وبين غيره ، تبين له الحق قطعا ، واتبعه إن كان منصفا.
[١٧١] ثم قال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١). لمّا بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل ، وردهم لذلك بالتقليد ، وعلم من ذلك أنهم غير قابلين للحق ، ولا مستجيبين له ، بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم ، أخبر تعالى ، أن مثلهم ـ عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان ـ كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها ، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها. فهم يسمعون مجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة ، ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم ، فلهذا كانوا صما لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول ، عميا لا ينظرون نظر اعتبار ، بكما فلا ينطقون بما فيه خير لهم. والسبب الموجب لذلك كله ، أنه ليس لهم عقل صحيح ، بل هم أسفه السفهاء ، وأجهل الجهلاء. فهل يستريب العاقل ، أن من دعي إلى الرشاد ، وذيد عن الفساد ، ونهي عن اقتحام العذاب ، وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه ، وفوزه ونعيمه ، فعصى الناصح ، وتولى عن أمر ربه ، واقتحم النار على بصيرة ، واتبع الباطل ، ونبذ الحق ـ أن هذا ليس له مسكة من عقل ، وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء ، فإنه من أسفه السفهاء.
[١٧٢] هذا أمر للمؤمنين خاصة بعد الأمر العام ، وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي ، بسبب إيمانهم ، فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق ، والشكر لله على إنعامه ، باستعمالها بطاعته ، والتقوي بها على ما يوصل إليه ، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) ، فالشكر في هذه الآية ، هو العمل الصالح ، وهنا لم يقل «حلالا» لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق ، خالصة من التبعة ، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، أي : فاشكروه. فدل على أن من لم يشكر الله ، لم يعبده وحده ، كما أن من شكره ، فقد عبده ، وأتى بما أمر به ، ويدل أيضا على أن أكل الطيب ، سبب للعمل الصالح وقبوله ، والأمر بالشكر عقيب النعم ؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة ، ويجلب النعم المفقودة ، كما أن الكفر ، ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة.
[١٧٣] ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث ، فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ، وهي : ما مات بغير تذكية شرعية ، لأن الميتة خبيثة مضرة ، لرداءتها في نفسها ، ولأن الأغلب أن تكون عن مرض ، فيكون زيادة مرض ، واستثنى الشارع من هذا العموم ميتة الجراد وسمك البحر ، فإنه حلال طيب. (وَالدَّمَ) ، أي : المسفوح كما قيد في الآية الأخرى. (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، أي : ذبح لغير الله ، كالذي يذبح للأصنام والأوثان ، من الأحجار ، والقبور ونحوها ، وهذا المذكور غير خاص للمحرمات ، وجيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله : (طَيِّباتِ) ، فعموم المحرمات تستفاد من الآية السابقة ، من قوله : (حَلالاً طَيِّباً) كما تقدم. وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها ، لطفا بنا ، وتنزيها عن المضر ، ومع هذا (فَمَنِ اضْطُرَّ) ، أي : ألجئ إلى المحرم ، بجوع وعدم ، وإكراه ، (غَيْرَ باغٍ) ، أي : غير طالب للمحرم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه ، (وَلا