مدبرون. فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير ، إلها معبودا ، غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم المحال. ولا وجه لاستغرابهم ، لخلق المسيح عيسى ابن مريم ، من غير أب فإن الله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إن شاء من أب وأم ، كسائر بني آدم ، وإن شاء من أب بلا أم ، كحواء. وإن شاء من أم بلا أب ، كعيسى. وإن شاء من غير أب ولا أم ، كآدم.
[١٨] فنوع خليقته تعالى ، بمشيئته النافذة ، التي لا يستعصي عليها شيء ولهذا قال : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن مقالات اليهود والنصارى ، أن كلا منهما ، ادعى دعوى باطلة ، يزكون بها أنفسهم بأن قال كل منهما : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). والابن في لغتهم هو الحبيب ، ولم يريدوا البنوة الحقيقية ، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح. قال الله ردا عليهم ، حيث ادعوا بلا برهان : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ)؟ فلو كنتم أحبابه ، ما عذبكم ، لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه. (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) تجري عليكم أحكام العدل والفضل. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة ، وأنتم من جملة المماليك ، ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم.
[١٩] يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب ـ بسبب ما منّ عليهم من كتابه ـ أن يؤمنوا برسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، ويشكروا الله تعالى ، الذي أرسله إليهم (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) وشدة حاجة إليه. وهذا مما يدعو إلى الإيمان به ، وأن يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام الشرعية. وقد قطع الله بذلك حجتهم ، لئلا يقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ). يبشر بالثواب العاجل والآجل ، وبالأعمال الموجبة لذلك ، وصفة العاملين بها. وينذر بالعقاب العاجل والآجل ، وبالأعمال الموجبة لذلك ، وصفة العاملين بها. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) انقادت الأشياء طوعا وإذعانا ، لقدرته ، فلا يستعصي عليه شيء منها. ومن قدرته أن أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم.
[٢٠] لما امتنّ الله على موسى وقومه ، بنجاتهم من فرعون وقومه ، وأسرهم واستعبادهم ، ذهبوا قاصدين ، لأوطانهم ومساكنهم ، وهي بيت المقدس ، وما حواليه وقاربوا وصول بيت المقدس. وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم ، ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليهالسلام ؛ وذكّرهم ، ليقووا على الجهاد فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة. (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) يدعونكم إلى الهدى ، ويحذرونكم من الردى ويحثونكم على سعادتكم الأبدية ، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون. (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) تملكون أمركم ، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم ، فكنتم تملكون أمركم ، وتتمكنون من إقامة دينكم. (وَآتاكُمْ) من النعم الدينية والدنيوية (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ). فإنهم ـ في ذلك الزمان ـ خيرة الخلق ، وأكرمهم على الله. وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.