هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) فهذا من أضل الناس ، حيث عرض عليه الهدى ، والصراط المستقيم ، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته ، فلم يلتفت إليه ، ولم يقبل عليه. ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء ، فاتبعه ، وترك الهدى. فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟ ولكن ظلمه وعدوانه ، وعدم محبته للحق ، هو الذي أوجب له : أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله ، فلهذا قال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الّذين صار الظلم لهم وصفا والعناد لهم نعتا ، جاءهم الهدى فرفضوه ، وعرض لهم الهوى ، فتبعوه. سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها ، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها. فهم في غيهم وظلمهم يعمهون ، وفي شقائهم وهلاكهم ، يترددون. وفي قوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) دليل على أن كلّ من لم يستجب للرسول ، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول ، فإنه لم يذهب إلى هدى ، وإنّما ذهب إلى هوى.
[٥١] (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي : تابعناه وواصلناه ، وأنزلناه شيئا فشيئا ، رحمة بهم ولطفا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) حين تتكرر عليهم آياته ، وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها. فصار نزوله متفرقا ، رحمة بهم ، فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟
فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة
فمنها : أن آيات الله وعبره ، وأيامه في الأمم السابقة ، إنّما يستفيد بها ويستنير ، المؤمنون ، فعلى حسب إيمان العبد ، تكون عبرته. وإن الله تعالى إنّما يسوق القصص لأجلهم ، وأما غيرهم ، فلا يعبأ الله بهم ، وليس لهم منها نور وهدى. ومنها : أن الله تعالى ، إذا أراد أمرا ، هيّأ أسبابه ، وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج ، لا دفعة واحدة. ومنها : أن الأمة المستضعفة ، ولو بلغت في الضعف ما بلغت ، لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل ، عن طلب حقها ، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور ، خصوصا إذا كانوا مظلومين ، كما استنقذ الله أمّة بني إسرائيل ، الأمة الضعيفة ، من أسر فرعون وملئه ، ومكّنهم في الأرض ، وملّكهم بلادهم. ومنها : أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة ، لا تأخذ حقها ، ولا تتكلم به ، لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها ، ولا يكون لها إمامة فيه. [ثمّ توعّد تعالى المخذلين المعوقين ، وتهددهم فقال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) عن الخروج ، لمن لم يخرجوا (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) الّذين خرجوا (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي : ارجعوا ، كما تقدم من قولهم : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا). وهم مع تعويقهم وتخذيلهم (لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي : القتال والجهاد ، بأنفسهم (إِلَّا قَلِيلاً) فهم أشد الناس حرصا على التخلف ، لعدم الداعي لذلك ، من الإيمان والصبر. ولوجود المقتضي للجبن ، من النفاق ، وعدم الإيمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بأبدانهم عن القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) أي : نظر المغشي عليه (مِنَ الْمَوْتِ) من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفا من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وصاروا في حال الأمن والطمأنينة. (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي : خاطبوكم ، وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) الذي يراد منهم. وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحا بما أمر به ، شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحا في بدنه أن يجاهد أعداء الله ، أو يدعو إلى سبيل الله ، شحيحا بجاهه ، شحيحا بعلمه ، ونصيحته ، ورأيه. (أُولئِكَ) الّذين بتلك الحالة (لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) بسبب عدم إيمانهم ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). وأما المؤمنون ، فقد وقاهم الله ، شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذل أبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم ، للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم. (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي : يظنون أن هؤلاء الأحزاب ، الّذين