تحزبوا على حرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأصحابه ، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ، فخاب ظنهم ، وبطل حسبانهم. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) مرة أخرى (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي : لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ، ودّ هؤلاء المنافقون ، أنهم ليسوا في المدينة ، ولا في القرب منها ، وأنهم مع الأعراب في البادية ، يستخبرون عن أخباركم ، ويسألون عن أنبائكم ، ماذا حصل عليكم؟ فتبا لهم ، وبعدا ، فليسوا ممن يغالى بحضورهم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) فلا تبالوهم ، ولا تأسوا عليهم. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ، وباشر موقف الحرب ، وهو الشريف الكامل ، والبطل الباسل. فكيف تشحون بأنفسكم ، عن أمر جاد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بنفسه فيه؟ فتأسوا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية ، على الاحتجاج بأفعال الرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن الأصل ، أن أمته أسوته في الأحكام ، إلا ما دلّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان : أسوة حسنة ، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة ، في الرسول صلىاللهعليهوسلم. فإن المتأسّي به ، سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله ، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره ، إذا خالفه ، فهو الأسوة السيئة ، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسّي بهم] (١).
ومنها : لطف الله بأم موسى ، وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة ، بأن الله سيرد إليها ابنها ، ويجعله من المرسلين. ومنها : أن الله يقدّر على عبده بعض المشاق ، لينيله سرورا أعظم من ذلك ، أو يدفع عنه شرا أكثر منه. كما قدّر على أم موسى ، ذلك الحزن الشديد ، والهم البليغ ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها ، على وجه تطمئن به نفسها ، وتقر به عينها ، وتزداد به غبطة وسرورا.
ومنها : أن الخوف الطبيعي من الخلق ، لا ينافي الإيمان ولا يزيله ، كما جرى لأم موسى ، ولموسى من تلك المخاوف.
ومنها : أن الإيمان يزيد وينقص. وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان ، ويتم به اليقين ، الصبر عند المزعجات ، والتثبيت من الله ، عند المقلقات ، كما قال تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ليزداد إيمانها بذلك ، ويطمئن قلبها.
ومنها أن من أعظم نعم الله على عبده وأعظم معونة للعبد على أموره ، تثبيت الله إياه ، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف ، وعند الأمور المذهلة ، فإنه بذلك ، يتمكن من القول الصواب ، والفعل الصواب. بخلاف من استمر قلقه وروعه ، وانزعاجه ، فإنه يضيع فكره ، ويذهل عقله ، فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال.
ومنها : أن العبد ـ ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد الله نافذ لا بد منه فإنه لا يهمل فعل الأسباب ، الّتي أمر بها ، ولا يكون ذلك منافيا لإيمانه بخبر الله. فإن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها ، ومع ذلك ، اجتهدت في رده ، وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه.
ومنها : جواز خروج المرأة في حوائجها ، وتكليمها للرجال ، من غير محذور ، كما جرى لأخت موسى ، وابنتي صاحب مدين.
ومنها : جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع ، والدلالة على من يفعل ذلك.
ومنها : أن الله من رحمته بعبده الضعيف ، الذي يريد إكرامه ، أن يريه من آياته ، ويشهده من بيناته ، ما يزيد به إيمانه ، كما رد الله موسى إلى أمه ، لتعلم أن وعد الله حق.
ومنها : أن قتل الكافر ، الذي له عهد بعقد أو عرف ، لا يجوز. فإن موسى عليهالسلام عدّ قتله القبطي الكافر ،
__________________
(١) ما بين المعكوفتين ساقط من المطبوعة الّتي بين أيدينا ، والنص موافق للسياق والله أعلم.