أنفسنا عنه ، ونصونها عن الخوض فيه. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) من كلّ وجه.
[٥٦] يخبر تعالى أنك يا محمد ـ وغيرك من باب أولى ـ لا تقدر على هداية أحد ، ولو كان من أحب الناس إليك ، فإن هذا ، أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق ، وخلق الإيمان في القلب ، وإنّما ذلك بيد الله تعالى ، يهدي من يشاء ، وهو أعلم بمن يصلح لها ، فيبقيه على ضلاله. وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فتلك هداية البيان والإرشاد. فالرسول يبيّن الصراط المستقيم ، ويرغّب فيه ، ويبذل جهده في سلوك الخلق له. وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان ، ويوفقهم بالفعل ، فحاشا وكلا. ولهذا لو كان قادرا عليها ، لهدى من وصل إليه إحسانه ، ونصره ، ومنعه من قومه ، عمه أبا طالب ، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة له للدين والنصح التام ، ما هو أعظم مما فعله معه عمه ، ولكن الهداية بيد الله.
[٥٧] يخبر تعالى أن المكذبين من قريش ، وأهل مكة ، يقولون للرسول صلىاللهعليهوسلم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) بالقتل والأسر ، ونهب الأموال. فإن الناس قد عادوك وخالفوك ، فلو تابعناك ، لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم ، ولم يكن لنا بهم طاقة. وهذا الكلام منهم ، يدل على سوء الظن بالله تعالى ، وأنه لا ينصر دينه ، ولا يعلي كلمته. بل يمكن الناس من أهل دينه ، فيسومونهم سواء العذاب ، وظنوا أن الباطل سيعلو على الحقّ. قال الله ـ مبينا لهم حالة اختصهم بها دون الناس ، فقال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي : أو لم نجعلهم متمكنين ، ممكنين في حرم ، يكثر المنتابون إليه ، ويقصده الزائرون ، قد احترمه القريب والبعيد ، فلا يهاج أهله ، ولا ينتقصون بقليل ولا كثير. والحال أن كلّ ما حولهم من الأماكن ، قد حف بها الخوف من كلّ جانب ، وأهلها غير آمنين ولا مطمئنين ، فليحمدوا ربهم على هذا الأمن التام ، الذي ليس فيه غيرهم ، وعلى الرزق الكثير ، الذي يجيء إليهم من كل مكان ، من الثمرات ، والأطعمة ، والبضائع ، ما به يرتزقون ويتوسعون. وليتّبعوا هذا الرسول الكريم ، ليتم لهم الأمن والرغد. وإيّاهم وتكذيبه ، والبطر بنعمته ، فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا ، وبعد عزهم ذلا ، وبعد غناهم فقرا ولهذا توعدهم بما فعل بالأمم قبلهم ، فقال :
[٥٨] (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي : فخرت بها ، وألهتها ، واشتغلت بها عن الإيمان بالرسل ، فأهلكهم الله ، وأزال عنهم النعمة ، وأحل بهم النقمة. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) لتوالي الهلاك والتلف عليهم ، وإيحاشها من بعدهم. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) للعباد ، نميتهم ، ثمّ يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم ، ثمّ نعيدهم إلينا فنجازيهم بأعمالهم. ومن حكمته ورحمته ، أن لا يعذب الأمم ، بمجرد كفرهم ، قبل إقامة الحجة عليهم ، بإرسال الرسل إليهم ، ولهذا قال :
[٥٩] (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي بكفرهم وظلمهم (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي : في القرية والمدينة الّتي إليها يرجعون ، ونحوها يترددون ، وكلّ ما حولها ينتجعها ، ولا تخفى عليهم أخبارها. (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) الدالة على صحة ما جاء به ، وصدق ما دعاهم إليه. فيبلغ قوله قاصيهم ودانيهم. بخلاف بعث الرسل في القرى البعيدة ، والأطراف النائية ، فإن ذلك ، مظنة الخفاء والجفاء ، والمدن الأمهات ، مظنة الظهور والانتشار ، وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بالكفر والمعاصي ، مستحقون للعقوبة. والحاصل ، أن الله لا يعذب أحدا إلا بظلمه ، وإقامة الحجة عليه.
[٦٠] هذا حض منه تعالى لعباده ، على الزهد في الدنيا ، وعدم الاغترار بها ، وعلى الرغبة في الأخرى ، وجعلها مقصود العبد ومطلوبه. ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق ، من الذهب ، والفضة ، والحيوانات والأمتعة ، والنساء ، والبنين ، والمآكل ، والمشارب ، واللذات ، كلها متاع الحياة الدنيا وزينتها ، أي : يتمتع به وقتا قصيرا ، متاعا قاصرا ، محشوا بالمنغصات ، ممزوجا بالغصص ، ويتزين به زمانا يسيرا ، للفخر والرياء ، ثمّ يزول ذلك سريعا ، وينقضي