ويفارقه ، فهذه حالهم في البرزخ. وأما يوم القيامة ، فإنهم إذا وردوها ، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال ، ولا أولاد ولا جنود ، ولا أنصار ، كما خلقهم الله أول مرة ، عارين من كل شيء. فإن الأشياء ، إنّما تتمول وتحصل ، بعد ذلك ، بأسبابها ، التي هي أسبابها. وفي ذلك اليوم تنقطع جميع الأمور ، التي كانت مع العبد في الدنيا ، سوى العمل الصالح ، والعمل السيّء ، الذي هو مادة الدار الآخرة ، الذي تنشأ عنه ، ويكون حسنها وقبحها ، وسرورها وغمومها ، وعذابها ونعيمها ، بحسب الأعمال. فهي التي تنفع ، أو تضر ، وتسوء أو تسر. وما سواها ، من الأهل والولد ، والمال والأنصار ، فعوارض خارجية ، وأوصاف زائلة ، وأحوال حائلة ، ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ).
[٩٤] أي : أعطيناكم ، وأنعمنا به عليكم (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) لا يغنون عنكم شيئا. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ). فإن المشركين يشركون بالله ، ويعبدون معه الملائكة ، والأنبياء والصالحين ، وغيرهم. وهم كلهم لله ، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم ، وشركة في عبادتهم. وهذا زعم منهم ، وظلم ، فإن الجميع ، عبيد الله ، والله مالكهم ، والمستحق لعبادتهم. فشركهم في العبادة ، وصرفها لبعض العبيد ، تنزيل لهم منزلة الخالق المالك ، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي : تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم ، من الشفاعة وغيرها. فلم تنفع ولم تجد شيئا. (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من الربح ، والأمن ، والسعادة ، والنجاة ، التي زينها لكم الشيطان ، وحسّنها في قلوبكم ، فنطقت بها ألسنتكم. واغتررتم بهذا الزعم الباطل ، الذي لا حقيقة له ، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون. وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم ، وأهليكم ، وأموالكم.
[٩٥] يخبر تعالى ، عن كماله ، وعظمة سلطانه ، وقوة اقتداره ، وسعة رحمته ، وعموم كرمه ، وشدة عنايته بخلقه ، فقال : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) شامل لكل الحبوب ، التي يباشر الناس زرعها ، والتي لا يباشرونها ، كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار. فيفلق الحبوب عن الزروع والنباتات ، على اختلاف أنواعها ، وأشكالها ، ومنافعها. ويفلق النوى عن الأشجار ، من النخيل ، والفواكه ، وغير ذلك. فينتفع بها الخلق ، من الآدميين والأنعام ، والدواب. ويرتعون فيما فلق الله ، من الحب ، والنوى. ويقتاتون ، وينتفعون بجميع أنواع المنافع ، التي جعلها الله في ذلك. ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر العقول ، ويذهل الفحول. ويريهم من بدائع صنعته ، وكمال حكمته ، ما به يعرفونه ويوحدونه ، ويعلمون أنه هو الحقّ ، وأن عبادة ما سواه ، باطلة. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كما يخرج من المني حيوانا ، ومن البيضة فرخا ، ومن الحب والنوى ، زرعا وشجرا. (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) وهو الذي لا نمو فيه ، أو لا روح (مِنَ الْحَيِ). كما يخرج من الأشجار والزروع ، النوى ، والحب ، ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك. (ذلِكُمُ) الذي فعل ما فعل ، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها (اللهَ) أي : الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين. وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه ، وغذاهم بكرمه. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : فأنى تصرفون ، وتصدون عن عبادة من هذا شأنه ، إلى عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا؟
[٩٦] ولما ذكر تعالى ، مادة خلق الأقوات ، ذكر منته بتهيئة المساكن ، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد ، من الضياء ، والظلمة ، وما يترتب على ذلك ، من أنواع المنافع والمصالح فقال : (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي : كما أنه فالق الحب والنوى ، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ، الشامل لما على وجه الأرض ، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا ، حتى تذهب ظلمة الليل كلها ، ويخلفها الضياء والنور العام ، الذي يتصرف به الخلق ، في مصالحهم ، ومعايشهم ، ومنافع دينهم ودنياهم. ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة ، التي لا تتم إلا بوجود النهار والنور (جَعَلَ) الله (اللَّيْلَ سَكَناً) يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم ، والأنعام إلى مأواها ، والطيور إلى أو كارها ،