مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي : العرب ، وقريش ، فإن الرسالة عندهم ، لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) تفصيل الخير ، فيفعلونه ، والشر فيتركونه. فإذا كنت بهذه المنزلة ، كان الواجب عليهم ، المبادرة إلى الإيمان بك ، وشكر هذه النعمة ، الّتي لا يقادر قدرها ، ولا يدرك شكرها. وإنذاره للعرب لا ينفي ، أن يكون مرسلا لغيرهم ، فإنه عربي ، والقرآن الذي نزل عليه ، عربي ، وأول من باشر بدعوته ، العرب. فكانت رسالته لهم أصلا ، ولغيرهم تبعا ، كما قال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ... (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).
[٤٧ ـ ٤٨] (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : فأرسلناك يا محمد ، لدفع حجتهم ، وقطع مقالتهم. (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) الذي لا شك فيه (مِنْ عِنْدِنا) وهو القرآن ، الذي أوحيناه إليك (قالُوا) مكذبين له ومعترضين بما ليس يعترض به : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي : أنزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة. أي : فأما ما دام ينزل متفرقا ، فإنه ليس من عند الله. وأي دليل في هذا؟ وأي شبهة أنه ليس من عند الله ، حين نزل مفرقا؟ بل من كمال هذا القرآن ، واعتناء الله بمن أنزل عليه ، أن نزل متفرقا ، ليثبت الله به فؤاد رسوله ، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣). وأيضا ، فإن قياسهم على كتاب موسى ، قياس قد نقضوه ، فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ، ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) أي : القرآن والتوراة ، تعاونا في سحرهما ، وإضلال الناس (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ). فثبت بهذا ، أن القوم يريدون إبطال الحقّ ، بما ليس ببرهان ، وينقضونه بما لا ينقض ، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة ، وهذا شأن كلّ كافر. ولهذا صرّح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ).
[٤٩] ولكن هل كفرهم بهما ، كان طلبا للحق ، واتباعا لأمر عندهم ، خير منهما ، أم مجرد هوى؟. قال تعالى ملزما لهم بذلك : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أي : من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولا سبيل لهم ، ولا لغيرهم ، أن يأتوا بمثلها ، فإنه ما طرق العالم ، منذ خلقه الله ، مثل هذين الكتابين ، علما ، وهدى ، وبيانا ، ورحمة للخلق. وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال : مقصودي ، الحقّ والهدى والرشد ، وقد جئتكم بهذا الكتاب ، المشتمل على ذلك ، الموافق لكتاب موسى. فيجب علينا جميعا الإذعان لهما ، واتباعهما ، من حيث كونهما هدى وحقا. فإن جئتموني بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما ، اتبعته. وإلا ، فلا أترك هدى وحقا قد علمته لغير هدى وحق.
[٥٠] (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي : فاعلم أن تركهم اتباعك ، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ، ولا إلى هدى ، وإنّما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ