حكمته. فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع ، وقد أوضح السبيل ، وقص على عباده الحقّ قصا ، قطع به معاذيرهم ، وانقطعت له حجتهم. ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حيّ عن بيّنة. (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) بين عباده ، في الدنيا والآخرة فيفصل بينهم فصلا ، يحمده عليه ، حتى من قضى عليه ، ووجه الحقّ نحوه.
[٥٨] (قُلْ) للمستعجلين بالعذاب ، جهلا وعنادا وظلما. (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فأوقعته بكم ، ولا خير لكم في ذلك. ولكن الأمر ، عند الحليم الصبور ، الذي يعصيه العاصون ، ويتجرأ عليه المتجرءون ، وهو يعافيهم ، ويرزقهم ، ويسدي إليهم نعمه ، الظاهرة والباطنة. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، فيمهلهم ولا يهملهم.
[٥٩] هذه الآية العظيمة ، من أعظم الآيات تفصيلا ، لعلمه المحيط ، وأنه شامل للغيوب كلها ، التي يطلع منها ما شاء من خلقه. وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين ، فضلا عن غيرهم من العالمين. وأنه يعلم ما في البراري والقفار ، من الحيوانات ، والأشجار ، والرمال والحصى ، والتراب. وما في البحار ، من حيوانات ، ومعادنها ، وصيدها ، وغير ذلك ، مما تحتويه أرجاؤها ، ويشتمل عليه ماؤها. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أشجار البر والبحر ، والبلدان والقفر ، والدنيا والآخرة ، إلا يعلمها. (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) من حبوب الثمار والزروع ، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق ؛ وبذور النباتات البرية التي ينشىء منها أصناف النباتات. (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) هذا عموم بعد خصوص (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ ، قد حواها ، واشتمل عليها. وبعض هذا المذكور ، يبهر عقول العقلاء ، ويذهل أفئدة النبلاء. فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته ، في أوصافه كلها. وأن الخلق ـ من أولهم إلى آخرهم ـ لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته ، لم يكن لهم قدرة ، ولا وسع في ذلك. فتبارك الرب العظيم ، الواسع العليم ، الحميد المجيد ، الشهيد المحيط. وجل من إله ، لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده. فهذه الآية ، دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء ، وكتابه المحيط ، بجميع الحوادث.
[٦٠] هذا كله ، تقرير لإلهيته ، واحتجاج على المشركين به ، وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم ، والإجلال والإكرام. فأخبر أنه وحده ، المتفرد بتدبير عباده ، في يقظتهم ومنامهم ، وأنه يتوفاهم بالليل ، وفاة النوم ، فتهدأ حركاتهم ، وتستريح أبدانهم. ويبعثهم في اليقظة من نومهم ، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية. وهو ـ تعالى ـ يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال. ثمّ لا يزال تعالى هكذا ، يتصرف فيهم ، حتى يستوفوا آجالهم. فيقضي بهذا التدبير ، أجل مسمى ، وهو : أجل الحياة ، وأجل آخر فيما بعد ذلك ، وهو البعث بعد الموت ، ولهذا قال : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) لا إلى غيره (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر.
[٦١] (وَهُوَ) تعالى (الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ينفذ فيهم إرادته الشاملة ، ومشيئته العامة. فليسوا يملكون من الأمر شيئا ، ولا يتحركون ، ولا يسكنون إلا بإذنه. ومع ذلك ، فقد وكل بالعباد ، حفظة من الملائكة ، يحفظون عليه ما