كتبهم الله لها ، مدة أربعين سنة. وتلك المدة أيضا ، يتيهون في الأرض ، لا يهتدون إلى طريق ، ولا يبقون مطمئنين. وهذه عقوبة دنيوية ، لعل الله تعالى ، كفر بها عنهم ، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها. وفي هذا ، دليل على أن العقوبة على الذنب : قد تكون بزوال نعمة موجودة ، أو دفع نقمة ، قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها ، إلى وقت آخر. ولعل الحكمة في هذه المدة ، أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات. بل قد ألفت الاستعباد لعدوها ، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها. ولتظهر ناشئة جديدة ، تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء ، وعدم الاستعباد ، والذل المانع من السعادة. ولما علم الله تعالى ، أن عبده موسى ، في غاية الرحمة على الخلق ، خصوصا قومه ، وأنه ربما رق لهم ، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة ، أو الدعاء لهم بزوالها ، مع أن الله قد حتمها ، قال : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : لا تأسف عليهم ولا تحزن ، فإنهم قد فسقوا ، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم ، لا ظلما منا.
[٢٧] أي : قص على الناس ، وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق ، تلاوة يعتبر بها المعتبرون ، صدقا ، لا كذبا ، وجدا ، لا لعبا. والظاهر أن ابني آدم ، هما ابناه لصلبه ، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق ، وهو قول جمهور المفسرين. أي : اتل عليهم نبأهما ، في حال تقريبهما للقربان ، الذي أداهما إلى الحال المذكورة. (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) أي : أخرج كل منهما شيئا من ماله ، لقصد التقرب إلى الله. (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) بأن علم ذلك بخبر من السماء ، أو بالعادة السابقة في الأمم ، أن علامة تقبل الله للقربان ، أن تنزل نار من السماء فتحرقه. (قالَ) الابن ، الذي لم يتقبل منه للآخر ، حسدا وبغيا (لَأَقْتُلَنَّكَ). فقال له الآخر ـ مترفقا له في ذلك ـ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فأي : ذنب لي وجناية ، توجب لك أن تقتلني؟ إلا أني اتقيت الله تعالى ، الذي تقواه واجبة عليّ وعليك ، وعلى كل أحد. وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا ، أي : المتقين لله في ذلك العمل ، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله ، متبعين فيه لسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ثم قال له ـ مخبرا أنه لا يريد أن يتعرض لقتله ، لا ابتداء ، ولا مدافعة فقال : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا. وإنما ذلك لأني (أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) والخائف لله ، لا يقدم على الذنوب ، خصوصا ، الذنوب الكبار. وفي هذا ، تخويف لمن يريد القتل ، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه. (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ) أي : ترجع (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي : إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني ، فإني أوثر أن تقتلني ، فتبوء بالوزرين (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ). دل هذا ، على أن القتل من كبائر الذنوب ، وأنه موجب لدخول النار. فلم يرتدع ذلك الجاني ، ولم ينزجر ، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها ، حتى طوعت له قتل أخيه ، الذي يقتضي الشرع والطبع ، احترامه. (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دنياهم وآخرتهم ، وأصبح قد سن هذه السنّة ، لكل قاتل. «ومن سنّ سنّة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه «ما من نفس تقتل ، إلا كان على ابن آدم