عمل كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢). (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨). فهذا حفظه لهم في حال الحياة. (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي : الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) في ذلك ، فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه ، ولا ينقصون ، ولا ينفذون من ذلك ، إلا بحسب المراسيم الإلهية ، والتقادير الربانية.
[٦٢] (ثُمَ) بعد الموت والحياة البرزخية ، وما فيها من الخير والشر (رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي : الذي تولاهم بحكمه القدري ، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير. ثمّ تولاهم بأمره ونهيه ، وأرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب. ثمّ ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء ، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات ، ويعاقبهم على الشرور والسيئات ، ولهذا قال : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) وحده لا شريك له (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) لكمال علمه وحفظه لأعمالهم ، بما أثبته في اللوح المحفوظ ، ثمّ أثبته ملائكته في الكتاب ، الذي بأيديهم. فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، وهو القاهر فوق عباده ، وقد اعتنى بهم كل الاعتناء ، في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري ، والحكم الشرعي ، والحكم الجزائي ، فأين للمشركين ، العدول عن من هذا وصفه ونعته ، إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء ، ولا عنده مثقال ذرة من النفع ، ولا له قدرة وإرادة؟ أما والله لو علموا حلم الله عليهم ، وعفوه ورحمته بهم ، وهم يبارزونه بالشرك والكفران ، ويتجرأون على عظمته بالإفك والبهتان ، وهو يعافيهم ويرزقهم لانجذبت ، دواعيهم إلى معرفته ، وذهلت عقولهم في حبه. ولمقتوا أنفسهم أشد المقت ، حيث انقادوا لداعي الشيطان ، الموجب للخزي والخسران ، ولكنهم قوم لا يعقلون.
[٦٣] أي : (قُلْ) للمشركين بالله ، الداعين معه آلهة أخرى ، ملزما لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية ، على ما أنكروه من توحيد الإلهية. (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : شدائدهما ومشقاتهما ، وحين يتعذر أو يتعسر عليكم ، وجه الحيلة ، فتدعون ربكم تضرعا ، بقلب خاضع ، ولسان لا يزال يلهج بحاجته في الدعاء ، وتقولون ـ وأنتم في تلك الحال : (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) الشدة التي وقعنا فيها (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لله أي المعترفين بنعمته ، الواضعين لها في طاعة ربهم ، الّذين حفظوها عن أن يبذلوها في معصيته.
[٦٤] (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) أي : من هذه الشدة الخاصة ، ومن جميع الكروب العامة. (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) لا تفون لله بما قلتم ، وتنسون نعمه عليكم. فأي برهان أوضح من هذا ؛ على بطلان الشرك ، وصحة التوحيد؟
[٦٥] أي : هو تعالى ؛ قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة. (مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ) أي : يخلطكم (شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي : في الفتنة ، وقتل بعضكم بعضا. فهو قادر على ذلك كله ، فاحذروا من الإقامة على معاصيه ، فيصيبكم من العذاب ، ما يتلفكم ويمحقكم ، ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك. ولكن من رحمته ، أن رفع عن هذه الأمة العذاب من فوقهم بالرجم ، والحصب ، ونحوه ، ومن تحت أرجلهم ؛ بالخسف. ولكن عاقب من عاقب منهم ، بأن أذاق بعضهم بأس بعض ، وسلط بعضهم على بعض هذه العقوبات المذكورة ، عقوبة عاجلة يراها المعتبرون ، ويشعر بها العاملون. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي : ننوعها ، ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحقّ. (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي : يفهمون ما خلقوا من أجله ، ويفقهون الحقائق الشرعية ، والمطالب الإلهية.
[٦٦] (وَكَذَّبَ بِهِ) أي : بالقرآن (قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه. (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أحفظ أعمالكم ، وأجازيكم عليها ، وإنّما أنا منذر ومبلغ.
[٦٧] (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي : وقت يستقر فيه ، وزمان لا يتقدم عنه ولا يتأخر. (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما توعدون به من العذاب.