما فعل (اللهُ رَبُّكُمْ) أي : المنفرد بالإلهية ، والمنفرد بالربوبية. لأن انفراده بهذه