فرأس المتبوعين على الشر إبليس ، ومع هذا يقول لأتباعه : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).
[١٦٨] هذا خطاب للناس كلهم ، مؤمنهم وكافرهم. فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض ، من حبوب وثمار وفواكه وحيوانات ، حالة كونها (حَلالاً طَيِّباً) ، أي : محلّلا لكم تناوله ، ليس بغصب ولا سرقة ، ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم ، أو معينا على محرم. (طَيِّباً) ، أي : ليس بخبيث ، كالميتة والدم ، ولحم الخنزير ، والخبائث كلها ، ففي هذه الآية ، دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة ، أكلا وانتفاعا ، وأن المحرم نوعان : إما محرّم لذاته ، وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب ، وإما محرم لما عرض له ، وهو المحرم لتعلق حق الله ، أو حق عباده به ، وهو ضد الحلال. وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب ، يأثم تاركه لظاهر الأمر. ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به ، إذ هو عين صلاحهم ، نهاهم عن اتباع (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ، أي : طرقه التي يأمر بها ، وهي جميع المعاصي ، من كفر وفسوق وظلم ، ويدخل في ذلك ، تحريم السوائب ، والحام ، ونحو ذلك. ويدخل فيه تناول المأكولات المحرمة. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، أي : ظاهر العداوة ، فلا يريد بأمركم ، إلا غشكم ، وأن تكونوا من أصحاب السعير ، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته ، حتى أخبرنا ـ وهو أصدق القائلين ـ بعداوته الداعية للحذر منه ، ثم لم يكتف بذلك ، حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به ، وأنه أقبح الأشياء ، وأعظمها مفسدة فقال :
[١٦٩] (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) ، أي : الشر الذي يسوء صاحبه ، فيدخل في ذلك جميع المعاصي. فيكون قوله : (وَالْفَحْشاءِ) من باب عطف الخاص على العام ، لأن الفحشاء من المعاصي ، ما تناهى قبحه ، كالزنا ، وشرب الخمر ، والقتل ، والقذف ، والبخل ، ونحو ذلك مما يستفحشه من له عقل. (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فيدخل في ذلك ، القول على الله بلا علم ، في شرعه وقدره. فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه ، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه ، فقد قال على الله بلا علم. ومن زعم أن لله ندا ، وأوثانا تقرب من عبدها من الله ، فقد قال على الله تعالى بلا علم. ومن قال : إن الله أحل كذا ، أو حرم كذا ، أو أمر بكذا ، أو نهى عن كذا ، بغير بصيرة ، فقد قال على الله بلا علم. ومن قال : الله خلق لهذا الصنف من المخلوقات للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك ، فقد قال على الله بلا علم. ومن أعظم القول على الله بلا علم ، أن يتأول المتأول كلامه ، أو كلام رسوله ، على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال ، ثم يقول : إن الله أرادها. فالقول على الله بلا علم من أكبر المحرمات ، وأشملها ، وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها ، فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده ، ويبذلون مكرهم وخداعهم ، على إغواء الخلق بما يقدرون عليه. وأما الله تعالى ، فإنه يأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فلينظر العبد نفسه ، مع أي الداعين ، ومن أي الحزبين؟
[١٧٠] أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية ، الذي كل الفلاح بطاعته ، وكل الفوز في خدمته ، وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة ، الذي لا يأمر إلا بالخير ، ولا ينهى إلا عن الشر ، أم تتبع داعي الشيطان ، الذي هو عدو الإنسان ، الذي يريد لك الشر ، ويسعى ـ بجهده ـ على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشر في طاعته ، وكل الخسران في ولايته ، والذي لا يأمر إلا بشر ، ولا ينهى إلا عن خير. ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله ، مما تقدم وصفه ، رغبوا عن ذلك ، وقالوا : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، فاكتفوا بتقليد الآباء ، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء. ومع هذا ، فآباؤهم أجهل الناس ، وأشدهم ضلالا ، وهذه شبهة لرد الحق واهية ، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق ، ورغبتهم عنه ، وعدم إنصافهم ، فلو هدوا لرشدهم ، وحسن قصدهم ، لكان الحق هو القصد. ومن جعل لحق قصده ، ووازن بينه