أمره ونهيه ينبه العقول النيرة ؛ أنه من عند الله. كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به وصدّقه خبر الأولين والآخرين. والشرع الذي جاء به من رب العالمين ، وما جبل عليه من الأخلاق الفاضلة ؛ الّتي لا تناسب ؛ ولا تصلح إلا لأعلى الخلق درجة ؛ والنصر المبين لدينه وأمته. حتى بلغ دينه ؛ مبلغ الليل والنهار ؛ وفتحت أمته معظم بلدان الأمصار ؛ بالسيف والسنان ، وقلوبهم بالعلم والإيمان. ولم تزل الأمم المعاندة ؛ والملوك الكفرة ؛ ترميه بقوس واحدة ؛ وتكيد له المكايد ؛ وتمكر لإطفائه ؛ وإخفائه ؛ وإخماده من الأرض وهو قد بهرها وعلاها ، لا يزداد إلا نموا ، ولا آياته وبراهينه إلّا ظهورا. وكلّ وقت من الأوقات ، يظهر من آياته ، ما هو عبرة للعالمين ، وهداية للعالمين ، ونور وبصيرة للمتوسمين. والحمد لله وحده.
[٥٢] يذكر تعالى ، عظمة القرآن ، وصدقه ، وحقه ، وأن أهل العلم بالحقيقة يعرفونه ، ويؤمنون به ، ويقرون بأنه الحقّ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) وهم أهل التوراة ، والإنجيل ، الّذين لم يغيروا ولم يبدلوا (هُمْ بِهِ) أي : بهذا القرآن ، ومن جاء به (يُؤْمِنُونَ).
[٥٣] (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) استمعوا له ، وأذعنوا و (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) لموافقته ما جاءت به الرسل ، ومطابقته لما ذكر في الكتب ، واشتماله على الأخبار الصادقة ، والأوامر والنواهي الموافقة لغاية الحكمة. وهؤلاء الّذين تفيد شهادتهم ، وينفع قولهم ، لأنهم لا يقولون ما يقولون إلا عن علم وبصيرة ، لأنهم أهل الخبرة ، وأهل الكتب. وغيرهم لا يدل ردهم ومعارضتهم للحق ، على شبهة ، فضلا عن الحجة ، لأنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق. قال تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧) الآيات. وقوله : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) فلذلك ثبتنا على ما منّ الله به علينا من الإيمان والإسلام ، فصدقنا بهذا القرآن ، آمنا بالكتاب الأول ، والكتاب الآخر. وغيرنا ينقض تكذيبه بهذا الكتاب ، إيمانه بالكتاب الأول.
[٥٤] (أُولئِكَ) الّذين آمنوا بالكتابين (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أجرا على الإيمان الأول ، وأجرا على الإيمان الثاني. (بِما صَبَرُوا) على الإيمان ، وثبتوا على العمل ، فلم تزعزعهم عن ذلك ، شبهة ، ولا ثناهم عن الإيمان ، رياسة ولا شهوة. (وَ) من خصالهم الفاضلة ، الّتي هي من آثار إيمانهم الصحيح ، أنهم (يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي : دأبهم وطريقتهم الإحسان لكل أحد ، حتى للمسيء إليهم ، بالقول والفعل ، يقابلونه بالقول الحميد والفعل الجميل ، لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم ، وأنه لا يوفق له ذو حظ عظيم.
[٥٥] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) من جاهل خاطبهم به ، أعرضوا عنه ، و (قالُوا) مقالة عباد الرحمن أولي الألباب : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي : كلّ سيجازى بعمله ، الذي عمله وحده ، ليس عليه من وزر غيره شيء. ولزم من ذلك ، أنهم يتبرؤون مما عليه الجاهلون ، من اللغو والباطل ، والكلام الذي لا فائدة فيه. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : لا تسمعون منا إلا الخير ، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم. فإنكم ، وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم ، فإننا ننزه