عادٍ) ، أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له ، اضطرار ، (فَلا إِثْمَ) ، أي : جناح وذنب (عَلَيْهِ). وإذا ارتفع الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه. فيجب إذا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلا لنفسه ، وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة ، فقال : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها ـ أخبر ، أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصا ، وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة. وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : «الضرورات تبيح المحظورات». فكل محظور اضطر إليه الإنسان ، فقد أباحه له الملك الرحمن ، فله الحمد والشكر أولا وآخرا ، ظاهرا وباطنا.
[١٧٤] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) ، هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله ، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله ، أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي ، ونبذ أمر الله ، فأولئك : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه ، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب ، وأعظم المحرمات ، فكان جزاؤهم من جنس عملهم. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم ، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ، أي : لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة ، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها ، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها ، العمل بكتاب الله ، والاهتداء به ، والدعوة إليه.
[١٧٥] فهؤلاء نبذوا كتاب الله ، وأعرضوا عنه ، واختاروا الضلالة على الهدى ، والعذاب على المغفرة ، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار ، فكيف يصبرون عليها ، وأنى لهم الجلد عليها؟
[١٧٦] (ذلِكَ) المذكور ، وهو مجازاته بالعدل ، ومنعه أسباب الهداية ، ممن أباها واختار سواها. (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ومن الحق ، مجازاة المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. وأيضا ففي قوله : (نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه ، وتبيين الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، فمن صرفه عن مقصوده ، فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ، أي : وإن الذين اختلفوا في الكتاب ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه ، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم (لَفِي شِقاقٍ) ، أي : محادة ، (بَعِيدٍ) من الحق لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض ، فمرج أمرهم ، وكثر شقاقهم ، وترتب على ذلك افتراقهم ، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به ، وحكموه في كل شيء ، فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه. وقد تضمنت هذه الآيات ، الوعيد للكاتمين لما أنزل الله ، المؤثرين عليه ، ـ عرض الدنيا ـ بالعذاب والسخط ، وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق ، ولا بالمغفرة ، وذكر السبب في ذلك وهو إيثارهم الضلالة على الهدى ، فترتب على ذلك ، اختيار العذاب على المغفرة. ثم توجه لهم بشدة صبرهم على النار ، لعملهم بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها ، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه ، وعدم الافتراق ، وأن كل من خالفه ، فهو في غاية البعد عن الحق ، والمنازعة والمخاصمة ، والله أعلم.
[١٧٧] يقول تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، أي : ليس هذا هو البر المقصود من العباد ، فيكون كثرة البحث فيه والجدال ، من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف ، وهذا نظير قوله صلىاللهعليهوسلم : «ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» ونحو ذلك. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ، أي : بأنه إله واحد ، موصوف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص. (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ، أو أخبر به الرسول ، مما يكون بعد الموت. (وَالْمَلائِكَةِ) الذين وصفهم الله لنا في كتابه ، ووصفهم رسوله صلىاللهعليهوسلم